الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنَّمَا ذكرت هَذِه الْآيَات لِأَن بعض النَّاس ذكر أَنه لَيْسَ فِي هَذَا نَص شَرْعِي وَإِنَّمَا يدل عَلَيْهِ الْعقل والعمومات لَا النُّصُوص وَقد روى الْحَاكِم فِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيثا فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى جَمِيعًا مِنْهُ
تَكْمِيل
ثمَّ يعتضد هَذَا بِمَا يُنَاسِبه من كرامات الصَّالِحين وعقوبات الظَّالِمين الْمَذْكُورَة فِي كتاب الله تَعَالَى والمتواترة والمشاهدة ثمَّ مَا وَقع من تكَرر نصر الله تَعَالَى للحق والمحقين وَإِنَّهُم وان ابتلوا فالعاقبة لَهُم على مَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجل {وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} وَكَذَلِكَ قَول الله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} وَقَوله تَعَالَى {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي} وَقد جود الزَّمَخْشَرِيّ هَذَا الْمَعْنى فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} وفسرها بِمَا كَانَ من فتوح الاسلام الخارقة فِي الْآفَاق وفسرها بِبِلَاد الْعَجم وَفِي أنفسهم وفسرها بِبِلَاد الْعَرَب وَفِي ذَلِك حَدِيث ابْن عَبَّاس الطَّوِيل وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء تبتلى ثمَّ تكون لَهُم الْعَاقِبَة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَيشْهد لصِحَّته الاستقراء من التواريخ وَقَوله تَعَالَى {وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} وَفِي الشُّعَرَاء تَنْبِيه على ذَلِك فِي آيَات كَثِيرَة يعقبها بقوله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم}
فَتَأمل ثمَّ مَا قد وَقع للْإنْسَان من إِجَابَة الدَّعْوَات وكشف الكربات وَستر العورات وتيسير الضرورات وَقَضَاء الْحَاجَات وكشف المشكلات والالهام فِي المعارف الخفيات والاشارات المرشدات فِي المنامات الصادقات وَفِي هَذَا يَقُول ابْن الفارض شعرًا
(وَقل لي من ألْقى إِلَيْك علومه
…
وَقد ركدت مِنْهُ الْحَواس لغفوة)
وَقد احْتج بذلك الْغَزالِيّ وعارض بِهِ الفلاسفة فِي إحالتهم لعلم الْغَيْب وَهَذِه الْأَشْيَاء إِذا ضمت إِلَى الْبَرَاهِين حصل من مجموعها قُوَّة بَقينَ كَثِيرَة وَلَقَد قَالَ الْغَزالِيّ أَنه حصل لَهُ يَقِين قوي بالمعاد من مَجْمُوع براهين وقرائن وتجارب
ثمَّ الْيَقِين بعد هَذَا كُله من مواهب الله تَعَالَى فَإِن أنعم الله بِهِ عَلَيْك فَكُن من الشَّاكِرِينَ وَإِن عرض لَك الشَّك بعد هَذَا كُله فاحذر أَن يكون ذَلِك عُقُوبَة بذنب كَمَا نبه الله على ذَلِك بقوله {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} وَقَوله {سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} فافزع إِلَى الله تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار والتضرع والتذلل وَطلب أَسبَاب الرقة والتخويف الْعَظِيم لنَفسك من الْوُقُوع فِي الشقوة الْكُبْرَى بِعَذَاب الْآخِرَة فَإِن من طبائع النُّفُوس الْإِيمَان عِنْد شدَّة الْخَوْف وَلذَلِك آمن قوم يُونُس لما رَأَوْا الْعَذَاب وآمن فِرْعَوْن حِين شَاهد الْغَرق وَقد نبه الله على ذَلِك بقوله {بل هم فِي شكّ من ذكري بل لما يَذُوقُوا عَذَاب} وَلذَلِك يرجع كثير من الْعُقَلَاء عِنْد الْمَوْت عَن عقائد وقبائح وشبهات كَانُوا مصرين عَلَيْهَا وَلَيْسَ ذَلِك لتجلي برهَان حِينَئِذٍ بل لِأَن الطَّبْع القاسي كَانَ كالمعارض للبرهان فَلَمَّا لِأَن بَقِي الْبُرْهَان بِلَا معَارض وَكَذَلِكَ لَو شَاهد فِرْعَوْن وَغَيره أعظم برهَان بِغَيْر خوف مَا آمنُوا قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين}
