المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل فِي بطلَان القَوْل بِأَن الْمعاصِي من الله تَعَالَى الله عَن - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ ‌فصل فِي بطلَان القَوْل بِأَن الْمعاصِي من الله تَعَالَى الله عَن

‌فصل

فِي بطلَان القَوْل بِأَن الْمعاصِي من الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك على جَمِيع هَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة عشر مذهبا إِلَّا على مَذْهَب الْجَهْمِية الجبرية وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَج عَلَيْهِ ويوضح الاجماع عَلَيْهِ أَنه لَا خلاف بَين أحد من أهل الاسلام فِي وجوب كَرَاهَة معاصي الله تَعَالَى ومساخطة من الاعمال وَلَا فِي وجوب الرضى والتحسين لجَمِيع مَا كَانَ مِنْهُ سبحانه وتعالى وَذَلِكَ يُوجب أَن القبائح كلهَا لَيست مِنْهُ عز وجل كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه بعون الله تَعَالَى وَلَكِن فرق أهل السّنة الاربع لما كَانُوا يحتجون مَعَ فرقة الجبرية الْجَهْمِية فِي رد كثير من مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة الْمُقدمَة فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَخذ بَعضهم من عِبَارَات بعض وَقل من يدْرك التَّفَاوُت بَين الْعبارَات كَمَا قدمت ذكره مطولا فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر وَكَانَت هَذِه الْعبارَة من عِبَارَات الجبرية الْجَهْمِية وَرُبمَا يُوجد فِي كَلَام بعض السّلف أَن الْخَيْر وَالشَّر من الله يعنون بِهِ الصِّحَّة والسقم والغنى والفقر وَنَحْو ذَلِك فجَاء من بدل ذَلِك من الجهلة بالطاعات والمعاصي كَمَا يدل {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} بِأَنَّهُ مُرِيد للشرك وَبدل مرِيدا براض محب وبدلت الاتحادية رَاض محب بآمر مثيب كَمَا تقدم وَكم وَقع من الضلال الْعَظِيم من تَبْدِيل الْعبارَات وَظن تماثلها وَلذَلِك بنيت هَذَا الْمُخْتَصر على منع ذَلِك بالمرة فَلَمَّا كثر القَوْل من الْجَهْمِية بِأَن الْمعاصِي من الله تَعَالَى ظن كثير من متكلمي السّنة أَنَّهَا فِي قُوَّة أَن الْمعاصِي مقضية مقدرَة سَابِقَة فِي علم الله تَعَالَى وقضائه وَقدره الَّذِي لَا مرد لَهُ مَعَ اخْتِيَار الْعباد فِي فعلهَا وقدرتهم عَلَيْهَا خُصُوصا من لم يكن مِنْهُم من أَئِمَّة علم الْعَرَبيَّة الَّذين رُبمَا زادهم رسوخهم فِيهِ عَن مثل هَذَا الْوَهم الْفَاحِش

ص: 298

مثل الْغَزالِيّ فانه اعْترف أَنه لم يعرف من الْعَرَبيَّة إِلَّا الْقدر الَّذِي يُمَيّز بِهِ شنيع اللّحن وَلذَلِك أَكثر من التَّصْرِيح بِأَن جَمِيع الْمعاصِي وَالْكفْر وَالْفَوَاحِش من الله تَعَالَى وَلَوْلَا أَنه صرح مَعَ ذَلِك القَوْل بِالْكَسْبِ وَأَن الْجَبْر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ مَا استربت فِي أَنه جبري وَأكْثر المغترون بِهِ من أهل السّنة وعوامهم من ذَلِك حَتَّى حَملَنِي ذَلِك على جمع شَيْء كثير فِي التَّعْرِيف بِبُطْلَان ذَلِك وَقد أودعته العواصم وَإِنَّمَا اختصرت مِنْهُ الْيَسِير واذكره هُنَا لَعَلَّ الله ينفع بِهِ من بقيت فِيهِ بَقِيَّة من التَّمْيِيز ولبيان الْخَطَأ فِي هَذِه الْعبارَة ذكرت الْمذَاهب والفروق بَينهَا وعنيت فِي تَمْيِيز بَعْضهَا من بعض وطولت فِي تَلْخِيص ذَلِك ليتضح الْحق من الْبَاطِل لِأَنَّهُ أعظم مَا طلبه الله تَعَالَى من عباده وَأكْثر مَا بعثت لَهُ الرُّسُل الْكِرَام كَمَا أقسم الله عَلَيْهِ فِي سُورَة الْعَصْر {إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} وكما قَالَ تَعَالَى {بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق} وكما قَالَ الله تَعَالَى {الَّذِي خلق سبع سماوات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما} وَلَو لم ينزل فِي شرف الْعلم سواهَا لكَانَتْ كَافِيَة

أَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الدَّلِيل على بطلَان ذَلِك الْعقل والسمع

