الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي تَأْكِيد الْيَقِين بالنبوات زِيَادَة على مَا تقدم
وَذَلِكَ أَن كثرتهم عليهم السلام قد علمت لأهل الْعلم بتواريخ الْعَالم وأخبار الامم واشتهرت لمن كَانَ أقل بحثا وخبرة بِهَذِهِ الْعُلُوم وَورد فِي الاخبار أَنهم عليهم السلام مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَكتب الله الَّتِي جاؤا بهَا مائَة كتاب وَأَرْبَعَة كتب رَوَاهُ ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي ذَر بِسَنَدَيْنِ حسنين وتواترت كثرتهم فِي الْجُمْلَة وَلَا شكّ أَن الْجمع الْعَظِيم مَتى تَفَرَّقت أوطانهم وقبائلهم وأغراضهم وأزمانهم ومذاهبهم وَلم يَكُونُوا من أهل الصناعات النظرية والرياضات الفلسفية والقوانين المنطقية ثمَّ اتَّفقُوا على الْقطع بِصِحَّة أَمر لَا دَاعِي لَهُ وَلَا مَانع مِنْهُ بِحَيْثُ لَو اجْتمع عُيُون الفطناء وحذاق الأذكياء ومهرة الْعلمَاء على وَاحِد مِنْهُم يشككون عَلَيْهِ فِي اعْتِقَاده لم يرفع إِلَيْهِم رَأْسا وَلم يلْتَفت إِلَيْهِم أصلا فَعلمنَا علما تجربيا ضَرُورِيًّا أَنهم مَا تواطئوا على التعمد للمباهتة والتجري على التَّدْلِيس والمغالطة وَأَنه مَا جمع متفرقات عقائدهم وَألف نوافر طباعهم وربط بَين جوامح مختلفات اختياراتهم وعصمهم عَن مُتَابعَة سنة الْعُقَلَاء فِي اخْتِلَاف مذاهبهم مَعَ طول أنظارهم إِلَّا صدق مَا ادعوهُ من شرِيف علمهمْ وحالهم وَصِحَّة مَا بنوا عَلَيْهِ دينهم ويقينهم من استناد هَذِه العوالم وَالْخَلَائِق والْآثَار والحوادث إِلَى رب عَظِيم ومدبر حَكِيم واضطراره لَهُم بالمعجزات والقرائن إِلَى الِاجْتِمَاع على هَذَا الدّين القويم والشأن الْعَظِيم وَحِينَئِذٍ لَا تردد الْعُقُول وَلَا توقف الاذهان عَن الْجَزْم بصدقهم وثلج الصُّدُور لصِحَّة خبرهم فَكيف إِذا عضد هَذَا الْجَمِيع الْعَظِيم من الْبَرَاهِين النيرة والقرائن الْوَاضِحَة والشواهد الصادقة مَا لم يحصره
الاذكياء والعارفون على مُرُور الدهور والقرون حَتَّى قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمكنون {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ}
فَمن ذَلِك مَا ذكره الامام الْمُؤَيد بِاللَّه عليه السلام فِي كِتَابه فِي اثبات النبوات قَالَ عليه السلام وَأَنْتُم إِذا تأملتم أَحْوَال الفترات الَّتِي كَانَت بَين آدم ونوح وابراهيم ومُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد صلى الله عليه وسلم ازددتم معرفَة بِحسن تَدْبِير الله تَعَالَى لخلقه بابتعاث الرُّسُل وتجديده مَا درس أَو كَاد يدرس من الشَّرَائِع والملل وَأَنه عز وجل ابتعث حِين علم الصّلاح فِي الابتعاث وَمد الفترة حِين علم اقتران الْمصلحَة بهَا لِأَن الفترة على مَا يَقُوله بعض أهل التواريخ على اخْتِلَاف بَينهم فِيهِ وَالله أعلم بتحقيق ذَلِك كَانَت بَين آدم ونوح صلى الله عَلَيْهِمَا سَبْعمِائة عَام وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك كَذَلِك وَالله أعلم على مِقْدَار مَا يلوح لنا ويبلغه مِقْدَار أفهامنا أَن آدم هَبَط إِلَى الأَرْض وَهُوَ أَبُو الْبشر وَأول الانس وَلم يكن فِي زَمَانه شَيْء من الْكفْر وَعبادَة الاصنام وَلم يكن غَيره وَغير زَوجته حَوَّاء وأولادهما وَكَانُوا يعْرفُونَ حَاله فَلم يكن فِي أمره شكّ عِنْدهم لوضوح أمره وَظُهُور آيَاته وَقلة من بعث اليهم فامتد زمَان الفترة وَكَانَ بَينهمَا مَعَ شِيث ذَلِك وَإِدْرِيس عليهما السلام فاستحدث النَّاس الْكفْر وَعبادَة الْأَصْنَام وَاتَّخذُوا ودا وسواعا ويغوت ويعوق ونسرا فابتعث الله عز وجل نوحًا عليه السلام يَدعُوهُم إِلَى التَّوْحِيد وخلع الْأَصْنَام والأنداد فَلبث فيهم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فغرقهم الله بالطوفان حِين تمت عَلَيْهِم حجَّته وَعلم أَنه لَا يصلح مِنْهُم أحد كَمَا أوحى ذَلِك إِلَى نوح عليه السلام
ثمَّ كَانَت الفترة بَين نوح وَإِبْرَاهِيم عليهما السلام نَحْو سَبْعمِائة عَام وَإِنَّمَا كَانَت هَذِه الْمدَّة نَحْو ذَلِك لِأَن الْغَرق أعَاد حَال نوح إِلَى نَحْو حَال آدم صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم فِي ظُهُور أمره وَابْتِدَاء الْبشر مِنْهُ مَعَ أَنه لم يكن بَقِي من الْكفَّار أحد إِلَّا أَن النَّاس قد كَانُوا عرفُوا عبَادَة الْأَصْنَام واتخاذ الأنداد من دون الله عز وجل فَأَسْرعُوا بعده إِلَى الْكفْر وَعبادَة الْأَصْنَام وَكَانَ الله تَعَالَى قد بعث هودا إِلَى عَاد لما ازْدَادَ تمردهم وصالحا بعده إِلَى
ثَمُود ثمَّ لما ازْدَادَ الْكفْر ظهورا وانتشارا ابتعث الله عز وجل إِبْرَاهِيم فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَكسر أصنامهم ونبههم على خطأ أفعالهم وجدد لَهُم الذكرى وَأنزل عز وجل عَلَيْهِ الصُّحُف وَبعث لوطا عليه السلام إِلَى قوم مخصوصين حِين ازْدَادَ عتوهم واستحدثوا من الْفَاحِشَة مَا لم يكن قبلهم ثمَّ كَانَت الفترة بَينه وَبَين مُوسَى صلى الله عَلَيْهِمَا نَحْو أَرْبَعمِائَة سنة وَإِنَّمَا كَانَت كَذَلِك وَالله أعلم لِأَن ابراهيم صلى الله عليه وسلم مضى وَالْكفْر بَاقٍ بَينهم ظَاهر وَلم تكْثر أَتْبَاعه الْكَثْرَة الظَّاهِرَة على مَا بلغنَا وَبعث الله بعده إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب عليهم السلام والاسباط وشعيبا قبل مبعث مُوسَى عليه السلام وَقبل أَيُّوب وَكَانَ قد بعث قبل مُوسَى عليه السلام وتغيرت أَحْوَال بني إِسْرَائِيل وَقل قبُول النَّاس الْحق وَظهر الْكفْر وَبلغ مبلغا لم يكن بلغه من قبل لِأَن فِرْعَوْن ادّعى الربوبية فاستعبد بني إِسْرَائِيل فَعظم الْأَمر وازداد الْكفْر واتسع الْخرق ونسى الْحق فَلذَلِك قصرت مُدَّة هَذِه الفترة حَتَّى بعث مُوسَى صلى الله عليه وسلم مَعَ تِلْكَ الْآيَات الْعِظَام كالعصا وَالْيَد الْبَيْضَاء ومجاوزة بني إِسْرَائِيل الْبَحْر بعد أَن انْفَلق فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم وتغريق فِرْعَوْن وَمن مَعَه إِلَى غير ذَلِك من الْحجر الَّذِي انفجرت مِنْهُ الْعُيُون وَمَا كَانَ ظهر قبل ذَلِك من الْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَأنزل عَلَيْهِ التَّوْرَاة وَبَين فِيهَا الْأَحْكَام والحلال وَالْحرَام وَظهر أمره أتم الظُّهُور وَإِنَّمَا كَانَت أَعْلَام مُوسَى أَكثر وآياته أظهر لِأَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا وَالله أعلم أَجْهَل الْأُمَم وأغلظهم طبعا وأبعدهم عَن الصَّوَاب وأبلدهم عَن اسْتِدْرَاك الْحق أَلا ترى أَنهم بعد مَا جَاوز الله بهم الْبَحْر وغرق آل فِرْعَوْن وهم ينظرُونَ قَالُوا لمُوسَى حِين مروا على قوم عاكفين على أصنام لَهُم يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة وَاتَّخذُوا الْعجل وعبدوه وظنوا أَنه إلههم وإله مُوسَى وَأَنه نسي فبحسب هَذِه الْأَحْوَال اقْتَضَت الْحِكْمَة إِيضَاح الْآيَات والاعلام وتكثيرها لَهُم ثمَّ بعث يُوشَع وَيُونُس ثمَّ بعث دَاوُد وَأنزل عَلَيْهِ الزبُور وَبعث سُلَيْمَان وآتاه الله الْملك مَعَ تِلْكَ الْآيَات الْعَظِيمَة ثمَّ بعث بعده زَكَرِيَّا وَيحيى صلى الله عَلَيْهِم وَكَانَت الفترة بَين مُوسَى وَعِيسَى نَحْو ألفي سنة لعظم آيَات مُوسَى وَعظم الْكتاب الَّذِي أنزل
مَعَه وَلما بعث بَينهمَا من الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَهَذِه الْمدَّة أطول المدد الَّتِي كَانَت بَين من ذكرنَا عليهم السلام
ثمَّ لما تزايد الْكفْر وتغيرت أَحْوَال بني إِسْرَائِيل وشاع الْإِلْحَاد فِي الفلاسفة بعث الله عِيسَى عليه السلام بِتِلْكَ الْآيَات الباهرة وَبَقِي فيهم مَا بَقِي ثمَّ أكْرمه الله تَعَالَى وَرَفعه إِلَيْهِ ثمَّ كَانَت الفترة بَينه وَبَين نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نَحْو ستمائه عَام وَكَانَت هَذِه الْمدَّة أَوسط المدد وَذَلِكَ وَالله أعلم لِأَن حجج الله تَعَالَى كثرت فِيهَا لبَقَاء التَّوْرَاة وَالزَّبُور والانجيل وَمَعَ ذَلِك كثر الضلال وَقيل فِي الْمَسِيح قَولَانِ عظيمان أَحدهمَا مَا قالته الْيَهُود وَالثَّانِي مَا قالته النَّصَارَى ثمَّ بعث الله تَعَالَى النَّبِي مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَختم بِهِ الرسَالَة وَنحن من مبعثه على نَحْو من أَرْبَعمِائَة عَام فَدلَّ على قرب السَّاعَة وأزوف الْقِيَامَة وحقق ذَلِك قَوْله تَعَالَى {اقْترب للنَّاس حسابهم وهم فِي غَفلَة معرضون} وَقَوله تَعَالَى {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعثت أَنا والساعة كهاتين وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ اه