وَحكى ابْن خلكان عَن ابْن سينا أَنه لما عرف عِلّة الْمَوْت أقبل على الْقُرْآن وَترك مَا كَانَ عَلَيْهِ فانصح نَفسك وَذكرهَا وَقل لَهَا لَو كَانَ مَعَك يَقِين بارتفاع التَّكْلِيف مَا خفت وَلَكِنَّك عَن قريب إِن لم يَرْحَمك مَوْلَاك تقعين فِي أَشد الْعَذَاب وينكشف عَنْك هَذَا الارتياب وَذكرهَا عَظِيم حسرة المكذبين يَوْم يُقَال {انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} فَإِن النَّفس كَمَا أَنَّهَا بعيدَة الايمان فَإِنَّهَا بعيدَة الامان وخوفها أعظم الاعوان على الايمان قَالَ الله تَعَالَى {وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون} وَقَالَ تَعَالَى {وَتَركنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم} وَقَالَ عز وجل {وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذْ جَاءَهُم الْهدى ويستغفروا رَبهم إِلَّا أَن تأتيهم سنة الْأَوَّلين أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب قبلا} وَلِأَنَّهَا لوجدان الْخَوْف عِنْد التخويف تنزل من مرتبَة الْقطع بالتكذيب الَّذِي هُوَ أول مَا يروم الشَّيْطَان فَإِذا نزلت من ذَلِك وَجب عَلَيْهَا فِي الْعقل تَصْدِيق الثِّقَة وَالْعَمَل بِالظَّنِّ كَيفَ إِذا جَاءَ الثِّقَة مَعَ ظن صدقه بالمعجز وعضدته الْبَرَاهِين الْمُقدمَة وَإِلَى هَذِه الطَّرِيقَة الاشارة بقوله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ} إِلَى قَوْله {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقَوله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ} وَقَوله {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} وَقَوله تَعَالَى {وبدا لَهُم من الله}
مَا لم يَكُونُوا يحتسبون) فَإِن نفرت النَّفس من الايمان ببعص المحارات وتوهمت أَنه من المحالات كثبوت الْقدَم الَّذِي لَا نعرفه إِلَّا بالتصديق أَو ثُبُوت الْحِكْمَة فِي الْعَذَاب وَخلق أَهله فَسَيَأْتِي الْجَواب فِي ذَلِك فِي اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى
وَمن أَنْفَع مَا يدْفع الْحيرَة بِهِ أَنه لابد من لُزُوم المحارة فِي الْعُقُول على كل تَقْدِير والاسلام أقل المحارات من جَمِيع الْملَل الكفرية وبالاسلام تنْدَفع كلهَا وَتخرج الْعُقُول من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَانْظُر إِلَى هَذَا الْعَالم المحسوس بِالضَّرُورَةِ تَجِد المحارة الْعَقْلِيَّة لَازِمَة لوُجُوده لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو بِالضَّرُورَةِ من الْحُدُوث أَو الْقدَم فالقدم من محارات الْعُقُول والحدوث من غير مُحدث من محاراتها بل من محالاتها فالمحارات أقرب من المحالات لِأَن الْمُمكن الْبعيد أقرب من الْمُمْتَنع وَلَا ثَالِث لهذين الْأَمريْنِ إِلَّا الاسلام وَإِلَى هَذَا أَشَارَ من قَالَ
(صُورَة الْكَوْن محَال
…
وَهِي حق فِي الْحَقِيقَة)
لكنه أَخطَأ فِي تَسْمِيَة المحارة محالا فَإِن كَانَت المحارة لَازِمَة لِلْإِسْلَامِ فَهِيَ لما عداهُ ألزم فَإِن كَانَ هَذَا اللُّزُوم حَقًا فالمحارة حق وَالْحق لَا يستوحش مِنْهُ وَإِن كَانَ بَاطِلا فالباطل حقيق لَا يستوحش من خَشيته لِأَنَّهُ لَا شَيْء حَقِيقَة فَكيف الْخَوْف من لَا شَيْء فَمن لم يثبت الرب قَدِيما أثبت الْعَالم قَدِيما وَمن لم يثبت لَهُ أسماءه الْحسنى بِلَا سَبَب أثبت الاحكام العجيب للْعَالم بِلَا سَبَب وَمن لم يثبت الرب بِكَمَالِهِ بِلَا سَبَب أثبت الْعَالم بأحكامه وعجائبه بِلَا سَبَب وَمن لم يقبل الايمان بالبرهان وَالْقُرْآن قبل الْكفْر بِلَا قُرْآن وَلَا برهَان
وَإِلَى هَذَا آشار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ (لَا يزَال النَّاس يتساءلون حَتَّى يَقُولُوا هَذَا الله خلق الْخلق فَمن خلق الله) وأمرنا بالاستعاذة والانتهاء حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ يُقَال للْكَافِرِ فَإِذا أمكن وجود الْعَالم بِغَيْر خَالق فَأولى مِنْهُ وجود الرب بِغَيْر خَالق وَدلّ على أَنه لابد من انْتِهَاء الموجودات الممكنة إِلَى وَاجِب الْوُجُود عز وَجل