أما الْعقل فَلِأَن القبائح عِنْده إِمَّا أَن تكون من الله تَعَالَى وَحده تَعَالَى عَن عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَا أثر فِيهَا من الْعباد فَهَذَا مَحْض الْجَبْر وَقد اعْترف أَن الْجَبْر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ وَلَوْلَا ذَلِك لذكرنا هُنَا مَا يخزي الجبرية ويفضحهم وَيعرف بِأَنَّهُم من سقط الْمَتَاع الَّذين لَا يسْتَحقُّونَ مناظرة الْعلمَاء العارفين والاذكياء البارعين وَإِنَّمَا حَقهم أَن يجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام أَئِمَّة الْعدْل على حسب آرائهم من تنكيل وتطريد أَو قتل فحين اعْترف بِالْحَقِّ وناقضه فِي عِبَارَته لم يكن لَهُ بُد من أَن يَجْعَل لقدرة العَبْد نَصِيبا وأثرا وَهُوَ قَوْله فاما أَن يَجعله الْكسْب الْقَبِيح دون الْخلق الْحسن الَّذِي هُوَ من الله تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابه الاشعرية وَصَحَّ الامر فِي غلطه فِي قبح عِبَارَته أَو يَجْعَل

ص: 299

نصيب العَبْد من الْفِعْل وحظه وَأثر قدرته أمرا آخر غير الْمعاصِي والقبائح وَغير الْخلق والايجاد فَهَذَا شَيْء لَا يعقل وَلَا يتَصَوَّر فان ظن أَن ذَلِك يَصح على الْمَذْهَب الأول من مَذَاهِب أهل السّنة وَهُوَ مَذْهَب من لَا يُمَيّز أثر قدرَة العَبْد بِالذَّاتِ فقد غلط وأفحش فِي الْجَهْل فقد ذكرنَا قبل أَنهم يميزون بَينهمَا بالوجوه والاعتبارات وَأَنَّهُمْ لَا يميزون بَينهمَا بِالذَّاتِ وَمعنى ذَلِك أَنهم يَقُولُونَ أَن العَبْد فعل مقدوره على جِهَة الْمُخَالفَة لمَوْلَاهُ غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فَكَانَ من هَذَا الْوَجْه مَعْصِيّة والرب عز وجل فعل ذَلِك الْمَقْدُور بِعَيْنِه مُسْتقِلّا على وَجه الامتحان والابتلاء لحكمته الْبَالِغَة وحجته الدامغة فَلذَلِك يشتق لَهُ تَعَالَى من فعله ذَلِك من الاسماء مَا لَا يشتق لعَبْدِهِ من نَحْو الْخَالِق الْمُبْدع الْحَكِيم المبتلي فِي الْمعاصِي الْمعِين فِي غَيرهَا ويشتق للْعَبد من ذَلِك الْمَقْدُور بِعَيْنِه مَا يَسْتَحِيل على الله تَعَالَى من الظَّالِم الْفَاسِق العَاصِي الْخَبيث الْعَاجِز المفتقر وَنَحْو ذَلِك فَلَو لم تفترق الافعال بالوجوه والاعتبارات لم تفترق الاسماء المشتقات مَعَ فرض اتِّحَاد الْوُجُوه والذات جَمِيعًا فان كَانَ أَرَادَ بذلك التَّرْجَمَة عَن كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم وأصول الْأَشْيَاء فَكَانَ يلْزمه الِاقْتِصَار على عبارتهما فانها أصح وأشرف وأبرك وَأسلم وَإِن كَانَ أَرَادَ التَّرْجَمَة عَن مَذْهَب الأشعرية فقد عظمت جِنَايَته عَلَيْهِم فان الرِّجَال صَرَّحُوا بِأَن الْأَفْعَال لَا تُضَاف إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا خلقا وإيجادا وابداعا وذواتا وأعيانا مُجَرّدَة عَن الْوُجُوه الَّتِي تعلق بهَا قدر الْعباد ويوقعونها عَلَيْهَا فَتكون لأَجلهَا معاصي قبيحة مستلزمة للذم وَالنَّقْص فِي المنهيات وللذلة والخضوع فِي الْعِبَادَات وللافتقار وَالْحَاجة إِلَى الله تَعَالَى فِي التَّمام وَقَضَاء الْحَاجَات وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يجوز على بارئ البريات فَكيف نَجْعَلهَا من الله تَعَالَى حَيْثُ تكون وَاقعَة على هَذِه الْوُجُوه والاعتبارات وَلَوْلَا تنزيههم لله تَعَالَى مَا تكلفوا القَوْل بِالْكَسْبِ وَلَا فارقوا أهل الْجَبْر وردوا عَلَيْهِم وترفعوا عَن خسيس مقامهم وشنيع ضلالهم

وَلَو كَانَت الْمعاصِي من الله تَعَالَى كَانَ عَاصِيا وَقد تمدح بالمغفرة وَلَا تصح الْمَغْفِرَة مِنْهُ لنَفسِهِ وَلَا لمن لَيست الذُّنُوب مِنْهُ قطعا وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فمدحهم بذلك وَصَحَّ فِي سيد