قلت وَهَذَا كَلَامه عليه السلام صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَكيف بِنَا الْيَوْم وَقد دَخَلنَا فِي الْمِائَة التَّاسِعَة أَكثر من ثلثهَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فانظروا رحمكم الله فِي حسن نظر الله عز وجل لِعِبَادِهِ بِمَا ذكرنَا فاعتبروا بِهِ واستعدوا للدوام والبقاء فَلهُ خلقْتُمْ فَكَأَن الْوَاقِعَة قد وَقعت والحاقة قد حقت فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير فَلَا يصدنكم الشَّيْطَان وَأَتْبَاعه عَنْهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى فَلَا يصدنك عَنْهَا من لَا يُؤمن بهَا وَاتبع هَوَاهُ فتردى} وفقنا الله وَإِيَّاكُم لطاعته وَاتِّبَاع مرضاته قلت وَمَعَ قرب مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الْقِيَامَة فَلم يخل الله عباده من تَجْدِيد الْآيَات وَمَا يقوم مقَام تجديدها وَذَلِكَ بِأُمُور أعظمها إعجاز الْقُرْآن الْعَظِيم وبقاؤه فِي الْأمة وَحفظه لَهُ عَن التَّغْيِير
وَقد جود الامام الْمُؤَيد بِاللَّه عليه السلام وَمن سبقه من عُلَمَاء الاسلام
القَوْل فِي ذَلِك وَقد جمعه عليه السلام فِي كِتَابه فِي النبوات وجوده وَإِن كَانَ قَالَ عليه السلام أَنه لم يزدْ على ماقالوه وَإِنَّمَا أوجز من كَلَامهم مَا جعله الْبسط متباعد الْأَطْرَاف أَو بسط مَا جعله الايجاز خَفِي الاغراض فقد أَفَادَ وأجاد وَأحسن وَزَاد فَيَنْبَغِي مُطَالبَة كِتَابه فِي ذَلِك وَكتاب الجاحظ فِيهِ أَيْضا فانه السَّابِق لَهُ عليه السلام إِلَى ذَلِك وَالْمَشْهُور بالتجويد فِي هَذِه المسالك
وَمن نَفِيس كَلَامه فِي ذَلِك قَوْله وَمن الدَّلِيل على اعجاز الْقُرْآن أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ابْتَدَأَ الاتيان بِهَذَا الْقُرْآن على غَايَة الاحكام والاتقان وَقد ثَبت جَرَيَان الْعَادة أَن كل أَمر يَقع على وَجه لَا يَصح وُقُوعه عَلَيْهِ إِلَّا بعلوم تحصل للْفَاعِل لَهُ لَا يَصح وُقُوعه ابْتِدَاء على غَايَة الاحكام والاتقان وَأَن بُلُوغه الْغَايَة يتَعَذَّر إِلَّا على مر الدهور والأعصار وتعاطي جمَاعَة فجماعة لَهُ وانه لَا فرق فِي ذَلِك بَين شَيْء وَشَيْء من الْأُمُور فِي منظوم الْكَلَام ومنثوره وَمَا يتَعَلَّق بالتنجيم والطب وَالْفِقْه والنحو والصناعات الَّتِي هِيَ النساجة والصياغة وَالْبناء وَمَا أشبه ذَلِك فَإِذا ثَبت ذَلِك وَثَبت وُقُوع الْقُرْآن على الْوَجْه الَّذِي بَيناهُ ثَبت أَنه وَقع على وَجه انتقضت بِهِ الْعَادة فَجرى مجْرى قلب الْعَصَا حَيَّة واحياء الْمَوْتَى وَالْمَشْي على المَاء والهواء إِلَى آخر مَا ذَكرُوهُ فِي ذَلِك وَلَوْلَا أَن ذكره يُنَاقض مَا قصدت من الِاخْتِصَار لذكرته فَهَذَا أعظم الْآيَات لبَقَائه فِي أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وفناء آيَات الْأَنْبِيَاء فِي أعصارهم عليهم السلام وَلَكِن الله لما علم أَن النُّبُوَّة قد انْقَطَعت جعل هَذَا المعجز الْجَلِيل بَاقِيا على مر الدهور جَدِيدا على طول العصور
الْأَمر الثَّانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ إِن الله يبْعَث لأمتي من يجدد لَهَا دينهَا رَأس كل مائَة عَام وَهَذِه إِشَارَة إِلَى مَا من الله تَعَالَى بِهِ على أهل الاسلام من الْأَئِمَّة الهداة للأنام عليهم السلام وَمن سَائِر الْعلمَاء الاعلام وَالصَّالِحِينَ الْكِرَام وَمِمَّا يَجْعَل الله تَعَالَى فيهم من الاسرار ويجدد بهم من الْآثَار ويوضح بهم من المشكلات وَيبين بهم
من الدلالات وَيرد بعلومهم من الجهالات وَيُؤَيّد بهم من الكرامات وصادق الْمُبَشِّرَات من رُؤْيا الْحق الْوَارِدَة فِي مُحكم الْآيَات وصحيح الرِّوَايَات
الْأَمر الثَّالِث نصر الله تَعَالَى لحماة الاسلام الْمُجَاهدين وإنجازه مَا وعدهم بِهِ فِي كِتَابه الْمُبين من نَصره للْمُؤْمِنين وعَلى لِسَان رَسُوله الصَّادِق الْأمين من حفظه لهَذَا الدّين على كَثْرَة الْكَافرين والمفسدين والملاحدة والمتمردين وَلَو نذْكر الْقَلِيل من ذَلِك لطال وَقد اشْتَمَلت عَلَيْهِ تواريخ الاسلام وتواريخ الرِّجَال فَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
وَأما مَا يخْتَص بنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الْآيَات الباهرة والدلالات الْوَاضِحَة فَأكْثر من أَن يحصر وَأشهر من أَن يذكر وَقد صنفت فِي ذَلِك مصنفات كَثِيرَة مِنْهَا كتاب الشِّفَاء للْقَاضِي عِيَاض الْمَالِكِي وَغَيره لَكِن تقصيها هُنَا مِمَّا لم تدع إِلَيْهِ الْحَاجة إِذْ لَا مُنَازع من أهل الاسلام فِي نبوته وَلَا شَاك وَلَا مشكك فِيهَا وَإِنَّمَا المُرَاد هُنَا ارشاد الْمُخْتَلِفين من أمته إِلَى أوضح الطّرق وأنصفها وأهداها إِلَى اتِّبَاع سنته والسلامة من مُخَالفَته وَلَكنَّا نتبرك ونتشرف بِذكر شَيْء يسير مِنْهَا على جِهَة الاشارة وَالرَّمْز إِلَى جمل من ذَلِك على حسب مَا يَلِيق بِهَذَا الْمُخْتَصر فَنَقُول كَمَا قَالَ وَاحِد من عُلَمَاء الاسلام
إِن معجزاته صلى الله عليه وسلم قِسْمَانِ حسية وعقلية أما الحسية فَثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا أُمُور خَارِجَة عَن ذَاته وَثَانِيها أُمُور فِي ذَاته وَثَالِثهَا أُمُور فِي صِفَاته
أما الْقسم الأول وَهُوَ الاشياء الْخَارِجَة عَن ذَاته فَمثل انْشِقَاق الْقَمَر وَطَاعَة الشّجر فِي الْمَشْي إِلَيْهِ وَتَسْلِيم الْحجر وحنين الْجذع إِلَيْهِ ونبوع المَاء من بَين أَصَابِعه واشباع الْخلق الْكثير من الطَّعَام الْقَلِيل وشكاة النَّاقة وَشَهَادَة الشَّاة المشوية واظلال السَّحَاب قبل مبعثه وَمَا كَانَ من حَال أبي جهل وصخرته حِين أَرَادَ أَن يضْربهَا على رَأسه وَمَا كَانَ من شَاة أم معبد حِين مسح يَده الْمُبَارَكَة على ضرْعهَا وأمثال ذَلِك وَلَو ذكرت طرق ذَلِك وَأَسَانِيده لمنع عَن الْمَقْصُود بالاختصار وَأخرج عَنهُ إِلَى التآليف الْكِبَار
وَأما الْقسم الثَّانِي وَهِي الْأُمُور العائدة إِلَى ذَاته فَهُوَ مثل مَا كَانَ من الْخَاتم بَين كَتفيهِ والنور الَّذِي كَانَ ينْتَقل من أَب إِلَى أَب إِلَى أَن خرج إِلَى الدُّنْيَا وَمَا شوهد من خلقته وَصورته الَّتِي يحكم علم الفراسة بِأَنَّهَا دَالَّة على نبوته
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بصفاته فَهِيَ كَثِيرَة وَنحن نشِير إِلَى بَعْضهَا فَمن ذَلِك أَن أحدا مَا سمع مِنْهُ كذبا لَا فِي أُمُور الدّين وَلَا فِي أُمُور الدُّنْيَا وَلَو صدر عَنهُ شَيْء من ذَلِك مرّة وَاحِدَة لاجتهد أعداؤه فِي نشره واظهاره
الثَّانِي أَنه مَا فعل قبيحا منفرا عَنهُ لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا الثَّالِث أَنه لم يفر عَن أحد من أعدائه لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا وان عظم الْخَوْف وَاشْتَدَّ الْأَمر مثل يَوْم أحد وَيَوْم الْأَحْزَاب الرَّابِع أَنه كَانَ عَظِيم الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة على أمته كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات} وَقَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} الْخَامِس أَنه كَانَ فِي أعظم الدَّرَجَات فِي الْكَرم والسخاء حَتَّى أَن الله تَعَالَى علمه التَّوَسُّط فِي ذَلِك حَيْثُ قَالَ لَهُ {وَلَا تبسطها كل الْبسط} السَّادِس أَنه مَا كَانَ للدنيا فِي قلبه وَقع السَّابِع أَنه كَانَ فِي غَايَة الفصاحة الثَّامِن أَنه بَقِي على طَرِيقَته المرضية أول عمره إِلَى آخِره والمزور لَا يُمكنهُ ذَلِك وَإِلَيْهِ الاشارة بقوله تَعَالَى {وَمَا أَنا من المتكلفين} التَّاسِع أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَ أهل الْغنى والثروة فِي غَايَة الْبعد عَن المطامع والترفع عَنْهَا وَمَعَ الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فِي غَايَة الْقرب مِنْهُم والتواضع لَهُم واللطف بهم الْعَاشِر أَنه كَانَ صلى الله عليه وسلم فِي كل وَاحِدَة من هَذِه الْأَخْلَاق الْكَرِيمَة فِي الْغَايَة القصوى من الْكَمَال وَلَا يتَّفق ذَلِك لأحد من الْخلق غير أهل الْعِصْمَة من الله تَعَالَى فَكَانَ اجْتِمَاع ذَلِك فِي صِفَاته من أعظم المعجزات