وَاعْلَم أَن مَادَّة هَذِه الوساوس عجب الانسان بعقله وَعلمه وظنه أَنه إِذا لم يعرف شَيْئا فَهُوَ بَاطِل فاعرف أَنَّك كَمَا قَالَ أصدق الْقَائِلين فِي صفة الانسان {إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} وَيدل على هَذَا من الْمَعْقُول مَعَ الْمَنْقُول أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن الانسان يُؤثر هَوَاهُ فِي الاقبال على دَار الفناء وعَلى شهواتها الضارة الْمضرَّة فِي العاجلة الْمُشَاهدَة وَيقدم الْمَرْجُوح على الرَّاجِح قطعا ويتحمل من الْأَمَانَات الَّتِي هُوَ فِي تحملهَا مُخْتَار مَا يدل على صِحَة مَا رُوِيَ من تحمل آدم عليه السلام لأصلها وجميعها مثل الدُّخُول فِي الدُّيُون والضمانات والحقوق الزَّوْجِيَّة وَغَيرهَا وَحُقُوق المخالطة وَالْفرق بَين الْأَحْكَام عِنْد الرِّضَا وَالْغَضَب والغنى والفقر والامان وَالْخَوْف وَبِذَلِك يعرف الفطين من طبع نَفسه الظُّلم وَجحد الْحق عِنْد رُجْحَان الدَّاعِي إِلَى ذَلِك وَلذَلِك يُوجد الْبُخْل من بعض الاجواد فِي الاحوال وَالْكذب من بعض الصَّادِقين كَذَلِك قَالَ صَالح عليه السلام {يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} فَبين أَن الصَّارِف لَهُم الْهوى الْمَحْض لَا الشُّبْهَة
وَمن هُنَا نقم الله على الْكفَّار أَنهم آمنُوا بِالْبَاطِلِ فَلَو كَانَ كفرهم بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الله وَكتبه وَرُسُله من أجل الشُّبْهَة لكانوا لعبادة الْحِجَارَة وَغَيرهَا أَشد كفرا وَذَلِكَ بَين فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفرُوا بِاللَّه أُولَئِكَ هم الخاسرون} وَنَحْوهَا قَوْله فِي قصَّة الْخَلِيل عليه السلام {وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وَقد هدان وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تتذكرون وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم} فَبين الْخَلِيل لَهُم أَن خوفهم وتخويفهم
من أصنامهم واعتذارهم بِهِ عَن الايمان شَيْء بَاطِل وَلَو كَانَ من قبيل خوف الْعُقَلَاء الْمُسْتَند إِلَى الامارات الصَّحِيحَة أَو الْأَدِلَّة الْوَاضِحَة لَكَانَ خوفهم من الله تَعَالَى أولى من كل وَجه صَحِيح
ولوضوح هَذَا جَاءَ فِيهِ بأدوات الاستنكار والاستبعاد مثل قَوْله {وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم} وَقَوله {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن} وَهَذِه الْمُعَارضَة وأمثالها تفِيد الْقطع بعناد الْخصم فتأملها فِي كتاب الله تَعَالَى وَهِي جَيِّدَة مفحمة نافعة وَلذَلِك سَمَّاهَا الله تَعَالَى حجَّة وَرفع بهَا خَلِيله عليه السلام وَنَحْوهمَا قَوْله تَعَالَى {وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعِي الله وَحده كَفرْتُمْ وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير} وَقَوله تَعَالَى {أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمة الله هم يكفرون}
وَقد يَقع من أهل الايمان شَيْء من ذَلِك فِي غير الْكفْر وَلذَلِك لم تقبل شَهَادَة الْمُؤمن الْعدْل لنَفسِهِ وَلَا على عدوه وَكَذَلِكَ حكى الله عَن الْكفَّار جحدهم فِي يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى تشهد عَلَيْهِم جُلُودهمْ وَحَتَّى يَقُولُوا لَهَا لم شهدتم علينا وَذَلِكَ أَنهم رَأَوْا من عدل الله تَعَالَى وَحكمه بِالْبَيِّنَاتِ دون علمه مَا أطْعمهُم فِي نفع ذَلِك لَهُم والطبيعة وَاحِدَة إِلَّا مَا هدى الله وَأصْلح فاحذر من هَذِه الطبيعة أَن تتوهم كفرها وقساوتها وجفاوتها برهانا مُعَارضا لبراهين الْحق بل وَلَا شُبْهَة أبدا وَلذَلِك يَزُول شكها وريبها بمعانية الْأَهْوَال كمعاينة هول المطلع كَمَا حكى ابْن خلكان عَن ابْن سينا رَأس الفلاسفة أَنه لما عرف أَنه ميت أعتق مماليكة وَفعل من الْقرب الَّذِي أمكنه وَأَقْبل على التضرع إِلَى الله تَعَالَى وتلاوة كتاب الله واضمحلت عَنهُ تِلْكَ الوساوس