ص: 300

الاسْتِغْفَار أَبُوء لَك بنعمتك على وأبوء بذنبي وَأجْمع أهل اللُّغَة والغريب أَن الْمَعْنى أقرّ واعترف بذنبي وَمن الْمحَال أَن يكون الْمَعْنى أقرّ واعترف أَنه لَيْسَ مني فان هَذَا مناقضة للاقرار وَالِاعْتِرَاف

وَمن زعم أَن المفر الْمُعْتَرف بالذنب هُوَ المتبرئ أَن يكون مِنْهُ أَلْبَتَّة لم يكن أَهلا للمناظرة أَلا ترى أَن المستغفرين إِذا قَالُوا اللَّهُمَّ اغْفِر لنا مَا كَانَ منا كَانَت عبارَة صَحِيحَة بالاجماع بل بِالضَّرُورَةِ وَلَو قَالُوا اللَّهُمَّ اغْفِر لنا مَا كَانَ مِنْك كَانَت عبارَة بَاطِلَة بالاجماع بل بِالضَّرُورَةِ بل قد صرح الْقُرْآن بذلك فِي الطَّاعَات الَّتِي تحسن اضافتها إِلَى الله تَعَالَى كَمَا يحسن مِنْهُ تَعَالَى أَن يتفضل بالهداية اليها قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْخَلِيل والذبيح عليها السلام {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} وَلم يقل رَبنَا تقبل مِنْك وأمثال هَذَا كثير فَكيف باضافة الْفَوَاحِش والمخازي إِلَى السبوح القدوس بِهَذِهِ الْعبارَة جلّ وَعز وتبارك وَتَعَالَى عَن ذَلِك وتقدست أسماؤه الْحسنى وَله الْمثل الْأَعْلَى

وَقد تتبعت الْقُرْآن وَالسّنة النَّبَوِيَّة والْآثَار الصحابية فَلم أجد لما أَدْعُوهُ فِي ذَلِك أصلا بل وجدت النُّصُوص فِي جَمِيع هَذِه الاصول رادة لهَذِهِ الْبِدْعَة فَمن الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا أحس عِيسَى مِنْهُم الْكفْر} {فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا} {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله} {وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} {قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} {وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} وَأما قَوْله تَعَالَى قبلهَا {قل كل من عِنْد الله} فَلِأَن المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ عُقُوبَة الذَّنب وبالحسنة المثوبة على الْحَسَنَة وَلذَلِك قَالَ {مَا أَصَابَك} وَلم يقل مَا اصبت وَلكنهَا تُضَاف إِلَى العَبْد اضافة الْمُسَبّب إِلَى فَاعل السَّبَب كَقَوْل أَيُّوب {أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} لما كَانَ عُقُوبَة على ذَنبه وَقَوله

ص: 301

تَعَالَى {ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَفِي آيَة {تكسبون} فالسيئة الَّتِي هِيَ كسب العَبْد لَا تُضَاف إِلَّا اليه والسيئة الَّتِي هِيَ عُقُوبَة تجوز اضافتها الله تَعَالَى وَإِلَى فاعلها وَإِنَّمَا رد عَلَيْهِم بقوله {قل كل من عِنْد الله} اضافتهم الْعقُوبَة على الشّرك إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حِين تشَاء مؤابة فَلم يضيفوها إِلَى خَالِقهَا سبحانه وتعالى وَلَا إِلَى فَاعل سَببهَا

وَمن الْآيَات فِي الْبَاب الَّذِي نَحن فِيهِ {حسدا من عِنْد أنفسهم} {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} {إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس} فَفرق بَين مَا هُوَ من الله وَمَا هُوَ من النَّاس {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} وَهَذَا الْحَلَال كَيفَ الْحَرَام {وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم} {وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة} {وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم} {فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} {فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم} {لَا نُرِيد مِنْكُم جَزَاء وَلَا شكُورًا} {ونري فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون} {هَذَا من عمل الشَّيْطَان إِنَّه عَدو مضل مُبين} {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان} {إِنَّمَا النَّجْوَى من الشَّيْطَان ليحزن الَّذين آمنُوا} وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ الاخيرتان مصدرتان بأنما الَّتِي تفِيد الْحصْر وَقصر هَذَا على أَنه من الشَّيْطَان دون غَيره على جِهَة الذَّم لما كَانَ مِنْهُ وَالْكَرَاهَة لَهُ والبراءة مِنْهُ من ذمه وخبثه وشرعه والامر بِهِ

ص: 302

بل من كل وَجه إِلَّا مَا اقتضته الْحِكْمَة من خلق المختارين لَهُ واقدارهم عَلَيْهِ وَتَقْدِير وُقُوعه مِنْهُم للحكمة الْبَالِغَة وَالْحجّة الدامغة

