المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلام على مسألة الارادة وفيها مباحث - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌الكلام على مسألة الارادة وفيها مباحث

‌الْكَلَام على مَسْأَلَة الارادة وفيهَا مبَاحث

الْبَحْث الأول فِي مَعْنَاهَا وَهِي الْأَمر الَّذِي يَقع بِهِ فعل الْفَاعِل الْمُخْتَار على وُجُوه مُخْتَلفَة فِي الْحسن والقبح وعَلى مقادير مُخْتَلفَة فِي الْكَثْرَة والقلة وَسَائِر الهيئات والأشكال من السرعة والبطؤ وموافقة الْغَرَض ومنافرته فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَهَذَا هُوَ الْقدر الْمجمع عَلَيْهِ فِي مَعْنَاهَا وَبَقِيَّة المباحث فِيهَا فِي علم اللَّطِيف وَكلهَا مِمَّا لَا تَكْلِيف فِي الْخَوْض فِيهِ وَلَا حَاجَة اليه بل هُوَ يُؤَدِّي إِلَى محارات أَو محالات

الْبَحْث الثَّانِي فِي معرفَة مَا ورد فِي السّمع مِمَّا يتَعَلَّق بالارادة ويظن فِيهِ أَنه متعارض وَبَيَان أَنه غير متعارض وَأَن اتِّبَاعه أحوط وَهُوَ نَوْعَانِ

النَّوْع الأول وَردت النُّصُوص الْمَعْلُومَة بِالضَّرُورَةِ من كتاب الله تَعَالَى أَنه يكره الْمعاصِي وَلَا يُحِبهَا وَذَلِكَ وَاضح قَالَ تَعَالَى بعد ذكر كثير مِنْهَا {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} وَقَالَ {وَالله لَا يحب الْفساد} وَقَالَ {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَالَ {وَإِن تشكروا يرضه لكم} فَهَذَا النَّوْع من السّمع مَعْلُوم وَقد قَالَ بِهِ أهل الْأَثر وجماهير أهل النّظر واتفقت عَلَيْهِ الأشعرية والمعتزلة

النَّوْع الثَّانِي مَا ورد من التمدح بِكَمَال قدرَة الله تَعَالَى على هِدَايَة العصاة خُصُوصا وعَلى كل شَيْء عُمُوما والتمدح بنفوذ ارادته كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} {وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} {فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} وَمَا شَاءَ الله كَانَ وجودا وعدما وَهُوَ الْمَعْلُوم من الْقُرْآن وَيلْزم مِنْهُ إِن شَاءَ لم يكن وَهُوَ أصح من قَوْلهم وَمَا لم يَشَأْ لم يكن إِلَّا أَن يَصح الحَدِيث الَّذِي فِيهِ وَفِيه أَحَادِيث لم يخرج البُخَارِيّ

ص: 228

وَلَا مُسلم مِنْهَا شَيْئا عَاما وَإِنَّمَا خرجا حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة يَمِين سُلَيْمَان عليه السلام وَهِي خَاصَّة بِتِلْكَ الْوَاقِعَة وَلذَلِك اخْتَرْت فِي الْعبارَة فِي الِاعْتِقَاد مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا شَاءَ لم يكن ومعناهما مَا شَاءَ أَن يكون كَانَ وَمَا شَاءَ أَن لَا يكون لم يكن وَهَذَا مَعْلُوم من السّمع وَفِيه مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل بِالْإِكْرَاهِ دون غَيره كَقَوْلِه تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} وَقَوله تَعَالَى جَوَابا على من قَالَ ارجعنا نعمل صَالحا {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَغَيرهمَا مِمَّا ذكره يطول

وَقد أوضحت الْوَجْه فِي امْتنَاع تأويلهم لهَذِهِ الْآيَات بِمَشِيئَة القسر والالجاء فِي كتاب العواصم وَهُوَ لَا يخفى على النبيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالْعقل يعضد السّمع فِي قدرَة الله تَعَالَى على ذَلِك كَمَا أوضحته هُنَالك وَقد رجعت اليه الْمُعْتَزلَة كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة حَيْثُ نبين أَن الْأمة رجعت إِلَى الاجماع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْعُظْمَى بعد إِيهَام الِاخْتِلَاف الشَّديد وَهُوَ اخْتِيَار الامام الْمُؤَيد بِاللَّه يحيى بن حَمْزَة عليه السلام أَعنِي قدرَة الله على اللطف بالعصاة وَأَنه غير وَاجِب عَلَيْهِ فَتبقى الْآيَات فِي التمدح بذلك على ظَاهرهَا ذكره الامام فِي كتاب التَّمْهِيد فِي أَوَائِل الْبَاب السَّابِع فِي النبوات وَاحْتج عَلَيْهِ وَهُوَ قَول الامام النَّاصِر مُحَمَّد ابْن عَليّ عليهما السلام وَهُوَ قَول قدماء العترة كَمَا ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي ويعتضد بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا قَوْله تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} وَحَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَمذهب الْمُعْتَزلَة مَبْنِيّ على أَن اللطف إِنَّمَا تعذر فِي حَقهم لِأَن الله بناهم بنية لَا تقبل اللطف وَثَانِيهمَا أَن تَجْوِيز خلق الله لَهُم على هَذِه البنية يُنَاقض إيجابهم اللطف بل يجوز فعل الْمَفَاسِد

وَأما قَوْله تَعَالَى {وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَالْجَوَاب عَن الِاحْتِجَاج بهَا على مَذْهَبهم من وُجُوه

ص: 229

الاول أَنَّهَا فِي الْكَافرين الَّذين قد غيروا الْفطْرَة واستحقوا الْعقُوبَة بالخذلان وسلب الالطاف فَهِيَ كَقَوْلِه تَعَالَى {صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ} وَنَحْوهَا وكلامنا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُكَلف فِي أول أَحْوَال تَكْلِيفه وابتلائه وَهَذَا بَين

الثَّانِي أَنَّهَا خبر عَن صفتهمْ الَّتِي هم عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِيهَا نفي قدرَة الله تَعَالَى على تَغْيِير صفتهمْ بالطافه الْخفية وَهُوَ اللَّطِيف لما يَشَاء الْقَائِل {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} الْآيَة المتمدح بِأَنَّهُ لَو شَاءَ لجعل مِنْهُم مَلَائِكَة وَجعل النَّاس أمة وَاحِدَة وَنَحْو ذَلِك وَالْآيَة تَقْتَضِي أَن الله مَا علم فيهم خَبرا لَا أَنه مَا علم أَنه يقدر على هدايتهم وَكم بَين الْأَمريْنِ وَأَيْنَ أَحدهمَا من الآخر

الثَّالِث أَن الْآيَة لَهُم فَيجب حملهَا على مَا يرجع إِلَى كسبهم الِاخْتِيَارِيّ من الاصرار والعناد الَّذِي يسْتَحقُّونَ الذَّم عَلَيْهِ لَا على مَا يرجع إِلَى خلقتهمْ الَّتِي هِيَ فعل الله تَعَالَى يغيرها كَيفَ يَشَاء وَلَا ذمّ عَلَيْهِم فِيهَا جمعا بَينهمَا وَبَين جَمِيع مَا تقدم من نَحْو قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة} وَقَوله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} وَقد مر مُسْتَوفى

الرَّابِع سلمنَا أَن الْآيَة تحْتَمل مَا ظنُّوا وَمَا ذكرنَا يمْتَنع لَكِن مَا ذَكرُوهُ بِسَائِر الْآيَات المبينات لقدرة الله تَعَالَى على كل شَيْء ولكونه مَا يضل إِلَّا الْفَاسِقين ولكونه خلق الْخلق على الْفطْرَة حَتَّى غَيرهم آباؤهم وَلَا يجوز الْعُدُول عَن هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة الْبَيِّنَة بِمُجَرَّد احْتِمَال لَا حجَّة عَلَيْهِ وَالله أعلم

وَهنا ظن بعض الأشعرية أَن الْآيَات الَّتِي فِي نُفُوذ الْمَشِيئَة فِي قُوَّة أَن الله تَعَالَى مُرِيد للموجودات بأسرها سَوَاء كَانَت حَسَنَة أَو قبيحة وَأَنه غير مُرِيد لما لم يُوجد سَوَاء كَانَ حسنا أَو قبيحا وَلَيْسَ هُوَ تَحْقِيق مَذْهَبهم كَمَا أَن عدم قدرَة الرب على اللطف بالعصاة لَيْسَ هُوَ تَحْقِيق مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَإِنَّمَا قَالَ بعض الاشعرية الْمعاصِي مُرَادة مجَازًا لَا حَقِيقَة عِنْدهم يَعْنِي أَن أَسبَابهَا الَّتِي هِيَ أَفعَال الله تَعَالَى مُرَادة لله تَعَالَى مثل الْقُدْرَة والدواعي فتنزلت الْمعاصِي

ص: 230

عِنْدهم منزلَة غَرَض الْغَرَض وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ تَحْقِيق مَذْهَبهم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن كثيرا مِنْهُم لَا يجيزون الاغراض على الله تَعَالَى كَمَا ذكر فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة وَثَانِيهمَا أَن غَرَض الْغَرَض لَا يكون إِلَّا خيرا مَحْضا كالحياة فِي الْقصاص والعافية فِي الفصاد والقبائح أَو وُقُوعهَا لَا يَصح أَن يكون غَرَض الْغَرَض لحكيم قطّ كَيفَ أحكم الْحَاكِمين فلابد أَن يكون غَرَض الْغَرَض فِي عدم اللطف الزَّائِد بالعصاة هُوَ خير مَحْض وَهُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه الَّذِي لَا يُعلمهُ على التَّفْصِيل إِلَّا الله على الصَّحِيح كَمَا تقدم فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر

وَمِثَال الْغَرَض الأول قَول الْخضر عليه السلام فَأَرَدْت أَن أعيبها وغرض الْغَرَض هُوَ سلامتها لأَهْلهَا من أَخذ الْملك لَهَا وَمن أدب الْخضر عَلَيْهِ أفضل السَّلَام إِضَافَة هَذَا الْغَرَض لنَفسِهِ دون الله سبحانه وتعالى