وَأما المعجزات الْعَقْلِيَّة فَهِيَ سِتَّة أَنْوَاع النَّوْع الأول أَنه ظهر بَين قَبيلَة مَا كَانُوا من أهل الْعلم وَمن بَلْدَة مَا كَانَ فِيهَا أحد من الْعلمَاء فِي ذَلِك الْعَصْر بل كَانَت الْجَهَالَة غالبة عَلَيْهِم وَلم يتَّفق لَهُ سفر من تِلْكَ الْبَلدة إِلَّا مرَّتَيْنِ كِلَاهُمَا إِلَى الشَّام وَكَانَت مُدَّة سفر قَليلَة وَلم يذهب أحد من الْعلمَاء والحكماء إِلَى بَلَده حَتَّى يُقَال أَنه تعلم الْعلم من ذَلِك الْحَكِيم فاذا خرج من مثل هَذِه الْبَلدة وَمثل هَذِه الْقَبِيلَة رجل بارع الْكَمَال فائق على فحول الرِّجَال من غير أَن يمارس شَيْئا من الْعُلُوم وَلَا يخالط أحدا من الْعلمَاء أَلْبَتَّة ثمَّ بلغ فِي معرفَة الله تَعَالَى وَصِفَاته وأسمائه وأفعاله وَأَحْكَامه هَذَا الْمبلغ الْعَظِيم الَّذِي عجز عَنهُ جَمِيع الأذكياء من الْعُقَلَاء بل عجزوا عَن الْقرب مِنْهُ والمداناة لَهُ بل أقرّ الْكل بِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُزَاد فِي تَقْرِير أصُول الدَّلَائِل ومهمات المعارف على مَا ورد فِي الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ ذكر قسس الْأَوَّلين وتواريخ الْمُتَقَدِّمين بِحَيْثُ لم يتَمَكَّن أحد من الاعداء العارفين بذلك أَن يخطئه فِي شَيْء مِنْهَا بل بلغ كَلَامه فِي الْبعد من الريب إِلَى أَن قَالَ بذلك أَن يخطئه فِي شَيْء مِنْهَا بل بلغ كَلَامه فِي الْبعد من الريب إِلَى أَن قَالَ عِنْد مجادلتهم لَهُ {تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنة الله على الْكَاذِبين}
فحادوا عَن ذَلِك وَعرفُوا صدقه واجابة دَعوته وَلم يقدر أحد من أعدائه أَن ينْسب إِلَيْهِ أَنه أَخذ ذَلِك من مطالعة كتاب وَلَا صُحْبَة أستاذ وَكَانَت هَذِه الاحوال ظَاهِرَة مَعْلُومَة عِنْد الاصدقاء والأعداء والقرباء والبعداء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون} وَقَالَ {وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك إِذا لارتاب المبطلون} وَقَالَ {فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون} وكل من لَهُ عقل سليم وطبع مُسْتَقِيم علم أَن هَذِه الاحوال لَا تتيسر إِلَّا بالتعليم الالهي والتوفيق الرباني
النَّوْع الثَّانِي أَنه عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ قبل اظهاره دَعْوَى الرسَالَة غير باحث عَن هَذِه المور وَلَا مَشْغُول بهَا وَلَا جرى على لِسَانه حَدِيث
النُّبُوَّة لنَفسِهِ وَدَعوى الرسَالَة وَالَّذِي يدل على ذَلِك أَنه لَو اتّفق لَهُ خوض فِي هَذِه المطالب لقَالَ الْكفَّار أَنه أفنى عمره فِي ذَلِك وَفِي جمع الْقُرْآن حَتَّى قدر على ذَلِك بعد طول التَّأَمُّل والتدبر وَجَاء بِهِ وَلما لم يذكر هَذَا عَن أحد من الاعداء مَعَ شدَّة حرصهم على الطعْن فِيهِ وَفِي نبوته علمنَا ذَلِك وَمَعْلُوم أَن من انْقَضى من عمره أَرْبَعُونَ سنة وَلم يخض فِي شَيْء من هَذِه المطالب ثمَّ أَنه خَاضَ فِيهَا دفْعَة وَاحِد وأتى بِكَلَام عجز الْأَولونَ وَالْآخرُونَ عَن معارضته فصريح الْعقل يشْهد بِأَن هَذَا لَا يكون إِلَّا على سَبِيل الْوَحْي من الله تَعَالَى
النَّوْع الثَّالِث أَنه صلى الله عليه وسلم تحمل فِي أَدَاء الرسَالَة أَنْوَاع المتاعب والمشاق فَلم يُغَيِّرهُ ذَلِك عَن الْمنْهَج الأول وَلم يطْمع فِي مَال أحد وَلَا فِي جاهه بل صَبر على تِلْكَ المشاق والمتاعب وَلم يظْهر فِي عزمه فتور وَلَا فِي اصطباره قُصُور ثمَّ أَنه لما قهر الْأَعْدَاء وقويت شوكته ونفذت أوامره فِي الْأَمْوَال والارواح لم يتَغَيَّر عَن منهجه الأول فِي الزّهْد فِي الدُّنْيَا والاقبال على الْآخِرَة وكل من أنصف علم أَن المزور وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذكر ذَلِك لَا يكون كَذَلِك فان المزور إِنَّمَا يروج الْكَذِب وَالْبَاطِل على الْحق لكَي يتَمَكَّن من الدُّنْيَا فاذا وجدهَا لم يملك نَفسه عَن الِانْتِفَاع بهَا لكيلا يكون ساعيا فِي تَضْييع مَطْلُوبه بل تَضْييع مَطْلُوبه بل تَضْييع دُنْيَاهُ وآخرته وَذَلِكَ مَا لَا يَفْعَله أحد من الْعُقَلَاء
النَّوْع الرَّابِع من معجزاته الْعَقْلِيَّة أَنه كَانَ مستجاب الدعْوَة وَذَلِكَ مَعْلُوم بالتواتر الضَّرُورِيّ لمن عرف سيرته وأخباره وأحواله بل لمن طالع كتب آيَاته واعلامه وَذَلِكَ ثَابت فِي الْكتب السِّت بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَة من حَدِيث جَابر بن عبد الله وَأبي هُرَيْرَة والسائب بن يزِيد وَأبي زيد ابْن أَخطب وَيزِيد ابْن أبي عبيد وَابْن مَسْعُود وَأنس والبراء بن عَازِب وَغَيرهم من الصَّحَابَة رضي الله عنهم
النَّوْع الْخَامِس وُرُود الْبشَارَة بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاة والانجيل وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه ادّعى ذَلِك كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم وَمَعْلُوم أَنه لَو لم يكن صَادِقا فِي ذَلِك لَكَانَ هَذَا من أعظم المنفرات لأهل الْكتاب عَنهُ وَلَا يَصح من الْعَاقِل أَن يقدم على فعل مَا يمنعهُ من مَطْلُوبه ويحول بَينه وَبَين
مَا يحاوله وَلَا نزاغ من الْعُقَلَاء أَنه كَانَ من أوفر النَّاس عقلا وَأَحْسَنهمْ تدبيرا وأرجحهم علما قَالَ بعض العارفين فادم كَانَت أوامره بنصرته لأولاده لَا تحصى ونوح عهد إِلَى أَتْبَاعه باتباعه ووصى والخليل كَانَ أَكْثَرهم اجْتِهَادًا فِي ذَلِك وحرصا وَبَنوهُ تواصو بِهِ وَإِسْمَاعِيل أَكْثَرهم فحصا وتوراة مُوسَى نطقت بنعته وَصِفَاته وأبانت عَن مَعَانِيه وآياته وأوضح براهان على ذَلِك وَدَلِيل {أَو لم يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل} وزبور دَاوُد أفْصح بِصدق معجزاته واعرب عَن ظُهُور بيناته وإنجيل عِيسَى شهد بِأَنَّهُ الْخَاتم الَّذِي يشْكر دينه ويحمد وَصرح بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} وَالْأَخْبَار ببعثه من الْأَحْبَار أَكثر من أَن تذكر يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة والانجيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر
فاسمع أنباءهم يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَمن صفته فِي التَّوْرَاة على مَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ (يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وحرزا للاميين أَنْت عَبدِي ورسولي سميتك المتَوَكل لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا سخاب فِي الاسواق وَلَا يجزى بِالسَّيِّئَةِ مثلهَا وَلَكِن يعْفُو وَيغْفر وَلنْ يقبضهُ الله تَعَالَى حَتَّى يُقيم بِهِ الْملَّة العوجاء بِأَن يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله يفتح بهَا آذَانا صمًّا وَأَعْيُنًا عميا وَقُلُوبًا غلفًا) ذكر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} كَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرهَا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن الله مَا بعث نَبيا إِلَّا وَأخذ عَلَيْهِ الْمِيثَاق لَئِن بعث مُحَمَّد وَهُوَ حَيّ ليُؤْمِنن بِهِ ولينصرنه
النَّوْع السَّادِس اخباره عَن الغيوب وَصدقه فِي ذَلِك وَهَذَا بَاب وَاسع مَعْلُوم بالتواتر الضرورى لأهل الْمعرفَة بالأخبار والتقصي فِيهِ يخرجنا عَمَّا قصدناه من الِاخْتِصَار فليطالع فِي مظانه فانما الْقَصْد الاشارة وَفِي الْقُرْآن مِنْهُ الْكثير الطّيب كَمَا ذكره الْمُؤَيد بِاللَّه عليه السلام وَغَيره مثل الجاحظ
والرازي وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيرهم وَفِي دواوين الاسلام من ذَلِك عَن عَليّ عليه السلام وَجَابِر بن سَمُرَة وَأبي هُرَيْرَة وَأبي ذَر وَجَابِر بن عبد الله وَحُذَيْفَة وَعَمْرو بن أَخطب وَأنس وَعَاصِم بن كُلَيْب وَعَائِشَة وَأبي حميد السَّاعِدِيّ وثوبان وعدي بن حَاتِم وَمِمَّا تَوَاتر من ذَلِك حَدِيث (تقتلك يَا عمار الفئة الباغية) كَمَا ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عمار من النبلاء وَاتفقَ البُخَارِيّ وَمُسلم على صِحَّته وتخريجه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَلَفظ البُخَارِيّ (وَيْح عمار يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة ويدعونه إِلَى النَّار) وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي قَتَادَة وَأم سَلمَة وَكلهَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل فِي الْمسند وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث خُزَيْمَة بن ثَابت وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان وعمار وَحُذَيْفَة وَأبي أَيُّوب وَزِيَاد وَعَمْرو بن حزم وَمُعَاوِيَة وَعبد الله بن عَمْرو وَأبي رَافع ومولاة لعمارة وَغَيرهم وَقَالَ ابْن عبد الْبر تَوَاتَرَتْ الاخبار بذلك وَهُوَ من أصح الحَدِيث