وَفِي الْقُرْآن الْكثير مِمَّا يقوم مقَام هَذَا لَكِن بِغَيْر لفظ من كَقَوْلِه تَعَالَى {فَإِنَّهُ فسوق بكم} {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَقد ذكرت فِي العواصم من ذَلِك خَمْسَة وَعشْرين نوعا وَذكرت هُنَاكَ من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الشهيرة قدر خَمْسَة عشر حَدِيثا ونسبتها إِلَى رواتها من الصَّحَابَة وَمن خرجها من الْأَئِمَّة مثل حَدِيث التثاؤب من الشَّيْطَان وَحَدِيث إِن تقليب الْحَصَى وَقت الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة من الشَّيْطَان وَحَدِيث إِن تفرقكم فِي الشعاب والأودية إِنَّمَا ذَلِكُم من الشَّيْطَان وَحَدِيث الاناة من الله والعجلة من الشَّيْطَان وَحَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه وَحَدِيث الرُّؤْيَا الصَّالِحَة من الله تَعَالَى والحلم من الشَّيْطَان رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن أبي قَتَادَة وَلمُسلم مثله بل أبين عَن أبي هُرَيْرَة وروى البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ مثل ذَلِك عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَقَالَ إِنَّمَا هِيَ من الشَّيْطَان بالحصر وَخرج ابْن ماجة وَابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن عَوْف بن مَالك وَكلهَا مَرْفُوعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا تَوَاتَرَتْ النُّصُوص فِي الرُّؤْيَا أَكثر من غَيرهَا لِأَن الْأَمر يشْتَبه فِيهَا هَل هِيَ من الله تَعَالَى أَو من الشَّيْطَان وَلَا يتَمَيَّز إِلَّا بِالنَّصِّ وَأما الْفَوَاحِش والقبائح الصادرة من المنهيين عَنْهَا المذمومين عَلَيْهَا فَلم يشْتَبه الامر فِي ذَلِك حَتَّى يرْتَفع الِاشْتِبَاه فِيهِ بالنصوص وَلَو وَقع فِي ذَلِك غلط فِي ذَلِك الْعَصْر لتواترت النُّصُوص فِي الرَّد على صَاحبه

وَإِنَّمَا أوضحت رُوَاة أَحَادِيث الرُّؤْيَا وَحدهَا كَيْلا يتَوَهَّم أَنه حَدِيث وَاحِد وَمن ذَلِك حَدِيث الْمُسْتَحَاضَة وَقَوله فِيهِ إِنَّمَا ذَلِك ركضة من الشَّيْطَان قَالَ ابْن الْأَثِير فِي نهايته وَالْمعْنَى أَن الشَّيْطَان قد وجد سَبِيلا إِلَى التلبيس عَلَيْهَا فِي أَمر دينهَا ذكره فِي خرف الرَّاء مَعَ الْكَاف وَعِنْدِي فِيمَا قَالَه نظر لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ إِنَّمَا ذَلِك من الشَّيْطَان وَلم يذكر أَنه ركضة من وَلَا مَانع من تَمْكِينه من ركضته بعض الْعُرُوق حَتَّى تَنْقَطِع ليلبس بذلك عَلَيْهَا أَمر دينهَا

ص: 303

فانه يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم مثل مَا جَاءَ أَنه ينْفخ فِي الدبر فَلَا ينْصَرف أحدكُم حَتَّى من صلَاته حَتَّى يجد ريحًا أَو يسمع صَوتا فَكَمَا لَا يتَأَوَّل نفخه فَكَذَلِك لَا يتَأَوَّل ركضه

وَمن ذَلِك لَا تَأْكُل الشريقة فانها ذَبِيحَة الشَّيْطَان فِيهِ حديثان حَدِيث عَن ابْن عَبَّاس وَحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا فِي مُسْند أَحْمد وَفِي حَدِيث لِابْنِ عَبَّاس مَاتَت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَبَكَتْ النِّسَاء فَجعل عمر يضربهن بِسَوْطِهِ فَأخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ مهلا يَا عمر إِنَّه مَا كَانَ من الْعين وَالْقلب فَمن الله تَعَالَى وَمَا كَانَ من الْيَد وَاللِّسَان فَمن الشَّيْطَان رَوَاهُ أَحْمد وَابْن تَيْمِية فِي الْمُنْتَقى

فَهَذِهِ نَحْو خَمْسَة عشر حَدِيثا عَن أبي هُرَيْرَة مِنْهَا سِتَّة وَعَن ابْن عَبَّاس حديثان وبقيتها عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب وَعَائِشَة وَأبي ثَعْلَبَة وَسَهل ابْن سعد وَأبي قَتَادَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وعَوْف بن مَالك وَحمْنَة بنت جحش من غير الْآثَار الْمَوْقُوفَة على أكَابِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم كَمَا نوضح الْآن طرفا مِنْهُ

فَمن ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه قَالَ ابْن سِيرِين لم يكن أحد أهيب لما لَا يعلم من أبي بكر وَإِنَّهَا نزلت بِهِ فَرِيضَة لم يجد لَهَا فِي كتاب الله أصلا وَلَا فِي السّنة أثرا فَقَالَ أَقُول فِيهَا برأيي فان يكن صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَإِن يكن خطأ فمني وَأَسْتَغْفِر الله رَوَاهُ الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر الشَّافِعِي فِي الْقَضَاء من كِتَابه التَّلْخِيص الْكَبِير فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الرَّافِعِيّ الْكَبِير وَذكر سَنَده عَن عبد الله بن مهْدي عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين بِهِ كَمَا تقدم قَالَ وَأخرجه قَاسم بن مُحَمَّد فِي كِتَابه الْحجَّة وَالرَّدّ على المقلدين