وَمِثَال غَرَض الْغَرَض هُوَ مَا أَضَافَهُ الْخضر إِلَى ربه تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {فَأَرَادَ رَبك أَن يبلغَا أشدهما ويستخرجا كنزهما} ومثاله أَيْضا مَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي أَيُّوب وَأبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون فيستغفرون فَيغْفر لَهُم وَله شَوَاهِد عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فَلم يَجْعَل الذُّنُوب القبيحة غَرَض الْغَرَض بل جعله مغفرتها بالاستغفار وَمن لَا يغْفر لَهُ فقد دلّ الْقُرْآن على أَن غَرَض الْغَرَض فِي عَذَابه الانتصاف للْمُؤْمِنين من أعدائهم الْكَافرين وَنَحْو ذَلِك من الْمصَالح والعواقب الحميدة كَمَا يَأْتِي بَيَانه وَالْمرَاد الْمُحَقق هُوَ غَرَض الْغَرَض وَهُوَ الثَّانِي فِي الْوُقُوع وَالْأول فِي الارادة أَلا ترى أَن أول مَا وَقع فِي همة الْخضر عليه السلام سَلامَة السَّفِينَة ثمَّ عابها لتسلم فَالْمُرَاد الْمُحَقق هُوَ سلامتها لَا عيبها فَاعْتبر ذَلِك فِي جَمِيع الْمُتَشَابه من هَذَا الْجِنْس تَجدهُ بَينا وَاضحا وَللَّه الْحَمد

فَهَذَا كُله إِذا ثَبت أَن شَيْئا من الشَّرّ مُرَاد فانه لَا يجوز أَن يكون الشَّرّ مُرَاد الْحَكِيم لكَونه شرا فَقَط وَأما الْخَيْر فيراد لنَفسِهِ لَا لشَيْء آخر فَلَا يلْزم فِيهِ غَرَض الْغَرَض وَإِن جَازَ من غير لُزُوم لزِيَادَة الْخَيْر مثل أَن يُرَاد

ص: 231

خير لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اضعافه من الْخيرَات وَلَو أُرِيد لنَفسِهِ كَانَ صَحِيحا

فاذا تقرر هَذَا فَاعْلَم أَن تِلْكَ الْآيَات فِي قُوَّة التمدح بِكَمَال الْقُدْرَة لَا بارادة القبائح ومرادنا بِالْقُوَّةِ هُنَا هُوَ مَا سيقت لافادته وَهُوَ الْمَعْنى اللّغَوِيّ الَّذِي يُسَمِّيه أهل الْمعَانِي دلَالَة الْمُطَابقَة فقد وهم من ظن أَنَّهَا فِي قُوَّة أَن القبائح مُرَادة لله تَعَالَى وأفحش مِنْهُ غَلطا من ظن أَنَّهَا مُرَادة لله تَعَالَى وَأَن المرادة فِي قُوَّة المحبوب فاطلق القَوْل بِأَن الْمعاصِي محبوبة لله تَعَالَى

فَأَما أهل الْآثَار فَلَا يَقُول بِهَذَا مِنْهُم أحد لِأَن الْمحبَّة عِنْدهم غير الارادة حَقِيقَة وَلَا يُطلق أَحدهمَا حَيْثُ يُطلق الآخر إِلَّا بِدَلِيل خَاص

وَأما بعض الأشعرية فقد أجَاز ذَلِك بِنَاء على أَنه مجَاز لِأَن الْمحبَّة عِنْدهم لَا تجوز على الله تَعَالَى إِلَّا مجَازًا كَمَا تَقوله الْمُعْتَزلَة وَهَذَا وَإِن كَانَ أَهْون فِي الْقبْح إِلَّا أَنه خطأ وقبيح لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن شَرط الْمجَاز هُنَا مَفْقُود وَهُوَ العلاقة المسوغة الْمُقْتَضِيَة للتشابه وَلَوْلَا ذَلِك لصَحَّ تَسْمِيَة الْبَخِيل غيثا وبحرا كالجواد والجبان أسدا كالشجاع يُوضحهُ أَن الْمعاصِي مسخوطة من حَيْثُ كَانَت معاصي بالاجماع وَأَهْلهَا إِنَّمَا يغْضب الله عَلَيْهِم من هَذِه الْجِهَة المسخوطة فَلَا يَصح أَن تكون الْمعاصِي مرضية محبوبة مجَازًا من هَذِه الْجِهَة بِعَينهَا قطعا باجماع من يعرف الْمجَاز وشروطه المخرجة لَهُ عَن الْكَذِب والمناقضة وتجويز ذَلِك خُرُوج عَن قانون اللُّغَة وتجويزه يُؤَدِّي إِلَى تَجْوِيز مجازات الْمَلَاحِدَة

وَقد أَخطَأ من روى عَنْهُم ذَلِك على الاطلاق وَلم يُقَيِّدهُ بانه مجَاز عِنْدهم وَمن أَخطَأ فِي رِوَايَة ذَلِك مِنْهُم افحش غَلطا فِي الْخَطَأ والغلط مِمَّن رَوَاهُ من خصومهم وَهَذَا مَعَ دقته قد وَقع فِيهِ بعض الْمُعْتَزلَة بل علامتهم فِي علم البلاغة والادب الزَّمَخْشَرِيّ وَلذَلِك زعم فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا} أَي أمرناهم بِالْفِسْقِ مجَازًا فالامر بِالْفِسْقِ مجَازًا أبعد من الرِّضَا بِهِ مجَازًا وَغلط الزَّمَخْشَرِيّ فِيهِ بَينته فِي العواصم وَالْمُخْتَار فِيهِ أمرناهم بالتكليف على السّنة الرُّسُل كَقَوْلِه

ص: 232

تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَثَانِيهمَا ان قوما من الجهلة الاتحادية قد ظنُّوا قَول بعض الاشعرية ان الْمعاصِي مُرَادة وَالْمرَاد فِي قُوَّة المحبوب فَهِيَ محبوبة مرضية على الْحَقِيقَة فزادوا على هَذَا انه يَسْتَحِيل فِي المُرَاد المحبوب ان يكون مَعْصِيّة لمن أَرَادَهُ وأحبه فزعموا انه لَا يَصح وجود مَعْصِيّة لله وان معنى {سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم} أَي الى الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش لَان الْمَغْفِرَة لَا تتمّ إِلَّا بذلك وَكَانَ بَعضهم يَقُول كفرت بِرَبّ يعْصى وَأنْشد بَعضهم فِي ذَلِك

(أَصبَحت منفعلا لما تختاره

مني ففعلي كُله طاعات)

وَهَذَا إلحاد فِي الدّين صَرِيح وانما وَقع فِيهِ أَهله من ترك عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وتبديلها بِمَا ظنوه مثلهَا وَلَيْسَ مثلهَا

والسر فِي ذَلِك أَن المُرَاد الْمُطلق هُوَ المُرَاد لنَفسِهِ من جَمِيع الْوُجُوه الَّذِي لَا يكره من وَجه قطّ والمعاصي لَيست من هَذَا بالاجماع فان كَرَاهَة الْمُكَلّفين لَهَا وَاجِبَة وفَاقا مَعَ وجوب الرضى عَلَيْهِم بِقَضَاء الله تَعَالَى ولان الله تَعَالَى يكره الْمعاصِي بِالنَّصِّ فَلم تكن الْمعاصِي من هَذَا الْجِنْس من المرادات وَلَكِن الَّذين قَالُوا انها مُرَادة وَالْمرَاد بهَا غَيره عنوا نوعا آخر من المرادات الَّتِي يُرَاد لغيره وَيكرهُ لنَفسِهِ فَهُوَ مَكْرُوه حَقِيقَة وَالْمرَاد بِهِ غير كاليمين الْغمُوس كَمَا يَأْتِي وَلما لم يوضحوا ذَلِك دَائِما ويكثروا من ذكره وَبَيَانه أوهموا عَلَيْهِ الْخَطَأ وَلذَلِك لم يرد السّمع بذلك أَلا نصا وَلَا نَص عَلَيْهِ السّلف الصَّالح أَلا ترى ان إِرَادَة الْقَبِيح لَيست صفة مدح بالاجماع بِخِلَاف مَا ورد السّمع بِهِ من نُفُوذ الْمَشِيئَة فِي كل شَيْء

وَقد نَص أَئِمَّة الاشعرية أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف بِصفة نقص وَلَا بِصفة لَا مدح فِيهَا وَلَا نقص فارادة الْقَبِيح لغير وَجه حسن ان لم تكن نقصا كَانَت مِمَّا لَا مدح فِيهِ قطعا فَيجب ان لَا يُوصف بهَا الرب عز وجل على قَوَاعِد الْجَمِيع

ص: 233

وَقد بنيت هَذَا الْكتاب على الْمَنْع من ذَلِك لَان عبارَة الْكتاب وَالسّنة ان كَانَت وَاضِحَة فَهِيَ أَحَق أَن يعبر بهَا وَأولى وَلَا حَاجَة الى تَركهَا وتبديلها بِعِبَارَة وَاضِحَة مثلهَا وان كَانَت خُفْيَة لم تبدل أَيْضا بِعِبَارَة وَاضِحَة لانه لَا يُؤمن الْغَلَط فِي تبديلها الا ترى أَن بعض الاشعرية لما بدل وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ بَان الْمعاصِي مُرَادة بدل بَعضهم المُرَاد بالمرضى المحبوب مجَازًا ثمَّ جَاءَ من بدل المرضي المحبوب مجَازًا بالمرضي المحبوب حَقِيقَة ثمَّ بِالطَّاعَةِ الْمَأْمُور بهَا فَحرم التبديل هُنَا كَمَا تحرم الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى الْجَلِيّ حَيْثُ يكون الْمَعْنى خفِيا بالاجماع بل هُنَا أولى لانه من مهمات الاسلام وَذَلِكَ فِي فروعه وَأَيْضًا فان الرضاء بِمُرَاد الله وَاجِب كالرضاء بِفِعْلِهِ ولان كَرَاهَة مَا أَرَادَ مضادة لَهُ تَعَالَى ومعارضة وَذَلِكَ خلاف مُقْتَضى الْعُبُودِيَّة والرضاء بِالْمَعَاصِي حرَام بالاجماع الْقَاطِع من الْجَمِيع والنصوص الجمة فَيلْزم من ذَلِك ان لَا تكون الْمعاصِي مُرَادة لله تَعَالَى وَهَذَا معيار صدق وميزان حق فِي مضايق هَذِه الْمسَائِل كَمَا يَأْتِي بَيَانه فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال ان شَاءَ الله تَعَالَى