فَهَذِهِ هَذِه وَلذَلِك أَكثر الله تَعَالَى وَرُسُله من الْجمع بَين الْأَدِلَّة والوعيد وقصص الْمُعَذَّبين واعتمدها مُؤمن آل فِرْعَوْن فَأحْسن فِي دُعَاء قومه إِلَى
الايمان وتخويفهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى الْمُعَجل فِي الدُّنْيَا ثمَّ من الْعَذَاب الْأَكْبَر فَقَالَ {يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد} الْآيَات وَإِنَّمَا بَدَأَ بِذكر عَذَاب الله للْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُوما لَهُم بِالضَّرُورَةِ فتأثيره فِي النُّفُوس أقوى كَمَا ذكره الْمُؤَيد بِاللَّه فِي قُوَّة النَّفْع بِذكر الْمَوْت وَالْبَلَاء فِي الْقُبُور وتصور ذَلِك وَأَمْثَاله
والآن ظهر لَك أَن اثبات الرب والايمان بِهِ هُوَ الْحق والأحوط كَمَا تبين قبل ذَلِك أَن اثبات الْعُلُوم هُوَ الْحق بِحَيْثُ لَا يخَاف فِي هذَيْن الاعتقادين مضرَّة أَلْبَتَّة وَالْخَوْف الْعَظِيم والمضار الْعَظِيمَة فِي عدمهما كَمَا قَالَ الْقَائِل
(قَالَ المنجم والطبيب كِلَاهُمَا
…
لَا تبْعَث الاموات قلت إلَيْكُمَا)
(إِن صَحَّ قولكما فَلَيْسَ بضائري
…
أَو صَحَّ قولي فالوبال عَلَيْكُمَا) وَمثل ذَلِك قَول الآخر
(ورغبني فِي الدّين أَن دَلِيله
…
قوي ويخشى كل شَرّ بجحده)
(وكرهني للكفر أَن فَسَاده
…
جلي ويخشى كل شَرّ بِقَصْدِهِ)
بل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ} الْآيَة كَمَا تقدم وَالْمرَاد ايراده من غير شكّ لمداواة النُّفُوس الجامحة والوساوس الْغَالِبَة والاستعانة على تليينها بالمعارضات النافعة لتسلم الْعُقُول مِمَّا يزاحمها مِمَّا شقّ على الأوهام من الغيوب وتذعن لما يُخَالف الْقيَاس من الْأَحْكَام
الْبَاب الرَّابِع فِي اثبات التَّوْحِيد والنبوات وفروعها
ثمَّ أَن المثبتين للعلوم والربوبية اخْتلفُوا فِي أُمُور ثَلَاثَة أَحدهَا تَوْحِيد الرب وَقد علم بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَإِن خِلَافه كفر وَدَلِيل السّمع فِي
هَذَا الْمقَام صَحِيح بالِاتِّفَاقِ مَعَ مَا عضده من الدَّلِيل الْعقلِيّ الَّذِي نبه الْقُرْآن عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَلَا خَفَاء فِي ذَلِك وَلَا خلاف فِيهِ بَين الْمُسلمين فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى عناية وَلَا شكّ فِي قُوَّة براهينة وَسُقُوط الْمعَارض لَهَا وَأَنه أحوط لما فِي مُخَالفَته من خوف الْعَذَاب الْعَظِيم وَسَيَأْتِي تَمام الْكَلَام فِيهِ فِي فروع النبوات
وَأما الْكَلَام فِي النبوات فَاعْلَم أَنه من أوضح المعارف وَقد تطابقت دَلَائِل المعجزات الباهرات عَلَيْهِ وَلَا شكّ مَعَ ذَلِك أَنه الاحوط لِأَن التَّكْذِيب بهَا من الْكفْر الْمَعْلُوم الْمُوجب للعذاب الْأَكْبَر وَلَيْسَ لمنكري النبوات من الشّبَه مَا يُعَارض دَلَائِل ثُبُوتهَا وَلَا مَا ينتهض لإثارة الشكوك فِي هَذَا الْمقَام الْبَين وَإِنَّمَا قدحت البراهمة فِي الشَّرَائِع بِنَحْوِ إِبَاحَة ذبح الْبَهَائِم من غير جرائم وَذَلِكَ جهل فَاحش فَإِن الله الَّذِي خلقهَا هُوَ الَّذِي أحلهَا فِي دَار الفناء الَّتِي كتب فِيهَا الْمَوْت على كل حَيّ لحكمة بَالِغَة وَقد سَاوَى سُبْحَانَهُ بَيْننَا وَبَينهَا بِالْمَوْتِ وَإِن اخْتلفت الْأَسْبَاب وَلَا مَانع فِي الْعقل من ذَلِك قبل وُرُود الشَّرْع على بعض الْوُجُوه