قلت وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره فِي آيَة الْكَلَالَة وَجعل كَلَام أبي بكر رضي الله عنه الَّذِي قَالَه هُوَ القَوْل عِنْده فِي الْكَلَالَة وَجَاء بذلك الْبَغَوِيّ من طَرِيق الشّعبِيّ عَن أبي بكر فازداد قُوَّة لاخْتِلَاف طرقه وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّامغَانِي فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة فِي الْمذَاهب

ص: 304

وَعَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه أصرح من ذَلِك وَأبين وأوضح وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْن حجر فِي كِتَابه الْمَذْكُور وأسنده إِلَى الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ أَنه رَوَاهُ من طَرِيق الثَّوْريّ عَن السفياني عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق قَالَ كتب كَاتب لعمر هَذَا مَا أرَاهُ الله تَعَالَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فانتهره عمر وَقَالَ بل أكتب هَذَا مَا رَآهُ عمر فان كَانَ صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَإِن كَانَ خطأ فَمن عمر قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر اسناده صَحِيح وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عمار بن يَاسر من كتاب النبلاء مَا لَفظه الاعمش عَن حبيب بن أبي ثَابت قَالَ سَأَلَهُمْ عمر عَن عمار فَأَثْنوا عَلَيْهِ وَقَالُوا وَالله مَا أَنْت أَمرته علينا وَلَكِن الله أمره فَقَالَ عمر اتَّقوا الله وَقُولُوا كَمَا يُقَال فوَاللَّه لأَنا أَمرته عَلَيْكُم فان كَانَ صَوَابا فَمن قبل الله وَإِن كَانَ خطأ أَنه لمن قبلى اه بِحُرُوفِهِ والاعمش وحبِيب من رجال البُخَارِيّ وَمُسلم وَسَائِر الْجَمَاعَة

قلت رَضِي الله عَن عمر مَا كَانَ أصدعه بِالْحَقِّ وأخشنه فِيهِ وأغيظه للشَّيْطَان وأعرفه بِمَا يُنَافِيهِ وَعَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه نَحْو ذَلِك ذكره ابْن حجر فِي كِتَابه وأحال أَلْفَاظه الشَّرِيفَة إِلَى كَلَامه عليه السلام فِي حكم أم الْوَلَد وَلم أجد أَلْفَاظه فِي ذَلِك وَلَو وَجدتهَا لسطرتها وصدرتها فَمن وجدهَا فيلحقها وَهَذَا الْمَعْنى عَنهُ عليه السلام مَشْهُور كثيرا وَعَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه أَنه قَالَ فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا بِجهْد رَأْي فان كَانَ صَوَابا فَمن الله وَحده لَا شريك لَهُ وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ برَاء رَوَاهُ إِمَام أهل السّنة أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْند الْجراح بن أبي الْجراح من الْمسند وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَهَذَا لَفظه وَلَفظ أبي دَاوُد بريئان وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَابْن الْأَثِير فِي جَامعه فِي كتاب الصَدَاق والحافظ أَبُو الْحجَّاج الْمزي الشَّافِعِي فِي أَطْرَافه فِي مُسْند معقل بن سِنَان وَإِمَام الشَّافِعِيَّة ابْن النَّحْوِيّ فِي كِتَابه الشهير الْمُسَمّى بالبدر الْمُنِير وَقَالَ صَحِيح وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْأَرْبَعَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَالَ الْحَاكِم على شَرط مُسلم وَقَالَ ابْن حزم لَا مغمز فِيهِ لصِحَّة

ص: 305

قلت وَهَذَا الْكَلَام كُله فِي الْمَرْفُوع أما كَلَام ابْن مَسْعُود الْمُقدم فِي أَن الْخَطَأ من الشَّيْطَان فَهُوَ صَحِيح بالِاتِّفَاقِ على شَرط الْجَمَاعَة كلهم رَوَاهُ الكبراء والنبلاء من أَئِمَّة التَّابِعين وَمن بعدهمْ مِنْهُم الشّعبِيّ وابراهيم التَّيْمِيّ وَمَنْصُور ابْن الْمُعْتَمِر وزائدة وَهِشَام وَيحيى الْقطَّان وَيزِيد بن هَارُون وَابْن مهْدي وخلاس بن عَمْرو وَأَبُو حسان وَدَاوُد بن أبي هِنْد وَعلي بن مسْهر وَعلي بن حجر وَعُثْمَان بن أبي شيبَة وغندر وسُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة وَبُنْدَار وَعبد الرَّزَّاق وَكلهمْ رجال البُخَارِيّ وَمُسلم مَعًا إِلَّا اثْنَيْنِ فَانْفَرد مُسلم بهما وكل هَؤُلَاءِ رَوَوْهُ وَلم ينكروه وَلم يشككوا على مَعْنَاهُ وَلم يتأولوه وَلم يحذروا من ظَاهره