الْبَحْث الثَّالِث فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين السّمع الْوَارِد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَنْوَاع فنوعان تقدما وهما مَا يدل على كَرَاهِيَة الله تَعَالَى للقبائح ومحبته لِلْخَيْرَاتِ وَمَا يدل على قدرته على هِدَايَة العصاة ونوعان نذكرهما هُنَا وهما عَام وخاص

أما الْعَام فَهُوَ أَن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ مَعْلُوم كثير وَهُوَ بِمَنْزِلَة يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء فِي انهما مجملان قد علم فِي الْقُرْآن بيانهما بالنصوص الْكَثِيرَة الْبَيِّنَة الْوَاضِحَة فَللَّه الْحَمد وَمن عجائب أهل التَّأْوِيل تكلّف وَجه يحسن ذَلِك من ابائهم وَترك الْوَجْه الْمَنْصُوص وَهُوَ الْعقُوبَة كَمَا نذكرهُ الْآن وتبديل لَفْظَة بِلَفْظَة وهما على سَوَاء فِي الْمَعْنى كتأويل الاضلال بالخذلان لم يبعد ان يبدلوه بِلَفْظ آخر وَلَا أصح من لفظ الْقُرْآن وَلَا أبرك وَلَا أطيب

وَأما الْخَاص فَمثل قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} وَمِنْه {كَذَلِك حقت كلمة رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ}

ص: 234

) وَقَوله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَقَوله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} وَقَوله تَعَالَى {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وَقَوله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وَقد خلقُوا على الْفطْرَة بِدَلِيل الْكتاب وَالسّنة وَفِي الرَّعْد نَحْوهَا وَأَيْضًا فالهدى أعظم النعم وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} مَعَ قَوْله {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} وَقَوله {إِن علينا للهدى} وَقَوله {ثمَّ السَّبِيل يسره} وَقَوله {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَوله {وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر} فالهداية أعظم النعم وَأول الْحجَج على العَبْد وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} وَقَوله تَعَالَى {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} وَقَوله {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} مَعَ حَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَهُوَ مُتَّفق على صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَمَعَهُ حَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد الْمُجَاشِعِي أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خطبَته أَلا ان رَبِّي عز وجل أَمرنِي عَلَيْكُم أَن أعلمكُم مَا جهلتم مِمَّا عَلمنِي الى قَوْله حاكيا عَن الله تَعَالَى وانى خلقت عبَادي حنفَاء كلهم وانهم أَتَتْهُم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم

ص: 235

وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا الحَدِيث رَوَاهُ م وس من حَدِيث جمَاعَة عَن قَتَادَة عَن مطرف بن عبد الله الشخير عَنهُ وَمرَّة عَن جمَاعَة ذكر مِنْهُم ثقتين عَن مطرف عَنهُ قَوْله تَعَالَى {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} وَقَوله تَعَالَى {وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} وَقَوله {إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون} وَقَوله {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل كَذَلِك نطبع على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ} وَقَوله {وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} وفيهَا رد قَوْلهم انها غلف فِي أصل الْخلقَة حَتَّى عوقبوا على الْكفْر واستحقوا الْعقُوبَة وَقَوله {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة} وَمَا أحسن هَذِه الْعبارَة وأبلغها مَعَ تقدم التَّمْكِين واقامة الْحجَّة وَقطع الْأَعْذَار وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا قد فصلنا الْآيَات لقوم يذكرُونَ} وَقَوله {فريقا هدى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} وَمِنْه {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} وَمِنْه {قل إِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب} وَمِنْه {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين} وَقَوله بعْدهَا {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} دَلِيل على ان الْمُبين لَا يُنَاقض الْمُجْمل وَهِي

ص: 236

كآية الْحَج بعد السَّجْدَة لَا تقتضى خلاف مَا قبلهَا قَالَ الْبَغَوِيّ مَا يَشَاء من التَّوْفِيق والخذلان والتثبيت وَعَدَمه

وَالْوَجْه فِيهِ عِنْدِي أَن يُفَسر اجماله بِالْآيَاتِ الْبَينَات فِي الْقُرْآن مثل {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ} وَمثل {ثمَّ يَتُوب الله من بعد ذَلِك على من يَشَاء} بعد ذكر الْكَافرين

وَمِنْه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو والمعني انه لما قَالَ ويضل الله الظَّالِمين اسْتثْنى من ذَلِك من يَشَاء أَن يَتُوب عَلَيْهِ وَهَذَا من تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي يُنَاسب جلال عدله وجمال فَضله وَحسن أَسْمَائِهِ وَلَيْسَ لأحد أَن يفسره بِمَا لم يشْهد لَهُ كتاب الله بل بِمَا صرح بتنزيهه عَنهُ من نفي الْحِكْمَة فِي أَفعاله وَمَا سمى لعبا وعبثا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وأمثال ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَبِذَلِك جَاءَت السّنة كَمَا احْتج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْقدر بِالْآيَةِ فِي سُورَة اللَّيْل الْمُقدمَة وَهِي مصرحة بِتَأْخِير التَّيْسِير لليسرى عَن الْعِصْيَان حَتَّى وَقع التَّيْسِير بعد الْعِصْيَان عُقُوبَة عَلَيْهِ وكما قَالَ فِي حَدِيث الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وكل ذَلِك فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَعند مُسلم من حَدِيث عِيَاض الْمُجَاشِعِي يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء فَجَاءَت الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ الحَدِيث كَمَا مضى وَعِنْده أَيْضا حَدِيث أبي ذَر فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَعند مُسلم أَيْضا من حَدِيث عَليّ عليه السلام الْخَيْر بيديك وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك وَسَنَده على شَرط الْجَمَاعَة وَله شَاهد آخر أخرجه الْحَاكِم أَحْسبهُ من حَدِيث أبي بكر رضي الله عنه وَمعنى ذَلِك لَيْسَ اليك الذَّم عَلَيْهِ واللوم فِيهِ كَقَوْلِه وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه فان الله مكن بِالْقُدْرَةِ وَبَين بِالْعقلِ وَالرسل وأزاح الْعِلَل وَقطع الاعذار

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله تَعَالَى من أجل ذَلِك أنزل الْكتب وَأرْسل الرُّسُل وَهَذَا كُله متطابق تطابقا يُفِيد الْعلم على أَن الله

ص: 237

تَعَالَى لَا يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا وانه عدل حَكِيم فِيمَا أَمر وَنهى وَمَا علمنَا وَمَا جهلنا كَمَا مضى فِي مَسْأَلَة حَكِيم فَيجب أَن يبْنى الْعَام على الْخَاص فِي هَذِه الْآيَات كَمَا يَبْنِي فِي آيَات الْوَعْد والوعيد أَلا ترى أَنه قَالَ فِيهَا {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} ثمَّ فسر من يعذبه بالمشركين وَنَحْوهم وَمن يغْفر لَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فَلم يجز بعد تَفْسِيره أَن تخلى الْمَشِيئَة مُطلقَة حَتَّى تخَاف الْعَذَاب على الانبياء وَنَرْجُو الرضْوَان لمن مَاتَ مُشْركًا وَكَذَلِكَ فِي آيَات الضلال وَالْهدى الْخَاص الزَّائِد على الْفطْرَة لما بَينهَا الله تَعَالَى وَبَين أَن هَذَا الْهدى الْخَاص مثل الثَّوَاب يخْتَص أهل الْخَيْر بالوعد الْحق وَمن شَاءَ الله من غَيرهم بمحض الرَّحْمَة وَالْفضل وان الضلال يخْتَص بِمن يسْتَحقّهُ من الأشرار وَجب أَن يحكم بِأَن الله تَعَالَى لَا يضل المهتدين وَلَا يضل أحدا إِلَّا الْفَاسِقين كَمَا دلّ عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْمُبين وَالْعَمَل على هَذَا من قَوَاعِد عُلَمَاء الاسلام الْمَعْلُومَة

وَأما كَرَاهَة القبائح فعلى ظَاهرهَا وَأما ارادتها ومحبتها فَلم يرد بِهِ سمع مَنْصُوص جلي وَلَا قُرْآن وَلَا سنة وَلَا متواتر وَلَا آحَاد فَلَا تعَارض هُنَا أَلْبَتَّة بل جَاءَ فِي كتاب الله تَعَالَى أَن الله لَا يُرِيد ظلما للعباد وَفِي آيَة أُخْرَى للْعَالمين وَإِن كَانَ أظهر التفسيرين أَن الْمَعْنى لَا يُرِيد سُبْحَانَهُ ظلما مِنْهُ لَهُم تَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَذَلِكَ مثل تمدحه جل جلاله بِأَنَّهُ لَيْسَ بظلام للعبيد وَقد أوضحت وَجهه فِي العواصم فِي الْبَحْث الْعَاشِر من هَذِه الْمَسْأَلَة لكنه يُقَال أَنه تَعَالَى إِنَّمَا نفي أَرَادَتْهُ ظلم الْعباد لفبح الظُّلم وقبح ارادته لَا لكَونه محالا فِي قدرته لِأَنَّهُ لَا معنى للتمدح بترك الْمحَال فِي الْقُدْرَة لَان الْمحَال لَا تنبغي ارادته وَصِحَّته وَبِكُل حَال فقواعد أهل السّنة تَقْتَضِي الايمان بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَقَول من يَقُول أَن الله يُرِيد الظُّلم الْوَاقِع وَسَائِر القبائح يُخَالف مفهومهما فَيتَعَيَّن تَركه احْتِيَاطًا ومحاذرة من مُخَالفَة مَفْهُوم كتاب الله تَعَالَى الَّذِي لم يعارضة مَنْطُوق صَرِيح فِي العقائد الَّتِي لَا ضَرُورَة بِنَا إِلَى النَّص فِيهَا على مَا لم ينصه الله تَعَالَى وَرَسُوله وَسَيَأْتِي أَن من ادّعى أَن الْمعاصِي مُرَاده إِنَّمَا أطلق ذَلِك مجَازًا على مَا سَيَأْتِي من نُصُوص الأشعرية عَلَيْهِ