فَهَؤُلَاءِ البراهمة لَا يُنكرُونَ تطابق الْعُقَلَاء على سقِِي الْمزَارِع بِالْمَاءِ وَإِن مَاتَ بِسَبَب ذَلِك كثير من الذَّر وَنَحْوهَا من الْحَيَوَانَات الَّتِي تكون فِي مجاري المَاء وعَلى الاسْتِسْقَاء من المناهل وَإِن كَانَ وَسِيلَة إِلَى موت حَيَوَان المَاء وعَلى إِخْرَاج دود الْبَطن بالأدوية وَإِن مَاتَ أُلُوف كَثِيرَة بِسَبَب عَافِيَة انسان وَاحِد من ألم لَا يخَاف مِنْهُ الْمَوْت وَيخرج الانسان الذُّبَاب من منزله وَلَو هلكن من الْبرد وَالْحر وَنَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا أجمع أهل الْعُقُول على مثل هَذَا لما فِي فطر الْعُقُول من تَرْجِيح خير الخيرين وَاحْتِمَال أَهْون الشرين عِنْد التَّعَارُض كَمَا قيل حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض
وَمن ذَلِك اسْتحْسنَ الْعُقَلَاء تحمل المضار الْعَظِيمَة فِي الحروب لدفع مَا هُوَ أضرّ مِنْهَا وَقَالَت الْعَرَب
(بسفك الدما يَا جارتي تحقن الدما
…
وبالقتل تنجو كل نفس من الْقَتْل)
وَقد جَاءَ الْقُرْآن بذلك بأفصح عبارَة وأوجزها فَقَالَ تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} وَالْقَصْد أَنه لَا يُنكر فِي الْعُقُول أَن يغذي الْحَيَوَان الشريف بِالْحَيَوَانِ الخسيس فتدفع بالغذاء عَنهُ الْمضرَّة وتكمل بالغذاء لَهُ النِّعْمَة وعَلى تَسْلِيم أَن الْعقل لَا يستحسن ذَلِك فَإِنَّهُ يجوز أَن يحكم بِحسن ذَلِك مَالك الْجَمِيع علام الغيوب الَّذِي لَا معقب لحكمه وَلَا عَالم بغيبه وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وتوهم مُعَارضَة ذَلِك بالتقبيح الْعقلِيّ فِي غَايَة السُّقُوط فَإِن الْعُقَلَاء يَخْتَلِفُونَ فِيمَا دق من هَذَا الْبَاب وَإِنَّمَا يتفقون على الضَّرُورِيّ مِنْهُ الَّذِي لم يرد الشَّرْع بِهِ قطعا مثل تَرْجِيح الْكَذِب على الصدْق مُطلقًا لَا مُقَيّدا بِحَال الضَّرُورَة فَأَي عَاقل يرجح هَذِه الحماقة على الْبَرَاهِين الْوَاضِحَة فِي النبوات
وَقد جود الجاحظ الْكَلَام فِي النبوات فِي كتاب مُفْرد فِي ذَلِك وَتَبعهُ فِي ذَلِك الامام الْمُؤَيد بِاللَّه عليه السلام فهذب كِتَابه وَحسن ترصيعه وَقرب متباعدة فَيَنْبَغِي للْمُسلمِ الْوُقُوف عَلَيْهِ وَحسن التَّأَمُّل لَهُ فَالْأَمْر فِي ذَلِك جلي فطري وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يذكر هُنَا الفروق بَين الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَسَائِر من يَقع مِنْهُ الخوارق من أهل السحر والطلسمات وَسَائِر أهل الرياضات
وَاعْلَم أَن الْمُتَكَلِّمين يذكرُونَ هُنَا فروقا كَثِيرَة مِنْهَا أَن السحر فن مَعْرُوف لَهُ شُيُوخ يعرفونه ويعلمونه وَفِيه مصنفات وَمن تولع بِهِ وطالع كتبه وتتلمذ لشيوخه عرفه وَإِنَّمَا اخْتلف فِي تعلمه فَقيل حرَام وَقيل فرض كِفَايَة حَتَّى إِذا ظهر سَاحر عرف سحره وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه لم يكن فِي الصَّحَابَة بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من يعرفهُ وَلَو كَانَ فرضا كَانُوا أقوم النَّاس بِهِ وَثَانِيهمَا أَنه قد ثَبت بِالضَّرُورَةِ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَاتم الْأَنْبِيَاء وَهَذَا برهَان يُوضح لنا أَن كل مُدع للنبوة بعده كَاذِب
وَأَن كل خارقة تَأتي على يَد مدعي النُّبُوَّة بعده فَأَنَّهَا غير صَحِيحَة فَإِذا تقرر هَذَا فقد اتَّضَح الْفرق فَإِن النبوات لَا حِيلَة لأحد فِي اكتسابها