وَقَالَ ابْن دحْيَة لَا مطْعن فِي صِحَّته وَلَو كَانَ فِيهِ مطْعن لرده مُعَاوِيَة وَأنْكرهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْمُؤَيد بِاللَّه عليه السلام فِي كِتَابه فِي النبوات وَعَن أَحْمد ابْن حَنْبَل أَنه رُوِيَ من ثَمَانِيَة وَعشْرين طَرِيقا وَإِنَّمَا ذكرت طرفا من أسانيده على طَرِيق الاجمال لوُقُوعه على مَا أخبر بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عصر الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَلَوْلَا خشيَة الاطالة لذكرت الْأَسَانِيد فِي كل حَدِيث
ولنختم هَذَا النَّوْع بِهَذَا الحَدِيث الْجَلِيل وَالْعلم الْكَبِير من أَعْلَام النُّبُوَّة نبوة سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَنَذْكُر هُنَا حَدِيث هِرقل وَهُوَ قَيْصر ملك الرّوم حِين جَاءَهُ كتاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَجمع من بأرضه من الْعَرَب وَكَانَ فيهم أَبُو سُفْيَان فَسَأَلَهُ عَن حسب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَصدقه قبل دَعْوَى النُّبُوَّة وَعَن أَتْبَاعه وثبوتهم على دينه وَعَن حربه كَيفَ هُوَ وَعَن وفائه وَبِمَا يَأْمر الحَدِيث بِطُولِهِ خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس
الْبَاب الْخَامِس فِي الِاحْتِرَاز من بدع أهل الاسلام وَهُوَ قِسْمَانِ مُقَدمَات عَامَّة جميلَة ومسائل مُبْهمَة تفصيلية
الْقسم الأول الْمُقدمَات والآن وَقد تخلصنا من جملَة الشكوك الَّتِي بَين أهل الْملَل الْخَارِجَة عَن الاسلام بأبين طَرِيق وتحققنا بالاضطرار أَنه لَا يُمكن أَن يُوجد فِي الْعَالم أقوم منهجا من مَنْهَج الاسلام الْمُشْتَمل على التَّوْحِيد والايمان بِجَمِيعِ كتب الله وَرُسُله وَلَا أنزه وَلَا أبعد من كل مَكْرُوه فِي الاعمال والاقوال والأخلاق والعقائد وَأَن من فر من الاسلام كَرَاهِيَة لأمر وَقع فِي أعظم مِمَّا فر مِنْهُ من المحارات والمحالات والضلالات والشناعات فَيجب علينا شكر النِّعْمَة بِحسن التَّخَلُّص وَالِاحْتِيَاط والانصاف فِيمَا وَقع بَين أهل الاسلام من الِاخْتِلَاف لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا وجوب النَّصِيحَة للْمُسلمين والتقرب بذلك إِلَى أرْحم الرَّاحِمِينَ فقد ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن الدّين النَّصِيحَة قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولأئمة الْمُسلمين ولعامتهم وَهَذِه كلمة اجماع من الْمُسلمين وَثَانِيهمَا الِاحْتِرَاز من الْهَلَاك بعد طول السَّلامَة مِمَّا تقدم من ضلالات أهل الْملَل الكفرية والحذر من أَن يكون مِمَّن ذمهم الله تَعَالَى بقوله {فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم} فَلَا أشفى مِمَّن فَاتَهُ رضَا ربه والنجاة من عَذَابه بعد أَن لم يبْق بَينه وَبَينه إِلَّا الْيَسِير فنسأل الله تَمام هدايته فانه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَلَا هِدَايَة إِلَّا بِهِ وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
وَاعْلَم أَنِّي قد أذكر المبتدعة وَأهل السّنة كثيرا فِي كَلَامي فَأَما المبتدعة فانما أَعنِي بهم أهل الْبدع الْكُبْرَى الغلاة مِمَّن كَانُوا فَأَما الْبدع الصُّغْرَى فَلَا تسلم مِنْهَا طَائِفَة غَالِبا وَأما أهل السّنة فقد أُرِيد بهم أَهلهَا على الْحَقِيقَة وَقد أُرِيد بهم من تسمى بهَا وانتسب إِلَيْهَا فَتَأمل مواقع ذَلِك فَأول مَا يُنَبه طَالب الْحق والنجاة عَلَيْهِ أَن يعلم أَنه لَا يَصح أَن يخفى على أهل الاسلام دين رسولهم الَّذِي بعث اليهم وَأقَام بَين أظهرهم يُبينهُ لَهُم حَتَّى تَوَاتَرَتْ شرائعه وَصِفَاته مَعَ قرب الْعَهْد من ابْتِدَاء الِافْتِرَاق واتصال الاخبار وَكَثْرَة
الْعلمَاء والرواة بل قد تَوَاتر اليهم وَلم يخف عَلَيْهِم مَا لَا تعلق لَهُ بِالدّينِ من صورته فانهم يعلمُونَ ضَرُورَة أَنه لم يكن أَعور وَلَا أعرج وَلَا أسود وَلَا فَاحِشا وَلَا ممارياولا فيلسوفا وَلَا شَاعِرًا وَلَا ساحرا وَلَا منجما
فان قيل فَمن أَيْن جَاءَ الِاخْتِلَاف الشَّديد فَاعْلَم أَن منشأ مُعظم الْبدع يرجع إِلَى أَمريْن وَاضح بطلانهما فَتَأمل ذَلِك بانصاف وَشد عَلَيْهِ يَديك وَهَذَانِ الامران الباطلان هما الزِّيَادَة فِي الدّين باثبات مَا لم يذكرهُ الله تَعَالَى وَرُسُله عليهم السلام من مهمات الدّين الْوَاجِبَة وَالنَّقْص مِنْهُ بِنَفْي بعض مَا ذكره الله تَعَالَى وَرُسُله من ذَلِك بالتأويل الْبَاطِل
ولهذين الْأَمريْنِ الباطلين أصلان عَقْلِي وسمعي أما الأَصْل الأول وَهُوَ الْعقلِيّ فَذَلِك أَنه عرض للمبتدعة بِسَبَب الْخَوْض فِيمَا لَا تُدْرِكهُ الْعُقُول من الخفيات الَّتِي أعرض عَنْهَا السّلف نَحْو مِمَّا عرض للبراهمة الَّذين حكمُوا برد النبوات من إِيجَاب أُمُور سكت الشَّرْع عَن بَعْضهَا وَنهى عَن بَعْضهَا واستقباح أُمُور ورد الشَّرْع بتحسينها لكِنهمْ خالفوا البراهمة فِي أَنهم صدقُوا الشَّرْع فِي الْجُمْلَة وَصَدقُوا هَذِه القوادح فِي تفاصيل الشَّرْع وراموا الْجمع بَينهمَا فوقعوا لذَلِك فِي أَشْيَاء واهية كَمَا ترَاهُ وَاضحا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذَا الْمُخْتَصر ولزمهم مَا التزموا من أَن رسل الله عليهم السلام قصروا فِي الْبَيَان عمدا امتحانا للمكلفين وتعريضا للْعُلَمَاء الراسخين للثَّواب الْعَظِيم فِي التَّأْوِيل لكَلَام رب الْعَالمين
وَلَا شكّ أَن الْحق فِي خلاف هَذَا فقد نَص الله على أَن الرُّسُل إِنَّمَا أرْسلت لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَأنزل علينا فِي كِتَابه الْمُبين على لِسَان رَسُوله الْأمين {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَصَحَّ التحذير من الْبدع وَمن الله علينا باقرار أهل الْبدع بذلك وانعقاد الاجماع من الْجَمِيع على تَحْرِيم الابتداع فِي الدّين كَمَا يَأْتِي بَيَانه فَوَجَبَ علينا أَن نصْنَع فِي القوادح فِي تفاصيل الاسلام الَّتِي عرضت لبَعض أهل الْكَلَام مثل مَا صنعنَا
مَعًا فِي الرَّد على البراهمة فِي القوادح الَّتِي قدحت فِي جملَة الاسلام وَذَلِكَ أَن نعتقد أَن الْحق فِي تِلْكَ القوادح التفصيلية هُوَ فِيمَا جَاءَ من عِنْد الله بِدَلِيل المعجزات الباهرات ونعلم أَن للبصائر أوهاما فِي الخفيات من الاحكام مثل مَا ثَبت للابصار فِي الخفيات من الأوهام فَلَا نتبع فِي الخفيات وهم البصائر وَلَا وهم الْأَبْصَار فنكون كمن قدم ضوء النُّجُوم على ضوء النَّهَار بل نتتبع الْجَلِيّ من الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول ونرد اليه الخفيات على الْعُقُول وننتفع بالجلي ونقف فِيمَا دق وخفي ونصنع فِي الِانْتِفَاع بالبصائر كَمَا صنعنَا فِي الِانْتِفَاع بالأبصار وَلَا نقف الْجَلِيّ على الْخَفي وَلَا نرجح الْخَفي على الْجَلِيّ فَهَذَا مَا لَا يخفى تَرْجِيحه عقلا وَلَا سمعا
أما الْعقل فَلِأَن الانسان يحسن مَا يُحسنهُ وَمَا لَا يُحسنهُ وَمَا يعرفهُ وَمَا يجهله كَمَا يحسن الْجُوع والظمأ وَالْبَصَر والعمى وَأما السّمع فَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَإِذا أردْت معرفَة هَذَا من غير تَقْلِيد فطالع كتاب الملخص للرازي فِي علم اللَّطِيف وَكتاب التَّذْكِرَة لِابْنِ متويه وَلَا تقتصر على التَّذْكِرَة فانها مختصرة مَعَ أَن كتاب الرَّازِيّ مَعْدُود فِي الوسائط فِي هَذَا الْفَنّ لَا فِي البسائط وَمن البسائط فِيهِ شرح الملخص هَذَا للكاتبي وَشرح التَّنْبِيهَات والاشارات للخواجه ذكر ذَلِك ابْن ساعد الانصاري فِي كِتَابه ارشاد القاصد إِلَى الْمَقَاصِد فِي ذكر أَنْوَاع الْعُلُوم والمصنفات فِيهَا
وَأما الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ السمعي فَهُوَ اخْتلَافهمْ فِي أَمريْن أَحدهمَا فِي معرفَة الْمُحكم والمتشابه أَنفسهمَا والتمييز بَينهمَا حَتَّى يرد الْمُتَشَابه إِلَى الْمُحكم وَثَانِيهمَا اخْتلَافهمْ هَل يعلمُونَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه ثمَّ اخْتلَافهمْ فِي تَأْوِيله على تَسْلِيم أَنهم قد عرفُوا الْمُتَشَابه ولنذكر سَبَب وُقُوع الْمُتَشَابه على الْعُقُول من حَيْثُ الْحِكْمَة والدقة فِي كتب الله تَعَالَى أَولا