وَالْحَاصِل فِي الْجمع وُجُوه الْوَجْه الاول دَعْوَى عدم التَّعَارُض الْمُوجب للْجمع على وَجه دَقِيق وَإِنَّمَا هُوَ من قبيل الْعَام وَالْخَاص وَهُوَ جلي لَا يُسمى متشابها لوضوحه

ص: 238

الْوَجْه الثَّانِي التَّعْبِير بِعِبَارَة الْكتاب وَالسّنة عُمُوما وخصوصا وَترك الابتداع بِالنَّصِّ فِي مَوضِع الْعُمُوم مِثَاله تَقول أَن الله تَعَالَى خلق كل شَيْء على الْعُمُوم وتترك مَا اخْتلف فِيهِ من خلق الْقُرْآن وَخلق أَفعَال الْعباد لِأَن الله تَعَالَى لم ينص عَلَيْهِمَا وَقد قَالَ بِكُل مِنْهُمَا طَائِفَة وتمسكوا بِالْعُمُومِ والانصاف إِن تمْتَنع من مساعدة كل من الطَّائِفَتَيْنِ على مَا ابتدع النَّص عَلَيْهِ فان النَّص على جزيئات الْعَام إِنَّمَا يحْتَاج اليه فِي العمليات لضَرُورَة الْعلم وَأما هُنَا فقد نَص عُلَمَاء الْمعَانِي واللغة على أَن دلَالَة الْمُطَابقَة اللُّغَوِيَّة فِي الْعُمُوم لَا تدل على أَبْعَاضه وجزئياته كَمَا تدل على جملَته وَأَن فهم تِلْكَ الأبعاض الْجُزْئِيَّة هُوَ من دلَالَة التضمن وَأَنَّهَا عقلية لَا لغوية

فَالْوَاجِب فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد الَّتِي يَقع فِيهَا الِاخْتِلَاف وَتجوز المخصصات الْمَانِعَة لبَعض الْأَجْزَاء من الدُّخُول فِي الْعُمُوم الِاقْتِصَار على دلَالَة الْمُطَابقَة اللُّغَوِيَّة الْعَرَبيَّة الَّتِي قَصدهَا الْمُتَكَلّم قطعا وَكم للنَّاس فِي هَذَا من الأوهام أَلا ترى أَن كثيرا من النَّاس يتَوَهَّم أَن آيَات الْمَشِيئَة تدل على مَذْهَب الجبرية مَا لم تصرف بالتأويل عَن ظَاهرهَا مثل {فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَلَيْسَ كَذَلِك وَكَذَلِكَ قَوْلنَا مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن

بَيَان أَن ذَلِك لَا يلْزم إِلَّا لَو تبين بِدَلِيل آخر أَن الله شَاءَ أَن يكون الْعباد مجبورين على أفعالهم لكنه قد ثَبت أَنه شَاءَ أَن يَكُونُوا مختارين فبهما بمشيئتهم لَهَا لقَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَلم يقل وَمَا تشاؤون من غير اسْتثِْنَاء كَمَا قَالَت الجبرية فقد كَانَ الِاخْتِيَار الَّذِي شَاءَ الله أَن يكون الْعباد عَلَيْهِ لَكِن بعد مَشِيئَة الله تَعَالَى لذَلِك وَلم يكن الْجَبْر الَّذِي لم يَشَأْ الله تَعَالَى فَتَأمل غلطهم فِي ذَلِك بل قد وهم نوح عليه السلام بِسَبَب عدم النّظر إِلَى احْتِمَال الْعُمُوم للتخصيص حَيْثُ قَالَ {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} فَكيف بِغَيْرِهِ وَقد نقم الله تَعَالَى على الْمُشْركين جدالهم لعيسى عليه السلام حِين نزل {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} وَقَالَ {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون}

ص: 239

) فليتق طَالب الْحق أَمْثَال ذَلِك وَليكن مِنْهُ على أَشد حذر

وَلذَلِك تَجِد هَذَا الْجِنْس متمسك أَكثر أهل الضلالات وَلَا تَجِد صَاحب بَاطِل وَلَا تَجِد فِي العمومات مَا يساعده حَتَّى منكري الضرورات كغلاة الاتحادية فانهم قد تمسكوا بِتَصْدِيق النَّبِي صلى الله عليه وسلم لقَوْله لبيد

(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل

وكل نعيم لَا محَالة زائل)

وَقد اخْتَار هَذَا صَاحب الْفِقْه الْأَكْبَر وَنسبه إِلَى الشَّافِعِي وَهُوَ على مَذْهَب الأشعرية وَعقد لَهُ فصلا قَالَ فِيهِ لَا يُقَال أَن الله تَعَالَى يُرِيد الْكفْر وَسَائِر الْمعاصِي على الاطلاق لِأَنَّهُ يُوهم الْخَطَأ لَكِن نقُول أَن جَمِيع مَا يجْرِي فِي سُلْطَانه بارادته إِلَى قَوْله وَيجب الِاحْتِرَاز عَمَّا يُوهم الْخَطَأ كَمَا يجب عَن الْخَطَأ نَفسه وَمَا أحسن هَذَا لَو لزم عبارَة الْكتاب وَالسّنة فَقَالَ {وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} مَكَان قَوْله جَمِيع مَا يجْرِي فِي سُلْطَانه بارادته لِأَن كَلَام الله تَعَالَى يسْتَلْزم كَمَال الْعِزَّة وَالْقُدْرَة وَكَلَامه يسْتَلْزم ارادة الْكفْر وَذَلِكَ عين مَا فر مِنْهُ وَهُوَ يسْتَلْزم حب الْكفْر وَالرِّضَا بِهِ أَو يُوهِمهُ وَذَلِكَ يسْتَلْزم الامر بِهِ وإباحته أَو يُوهِمهُ كَمَا مر تَحْقِيقه فِي الْبَحْث الثَّانِي فَرَاجعه مِنْهُ وَقد صرح بِوُجُوب الاجتناب لما يُوهم الْخَطَأ كوجوب الاجتناب للخطأ نَفسه وَلَا شكّ أَن عِبَارَته توهم الَّذِي خافه وفر مِنْهُ بل يستلزمه تحقيقها وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مبتدعة فَلَزِمَ مَا ذَكرْنَاهُ من ترك الْبدع أَلا ترى كَيفَ ورد النَّص والاجماع بِأَنَّهُ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَلم يرد أَنه لَا كفر وَلَا مَعْصِيّة إِلَّا بِاللَّه فَبين الْعبارَات أبعد مِمَّا بَين الارضين وَالسَّمَوَات وَحَدِيث مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن مَحْمُول على مَا تمكن مَشِيئَته لَهُ وَلَا تمْتَنع وَلَفظه يُعْطي ذَلِك

وَإِنَّمَا أَحْبَبْت أَن أنبه عَلَيْهِ وعَلى أَنه إِجْمَاع فِي صُورَتَيْنِ احداهما أَنه لَا يدْخل فِي ذَلِك الْمحَال فِي نَفسه كوجود ثَان فِي الربوبية وَجعل أَنه لَا يدْخل فِي ذَلِك الْمحَال الْحَوَادِث بعد حدوثها قديمَة وَنَحْو ذَلِك وَثَانِيهمَا

ص: 240

أَنه لَا يدْخل فِيهِ مَا تمنع مِنْهُ الْحِكْمَة من قلب صدق الاقوال الربانية إِلَى الْكَذِب وبعثة الرُّسُل كَذَا بَين على مَا مر محققا فِي إِثْبَات الْحِكْمَة وان الامة أَجمعت على امْتنَاع النَّقْص فِي كَلَام الله تَعَالَى وَامْتِنَاع ارادته وَأَن ذَلِك يسْتَلْزم امْتنَاع النَّقْص فِي أَفعاله كامتناعه فِي أَقْوَاله

ويوضحه اجْتِمَاع الْكَلِمَة من الأشعرية والمعتزلة على أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف إِلَّا بِمَا يسْتَلْزم الْمَدْح دون مَا يسْتَلْزم الذَّم أَو مَا لَا يسْتَلْزم لَا مدحا وَلَا ذما أما الأشعرية فنصوا على ذَلِك وَأما الْمُعْتَزلَة فنصوا على امْتنَاع الْعَبَث واللعب على الله تَعَالَى وعَلى اعْتِبَار التحسين الْعقلِيّ وهما يستلزمان ذَلِك وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

الْوَجْه الثَّالِث من وُجُوه الْجمع تَوْجِيه الْجمع إِلَى الْوُقُوع وَالْوَاقِع وَهُوَ مثل الْفرق بَين الْوُقُوع وَالْوَاقِع وَهُوَ مثل الْفرق بَين التِّلَاوَة والمتلو والحكاية والمحكي كَمَا أوضحت بَيَانه فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن وَهُوَ قَول الامام الْمَنْصُور بِاللَّه عليه السلام وَبَين ذَلِك الْفرق بَين الْوُقُوع وَالْوَاقِع أَنه لما ورد الشَّرْع بِجَوَاز ارادة الْيَمين الْغمُوس الْفَاجِرَة من جَاحد الْحُقُوق الْوَاجِبَة عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال والدماء والقسامة وَاللّعان وَنَحْو ذَلِك فانه يجوز لصَاحب الْحق ارادة هَذِه الْيَمين من حَيْثُ أَنَّهَا حق لَهُ وَاجِب وان كَانَ يعلم أَنَّهَا يَمِين فاجرة مَعْصِيّة لله تَعَالَى وَمَعَ ذَلِك فَلَا يجوز لَهُ أَن يُحِبهَا ويرضاها من حَيْثُ أَنَّهَا قبيحة مَعْصِيّة لله تَعَالَى