الْفرق الثَّانِي أَنه لَا حَقِيقَة للسحر وَلَا يبْقى وَفِي المعجزات مَا يبْقى مثل النَّاقة فِي قوم صَالح وَمثل الْقُرْآن الْعَظِيم فِي معجزات رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلذَلِك كَانَ أبهر المعجزات فَإِنَّهُ لَو أمكن فِيهِ السحر لأمكن أَن جَمِيع أشعار الْعَرَب وتواريخ الْعَالم وَجَمِيع كتب الدُّنْيَا سحر وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى فِي أول سُورَة الْأَنْعَام {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَابَ عَلَيْهِم الِاعْتِذَار عَن الْحق بِالسحرِ فِي الْموضع الَّذِي لَا يُمكن فِيهِ السحر قطعا فِي عقول الْعُقَلَاء فَكيف وَقد جَعَلُوهُ سحرًا بَينا لَا سحرًا مشكوكا فِيهِ لشدَّة عنادهم يدل على ذَلِك أَنهم جَعَلُوهُ غَايَة مَا اقترحوا تعجيزا وعنادا وعتوا حَيْثُ قَالُوا {أَو ترقى فِي السَّمَاء وَلنْ نؤمن لرقيك حَتَّى تنزل علينا كتابا نقرؤه} فَتَأمل ذَلِك وَكَذَلِكَ أمثالهم من أَعدَاء الاسلام وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة يُونُس حِكَايَة عَن مُوسَى وَقَومه {فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا إِن هَذَا لسحر مُبين قَالَ مُوسَى أتقولون للحق لما جَاءَكُم أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون} فَاكْتفى مُوسَى بتقريعهم حَيْثُ وضح عنادهم
الْفرق الثَّالِث أَنه لَا يكون السحر إِلَّا بِشُرُوط مَخْصُوصَة فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة وَلَا يكون بِحَسب الاقتراح بِخِلَاف المعجزات
قلت وَهنا فروق أوضح من هَذِه الفروق بَين الْأَنْبِيَاء وَغَيرهم وَذَلِكَ من وُجُوه
الأول اتِّفَاق الْأَنْبِيَاء فِي التَّوْحِيد وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَالتَّرْغِيب فِيمَا لَدَيْهِ والترهيب من عُقُوبَته فَالْأول مِنْهُم يبشر بِالثَّانِي وَالْآخر مِنْهُم يُؤمن بِالْأولِ وَلَيْسَ أحد مِنْهُم يُخطئ أحدا وَلَا ينقم عَلَيْهِ وَلَا ينتقصه بِخِلَاف سَائِر أَرْبَاب الخوارق وَسَائِر الْعلمَاء والأولياء فَإِنَّهُ يجْرِي بَينهم الْمُعَارضَة
الدَّالَّة على ارْتِفَاع الْعِصْمَة أَلا ترى أَن أهل الرياضة تكون فيهم المبتدعة بل مِنْهُم الدهرية والبراهمة وَقد ذكر صَاحب العوارف طرفا من ذَلِك فِي الْبَاب السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ وصنف شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية مصنفا فِي ذَلِك سَمَّاهُ الْفرق بَين الْأَحْوَال الربانية وَالْأَحْوَال الشيطانية الْوَجْه الثَّانِي مَا ذكره الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى وَهُوَ أَن صَاحب المعجزات يُفَارق صَاحب الْحِيَل وَالسحر فِي الزي والرواء والهيبة وَالْكَلَام وَالْأَفْعَال وَفِي كَافَّة الْأَحْوَال أنوار التَّقْوَى تلألأ فِي وَجه صَاحب المعجزات وآثار الصّلاح تلوح فِي وُجُوه أهل الْخيرَات تعرفهم بِسِيمَاهُمْ كَمَا قَالَ رَبهم ومولاهم شيمتهم التحلم والاصطبار وَدينهمْ الصفح وَالْعَفو وَالِاسْتِغْفَار والجود فالسخاء والايثار والمصافاة مَعَ الْمَسَاكِين والفقراء والحنو والحدب على الضُّعَفَاء والأعراض عَن زخارف الدُّنْيَا وَعَن اتِّبَاع الشَّهَوَات والهوى
وَأما أَصْحَاب السحر والحيل فرذائل التزوير لائحة فِي وُجُوههم ومخايل الختل والغدر وَاضِحَة فِي جباههم قصارى هَمهمْ استمالة الأغبياء وإيثار مَوَاطِن الْمُلُوك والأمراء والأغنياء وَغَايَة أمنيتهم نيل الجاه والعز فِي الدُّنْيَا وَالظفر بِمَا يُوَافق النَّفس والهوى اه وَقد سبقه الرَّازِيّ إِلَى هَذَا الْمَعْنى بأجود من كَلَامه لكنه أطول فآثرت اخْتِصَار مَا ذكره الرَّازِيّ فِي كتاب الْأَرْبَعين ونقلته وزدت عَلَيْهِ كثيرا فِي كتاب الْبُرْهَان الْقَاطِع فِي معرفَة الصَّانِع وَصِحَّة الشَّرَائِع