وَالْمَشْهُور أَن سَببه الِابْتِلَاء بِالزِّيَادَةِ فِي مشقة التَّكْلِيف لتعظيم الثَّوَاب وَهَذَا أنسب بالمتشابه من حَيْثُ اللَّفْظ وَأما أَنا فَوَقع لي أَن سَببه زِيَادَة علم
الله على علم الْخلق فان العوائد التجريبية والأدلة السمعية دلّت على امْتنَاع الِاتِّفَاق فِي تفاصيل الحكم وتفاصيل التحسين والتقبيح وَلذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف بَين أهل الْعِصْمَة من الْمَلَائِكَة والأنبياء كَمَا قَالَ تَعَالَى حاكيا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} وَحكى الله تَعَالَى اخْتِلَاف سُلَيْمَان وَدَاوُد ومُوسَى وَهَارُون ومُوسَى وَالْخضر وَصَحَّ فِي الحَدِيث اخْتِلَاف مُوسَى وآدَم وَاخْتِلَاف الْمَلَائِكَة فِي حكم قَاتل الْمِائَة نفس إِلَى أَمْثَال لذَلِك قد أفردتها لبَيَان امْتنَاع الِاتِّفَاق فِي نَحْو ذَلِك وَأَن عِلّة الِاخْتِلَاف التَّفَاضُل فِي الْعلم فَوَجَبَ من ذَلِك ان يكون فِي أَحْكَام الله تَعَالَى وَحكمه مَا تستقبحه عقول الْبشر لِأَن الله تَعَالَى لَو ماثلنا فِي جَمِيع الاحكام وَالْحكم دلّ على مماثلته لنا فِي الْعلم الْمُتَعَلّق بذلك وَفِي مؤداه ولطائفة وأصوله وفروعه وَلذَلِك تَجِد الْأَمْثَال والنظراء فِي الْعُلُوم أقل اخْتِلَافا خُصُوصا من المقلدين
وَإِنَّمَا عظم الِاخْتِلَاف بَين الْخضر ومُوسَى لما خص بِهِ الْخضر عليهما السلام وَهَذِه فَائِدَة نفيسة جدا وَبهَا يكون وُرُود الْمُتَشَابه أدل على الله تَعَالَى وعَلى صدق أنبيائه لِأَن الْكَذَّابين إِنَّمَا يأْتونَ بِمَا يُوَافق الطباع كَمَا هُوَ دين القرامطة والزنادقة وَقد أَشَارَ السّمع إِلَى ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} وَقَالَ فِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم}
وَكَيف يستنكر اخْتِلَاف الانسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الَّذِي جمع معارف العارفين فِي علمه مثل مَا أَخذه العصفور فِي منقاره من الْبَحْر الاعظم بل كَيفَ لَا يخْتَص هَذَا الرب الاعظم بِمَعْرِِفَة مَا لَا نعرفه من الحكم اللطيفة الَّتِي يسْتَلْزم تفرده بمعرفتها أَن يتفرد بِمَعْرِِفَة حسن مَا تعلّقت بِهِ وتأويله وَبِهَذَا ينشرح صدر الْعَارِف للايمان بالمتشابه والايمان بِالْغَيْبِ فِي تَأْوِيله فلنذكر بعد هَذَا كل وَاحِد من الامرين الْمُقدم ذكرهمَا على الايجاز
أما الْأَمر الأول وَهُوَ اخْتلَافهمْ فِي ماهيتهما فَمنهمْ من قَالَ الْمُحكم مَا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا والمتشابه مَا احْتمل أَكثر من معنى فَهَؤُلَاءِ رجعُوا بالمحكم إِلَى النَّص الْجَلِيّ وَمَا عداهُ متشابه وَعَزاهُ الامام يحيى إِلَى أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَطَوَائِف من الحشوية وَمِنْهُم من قَالَ الْمُحكم مَا كَانَ إِلَى مَعْرفَته سَبِيل والمتشابه مَا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته بِحَال نَحْو قيام السَّاعَة وَالْحكمَة فِي الْعدَد الْمَخْصُوص فِي حَملَة الْعَرْش وخزنة النَّار وَمِنْهُم من قصر الْمُتَشَابه على آيَات مَخْصُوصَة ثمَّ اخْتلفُوا فَمنهمْ من قَالَ هِيَ الْحُرُوف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور وَمِنْهُم من قَالَ آيَات الشقاوة والسعادة وَمِنْهُم من قَالَ الْمَنْسُوخ وَمِنْهُم من قَالَ الْقَصَص والامثال وَمِنْهُم عكس فَقَالَ الْمُحكم آيَات مَخْصُوصَة وَهِي آيَات الْحَلَال وَالْحرَام وَمَا عَداهَا متشابه إِلَى غير ذَلِك حكى الْجَمِيع الامام يحيي فِي الْحَاوِي وَاخْتَارَ أَن الْمُحكم مَا علم المُرَاد بِظَاهِرِهِ بِدَلِيل عَقْلِي أَو نقلي والمتشابه بِهِ مَا لم يعلم المُرَاد مِنْهُ لَا على قرب وَلَا على بعد مثل قيام السَّاعَة والاعداد المبهمة
وَقَالَ شيخ الاسلام ابْن تيمة فِي الْقَاعِدَة الْخَامِسَة من جَوَاب الْمَسْأَلَة التدبيرية إِنَّا نعلم مَا أخبرنَا الله تَعَالَى بِهِ من وَجه دون وَجه لقَوْله تَعَالَى {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} وَهَذَا يعم الْمُحكم والمتشابه وَجُمْهُور الْأمة على أَن الْوَقْف عِنْد قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الله} وَهُوَ الْمَأْثُور عَن أبي ابْن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَغَيرهم وَعَن مُجَاهِد وَطَائِفَة أَن الراسخين يعلمُونَ تَأْوِيله وَلَا مُنَافَاة بَين الْقَوْلَيْنِ عِنْد التَّحْقِيق فالتأويل على ثَلَاثَة وُجُوه الأول كَلَام الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ تَرْجِيح الْمَرْجُوح لدَلِيل الثَّانِي أَن التَّأْوِيل هُوَ التَّفْسِير وَهُوَ اصْطِلَاح الْمُفَسّرين كَمَا أَن الأول اصْطِلَاح الاصوليين وَمُجاهد امام التَّفْسِير عِنْد الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم وَالثَّالِث أَن التَّأْوِيل هُوَ الْحقيق الَّتِي يؤول اليها الْكَلَام لقَوْله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله} فَتَأْوِيل أَخْبَار الْمعَاد وُقُوعهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا قَالَ فِي قصَّة يُوسُف لما سجد أَبَوَاهُ وأخوته {هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل} وَمِنْه قَول عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا كَانَ يَقُول فِي رُكُوعه وَسُجُوده سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِر لي يتَأَوَّل الْقُرْآن تعنى قَوْله فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ
وَمِنْه قَول ابْن عُيَيْنَة السّنة هِيَ تَأْوِيل الْأَمر وَالنَّهْي فان نفس الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ هُوَ تَأْوِيل الامر بِهِ وَنَفس الْمَوْجُود الْمخبر بِهِ هُوَ تَأْوِيل الْخَبَر وَبِهَذَا يَقُول أَبُو عُبَيْدَة وَغَيره وَالْفُقَهَاء أعلم بالتأويل من أهل اللُّغَة كَمَا ذكرُوا ذَلِك فِي تَفْسِير اشْتِمَال الصماء لِأَن الْفُقَهَاء يعلمُونَ نفس مَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ لعلمهم بمقاصد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كَمَا يعلم اتِّبَاع بقراط وسيبويه من مقاصدهما مَا لَا يعلم بِمُجَرَّد اللُّغَة وَلَكِن تَأْوِيل الْأَمر وَالنَّهْي لابد من مَعْرفَته بِخِلَاف الْخَبَر
إِذْ عرفت ذَلِك فَتَأْوِيل مَا أخبر بِهِ الله عَن ذَاته المقدسة بِمَا لَهَا من الْأَسْمَاء وَالصِّفَات هُوَ حَقِيقَة ذَاته المقدسة وَتَأْويل مَا أخبر بِهِ الله من الْوَعْد والوعيد هُوَ نفس الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ مثل المسميات بأسمائه فِي الدُّنْيَا فَكيف بمعاني أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته وَلَكِن الْأَخْبَار عَن الْغَائِب لَا يفهم إِن لم تعبر عَنهُ الاسماء الْمَعْلُوم مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِد وَيعلم بهَا مَا فِي الْغَائِب بِوَاسِطَة الْعلم بِمَا فِي الشَّاهِد مَعَ الْفَارِق الْمُمَيز وَفِي الْغَائِب مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر كَمَا ورد فِي صفة الْجنَّة كَيفَ بِالذَّاتِ المقدسة إِلَى قَوْله وَمِمَّا يُوضح ذَلِك كُله أَن الله تَعَالَى وصف الْقُرْآن كُله بِأَنَّهُ مُحكم وَبِأَنَّهُ متشابه وَفِي آيَة أَن بعضه مُحكم وَبَعضه متشابه فالأحكام الَّذِي يعمه هُوَ الاتقان وَهُوَ تَمْيِيز الصدْق من الْكَذِب فِي اخباره والغي من الرشاد فِي أوامره والتشابه الَّذِي يعمه هُوَ ضد الِاخْتِلَاف المنفى عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَهُوَ الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور فِي قَوْله {إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف يؤفك عَنهُ من أفك} فالتشابه بِهِ هُنَا تماثل الْكَلَام وتناسبه بِحَيْثُ يصدق بعضه بَعْضًا فالاحكام الْعَام فِي معنى التشابه الْعَام بِخِلَاف الاحكام الْخَاص والتشابه الْخَاص فانهما متنافيان فالتشابه الْخَاص مشابهة