فَتبين أَن هَذِه الْيَمين ذَات وَجْهَيْن وَجه جَازَت مِنْهُ ارادتها وَوجه وَجَبت مِنْهُ كراهتها فَالْوَجْه الَّذِي جَازَت مِنْهُ ارادتها وُقُوعهَا من خَصمه الظَّالِم من حَيْثُ هِيَ حق لَهُ على من ظلمه على جِهَة الْعقُوبَة للظالم وَالْوَجْه الَّذِي وَجَبت مِنْهُ كراهتها هُوَ ذَاتهَا الْوَاقِعَة مَعْصِيّة لله تَعَالَى فافترقت الجهتان اللَّتَان يتَوَهَّم عدم افتراقهما بذلك فَمَتَى وَردت النُّصُوص مُخْتَلفَة فِي نَحْو ذَلِك أمكن حملهَا على مثل ذَلِك

مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي الْمُسْتَحقّين للعقوبة دون غَيرهم {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 241

فِي المرحومين من الْعباد لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَجَاء بِقوم يذنبون كي يغْفر لَهُم رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي أَيُّوب وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحوه بِزِيَادَة وَهِي كي يَسْتَغْفِرُوا فَيغْفر لَهُم وَله شَوَاهِد عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة ذكرتها فِي العواصم

وَهَذَا الْقسم أوضح الْقسمَيْنِ فِي الْحِكْمَة أَعنِي قسم المرحومين من الْخلق فَهَذِهِ الْآيَة الْمُتَقَدّمَة ظَاهرهَا ارادة وُقُوع الضلال مِنْهُ مَعَ أَنه عبارَة عَن الْمعاصِي الْمَكْرُوهَة بِنَصّ قَوْله تَعَالَى {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} فَجعلُوا معاصي المعاقبين ذَات وَجْهَيْن كاليمين الْغمُوس الْوَاجِبَة فِي الْحُقُوق وَهِي حرَام ووجوبها وتحريمها مجمع عَلَيْهِمَا وَذَلِكَ يُوجب صِحَة اعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ فِي هَذِه الْأُمُور لِأَن الْوُجُوب والقبح ضدان يَسْتَحِيل أَن يتوهما إِلَى جِهَة وَاحِدَة

وَالْجَوَاب أَن الْآيَة غير نَص فِيمَا قَالُوا لاحْتِمَال أَن المُرَاد هُوَ جعل صَدره ضيقا حرجا وَذَلِكَ هُوَ فعل الله تَعَالَى وَهُوَ حسن لَا قبح فِيهِ لِأَنَّهُ عُقُوبَة مُسْتَحقَّة بل ذَلِك بَين فان الاضلال غير الْمعاصِي بل سَبَب لَهَا وفاعله غير فاعلها لَكِن ظنُّوا أَنَّهَا غَرَض الْغَرَض وَقد مر بُطْلَانه فِي الْبَحْث الثَّانِي وَسَيَأْتِي أَن مَذْهَب أهل السّنة أَن الارادة لَا تعلق بِفعل الْغَيْر وَإِنَّمَا تتَعَلَّق بِهِ الْمحبَّة وَتسَمى ارادة مجَازًا وَقد بنيت هَذَا الْكتاب على أَنا لَا نبدل الظَّوَاهِر بالنصوص أَلا ترى أَن اضلاله الَّذِي نَص على ارادته لَا يجوز أَن يُفَسر إِلَّا بِفعل أَشْيَاء من أَفعَال الله الْحَسَنَة يَقع عِنْدهَا مِنْهُم معاص قبيحة كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي بسط الرزق فِي آيَات كَثِيرَة وَكَذَلِكَ الحَدِيث النَّبَوِيّ لَيْسَ بِنَصّ فِيمَا ذَكرُوهُ لجَوَاز أَن المُرَاد مثل ذَلِك من أَفعَال الله الْحَسَنَة الَّتِي تكون وَسِيلَة إِلَى أفضل أَخْلَاق الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَهُوَ الْعَفو بعد الاساءة والاحسان إِلَى الْمُسِيء كَمَا أوضحته واستوعبت مَا ذكر فِيهِ فِي العواصم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَمن ذَلِك ارادة خلق الْكفَّار وبقاؤهم مَعَ كَرَاهَته لَهُم فانهما لم يتناقضا لاخْتِلَاف الْجِهَات الَّتِي تعلّقت بهَا وَمن ذَلِك أَنه حسن من المذنب

ص: 242

الْمُسلم أَن يكره عَذَاب الله تَعَالَى لَهُ مَعَ أَنه يعْتَقد حسنه من الله تَعَالَى وَعدل الله فِيهِ لكنه لم يكرههُ من هَذِه الْجِهَة إِنَّمَا كرهه من حَيْثُ أَنه لَا يصبر عَلَيْهِ وَلَا يقوى لَهُ وَنَحْو ذَلِك فَوجه بعض أهل النّظر كَرَاهَة الله تَعَالَى للمعاصي والقبائح إِلَى ذواتها الْوَاقِعَة من العصاة وارادتها إِن قَدرنَا وُرُود شَيْء من السّمع بهَا إِلَى الْوُقُوع لحكمة من عُقُوبَة وَسخط على من اسْتحق ذَلِك أَو غير ذَلِك وَهَذَا جيد فِي النّظر لَوْلَا أَنا لم نضطر اليه لعدم صِحَة وُرُود السّمع بارادة الْمعاصِي وَلَا شَيْء مِنْهَا وان ظن ذَلِك من لم يكثر النّظر والتأويل التَّام لمعاني الْآيَات القرآنية وَالله الْهَادِي

وَأقرب الْآيَات مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا أَنما نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} وَقَول مُوسَى عليه السلام {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} وَمن الحَدِيث حَدِيث جِبْرِيل عليه السلام حَيْثُ رُوِيَ أَنه جعل يَأْخُذ من حَال الْبَحْر فيدخله فِي فَم فِرْعَوْن خشيَة أَن يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله فَتُدْرِكهُ الرَّحْمَة وَإِذا صَحَّ وُرُود السّمع بِهَذَا فالدليل على من ادّعى قبحه لِأَن قبحه لَيْسَ بضروري بالاجماع

وتلخص أَن حسن ذَلِك أَن ورد بِهِ النَّص مَشْرُوط بِثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا أَن يتَعَلَّق بالوقوع دون الْوَاقِع مثل مَا ذكرنَا فِي الْيَمين الْغمُوس وَثَانِيها أَن يكون بعد اسْتِحْقَاق الْعقُوبَة لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَنَحْوهَا مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَثَالِثهَا أَن لَا يَجْعَل ذَلِك غَرَض الْغَرَض الَّذِي هُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه وَإِن لَاحَ لنا مِنْهُ شَيْء لم نقصر عَلَيْهِ التَّأْوِيل الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ المُرَاد على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا أَرَادَ الله تَعَالَى بِمَا قبله أَن يكون سَببا لَهُ لحكمة الله تَعَالَى فِي تَرْتِيب المسببات على أَسبَابهَا فَتَأمل ذَلِك حَتَّى تخلص بِهِ من ارادة القبائح وارادة وُقُوعهَا جَمِيعًا كَمَا تقدم فِي قَول الْخضر فَأَرَدْت أَن أعيبها أَي أجعَل عيبها سَبَب سلامتها من الْملك الظَّالِم وَإِلَّا فَالْمُرَاد الْمُحَقق سلامتها لاعيبها

ص: 243

الْوَجْه الرَّابِع أَن قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَمَا فِي مَعْنَاهَا من آيَات هَذَا النَّوْع كلهَا أَدِلَّة خَاصَّة تدل على أَن أول مَا يَقع من الْمُكَلف من الذُّنُوب كَائِن بِالتَّخْلِيَةِ بَينه وَبَين نَفسه لاقامة الْحجَّة حجَّة الْعدْل عَلَيْهِ وَقطع أعذاره الْبَاطِلَة من دون اضلال من الله تَعَالَى فِي هَذِه الْحَال وَلَا تيسير للعسرى وَلم يبْق من الله تَعَالَى فِي مثل هَذَا الْحَال إِلَّا القدرالذي بِمَعْنى الْعلم وَالْكِتَابَة وارادة الْعَاقِبَة الْمُسْتَحقَّة بِالْعَمَلِ وارادة اقامة الْحجَّة على العَبْد فِي تِلْكَ الْعَاقِبَة كَمَا يذكر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فان ارادة الله تَعَالَى عَذَابهمْ لم تعلق بِهِ إِلَّا حِين يكون حَقًا مُسْتَحقّا عَلَيْهِم بذونهم بالاجماع وَإِنَّمَا الْخلاف فِي جَوَاز تقدم الارادة للعقاب الْمُسْتَحق لَا فِي أَنَّهَا تعلّقت بِغَيْر مُسْتَحقّ فَمن فسر الارادة بِالْعلمِ من الْمُعْتَزلَة كالبغدادية وَأبي الْحُسَيْن لَا يُمكنهُم تقبيح تقدمها وَكَذَلِكَ من يَجْعَل تقدمها أمرا وَاجِبا مستحيلا خِلَافه كالأشعرية

وَقَوْلنَا أَنه لَا يجوز الاضلال فِي أول أَحْوَال التَّكْلِيف حَتَّى يسْتَحق العَبْد ذَلِك بِالْمَعَاصِي يُنَاسب قَول أبي عَليّ بِالْمَنْعِ من الزِّيَادَة فِي الدَّوَاعِي إِلَى الْقَبِيح الَّتِي يعلم الله تَعَالَى عِنْدهَا أَن الْمُكَلف يخْتَار الْقَبِيح بِخِلَاف أبي هَاشم فانه يُجِيز ذَلِك كالأشعرية لَكِن لَا يُسَمِّيه اضلالا إِنَّمَا يُسَمِّيه امتحانا وابتلاء لَكنا لم نقل ذَلِك بِالنّظرِ الْعقلِيّ وَإِنَّمَا قُلْنَاهُ بتأمل كتاب الله تَعَالَى وقضينا بِأَنَّهُ مُحكم الْقُرْآن لموافقة الْعقل وَالنَّظَر فَهُوَ مُحكم عقلا وسمعا أما الْعقل فَلِأَنَّهُ من قبيل الْجَزَاء وَالْعَذَاب الاخروي وَقد ورد السّمع بِجَوَاز تَقْدِيم بعضه وَهُوَ الْمُسَمّى بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى فِي كتاب الله تَعَالَى وَنَصّ على ذَلِك الامام الْمَنْصُور بِاللَّه من الْأَئِمَّة وَأما أَحْكَامه سمعا فَلِأَنَّهُ الْمَنْصُوص فان قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} نَص فِي ذَلِك والمعارض لَهُ غير صَحِيح فِي ارادة الله تَعَالَى وُقُوع ذَنْب العَبْد قبل اسْتِحْقَاقه الْعقُوبَة بذلك