وَفِي ظُهُور هَذِه الْأَخْبَار والْآثَار بَين السّلف من غير مناكرة أوضح دلَالَة على إِجْمَاعهم رضي الله عنهم على ذَلِك هَذَا وَلم يُوجد مُخَالف لَهُم توجب مُخَالفَته الاكثار من صُدُور النُّصُوص مِنْهُم فِي الرَّد عَلَيْهِ

وَذكر الامام الْعَلامَة إِمَام أهل السّنة أَبُو عَمْرو بن الصّلاح عَن أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ أَنه قَالَ وَكَانَ بعض السّلف إِذا أفتى يَقُول إِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني قَالَ وَهَذَا معنى كره فِي هَذَا الزَّمَان لِأَن فِيهِ إضعاف نفس السَّائِل وَإِدْخَال قلبه الشَّك فِي الْجَواب اه بِحُرُوفِهِ وَقَررهُ ابْن الصّلاح فَلم يقل أحد مِنْهُم أَن ذَلِك ترك لِأَن الْحَقِيقَة أَن الْخَطَأ من الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَأَجْمعُوا على نقل ذَلِك عَن بعض السّلف من غير مناكرة بَين السّلف وَالْخلف فِي حسن ذَلِك وَصِحَّته وَلَو كَانَ مُخَالفا فِي ذَلِك مَا تركُوا ذكره وَقد تعرضوا لجَمِيع أَقْوَال عُلَمَاء الاسلام فِي ذَلِك واليهم الْمُنْتَهى فِي معرفَة الْخلاف والوفاق وَالسّنة والبدعة وَلذَلِك لم يتعقبهم أحد وينسبهم إِلَى التَّقْصِير وَالْحَمْد لله ذكره ابْن الصّلاح فِي كِتَابه فِي الْمُفْتى والمستفتى فِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من القَوْل فِي كَيْفيَّة الْفَتْوَى وآدابها وَأَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ شيخ أبي الْحسن الْمَاوَرْدِيّ صَاحب الْحَاوِي ذكره ابْن الصّلاح وتلميذ أبي

ص: 306

حَامِد الْمروزِي وَسَماهُ ابْن الصّلاح الامام أَبَا الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ فِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة من هَذَا الْبَاب وَقَالَ فِي مُقَدّمَة الْكتاب أَنه أحد أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة

وَأما قَوْلهم أَن ذَلِك كره فِي هَذَا الزَّمَان فانه متعقب من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه لَا يسلم صِحَة الْكَرَاهَة من بعض الْخلف لما فعله بعض السّلف وَسكت عَنهُ بَقِيَّة السّلف لَا سِيمَا إِذا كَانَ الْفَاعِل من قدمنَا من خلفائهم وكبرائهم والاجماعات المروية عَنْهُم مَا تزيد على هَذَا شَيْئا كَمَا تقدم تَقْرِيره وَقَوْلنَا فِيمَا هَذَا حَاله أَنه مَكْرُوه بِدعَة مَكْرُوهَة لما فِيهِ من نسبتهم إِلَى الْمَكْرُوه كَمَا لَو قَالَ أَنه بِدعَة وهم أعرف بالمكروهات والمحذورات وَثَانِيهمَا أَنهم لم يَقُولُوا ذَلِك فِي مواقع النُّصُوص بل فِي مواقع الرَّأْي الَّتِي يَنْبَغِي فِيهَا إِشْعَار المستفتي بهَا ليَأْخُذ لنَفسِهِ بالوثيقة من الِاحْتِيَاط فان ترخص تضرع إِلَى الله تَعَالَى فِي الْمُسَامحَة وَالْقَبُول واستغفر وَيَنْبَغِي اشعار المستفتى بِمَا هَذَا حَاله كَيْلا يكون على ظن ضَعِيف مُخْتَلف فِيهِ وَهُوَ مُعْتَقد أَنه على أثر مَعْلُوم من الدّين فانه طَالب للهداية لَا للعماية وَالله تَعَالَى يحب الانصاف وَكَانَ أقل الْأَحْوَال فِي أدب الْخلف مَعَ السّلف أَن يُقَال فِي فعلهم ثمَّ ترك وَلَا يُقَال كره مَعَ أَن الاولى بالخلف التَّسْلِيم للسلف والمتابعة وَلَا معنى لمَذْهَب أهل السّنة إِلَّا ذَلِك

فان قَالَ قَائِل إِن هَذَا كُله مَحْمُول على مُجَرّد الادب فِي حسن الْخطاب كَقَوْل الْخَلِيل عليه السلام {وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين} وكما لَا يُقَال لله تَعَالَى يَا رب الْكلاب والخنازير

فَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ مثل ذَلِك لوجوه

الْوَجْه الأول إِن خلق الله تَعَالَى للكلاب والخنازير مَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وَمن إِجْمَاع الْمُسلمين وَأَنه لَا نقص فِيهِ على الله تَعَالَى فَلم يكن فِي حسن الْعبارَة مَعَ حسن الِاعْتِقَاد قبح وَلَا مخاطرة وَلَا بِدعَة فِي الدّين لِأَن الْبِدْعَة هُنَاكَ مَأْمُونَة وَيُمكن أَن يكون قبح ذَلِك من أجل مَفْهُوم اللقب فانه يَقْتَضِي نفي الربوبية لما سواهَا حَيْثُ يخصص بِالذكر من غير وَجه ظَاهر

ص: 307

للتخصيص وَلذَلِك قَالَ بِهِ الدقاق والصيرفي وَبَعض الْحَنَابِلَة وَغَيرهم وَرُبمَا كَانَ قبح هَذِه الصُّورَة وأمثالها من أدلتهم على ذَلِك بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ وَأَيْضًا فأسماء الله وَصِفَاته توقيفية شَرْعِيَّة وَهُوَ أعز من أَن يُطلق عَلَيْهِ عبيده الجهلة مَا رَأَوْا من ذَلِك فَلَا يجوز تَسْمِيَته رب الْكلاب والخنازير وَنَحْو ذَلِك من غير إِذن شَرْعِي وَإِنَّمَا يُسمى بِمَا سمى بِهِ نَفسه {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} وَأما الآلام فَيمكن أَن تكون عقوبات على ذنُوب فتحسن نسبتها إِلَى المذنب كَقَوْل أَيُّوب عليه السلام {أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} وَقَالَ تَعَالَى {وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون} وَفِي آيَة أُخْرَى {وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَسمى عقوباتهم كسبا لَهُم وَعَملا وَقَالَ {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تقدم فِي آخر الْكَلَام فِي الاسماء الْحسنى وَهَذَا يدل عَلَيْهِ كثير من الْكتاب وَالسّنة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَفِي قِرَاءَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَجَاء ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} جَاءَ من وُجُوه شَتَّى قَالَه أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد وَقد طولت فِي هَذَا وجودته فِي العواصم وَهُوَ صَحِيح فقف عَلَيْهِ هُنَالك وعَلى مَا فِيهِ من الْآيَات القرآنية الْكَثِيرَة فلكلام الْخَلِيل حِينَئِذٍ وَجه لطيف غير مُجَرّد حسن الْخطاب وَأما إِضَافَة الْمعاصِي إِلَى الله تَعَالَى وتسميته خَالِقهَا فَهُوَ عكس ذَلِك كُله من كل وَجه وَلَا هُوَ مَعْلُوم من ضَرُورَة الدّين وَلَا من إِجْمَاع الْمُسلمين وَلَا من الْأَدِلَّة القاطعة وَلَا من الْأَدِلَّة الظَّاهِرَة وَلَا الْبِدْعَة فِيهِ مَأْمُونَة بل وَلَا هُوَ من الْمَسْكُوت عَنهُ حَتَّى تكون الْبِدْعَة فِيهِ لغوية وَالدّلَالَة ظنية بل مصادم النُّصُوص كتابا وَسنة وإجماعا من خير الامة وَكَونه نقصا مضادا للمادح الربانية ظَاهر مِنْهُ غير خَافَ فِيهِ فَوَجَبَ فِيهِ لُزُوم عِبَارَات

ص: 308

الْكتاب وَالسّنة وَالسَّلَف وَعدم التمحل لتأويلاتها الْبَعِيدَة المتعسفة المشكرهة

الْوَجْه الثَّانِي أَن الدّلَالَة على بطلَان الْجَبْر قاضية بِصِحَّة مَا ذكرنَا من إِضَافَة القبائح والفضائح إِلَى فاعلها الرَّاغِب فِيهَا الْمُخْتَار لعارها وَمَا فِيهَا من الذَّم والخزي وقبح اضافتها إِلَى السبوح القدوس الْمحرم لَهَا الناهي عَنْهَا الكاره لَهَا البريء من لومها وذمها ونقصها أصح الْبَرَاءَة ظَاهرا وَبَاطنا وَحقا وصدقا لَا كأكاذيب المداهنين للظلمة المطرين لَهُم بالممادح الكاذبة فان ذَلِك إِلَى الذَّم أقرب مِنْهُ إِلَى الْمَدْح لما فِيهِ من التَّذْكِير بِصَحِيح الْقدح وَلذَلِك قيل شعرًا

(إِذا أثنى عَلَيْك المراء يَوْمًا

بِمَا هُوَ لَيْسَ فِيك فَذَاك هاجي)

فَكيف برد تمدح الرب عز وجل بِالْبَرَاءَةِ من ذَلِك ونسبته إِلَى أعدائه وتسميته بالسبوح القدوس إِلَى نَحْو ذَلِك

الْوَجْه الثَّالِث إِنَّا قد قَررنَا غير مرّة أَن الْعَادة تحيل وُقُوع مثل هَذَا وَظَاهره الْخَطَأ والقبح وَلَا يظْهر تَأْوِيله وَلَا تعَارض فِيهِ الاقوال وَذَلِكَ إِن كل مَا كثر وتكرر من كَلَام السّلف وَلم تعَارض فِيهِ الاقوال وَلم ينبهوا على تَأْوِيله وَلم يحذروا من ظَاهره وَمَفْهُومه وَجب أَن يكون على ظَاهره كأحاديث الاقدار وآيات الارادة ونفوذ الْمَشِيئَة وَمن ذَلِك كَون الْمعاصِي والقبائح وَالْفَوَاحِش والفضائح من عبيد السوء المذمومين بهَا فِي الدُّنْيَا والموعودين بالجزاء فِي الْآخِرَة عَلَيْهَا