الشَّيْء لغيره من وَجه ومخالفته من وَجه آخر بِحَيْثُ يشْتَبه على بعض النَّاس إِنَّه هُوَ أَو هُوَ مثله وَلَيْسَ كَذَلِك والاحكام الْخَاص هُوَ الْفَصْل بَينهمَا بِحَيْثُ لَا يشْتَبه أَحدهمَا بِالْآخرِ يَعْنِي على من عرف ذَلِك الْفَصْل وَهَذَا التشابه الْخَاص إِنَّمَا يكون بِقدر مُشْتَرك بَين الشَّيْئَيْنِ مَعَ وجود الْفَاصِل بَينهمَا
ثمَّ من النَّاس من لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِك الْفَاصِل فَيكون مشتبها عَلَيْهِ وَمِنْهُم من يَهْتَدِي لَهُ فَيكون محكما فِي حَقه فالتشابه حِينَئِذٍ يكون من الامور الاضافية فاذا تمسك النَّصْرَانِي بقوله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} وَنَحْوه على تعدد الْآلهَة كَانَ الْمُحكم كَقَوْلِه تَعَالَى {وإلهكم إِلَه وَاحِد} وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا يزِيل مَا هُنَالك من الِاشْتِبَاه اه
وَقد ترك الامام وَالشَّيْخ وَجها آخر من الْمُتَشَابه الَّذين يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل مِمَّا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله على الصَّحِيح وَذَلِكَ وَجه الحكم الْمعينَة فِيمَا لَا تعرف الْعُقُول وَجه حسنه مثل خلق أهل النَّار وترجيح عَذَابهمْ على الْعَفو عَنْهُم مَعَ سبق الْعلم وسعة الرَّحْمَة وَكَمَال الْقُدْرَة على كل شَيْء
وَالدَّلِيل على أَن الْحِكْمَة خُفْيَة فِيهِ تسمى تَأْوِيلا لَهُ مَا ذكره تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى وَالْخضر فان قَوْله {سأنبئك بِتَأْوِيل مَا لم تستطع عَلَيْهِ صبرا} صَرِيح فِي ذَلِك وَهَذَا مُرَاد فِي الْآيَة لِأَن الله وصف الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ بابتغائهم تَأْوِيله وذمهم بذلك وهم لَا يَبْتَغُونَ علم الْعَاقِبَة عَاقِبَة الْخَبَر عَن الْوَعْد والوعيد وَمَا يؤول اليه على مَا فسره الشَّيْخ فهم الْجنَّة وَالنَّار وَالْقِيَامَة وَذَات الرب سُبْحَانَهُ كَمَا يبغيها طَالب العيان إِنَّمَا يستقبحون شَيْئا من الظَّوَاهِر بعقولهم يتكلفون لَهَا مَعَاني كَثِيرَة يَخْتَلِفُونَ فِيهَا وكل مِنْهُم يتفرد بِمَعْنى من غير حجَّة صَحِيحَة إِلَّا مُجَرّد الِاحْتِمَال وَرُبمَا خَالف ذَلِك التَّأْوِيل الْمَعْلُوم من الشَّرْع فتأولوه وَرُبمَا استلزم الْوُقُوع فِي أعظم مِمَّا فروا مِنْهُ
وَالَّذِي وضح لي فِي هَذَا وضوحا لَا ريب فِيهِ بِحسن توفيق الله أُمُور
أَحدهَا أَن الْكَلَام فِي ذَات الله تَعَالَى على جِهَة التَّصَوُّر وَالتَّفْصِيل أَو على جِهَة الاحاطة على حد علم الله كِلَاهُمَا بَاطِل بل من الْمُتَشَابه الْمَمْنُوع الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وَلقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} وانما تتَصَوَّر الْمَخْلُوقَات وَمَا هُوَ نَحْوهَا وَلما رُوِيَ من النَّهْي عَن التفكر فِي ذَات الله والامر بالتفكر فِي آلَاء الله وَلما اشْتهر عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام أَن ذَلِك مذْهبه حَتَّى رَوَاهُ عَنهُ الْخُصُوم وَمن أشهر مَا حفظ عَنهُ عليه السلام فِي ذَلِك قَوْله فِي امْتنَاع معرفَة الله عز وجل على الْعُقُول امْتنع مِنْهَا بهَا واليها حاكمها وَمن التفكر فِي الله والتحكم فِيهِ وَالدَّعْوَى الْبَاطِلَة على الْعُقُول والتكلف لتعريفها مَا لَا تعرفه حدثت هُنَا الْبدع الْمُتَعَلّقَة بِذَات الله وَصِفَاته وأسمائه فَمن أكبرها قَول البهاشمة من الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى عَن قَوْلهم لَا يعلم من ذَاته غير مَا يعلمونه قَالَ بن أبي الْحَدِيد فِي شرح النهج وَهَذَا مِمَّا يُصَرح بِهِ أَصْحَابنَا وَلَا يتحاشون عَنهُ وَقد كثرت عَلَيْهِم الردود حَتَّى تولى عَلَيْهِم فِي ذَلِك كثير من أَصْحَابهم الْمُعْتَزلَة كَابْن أبي الْحَدِيد وَغَيره حَتَّى قَالَ فِي ذَلِك قصائد كَثِيرَة بليغة مِنْهَا
(سَافَرت فِيك الْعُقُول فَمَا
…
ربحت إِلَّا عَنَّا السّفر)
(رجعت حسري فَمَا وَقعت
…
لَا على عين وَلَا أثر)
(فلحى الله الأولى زَعَمُوا
…
أَنَّك الْمَعْلُوم بِالنّظرِ)
(كذبُوا أَن الَّذِي زَعَمُوا
…
خَارج عَن قُوَّة الْبشر)
فاذا كَانَ هَذَا كَلَام إِمَام معارفهم والحامي عَن حماهم فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ من خصومهم فاعرض على فطراتك الَّتِي فطرك الله عَلَيْهَا هَل تَجِد علمك بِاللَّه مثل علم الله وَأَنت الحكم كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام فان الانسان يعرف أَحْوَال نَفسه وَعلمه وجهله مثل عافيته وألمه
وَقد بسطت القَوْل فِي الرَّد عَلَيْهِم فِي دَعْوَى الْعلم بِالذَّاتِ كعلمه تَعَالَى فِي تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن على أساليب اليونان وَكفى بقول أَمِير الْمُؤمنِينَ
عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك وَلم يعلم لَهُ مُخَالف فِي الصَّدْر الاول وَكفى بِهِ عليه السلام سلفا وقدوة وإماما وَحجَّة فِي هَذِه المشكلة وَمن أَبْيَات فِي الرَّد عَلَيْهِم كنت قلتهَا وَهِي أَيْضا
(لي فِي الْقدَم مقَال غير مبتكر
…
سُبْحَانَهُ عَن خيال الْوَهم والفكر)
(أَجله أَن يُحِيط الناظرون بِهِ
…
ذاتا وَأَيْنَ قوى النظار وَالنَّظَر)
(فالعلم قِسْمَانِ تصدق وَمَعْرِفَة
…
تخْتَص بِالذَّاتِ والتصديق بالْخبر)
وَمِنْهَا
(الله أكبر هَذَا قَاطع وَلنَا
…
عَلَيْهِ أكبر برهَان من الزبر)
(تنزه الرب فِي الذّكر الْمنزل ان
…
يُحِيط علما بِهِ خلق من الْبشر)
(تمدحا لم يكن فِي الذّكر مُخْتَلفا
…
قطعا وَلَا غَلطا من وهم ذِي نظر)
(وَفِي الحَدِيث دلالات لنا وَلنَا
…
حَدِيث مُوسَى كليم الله وَالْخضر)
(وَفِي كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ هدى
…
هَذَا وحسبك برهانا لمنتصر)
(وَفِي وَصيته ابْن الْمُصْطَفى حسنا
…
دَلَائِل لفقيه الْقلب مُعْتَبر)
(وَعَن وُجُوه الكراسي قد رَوَاهُ لنا
…
عبد الحميد بشرح النهج ذِي العبر)
(وجنح القَوْل فِيهِ بالقصائد أَمْثَالًا
…
تسير مسير الشَّمْس وَالْقَمَر)
(تِلْكَ الأولى حكمت بِالْمَنْعِ قد حكمت
…
بهَا الملائك أهل الْقرب وَالنَّظَر)
(والراسخين وَأدنى من لَهُ أدب
…
وكل متعظ لله منكسر)
(فَلَا ترجح عَلَيْهِم غير محتفل
…
شُيُوخ جُبَّة إِن جاوزوا فَلَا تجر)
(وَالْفرق كالصبح لَا يخفى على أحد
…
وَالْخَبَر تميز فَلَيْسَ الْخَبَر كالخبر) ولبعض الاصحاب أَبْيَات فِي هَذَا الْمَعْنى جَيِّدَة
وَمن الْبدع فِي هَذَا الْموضع بدع المشبهة على اخْتِلَاف أنواعهم وبدع المعطلة على اخْتلَافهمْ أَيْضا فغلاتهم يعطلون الذَّات وَالصِّفَات والاسماء الْجَمِيع وَمِنْهُم الباطنية ودونهم الْجَهْمِية وَمن النَّاس من يوافقهم فِي بعض ذَلِك دون بعض وَقد بسطت القَوْل فِي ذَلِك فِي الْوَهم الْخَامِس عشر من العواصم فِي نَحْو مُجَلد وَيَأْتِي إِلَى ذَلِك إِشَارَة فِي هَذَا الْمُخْتَصر كَافِيَة إِن شَاءَ الله
تَعَالَى فالفريقان المشبهة والمعطلة إِنَّمَا أَتَوا من تعَاطِي علم مَا لَا يعلمُونَ وَلَو أَنهم سلكوا مسالك السّلف فِي الايمان بِمَا ورد من غير تَشْبِيه لسلموا فقد أَجمعُوا على أَن طَريقَة السّلف أسلم وَلَكنهُمْ ادعوا أَن طَريقَة الْخلف أعلم فطلبوا الْعلم من غير مظانه بل طلبُوا علم مَا لَا يعلم فتعارضت أنظارهم الْعَقْلِيَّة وعارض بَعضهم بَعْضًا فِي الْأَدِلَّة السمعية فالمشبهة ينسبون خصومهم إِلَى رد آيَات الصِّفَات وَيدعونَ فِيهَا مَا لَيْسَ من التَّشْبِيه والمعطلة ينسبون خصومهم وَسَائِر أَئِمَّة الاسلام جَمِيعًا إِلَى التَّشْبِيه وَيدعونَ فِي تَفْسِيره مَا لَا تقوم عَلَيْهِ حجَّة وَالْكل حرمُوا طَرِيق الْجمع بَين الْآيَات والْآثَار والاقتداء بالسلف الاخيار والاقتصار على جليات الابصار وصحاح الْآثَار
وَقد روى الامام أَبُو طَالب عليه السلام فِي أَمَالِيهِ باسناده من حَدِيث زيد بن أسلم أَن رجلا سَأَلَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام فِي مَسْجِد الْكُوفَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَل تصف لنا رَبنَا فنزداد لَهُ حبا فَغَضب عليه السلام ونادى الصَّلَاة جَامِعَة فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ إِلَى قَوْله فَكيف يُوصف الَّذِي عجزت الْمَلَائِكَة مَعَ قربهم من كرْسِي كرامته وَطول وَلَهُم إِلَيْهِ وتعظيم جلال عزته وقربهم من غيب ملكوت قدرته أَن يعلمُوا من علمه إِلَّا مَا علمهمْ وهم من ملكوت الْقُدس كلهم وَمن مَعْرفَته على مَا فطرهم عَلَيْهِ فَقَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم فَعَلَيْك أَيهَا السَّائِل بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن من صفته وتقدمك فِيهِ الرُّسُل بَيْنك وَبَين مَعْرفَته فَأَتمَّ بِهِ وأستضيء بِنور هدايته فانما هِيَ نعْمَة وَحِكْمَة أوتيتها فَخذ مَا أُوتيت وَكن من الشَّاكِرِينَ وَمَا كلفك الشَّيْطَان علمه مِمَّا لَيْسَ عَلَيْك فِي الْكتاب فَرْضه وَلَا فِي سنة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أَئِمَّة الْهدى أَثَره فَكل علمه إِلَى الله سُبْحَانَهُ فانه مُنْتَهى حق الله عَلَيْك