وَهنا تَلْخِيص جيد مُفِيد وَهُوَ أَنه لَا خلاف أَن الله تَعَالَى لَا يُعَاقب إِلَّا بعد الِاسْتِحْقَاق بالمعصية لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَلقَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل}

ص: 244

) الْآيَة فَمن فهم من الاضلال أَنه من جنس الْعُقُوبَات لم يجزه إِلَّا بعد الذُّنُوب وَمنع أَن يَقع من الله تَعَالَى ابْتِدَاء قبل أول مَعْصِيّة وسمى مَا يَقع فِي ذَلِك الْوَقْت من أَسبَاب الْمعاصِي ابتلاء وامتحانا إِن كَانَ مِمَّن يُجِيزهُ وهم الأشعرية وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَمن فهم من الاضلال معنى الِابْتِلَاء والامتحان اجازه مُطلقًا قبل الذُّنُوب وَبعدهَا لَكِن الْآيَات الْمُتَقَدّمَة ظَاهِرَة فِي الدّلَالَة على أَنه من جنس الْعُقُوبَات مثل قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَقَوله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} إِلَى سَائِر مَا تقدم وَالله أعلم

وَجَمِيع المعارضات لذَلِك نَوْعَانِ أَحدهمَا يخْتَص بِغَيْر الْمعاصِي عِنْد التَّأَمُّل كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى} الْآيَة فانها فِي امْتنَاع الايمان إِلَّا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وعونه ولطفه وَذَلِكَ صَحِيح وَدَلِيل ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي آخرهَا {مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} فانها فِي مَشِيئَة الطَّاعَة لقَوْله تَعَالَى فِي أَولهَا {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم} وَفِي ذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه بل قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَالَ {يخْتَص برحمته من يَشَاء}

فان قيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} عَام فِي لَفظه وخصوص أول الْآيَة لَا يسْتَلْزم خُصُوص الْعَام الَّذِي فِي آخرهَا كَمَا أَن خُصُوص السَّبَب لَا يسْتَلْزم خُصُوص الْعُمُوم فِي أحد الْقَوْلَيْنِ

فَالْجَوَاب من وُجُوه أَرْبَعَة الأول أَنا لَا نسلم أَن آخرهَا عَام مَنْطُوق لِأَن مفعول يَشَاء الله تَعَالَى مَحْذُوف وَتَقْدِيره الْمَذْكُور فِي أول الْآيَة وَالْمَذْكُور فِي أَولهَا يخْتَص بالطاعات وَهَذَا جيد جدا فَتَأَمّله

الثَّانِي أَنا لَو سلمنَا الْعُمُوم اللَّفْظِيّ لما سلمنَا جَوَاز اعْتِقَاد مَعْنَاهُ هُنَا لِأَن فِي الْعَام الْوَارِد على سَبَب خلافًا

ص: 245

قَوِيا فِي الظنيات العمليات فَكيف هَذَا وَهُوَ أولى بِالْوَقْفِ فِيهِ لوجوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن هَذَا فِي الِاعْتِقَاد الْقَاطِع فِي أصُول الاديان وَثَانِيها أَن خُصُوص أول الْآيَة أقوى فِي هَذَا من مُجَرّد نُزُولهَا على سَبَب خَاص وَثَالِثهَا أَن هَذَا من عُمُوم الْمَفْهُوم وَفِيه خلاف الثَّالِث من الأَصْل أَنا لَو سلمنَا الْعُمُوم لم يكن لنا اعْتِقَاد هَذَا لما ذكرنَا من أَنه من دلَالَة التضمن لَا من دلَالَة الْمُطَابقَة اللُّغَوِيَّة وَقد مر تَحْقِيقه الرَّابِع أَنه معَارض لقَوْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ أفضل السَّلَام {لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} فَاكْتفى فِي وُقُوع ضلاله بفقد هِدَايَة الله تَعَالَى وَإِن لم تحصل ارادة ضلال وَلَا ارادة قبائح الافعال

وَلذَلِك نَظَائِر فِي الْآيَات كَقَوْل آدم عليه السلام {وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وَقَول نوح عليه السلام {وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وَمِنْه حَدِيث دَاوُد عليه السلام فِي سَبَب ذَنبه وَقَول الرب عز وجل لَهُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأكلنك إِلَى نَفسك يَوْمًا فأصابته السَّيئَة ذَلِك الْيَوْم رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَصَححهُ فَلم يقف خسراننا على ارادته بل على عدم رَحمته وَنَحْو ذَلِك كثير جدا وَهُوَ بِعُمُومِهِ معَارض بِمَا يسْتَلْزم من استلزام الْآيَات لعمومها لارادة الله القبائح فَوَجَبَ الْوَقْف فِي ذَلِك

وَثَمَرَة هَذَا التَّحْقِيق أَن الْقدر الْمُتَيَقن أَن وُقُوع الْمعاصِي مُتَوَقف على عدم الْقُدْرَة امتحان الْفَرد بِعَدَمِ اللطف الزَّائِد لَا بارادة ذنُوبه وَلَا محبتها كَمَا ظن أَنه مُقْتَضى الْآيَات وَظن أَنه قَول أهل السّنة وَلَا مُتَوَقف على عدم الْقُدْرَة وَالْعجز كَمَا ظن أَنه قَول الْمُعْتَزلَة

فان قيل ينتفض هَذَا بقوله تَعَالَى {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا وسع رَبنَا كل شَيْء علما على الله توكلنا} لِأَن هَذَا الْكَلَام كَلَام نَبِي مرضِي لَا يسْتَحق الْعقُوبَة بالاضلال وَقد جوز أَن يَشَاء الله ذَلِك فَيَقَع بمشيئته

ص: 246

قُلْنَا لَا نسلم ذَلِك بل هَذَا من شَدِيد خوف الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لأَنهم أعلم الْخلق بِاللَّه تَعَالَى واعلمهم بِهِ أخشاهم لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} أَلا ترى إِلَى قَول الراسخين {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} بل إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون} وَسبب خوف الْعلمَاء أَنه قد أخبرنَا أَنه خلقنَا ليبلونا أَيّنَا أحسن عملا وكل أحد يَبْتَلِي على قدر صبره وحاله وَكَمَال الِابْتِلَاء لَا يحصل إِلَّا بذلك وَلذَلِك ابتلى ابراهيم الْخَلِيل عليه السلام بالامر فِي الْمَنَام بِذبح وَلَده فخاف هَذَا النَّبِي الْكَرِيم أَن يكون لَهُ ذَنْب يسْتَحق عَلَيْهِ الْعقُوبَة ببلوى توقعه فِي أعظم الذُّنُوب خوف هَيْبَة وقمع نفس من الْعجب والأمان لَا خوف تَجْوِيز كَمَا فسر بِهِ خوف الْمَلَائِكَة وَيُؤَيّد ذَلِك أَن كَلَامه خرج مخرج التَّعْظِيم لله تَعَالَى فِي عدم الْقطع بالنجاة دون مَشِيئَته وعد الْقطع على بَرَاءَة نَفسه من الذُّنُوب الْمُوجبَة للعقوبة بالخذلان فقد عُوقِبَ آدم وَدَاوُد حِين وثقا بأنفسهما فأذنبا وَلذَلِك أتبع بِذكر التَّوَكُّل

النَّوْع الثَّانِي مِمَّا يتَوَهَّم معارضته لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} كُله عمومات مثل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} يُوضحهُ أَنَّهَا نزلت على سَبَب غير قَبِيح وَفِي الْعلمَاء من يقصر الْعُمُوم على سَببه وَتَنَاول الْعُمُوم لغير سَببه ظَنِّي بالاجماع وَأما قَوْله تَعَالَى {إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم} فَلَا يرد علينا هُنَا لِأَنَّهَا فِي كفار بعد الْبعْثَة والتمادي على التَّكْذِيب فهم يسْتَحقُّونَ الاغواء والاضلال وَأما كلامنا هُنَا فِي أول ذَنْب

وَأما أَحَادِيث الْقدر وَمَا فِيهَا من قَوْله صلى الله عليه وسلم كل ميسر لما خلق لَهُ فَلَا نَص فِيهَا على أول أَحْوَال التَّكْلِيف بل قد جَاءَ بَعْضهَا صَرِيحًا فِي أَن ذَلِك يكون عِنْد الخاتمة وَهِي وَقت الِاسْتِحْقَاق للجزاء وَحَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ يدل على ذَلِك بل قَوْله تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} فَيحْتَمل أَن

ص: 247

يكون أَرَادَ بالتيسير فِي العصاة بعد الْعِصْيَان لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} ولآية سُورَة اللَّيْل الَّتِي احْتج بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْقدر فَيحْتَمل أَن تكون التَّخْلِيَة تيسيرا لما يَقع بعْدهَا بِاخْتِيَار الْمُكَلف وَحده لما كَانَت سَببا فِي اخْتِيَاره فَيكون للقدر تفسيران أَحدهمَا عَام لكل حَال وَلكُل شَيْء وَهُوَ الْعلم وَالْكِتَابَة وَنَحْوهمَا مِمَّا تقدم كمشيئة الْعَاقِبَة الْمُسْتَحقَّة بِالْمَعَاصِي على مَا سَيَأْتِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} وَثَانِيهمَا الاضلال بعد الِاسْتِحْقَاق لَهُ عُقُوبَة من غير اجبار وَلَا سلب للاختيار وَهُوَ خَاص بِمن قد امتحن حَتَّى عصى عِنْد أهل الْجمع بِهَذِهِ الطَّرِيقَة

الْوَجْه الْخَامِس أَن الارادة دَائِرَة بَين مَعْنيين إِمَّا أَن تكون حَقِيقَة فيهمَا مَعًا أَو فِي الأول مِنْهُمَا حَقِيقَة وَفِي الآخر مجَازًا