الْوَجْه الرَّابِع إِن فِي مَا ذَكرْنَاهُ عَن السّلف الصَّالح التَّصْرِيح بِنَفْي القبائح عَن الله تَعَالَى فِي قَول ابْن مَسْعُود رضي الله عنه وَإِن كَانَ خطأ فَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان وَذَلِكَ دَلِيل الْحَقِيقَة أَلا ترى أَنه لَا يجوز أَن يُقَال على جِهَة الادب أَن الْكلاب والخنازير لَيست من خلق الله تَعَالَى وَلَا هُوَ رَبهَا وخالقها وَمن قَالَ ذَلِك كفر باجماع الْمُسلمين وَهُوَ نَظِير قَول ابْن مَسْعُود وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان أَتَرَى ابْن مَسْعُود يكون كَافِرًا وَيُصَرح بالْكفْر بَين خير أمة أخرجت للنَّاس وهم سكُوت ثمَّ يدونه أَئِمَّة الْمُسلمين مقررين لَهُ غير منكرين لَهُ وَابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي رَضِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأمته مَا رَضِي لَهُم وَالَّذِي قَالَ فِيهِ عليه السلام إِن الله أجاره من

ص: 309

الشَّيْطَان على أَنا لم نقل أَن الْمعاصِي من الْعباد على جِهَة المغالبة لارادته وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهَا مِنْهُم أَفعَال وذنوب وَسُوء اخْتِيَار كَمَا اجْتمعت عَلَيْهِ كلمة أهل السّنة والمعتزلة كَمَا علمنَا نَبينَا صلى الله عليه وسلم أَن نقُول فِي حَدِيث أبي ذَر الَّذِي خرجه مُسلم وَغَيره فِي الصِّحَاح فِيهِ فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَلَكنَّا لَا نقُول كَمَا تَقول المبتدعة أَنه لَا يقدر على هِدَايَة أهل الضلال بل نقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} كَمَا تقدم مَبْسُوطا فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة

الْوَجْه الْخَامِس ان ذَلِك ان كَانَ أدبا حسنا وثناء مناسبا لاسماء الله الحسى كَانَ نقيضه حَرَامًا فقد تقرر عِنْد الأشعرية أَنه لَا يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا الْمَدْح وَالثنَاء دون مَا فِيهِ نقص أَو مَا لَيْسَ فِيهِ نقص وَلَا ثَنَاء وَلَيْسَ فِي ذَلِك ثَنَاء وَلذَلِك اعْتَرَفُوا بِأَن الْأَدَب تَركه وتجنبه وكل مَا كَانَ كَذَلِك حرم وَلَا معنى للادب بِاللِّسَانِ دون الْجنان وَقد تقدم أَن ذَلِك خلاف مَذْهَب الأشعرية وَجِنَايَة عَلَيْهِم وَلَا يجوز خلاف ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل صَحِيح بِخلق الْكلاب والخنازير على وَجه لَا يُوهم الْخَطَأ

الْوَجْه السَّادِس أَن تَأْوِيل ذَلِك على الادب مَعَ الله تَعَالَى لَا يحْتَمل إِلَّا فِيمَا صدر من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَمن أَصْحَابه رضي الله عنهم على أَنا قد ذكرنَا مَا يمْنَع من ذَلِك فِي حَقهم أَيْضا لَكِن على تَسْلِيمه فانا قد ذكرنَا من كَلَام الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم اثْنَتَيْنِ وَعشْرين آيَة وَلَا يجوز حملهَا على ذَلِك لِأَن الادب من خَواص الْعباد وَلذَلِك وَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى أديبا كَمَا لَا يُسمى الادب من خَواص الْعباد وَلذَلِك لَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى أديبا كَمَا لَا يُسمى عَاقِلا وَلَا فَاضلا بالاجماع فانه أرفع وَأَعْلَى من ذَلِك جلّ وَعلا

الْوَجْه السَّابِع أَنه انْعَقَد اجماع الْمُسلمين على وجوب الرضى بِمَا كَانَ من الله تَعَالَى وعَلى تَحْرِيم الرضى بِالْمَعَاصِي وَوُجُوب كراهتها وَهَذَا على الْحَقِيقَة لَا يُمكن حمله على الادب وَهَذَا الْوَجْه كَانَ شاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقد اعْترف الْغَزالِيّ بِهِ وَهُوَ أعظم حجَّة عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّمَا يجب الرضى بِالْقضَاءِ بِالْمَعَاصِي لَا بِالْمَعَاصِي وَطول فِيهِ فِي بَاب الرضى بِالْقضَاءِ

ص: 310