وَقد روى السَّيِّد فِي الأمالي أَيْضا الحَدِيث الْمَشْهُور فِي كتاب التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ عليه السلام عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (سَتَكُون فتْنَة قلت فَمَا الْمخْرج مِنْهَا قَالَ كتاب الله فِيهِ نبأ مَا قبلكُمْ وَخبر مَا بعدكم وَفصل مَا بَيْنكُم فَهُوَ الْفَاصِل بَين الْحق وَالْبَاطِل من ابْتغى الْهدى من غَيره أضلّهُ الله إِلَى قَوْله من قَالَ بِهِ صدق وَمن عمل بِهِ أجر وَمن حكم بِهِ عدل وَمن دَعَا إِلَيْهِ
هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَرَوَاهُ فِي أَمَالِيهِ بِسَنَد آخر عَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه وَرَوَاهُ ابْن الْأَثِير فِي الْجَامِع عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه فَهُوَ مَعَ شهرته فِي شَرط أهل الحَدِيث متلقى بِالْقبُولِ عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول وَلَكِن المبتدعة يرَوْنَ تصانيفهم أهْدى مِنْهُ لبيانهم فِيهَا على زعمهم الْمُحكم من الْمُتَشَابه فَمنهمْ من صرح بذلك وَقَالَ أَن كَلَامه أَنْفَع من كَلَام الله تَعَالَى وَكتبه أهْدى من كتب الله وهم الحسينية أَصْحَاب الْحُسَيْن بن الْقَاسِم العناني وَقد حمله الامام المطهر بن يحيى على الحنون وَقيل لم يَصح عَنهُ وَمِنْهُم من يلْزمه ذَلِك وَإِن لم يُصَرح بِهِ فَهَذَا الْأَمر الاول من الْمُتَشَابه وَهُوَ التحكم بِالنّظرِ فِي ذَات الله تَعَالَى وَمَا يُؤَدِّي اليه
الْأَمر الثَّانِي من الْمُتَشَابه الْوَاضِح تشابهه وَالْمَنْع مِنْهُ هُوَ النّظر فِي سر الْقدر السَّابِق فِي الشرور مَعَ عَظِيم رَحْمَة الله تَعَالَى وَقدرته على مَا يَشَاء وَقد ثَبت فِي كتاب الله تَعَالَى تحير الْمَلَائِكَة الْكِرَام عليهم السلام فِي ذَلِك وسؤالهم عَنهُ بقَوْلهمْ {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك قَالَ إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} ثمَّ سَاق خبر آدم وتعليمه الاسماء وتفضيله فِي ذَلِك عَلَيْهِم إِلَى قَوْله {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون} وَفِي ذَلِك إِشَارَة وَاضِحَة إِلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانه من أَن مُرَاد الله بالخلق هم أهل الْخَيْر فالخلق كلهم كالشجرة وَأهل الْخَيْر ثَمَرَة تِلْكَ الشَّجَرَة واليه الاشارة بقوله {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَفِي حَدِيث الْخَلِيل عليه السلام حِين دَعَا على العصاة قَالَ الله لَهُ كف عَن عبَادي إِن مصير عَبدِي مني احدى ثَلَاث إِمَّا أَن يَتُوب فأتوب عَلَيْهِ أَو يستغفرني فَأغْفِر لَهُ أَو أخرج من صلبه من يعبدني رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي كتاب الْعلم فِي الاحياء فِي أَقسَام الْعُلُوم الْبَاطِنَة وَلَا يبعد أَن يكون ذكر بعض الْحَقَائِق مضرا بِبَعْض الْخلق كَمَا يضر نور الشَّمْس
أبصار الخفافيش وكما يضر ريح الْورْد بالجعل وَكَيف يبعد هَذَا وَقَوْلنَا أَن كل شَيْء بِقَضَاء من الله وَقدر حق فِي نَفسه وَقد أضرّ سَمَاعه بِقوم حَيْثُ أوهم ذَلِك عِنْدهم دلَالَة على السَّفه ونقيض الْحِكْمَة وَالرِّضَا بالقبيح وَالظُّلم وألحد ابْن الراوندي وَطَائِفَة من المخذولين بِمثل ذَلِك وَكَذَلِكَ سر الْقدر لَو أفشي أَو هم عِنْد أَكثر الْخلق عَجزا إِذْ تقصر أفهامهم عَن ادراك مَا يزِيل هَذَا الْوَهم عَنْهُم
وَقَالَ فِي شرح اسماء الله الْحسنى فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم والآن أَن خطر لَك نوع من الشَّرّ لَا ترى فِيهِ خيرا أَو أَن تَحْصِيل ذَلِك الْخَيْر من غير شَرّ أولى فاتهم عقلك الْقَاصِر فِي كلا الطَّرفَيْنِ فانك مثل أم الصَّبِي الَّتِي ترى الْحجامَة شرا مَحْضا والغبي الَّذِي يرى الْقصاص شرا مَحْضا لِأَنَّهُ ينظر إِلَى خُصُوص شخص الْمَقْتُول وانه فِي حَقه شَرّ مَحْض وَيذْهل عَن الْخَيْر الْعَام الْحَاصِل للنَّاس كَافَّة وَلَا يدْرِي أَن التواصل بِالشَّرِّ الْخَاص إِلَى الْخَيْر الْعَام خير مَحْض لَا يَنْبَغِي حَكِيم أَن يهمله هَذَا أَو قريب من هَذَا
وَفِي بعض كَلَامه نظر قد أوضحته فِي العواصم والسر فِي ذَلِك أَن الله تَعَالَى لَا يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا قطعا وَإِنَّمَا يُريدهُ وَسِيلَة إِلَى الْخَيْر الرَّاجِح كَمَا قَالَ {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} وكما صَحَّ فِي الْحُدُود والمصائب أَنَّهَا كَفَّارَات فَهَذَا هُوَ سر الْقدر فِي الْجُمْلَة وَإِنَّمَا الَّذِي خَفِي تَفْصِيله ومعرفته فِي عَذَاب الْآخِرَة وشقاوة الاشقياء فَمن النَّاس من كبر ذَلِك عَلَيْهِ وَأَدَّاهُ إِلَى الحكم بِنَفْي التحسين والتقبيح فصرحوا بِنَفْي حِكْمَة الله تَعَالَى وهم غلاة الاشعرية إِلَّا بِمَعْنى إحكام المصنوعات فِي تصويرها لَا سواهُ وَمن النَّاس من أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى القَوْل بالجبر وَنفي قدرَة الْعباد واختيارهم وَمِنْهُم من جمع بَينهمَا وَمن النَّاس من جعل الْوَجْه فِي تَحْسِين ذَلِك من الله عدم قدرته سُبْحَانَهُ على هدايتهم وهم جُمْهُور الْمُعْتَزلَة لكِنهمْ يَعْتَذِرُونَ عَن تَسْمِيَته عَجزا ويسمونه غير مَقْدُور كَمَا سَيَأْتِي وَمِنْهُم من جعل الْعذر فِي ذَلِك أَن الله لَا يعلم الْغَيْب وهم غلاة الْقَدَرِيَّة نفاة الاقدار
وَقد تقصيت الردود الْوَاضِحَة عَلَيْهِم والبراهين الفاضحة لَهُم فِي العواصم وجمعت فِي ذَلِك مَا لم أسبق إِلَيْهِ وَلَا إِلَى قريب مِنْهُ فِي علمي فتمت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مُجَلد ضخم وَبَلغت أَحَادِيث وجوب الايمان بِالْقدرِ اثْنَيْنِ وَسبعين وَأَحَادِيث صِحَّته مائَة وَخَمْسَة وَخمسين الْجُمْلَة مِائَتَان وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا من غير الْآيَات القرآنية والأدلة البرهانية
وصنف ابْن تَيْمِية فِي بَيَان الْحِكْمَة فِي الْعَذَاب الأخروي وَتَبعهُ تِلْمِيذه ابْن الْقيم الجوزية وَبسط ذَلِك فِي كِتَابه حادي الارواح إِلَى ديار الافراح فافردت ذَلِك من جُزْء لطيف وزدت عَلَيْهِ ومضمون كَلَامهم أَنه لَا يجوز اعْتِقَاد أَن الله يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا بِلَا لابد من خير رَاجِح يكون ذَلِك الشَّرّ وَسِيلَة اليه وَذَلِكَ الْخَيْر هُوَ تَأْوِيل ذَلِك الشَّرّ السَّابِق لَهُ على نَحْو تَأْوِيل الْخضر لمُوسَى وطردوا ذَلِك فِي شرور الدَّاريْنِ مَعًا وَنصر ذَلِك الْغَزالِيّ فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم ولنورد فِي ذَلِك حَدِيثا وَاحِدًا مِمَّا يدل على الْمَنْع من الْخَوْض فِي تعْيين الْحِكْمَة فِي ذَلِك فَنَقُول قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه الاسماء وَالصِّفَات عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن ابْن عَبَّاس لما بعث الله مُوسَى وَكلمَة قَالَ اللَّهُمَّ أَنْت رب عَظِيم وَلَو شِئْت أَن تطاع لأطعت وَلَو شِئْت أَن لَا تعصى لما عصيت وَأَنت تحب أَن تطاع وَأَنت فِي ذَلِك تعصى فَكيف هَذَا يارب فَأوحى الله اليه لَا أسأَل عَمَّا أفعل وهم يسئلون فَانْتهى مُوسَى وَرَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَعَزاهُ إِلَى الطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ فَلَمَّا بعث الله عَزِيزًا سَأَلَ الله مثل مَا سَأَلَ مُوسَى ثَلَاث مَرَّات فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ أتستطيع أَن تصر صرة من الشَّمْس قَالَ لَا قَالَ أفتستطيع أَن تَجِيء بِمِكْيَال من الرّيح قَالَ لَا قَالَ أفتستطيع أَن تَجِيء بمثقال أَو بقيراط من نور قَالَ لَا قَالَ فَهَكَذَا لَا تقدر على الَّذِي سَأَلت عَنهُ أما أَنِّي لَا أجعَل عُقُوبَتك إِلَّا أَنِّي أمحو اسْمك من الْأَنْبِيَاء فَلَا تذكر فيهم