الْمَعْنى الأول الارادة الْمُلَازمَة للمحبة للمراد والامر بِهِ والتحسين لَهُ أَو شَيْئا مِمَّا يُقَارب هَذَا الْمَعْنى وَهِي الارادة الشَّرْعِيَّة للواجبات والمستحبات وَهَذِه هِيَ ارادة الشَّيْء لنَفسِهِ من غير مُعَارضَة كَرَاهَة لَهَا بِوَجْه من الْوُجُوه الْمُتَعَلّقَة بذلك الشَّيْء المُرَاد وَهَذِه هِيَ الارادة الْحَقِيقِيَّة بالاجماع فالقبائح لَا تكون مُرَادة بِهَذَا الْمَعْنى وَكَانَ الْمُعْتَزلَة لم يعرفوا أَو لم يعترفوا بِغَيْر هَذَا الْمَعْنى للارادة وَلذَلِك منعُوا تعلقهَا بِجَمِيعِ القبائح وَتقدم فِي الصِّفَات الدَّلِيل على جَوَاز اطلاق الْمحبَّة على الله تَعَالَى من غير تَشْبِيه كالارادة

الْمَعْنى الثَّانِي للارادة الارادة الدَّالَّة على نفي مَا يسْتَلْزم الْعَجز من وُقُوع مَا يكره الله تَعَالَى وُقُوعه فِي ملكه من غير سبق قدر مِنْهُ أَو تخلية مُرَادة لحكمة أَو نَحْو ذَلِك وَذَلِكَ لكَمَال قدرته ونفوذ مَشِيئَته وَعُمُوم ربوبيته وكبرياء عَظمته بِحَيْثُ لَا يجوز عَلَيْهِ عدم الْقُدْرَة على اللطف بالعصاة وَلَا البداء وَالرُّجُوع عَمَّا قد قدره وقضاه وانه لَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا ولجعلهم أمة وَاحِدَة كَمَا تمدح بذلك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَلَكِن حكمته اقْتَضَت تَمْكِين الْعباد وتكلفيهم وابتلاءهم كَمَا أخبر فِي كِتَابه وسبقت أقداره بِكُل مَا هُوَ كَائِن عَن علم لَا يتَغَيَّر وَحِكْمَة بَالِغَة وَحجَّة دامغة فوقوع الْمعاصِي بِالنّظرِ إِلَى هَذِه الْمعَانِي هُوَ معنى الْقَضَاء وَالْقدر وَالتَّقْدِير عِنْد الْجَمِيع وَعند طَائِفَة لَا مَانع

ص: 248

من أَن يُسَمِّي ذَلِك الْوُقُوع مرَادا حَقِيقَة أَو مجَازًا وَلَا تسمى الْمعاصِي الْوَاقِعَة مُرَادة مثل وُقُوعهَا بل تسمى مَكْرُوهَة حَقِيقَة وارادة وُقُوع الْمعاصِي الْمَكْرُوهَة هَذِه تسمى عِنْد من يجيزها ارادة ارادة كونية لَا شَرْعِيَّة فِي عرفهم وَإِنَّمَا الشَّرْعِيَّة فِي عرفهم هِيَ النَّوْع الأول الْمُخْتَص بِالطَّاعَةِ

وَأعلم أَن تمسيتهم لهَذِهِ ارادة لم يثبت بِالنَّصِّ وَإِنَّمَا ثَبت أَن ذَلِك مُقَدّر وَلم يرد النَّص أَن كل تَقْدِير مُرَاد وَإِن كَانَ ذَلِك هُوَ الظَّاهِر فِي بادئ الرَّأْي فالتحقيق فِي النّظر وَالِاحْتِيَاط يُخَالِفهُ أما التَّحْقِيق فِي النّظر فان الْمعاصِي بالنصوص مَكْرُوهَة لانفسها فَلَا تسمى مُرَادة لأنفسها لتضاد ذَلِك وَعدم الدَّلِيل عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يجوز أَن ترَاد لغَيْرهَا وَمَتى أريدت لغَيْرهَا كَانَت هَذِه الْعبارَة مجازية تحقيقها أَن المُرَاد هُوَ ذَلِك الْغَيْر لَا هِيَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يجوز أَن تسمى مُرَادة مُطلقًا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن ذَلِك يُوهم أَنَّهَا مُرَادة لنَفسهَا محبوبة وَثَانِيهمَا أَنَّهَا مَكْرُوهَة لنَفسهَا حَقِيقَة وَلَا يجوز أَن تسمى مُرَادة إِلَّا لغَيْرهَا وَتَسْمِيَة الشَّيْء بِوَصْف نَفسه أولى من تَسْمِيَته بِوَصْف غَيره فان سمي بِوَصْف غَيره فَمَعَ قرينَة تشعر بذلك وَإِلَّا أدّى إِلَى قلب الْمعاصِي وَأما الِاحْتِيَاط فَلَمَّا بنينَا عَلَيْهِ هَذَا الْكتاب من الْوُقُوف على النُّصُوص كَمَا تقدم

وَمن أقرب الْأَمْثِلَة إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ مَا حكى الله عَن مُوسَى عليه السلام من قَوْله {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} فكره وُقُوع الايمان مِنْهُم عِنْد الْغَضَب عَلَيْهِم لله تَعَالَى وَهُوَ لَا يتهم فِي محبَّة الايمان بِاللَّه فِي الْجُمْلَة وَابْن تَيْمِية كثير التعويل على الْفرق بَين الارادة الشَّرْعِيَّة وَبَين الارادة الكونية وَكَلَامه فِي هَذَا طَوِيل وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تعلم صِحَّته وَلَا بُطْلَانه بالنصوص الشَّرْعِيَّة وَلَا بالبداية الْعَقْلِيَّة فالاعتصام بالاعتقاد الْجملِي أحوط مِنْهُ وَأولى وَهُوَ أَن الله يكره القبائح وَلَا يُحِبهَا وَأَنه على كل شَيْء قدير فَلَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا وَإِن لَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِيمَا فعل وَترك وَقدر وَقضى وَإِن ذَلِك غير متناقض وَلذَلِك ظهر اعْتِقَاد ذَلِك الْجَمِيع عَن السّلف من غير إِشْكَال فِيهِ

ص: 249

الْبَحْث الرَّابِع اتّفق أهل السّنة من أهل الاثر وَالنَّظَر والأشعرية على أَن الارادة لَا يَصح أَن تضَاد الْعلم وَلَا يُرِيد الله تَعَالَى وجود مَا قد علم أَنه لَا يُوجد وَهَذِه الارادة الَّتِي الْمَقْصُود بهَا إِيجَاد المُرَاد لَا إِرَادَة الْمحبَّة الَّتِي تعلق بِالذَّاتِ لَا بايجاد الذَّات فَافْهَم ذَلِك

وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِوُجُوه مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله} وَلَا وَجه لإنكار هَذِه الارادة إِلَّا تعلقهَا بِمَا لَا يَقع فِي الْعلم وَمِنْهَا أَن امْتنَاع ذَلِك مدرك عَقْلِي جلي يدْرك بالوجدان من النَّفس كَمَا يدْرك الالم واللذة فانا ندرك من أَنْفُسنَا امتناعها مثل أَن نُرِيد من الله تَعَالَى مَا يقدر عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا نعلم أَنه لَا يَفْعَله مثل ان لَا يذيقنا الْمَوْت أبدا وَأَن يدخلنا الْجنَّة من غير موت وَلَا حشر مَعَ قدرَة الله تَعَالَى على ذَلِك ومحبتنا لذَلِك وَإِنَّمَا امْتنع أَن نُرِيد ذَلِك من الله تَعَالَى لعلمنا أَن الله تَعَالَى قد كتب الْمَوْت والحشر على جَمِيع الْعباد وَلَا شكّ أَن هَذَا هُوَ الْفطْرَة وَلذَلِك لَا ترى عَاقِلا فِي الدُّنْيَا يسْعَى فِيمَا يعلم أَنه لَا يحصل فَلَا نرى شَيخا فانيا يطْلب دَوَاء لعود أَيَّام الشَّبَاب وَلَا نَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا خَالَفت الْمُعْتَزلَة لشُبْهَة الامر بِخِلَاف الْمَعْلُوم فان الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا يعلم أَنه لَا يَقع وَصِحَّة هَذَا إِجْمَاع لَكِن ظنت الْمُعْتَزلَة أَن الْأَمر يلازم الارادة وَإِنَّمَا ظنُّوا ذَلِك لِأَنَّهُ الْأَكْثَر فِي الشَّاهِد فِي حق من لَا يعلم الْغَيْب

وَالتَّحْقِيق أَن الْأَمر مَعَ الارادة يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام

الْقسم الأول الْأَمر الملازم للارادة وَذَلِكَ فِي حق من غَرَضه بِالْأَمر تَحْصِيل الْمَطْلُوب وَشرط هَذَا الْأَمر أَن يصدر مِمَّن يعلم أَن الْمَطْلُوب سيحصل أَو يكون جَاهِلا بِعلم الْغَيْب

الْقسم الثَّانِي لَا تصحبه الارادة قطّ وَلَا محبَّة الْمَطْلُوب وَهُوَ أَمر الِاخْتِيَار للْغَيْر بالعزم على الطَّاعَة مثل أَمر الْخَلِيل عليه السلام بِذبح وَلَده فان الله تَعَالَى لم يرد مَا أَمر بِهِ من الذّبْح وَلَا أحبه وَإِنَّمَا ابتلى خَلِيله بالعزم كَمَا قَالَ {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ}

ص: 250

الْقسم الثَّالِث لَا تصحبه ارادة الْحُصُول وتصحبه محبَّة الْمَطْلُوب دون ارادة وُقُوعه من الْمَأْمُور وَذَلِكَ مثل أَمر الْكَافِر بالايمان مَعَ علم الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن أبدا مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ} مَعَ أَن الانبعاث مَعَه عليه السلام مَأْمُور بِهِ لَكِن كره من وَجه آخر لَا من الْوَجْه الْمَأْمُور بِهِ لأَجله