وَإِلَى هَذَا الْوَجْه الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون} وَقَوله {أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون} كَمَا تقدم فِي كَلَام مُوسَى عليه السلام وَقَوله تَعَالَى {اتبعُوا من لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون} وأمثالها وَفِي آيَة يسن اشارة إِلَى أَن الْكَذِب على الله وعَلى الْخلق فِي غَايَة الْقبْح ونفرة الْعُقَلَاء عَنهُ متمكنة فَلَا يُمكن صدوره من أهل الْعُقُول الراجحة والزهد المجرب لِامْتِنَاع وُقُوع الْمَرْجُوح عقلا وسمعا وَهَذِه وأضعاف أضعافها صِفَات الْأَنْبِيَاء عليهم السلام كَمَا أوضحته فِي الْبُرْهَان الْقَاطِع ثمَّ ان الله تَعَالَى جعل فِي بعض أَحْوَال
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم زيغ وَمرض وعمى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا قبلك من الْمُرْسلين إِلَّا إِنَّهُم ليأكلون الطَّعَام ويمشون فِي الْأَسْوَاق وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبك بَصيرًا} وَذَلِكَ ليبقى الِابْتِلَاء الَّذِي اقتضته الْحِكْمَة حِين كَانَ فِي أَسمَاء الله الْمُبْتَلى وَالْبَاطِن وَالظَّاهِر كَمَا مضى فَمن كَانَ نظره من الْجِهَات الْمُنَاسبَة لاسمه الظَّاهِر رشد وَسعد وَمن كَانَ نظره على الْعَكْس من ذَلِك وَقع فِي المحارات وَبعد من مسالك النجَاة فَكُن من ذَلِك على حذر وافزع إِلَى الله واستعذبه من ذَلِك وَهُوَ الْهَادِي وَلَا يهدى إِلَّا الله
الْوَجْه الثَّالِث أَنه يظْهر على كل نَبِي مَا يميزه من السَّحَرَة وَأهل الْحِيَل مِثَال ذَلِك إِيمَان السَّحَرَة بمُوسَى واعترافهم أَن الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ فِي جنس السحر واحياء عِيسَى للموتى وَذَلِكَ ان مُوسَى عليه السلام كَانَ فِي وَقت ظهر فِيهِ علم السحر وَعِيسَى عليه السلام كَانَ فِي زمن ظهر فِيهِ علم الطِّبّ فجَاء كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا يعرفهُ أهل عصره وَكَذَلِكَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي زمَان ظَهرت فِيهِ الفصاحة فجَاء بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم الَّذِي لَا يخفى عَلَيْهِم مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من وُجُوه الاعجاز
ثمَّ انه ظهر لنا فِي حق نَبينَا صلى الله عليه وسلم أُمُور كَثِيرَة تميزه عَن السَّحَرَة والمحتالين مِنْهَا وُرُود الْبشَارَة بِهِ فِي التَّوْرَاة والانجيل قَالَ الرَّازِيّ فِي كِتَابه الْأَرْبَعين وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه ادّعى أَن ذكره مَوْجُود فيهمَا قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} وَقَالَ حِكَايَة عَن عِيسَى الْمَسِيح {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} وَقَالَ {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} وَمَعْلُوم أَنه لَو
لم يكن صَادِقا فِي ذَلِك لَكَانَ هَذَا من أعظم المنفرات عَنهُ للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَا يُمكن أَن الْعَاقِل يقدم على فعل يمنعهُ من مَطْلُوبه وَيبْطل عَلَيْهِ مَقْصُوده وَلَا نزاع بَين الْعُقَلَاء انه كَانَ أَعقل النَّاس وأحلمهم انْتهى
وَمِنْهَا مَا ظهر من كراماته فِي أَيَّام الْحمل بِهِ وَأَيَّام الطفولية مثل مَا روى مُسلم فِي الصَّحِيح وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أنس أَن جِبْرِيل أَتَاهُ وَهُوَ يلْعَب مَعَ الصّبيان فشق بَطْنه واستخرجه وَجَاء الغلمان يسعون إِلَى ظيره فَقَالُوا ان مُحَمَّدًا قد قتل وَهُوَ منتقع اللَّوْن قَالَ انس قد كنت أرى ذَلِك الْمخيط فِي صَدره