فَلَمَّا بعث الله عِيسَى وَرَأى مَنْزِلَته سَأَلَ عَن ذَلِك كموسى وَأجِيب عَلَيْهِ بِمثل ذَلِك وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ لَئِن لم تَنْتَهِ لَأَفْعَلَنَّ بك كَمَا فعلت بصاحبك بَين يَديك فَجمع عِيسَى من مَعَه فَقَالَ الْقدر سر الله تَعَالَى فَلَا تكلفوه
وروى الطَّبَرَانِيّ عَن وهب عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن الْقدر فَقَالَ وجدت أطول النَّاس فِيهِ حَدِيثا أجهلهم بِهِ وأضعفهم فِيهِ حَدِيثا أعلمهم بِهِ وَوجدت النَّاظر فِيهِ كالناظر فِي شُعَاع الشَّمْس كلما ازاد فِيهِ نظرا ازْدَادَ قلت وَيشْهد لهَذِهِ الْآيَات مَا جَاءَ فِي كتاب الله من قَول الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} وَالْجَوَاب الْجملِي عَلَيْهِم كَمَا مر وَأما أَحَادِيث النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْقدر فعشرة أَحَادِيث رجال بَعْضهَا ثِقَات وَبَعضهَا شَوَاهِد لبَعض كَمَا أوضحته فِي العواصم وَأَقل من هَذَا مَعَ شَهَادَة الْقُرْآن والبرهان لذَلِك يَكْفِي الْمنصف وَمَا حدث بِسَبَب الْخَوْض من الضلالات زِيَادَة عِبْرَة وحيرة
الْأَمر الثَّالِث من الْمُتَشَابه الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور فان الْجَهْل بالمراد بهَا مَعْلُوم كالألم وَالصِّحَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين أقِيمُوا الصَّلَاة وَنَحْو ذَلِك ضَرُورِيّ وَدَعوى التَّمَكُّن من معرفَة مَعَانِيهَا تَسْتَلْزِم جَوَاز أَن ينزل الله سُورَة كلهَا كَذَلِك أَو كتابا من كتبه الْكَرِيمَة ويستلزم جَوَاز أَن يتخاطب الْعُقَلَاء بِمثل ذَلِك ويلوموا من طلب مِنْهُم بَيَان مقاصدهم وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا هُوَ اخْتِيَار زيد بن عَليّ عليه السلام وَالقَاسِم وَالْهَادِي عليهما السلام وَهُوَ نَص فِي تفسيرهما الْمَجْمُوع وَكَذَلِكَ الامام يحيى عليه السلام ذكره فِي الْحَاوِي وَقَوْلهمْ أَنا مخاطبون بهَا فَيجب أَن نفهمها مقلوب وَصَوَابه أَنا لَا نفهمها فَيجب أَن لَا نَكُون مخاطبين بفهمها وَقد ذكرت فِي الْحجَّة على أَنَّهَا غير مَعْلُومَة أَكثر من عشْرين حجَّة فِي تَكْمِلَة تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن
الامر الرَّابِع من الْمُتَشَابه الْمُجْمل الَّذِي لَا يظْهر مَعْنَاهُ بِعلم وَلَا ظن سَوَاء كَانَ بِسَبَب الِاشْتِرَاك فِي مَعْنَاهُ أَو لغرابته أَن عدم صِحَة تَفْسِيره فِي اللُّغَة وَالشَّرْع أَو غير ذَلِك وَقد وَقع الْوَهم فِي الْمُجْمل لنوح عَلَيْهِ السَّلَام
فَلَمَّا بعث الله عِيسَى وَرَأى مَنْزِلَته سَأَلَ عَن ذَلِك كموسى وَأجِيب عَلَيْهِ بِمثل ذَلِك وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ لَئِن لم تَنْتَهِ لَأَفْعَلَنَّ بك كَمَا فعلت بصاحبك بَين يَديك فَجمع عِيسَى من مَعَه فَقَالَ الْقدر سر الله تَعَالَى فَلَا تكلفوه
وروى الطَّبَرَانِيّ عَن وهب عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن الْقدر فَقَالَ وجدت أطول النَّاس فِيهِ حَدِيثا أجهلهم بِهِ وأضعفهم فِيهِ حَدِيثا أعلمهم بِهِ وجدت النَّاظر فِيهِ كالناظر فِي شُعَاع الشَّمْس كلما ازاد فِيهِ نظرا ازْدَادَ اقلت وَيشْهد لهَذِهِ الْآيَات مَا جَاءَ فِي كتاب الله من قَول الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} وَالْجَوَاب الْجملِي عَلَيْهِم كَمَا مر وَأما أَحَادِيث النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْقدر فعشرة أَحَادِيث رجال بَعْضهَا ثِقَات وَبَعضهَا شَوَاهِد لبَعض كَمَا أوضحته فِي العواصم وَأَقل من هَذَا مَعَ شَهَادَة الْقُرْآن والبرهان لذَلِك يَكْفِي الْمنصف وَمَا حدث بِسَبَب الْخَوْض من الضلالات زِيَادَة عِبْرَة وحيرة
الامر الثَّالِث من الْمُتَشَابه الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور فان الْجَهْل بالمراد بهَا مَعْلُوم كالألم وَالصِّحَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين أقِيمُوا الصَّلَاة وَنَحْو ذَلِك ضَرُورِيّ وَدَعوى التَّمَكُّن من معرفَة مَعَانِيهَا تَسْتَلْزِم جَوَاز أَن ينزل الله سُورَة كلهَا كَذَلِك أَو كتابا من كتبه الْكَرِيمَة ويستلزم جَوَاز أَن يتخاطب الْعُقَلَاء بِمثل ذَلِك ويلوموا من طلب مِنْهُم بَيَان مقاصدهم وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا هُوَ اخْتِيَار زيد بن عَليّ عليه السلام وَالقَاسِم وَالْهَادِي عليهما السلام وَهُوَ نَص فِي تفسيرهما الْمَجْمُوع وَكَذَلِكَ الامام يحيى عليه السلام ذكره فِي الْحَاوِي وَقَوْلهمْ انا مخاطبون بهَا فَيجب أَن نفهمها مقلوب وَصَوَابه انا لَا نفهمها فَيجب أَن لَا نَكُون مخاطبين بفهمها وَقد ذكرت فِي الْحجَّة على أَنَّهَا غير مَعْلُومَة أَكثر من عشْرين حجَّة فِي تَكْمِلَة تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن
الْأَمر الرَّابِع من الْمُتَشَابه الْمُجْمل الَّذِي لَا يظْهر مَعْنَاهُ بِعلم وَلَا ظن سَوَاء كَانَ بِسَبَب الِاشْتِرَاك فِي مَعْنَاهُ أَو لغرابته أَو عدم صِحَة تَفْسِيره فِي اللُّغَة وَالشَّرْع أَو غير ذَلِك وَقد وَقع الْوَهم فِي الْمُجْمل لنوح عَلَيْهِ السَّلَام
كَيفَ لغيره وَذَلِكَ قَوْله {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} {قَالَ يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك}
وَأما الْمُحكم فَهُوَ مَا عدا الْمُتَشَابه وغالبه النَّص الْجَلِيّ وَالظَّاهِر الَّذِي لم يُعَارض وَالْمَفْهُوم الصَّحِيح الَّذِي لم يُعَارض وَالْخَاص والمقيد وَإِن عارضهما الْعَالم وَالْمُطلق وَيلْحق بِهَذَا فَوَائِد الاولى الصَّحِيح فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} الْوَقْف على الله بِدَلِيل ذمّ مبتغى تَأْوِيل الْمُتَشَابه فِي الْآيَة وَهُوَ اخْتِيَار الامام يحيى فِي الْحَاوِي وَاحْتج بِأَن أما للتفصيل على بَابهَا وَالتَّقْدِير وَأما الراسخون بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ} كَمَا تَقول أما زيد فعالم وَعَمْرو جَاهِل أَي وَأما عَمْرو فجاهل يُوضحهُ أَن الْمُخَالف مُسلم ان هَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْهَا لكنه يَقُول أَنه يجب تَأْوِيلهَا على أَن المُرَاد ذمهم بابتغاء تَأْوِيله الْبَاطِل فيقيد اطلاق الْآيَة بِغَيْر حجَّة ويجعلها من الْمُتَشَابه مَعَ أَنَّهَا الفارقة بَين الْمُحكم والمتشابه وَهَذَا خلف
وَقد روى الْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ وَيَقُول الراسخون وَقَالَ صَحِيح وَرَوَاهُ الزمحشري فِي كشافه قِرَاءَة عَن أبي وَغَيره وَرَوَاهُ الامام أَبُو طَالب فِي أَمَالِيهِ عَن عَليّ عَليّ السَّلَام وَلم يتأوله وَلم يطعن فِيهِ وَهُوَ فِي النهج أَيْضا وَهُوَ نَص لَا يُمكن تَأْوِيله فان لَفظه عليه السلام أعلم أَيهَا السَّائِل أَن الراسخين فِي الْعلم هم الَّذين أغناهم عَن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة مَا جهلوا تَفْسِيره من الْغَيْب المحجوب فمدح الله اعترافهم بِالْعَجزِ عَن تنَاول مَا لم يحيطوا بِهِ علما وسمى تَركهم التعمق فِيمَا لم يكلفهم الْبَحْث عَنهُ رسوخا فاقتصر على ذَلِك اه بِحُرُوفِهِ وَأَيْضًا فَلَا يجب علم جَمِيع الْمُكَلّفين بذلك عِنْد الْخُصُوم إِذْ فِي المتكلفين الامي والعجمي وَنَحْوهم وَإِذا كَانَ علم الْبَعْض يَكْفِي وَيخرج الْخطاب بذلك عَن الْعَبَث جَازَ أَن يكون ذَلِك الْبَعْض هُوَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمن شَاءَ الله من مَلَائكَته وخواص عباده وَالله سُبْحَانَهُ أعلم
الْفَائِدَة الثَّانِيَة إِذا تعَارض الْعَام وَالْخَاص فالمحكم هُوَ الْخَاص وَالْبناء عَلَيْهِ وَاجِب وَفِيه الْجمع بَينهمَا وَفِي الْعَكْس طرح الْخَاص مَعَ رجحانه بالنصوصية وَهِي قَاعِدَة كَبِيرَة فاحفظها وَلَا خلاف فِيهَا فِي الِاعْتِقَاد لعدم الْفَائِدَة فِي التَّارِيخ فِيهِ وَلذَلِك أَجمعُوا على اثبات الْخلَّة لِلْمُتقين وَتَأْويل نفي الْخلَّة الْمُطلق فَتَأمل ذَلِك
الْفَائِدَة الثَّالِثَة إِذا كَانَ التحسين الْعقلِيّ مَعَ بعض السّمع فَهُوَ الْمُحكم والمتشابه مخالفه لما وضح من تَأْوِيل الْخضر بموافقة الْعقل وَفِي مُخَالفَة هَذِه الْقَاعِدَة عناد بَين وضلال كَبِير فاعرفها وَاعْتبر موَاضعهَا ترشد إِن شَاءَ الله تَعَالَى