وَمِنْهَا علم جَمِيع من آمن بِهِ من أَهله وَأَصْحَابه وَأهل بَلَده ببراءته من التُّهْمَة بِالسحرِ وَلَا شكّ ان علمهمْ بذلك ضَرُورِيّ كَمَا يعلم ذَلِك أَحَدنَا فِي كثير من أَهله وخاصته وجيرانه وَأهل زَمَانه وَلذَلِك حصل مَعنا الْعلم الضَّرُورِيّ بذلك عَن خبرهم وَلَو كَانَ خبرهم عَن ظن لم يحصل لنا مِنْهُ علم ضَرُورِيّ وَمن لم يحصل لَهُ هَذَا الْعلم الضَّرُورِيّ فَذَلِك لتَقْصِيره فِي علم الحَدِيث وَالسير والتاريخ على أَنا غير مُحْتَاجين إِلَى شَيْء من هَذَا لما قدمْنَاهُ من انه لَا يُمكن السحر فِي الْقُرْآن لدوامه وعظيم مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من البلاغة والعلوم وَلَو أمكن ذَلِك بِالسحرِ لامكن السَّاحر أَن يكون كَلَامه بليغا مفهوما وَلما حصلت الثِّقَة بِكَلَام وَلَا كتاب على وَجه الأَرْض
وَقد بسطت الْقَوْم فِي هَذَا فِي الْبُرْهَان الْقَاطِع وَهَذَا كَاف على قدر هَذ الْمُخْتَصر وَلَيْسَ التآليف الامثل للثمار وَطرح الْبذر فِي الأَرْض الطّيبَة ثمَّ يهب الله من الْبركَة مَا يَشَاء وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم على أَن السحر أحد الدلالات الْبَيِّنَة على الله تَعَالَى لَان علمه من الْعُلُوم الَّتِي لَا تدْرك بِالْعقلِ مثل مَا ذكره الْغَزالِيّ فِي أَمْثَاله مِمَّا يعلم قطعا انه يَنْتَهِي إِلَى تَعْلِيم عَالم الْغَيْب وَلذَلِك جَاءَ النَّص الصَّرِيح فِي كتاب الله تَعَالَى بِأَنَّهُ من تَعْلِيم ملكَيْنِ من مَلَائِكَة الله وَأَن علمه أنزل عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل} الْآيَات ثمَّ فِيهِ دلَالَة على النبوات من جِهَة أُخْرَى
وَذَلِكَ ان السَّاحر يعجز عَن مُعَارضَة الانبياء وَعَن بُلُوغ درجتهم فِي الاعجاز الْحق فَتبين بذلك صدقهم وتمييزهم برفيع مقامهم عَن السحر والسحرة كَمَا كَانَ فِي قصَّة مُوسَى عليه السلام مَعَ السَّحَرَة فتعرف بذلك قدر النبوات معرفَة مقادير المحاسن بأضدادها وَللَّه الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي كل شَيْء سبحانه وتعالى
وَمِمَّا يُقَوي أَمر النبوات والاسلام النّظر فِي معارضها وَضَعفه فان الْمُخَالفين لذَلِك ضَرْبَان أَحدهمَا أهل التجاهل المتدينون بدين الْآبَاء وان كَانَ عبَادَة الاحجار وَنَحْو ذَلِك وَلَا يلْتَفت إِلَى هَؤُلَاءِ مُمَيّز وَثَانِيهمَا أهل الفلسفة وَقد نقل الرَّازِيّ عَنْهُم الِاعْتِرَاف بِأَن خوضهم فِي الربوبيات بِالظَّنِّ وَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ إِلَّا أَحْكَام المشاهدات والمجريات وَلَو لم يقرُّوا بذلك قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع عَلَيْهِم بذلك وَهُوَ اخْتلَافهمْ وتكاذبهم المتباعد المتفاحش الَّذِي تميز الانبياء بالعصمة مِنْهُ عَن جَمِيع أهل الدعاوي الْبَاطِلَة وَالنَّظَر فِي هَذَا نَفِيس جدا فان الشَّيْء انما يزْدَاد شرفا على قدر خساسة ضِدّه وَصِحَّة على قدر ضعف معارضه وَإِلَيْهِ الاشارة بقول يُوسُف عليه السلام {يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون خير أم الله الْوَاحِد القهار} إِلَى آخر الْآيَات وَيقرب مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} ثمَّ أَن الله تَعَالَى نبه على عَظِيم عناد المكذبين للانبياء بقوله تَعَالَى {فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك وضائق بِهِ صدرك أَن يَقُولُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ كنز أَو جَاءَ مَعَه ملك إِنَّمَا أَنْت نَذِير وَالله على كل شَيْء وَكيل} فَقَوله إِنَّمَا أَنْت نَذِير وَاضح فِي الرَّد عَلَيْهِم بِأَن أصل الْقَصْد فِي النبوات اقامة الْحجَّة على الغافلين عَن الامر الْجَلِيّ بِمُجَرَّد مَا يُنَبه الغافل من النذارة الْقَائِمَة مقَام الْحَاضِر على الْقلب وَذَلِكَ مَا لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل قَاطع على صدق النذير بل يَكْفِي فِي النذير أَن يكون مُمكن الصدْق غير مَقْطُوع بكذبه فِي الأَصْل وَمثله {فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب} وَلذَلِك ذهب إِلَى ذَلِك كثير من الامامية