وَفِي هَذَا الْمقَام يذكر أهل السّنة علم الْغَيْب وَمَا ورد فِي الْقدر وَالْقَضَاء وأنهما بمعزل عَن الْجَبْر والاكراه وَنفي الِاخْتِيَار وَقد تقصيت مَا ورد فِي ذَلِك فبلغت أَحَادِيث الأقدار وثبوتها مائَة حَدِيث وَخَمْسَة وَخمسين حَدِيثا وَأَحَادِيث وجوب اعْتِقَاد ذَلِك اثْنَيْنِ وَسبعين حَدِيثا صَار الْجَمِيع مِائَتي حَدِيث وَسَبْعَة وَعشْرين حَدِيثا من غير الْآيَات القرآنية والقدرية الْمجمع على ذمهم عِنْد أهل السّنة من يَقُول من قدماء المبتدعة أَن الله لَا يعلم الْغَيْب وَلَا يُوجد الْآن من هَؤُلَاءِ أحد وسياتي الْكَلَام فِي تَفْسِير الْقَدَرِيَّة

الْبَحْث الْخَامِس وَهُوَ أنفس هَذِه المباحث ومغن عَنْهَا وَذَلِكَ أَن ظواهر عِبَارَات الْمُعْتَزلَة والأشعرية فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غَايَة المنافرة وَتَحْقِيق مذاهبهم يقْضِي باجتماع كلمتهم على أَن الله تَعَالَى قَادر على هِدَايَة من يَشَاء باللطف والتيسير وعَلى أَن الله تَعَالَى لَا يُرِيد الْمعاصِي والقبائح وَهَذَا عَجِيب لَا يكَاد أحد يصدق بِهِ إِلَّا بعد شدَّة الْبَحْث والتنقير وَسبب اجْتِمَاعهم فِي الْمَعْنى أَن الْخَطَأ مِنْهُم الْجَمِيع لما فحش من الْجَانِبَيْنِ لم يخف عَلَيْهِم وَمَا زَالُوا ينظرُونَ ويناظرون ويعتذرون عَن شنيع الْعبارَات حَتَّى اجْتَمعُوا وهم لَا يقصدون ذَلِك الِاجْتِمَاع وَأَنا أبين ذَلِك من نصوصهم وكتبهم الْمَعْرُوفَة

فَأَما الْمُعْتَزلَة فَاعْتَرفُوا بقدرة الله تَعَالَى على ذَلِك عِنْدهم وعَلى أصولهم فِي مَسْأَلَتَيْنِ

احدهما أَن اللطف إِنَّمَا امْتنع فِي حق بعض الْمُكَلّفين لأجل البنية الَّتِي خلقهمْ الله تَعَالَى عَلَيْهَا وَهِي بنية مَخْصُوصَة فِيهَا غلظة وقساوة وَهُوَ قَادر عِنْد جَمِيع الْمُعْتَزلَة على تَغْيِير بنيتهم وخلقهم على بنية الانبياء وَالْمَلَائِكَة ذكر ذَلِك ابْن الملاحمي فِي كِتَابه الْفَائِق وَقد ذكرت الْوَجْه فِي لُزُوم ذَلِك على أصُول

ص: 251

الْمُعْتَزلَة من الْعقل والسمع وتقصيته فِي العواصم قَالَ تَعَالَى {وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} وَقَالَ تَعَالَى {عَسى الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم مَوَدَّة وَالله قدير وَالله غَفُور رَحِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله إِمَّا يعذبهم وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم} وفيهَا حجَّة على ثُبُوت حِكْمَة الله تَعَالَى فِيمَا تعرف الْعُقُول حسنه من هدايتهم وَمَا لَا تعرفه من تَركهَا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا فانها لَا تعرف حسن ذَلِك كَمَا عَرفْنَاهُ الْآن إِلَّا بتعريف الشَّرْع كَمَا مضى فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة لِأَن كل بنية قَابِلَة للطف أَو غير قَابِلَة فانها عارضة يُمكن تغييرها لَا ذاتية وَلِأَن الاجسام عِنْدهم كلهَا متماثلة فِي ذواتها وَإِنَّمَا تخْتَلف بِالصِّفَاتِ وَالْأَحْوَال الْعَارِضَة وتغيير ذَلِك كُله مُمكن لله تَعَالَى وَلِأَن قدرَة الله تَعَالَى على كل شَيْء عُمُوما وعَلى هِدَايَة كل أحد خُصُوصا منصوصة قَطْعِيَّة مَعْلُومَة من الدّين وَمن إِجْمَاع الْمُسلمين

قَالَ ابْن الملاحمي فان قيل فَلم خلقه الله تَعَالَى على هَذِه البنية الَّتِي لَا تقبل اللطف قُلْنَا لحكمة لَا نعلمها وَيَكْفِينَا علمنَا بِأَنَّهُ أَو كَمَا قَالَ وَهنا نعلم أَن الْخلاف لَفْظِي لِأَن تَغْيِير هَذِه البنية يسير على من هُوَ على كل شَيْء قدير وَإِنَّمَا هُوَ تليين تِلْكَ الْقُلُوب القاسية أَو تَعْلِيم تِلْكَ النُّفُوس الْجَاهِلِيَّة وَلَو أَرَادَ الله تَعَالَى قلب جبال حَدِيد مَاء عذبا أَو هباء منثورا لم يزدْ على أَن يَقُول لذَلِك كن فَيكون كَيفَ وَلَيْسَ إِلَّا تقليب الْقُلُوب القاسية وتليين القساوة وترقيق الطَّبْع الغليظ فَثَبت أَن الله تَعَالَى قَادر عِنْدهم على هِدَايَة العصاة عِنْد الْجَمِيع لَكِن الْمُعْتَزلَة شرطُوا أَن تكون هدايتهم بتغيير بنيتهم وَسَائِر النَّاس قَالُوا إِن ذَلِك مُمكن من غير تَغْيِير بنية

وثانيتهما قَالَت الْمُعْتَزلَة إِلَّا أَبَا عَليّ الجبائي أَنه يجوز أَن يزِيد الله تَعَالَى فِي شهوات الْمُكَلّفين ويخلق من أَسبَاب الْمعاصِي مَا يعلم أَن الْمعاصِي تقع عِنْده وَلَو لم يخلقه لم تقع وقاسوا ذَلِك على ابْتِدَاء التَّكْلِيف فان الله تَعَالَى كلف أهل النَّار وَهُوَ يعلم أَن تكليفهم يكون سَببا لوُقُوع معاصيهم وَلَو لم يكلفهم لم تقع مِنْهُم الْمعاصِي وعَلى هَذَا يجوز أَن جَمِيع الْمعاصِي مَا وَقعت إِلَّا

ص: 252

لزيادات فِي الشَّهَوَات والدواعي وَقع الامتحان بهَا لشدَّة الِابْتِلَاء وَمن ذَلِك خلق الشَّيَاطِين عِنْد هَؤُلَاءِ وَحِينَئِذٍ تَجْوِيز أَن الله تَعَالَى قَادر على هِدَايَة من وَقعت مِنْهُ الْمعاصِي بتسبب هَذِه الزِّيَادَات وَالْقُدْرَة وَوجه الْقُدْرَة على اللطف بِهِ وَاضح وَذَلِكَ أَن يتْرك الله هَذِه الزِّيَادَات وتجويز قدرَة الله تَعَالَى على اللطف بِهَذَا الْمَعْنى بَين فَثَبت أَن تأويلهم لآيَات الْمَشِيئَة بالاكراه ومحافظتهم على ذَلِك وقطعهم بتعينه وَعدم احْتِمَال غَيره مُجَرّد لجاج مَعَ الْخُصُوم وَزِيَادَة فِي المراء المذموم وَالله الْمُسْتَعَان

وَأما مُوَافقَة الاشعرية وَأهل الْأَثر لَهُم فِي أَن الله تَعَالَى لَا يُرِيد الْمعاصِي فان ذَلِك ثَبت بِالنَّصِّ مِنْهُم والاقرار لَا بالالزام والاستنباط وَذَلِكَ أَن إِمَام علومهم الْعَقْلِيَّة صَاحب نِهَايَة الاقدام الْمَعْرُوف بالشهرستاني ذكر فِي كِتَابه هَذَا أَن ارادة الله تَعَالَى عِنْدهم لَا يَصح أَن تعلق إِلَّا بأفعاله سُبْحَانَهُ دون كسب الْعباد سَوَاء كَانَ طَاعَة أَو مَعْصِيّة وَأَن معنى قَوْلنَا إِن الطَّاعَات مُرَادة ومحبوبة ومرضية هُوَ أَن الله تَعَالَى يُرِيد أَفعاله الَّتِي تعلق بهَا وَهِي الْأَمر وَالثنَاء فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب وَالثنَاء فِي الْآخِرَة وَمعنى قَوْلنَا أَن الْمعاصِي مَكْرُوهَة ومسخوطة هُوَ أَن الله تَعَالَى يُرِيد أَفعاله الْمُتَعَلّقَة بهَا وَهِي النَّهْي والذم فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَاب والذم فِي الْآخِرَة وَطول فِي هَذَا وَاحْتج عَلَيْهِ بِأَن الارادة هِيَ الَّتِي تخصص الْفِعْل بِوَقْت دون وَقت وَقدر دون قدر وَوجه دون وَجه قَالَ ويستحيل أَن تخصص فعل الْغَيْر وَأَن تقع غير مخصصة فيختلف عَنْهَا أَثَرهَا وَذَلِكَ محَال ثمَّ قَالَ وَأَنت إِذا عرفت هَذَا هَانَتْ عَلَيْك تهويلات الْقَدَرِيَّة وتمويهات الجبرية وَبَين أَيْضا وميز فعل العَبْد الَّذِي هُوَ كَسبه عَن فعل الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ خلقه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي مَسْأَلَة الافعال

وَاعْلَم أَن كَلَامه فِي ذَلِك قوي لِأَنَّهُ لَو صَحَّ تعلق الارادة بِفعل الْغَيْر لصَحَّ أَن يَنْوِي للْغَيْر لِأَن النِّيَّة ارادة مُقَارنَة وَكَذَلِكَ كَانَ يلْزم أَن يعزم لَهُ لِأَن الْعَزْم ارادة مُتَقَدّمَة

فان قيل فَنحْن نحس ارادة فعل الْغَيْر بِالضَّرُورَةِ قُلْنَا تِلْكَ محبَّة لَا إِرَادَة لَكِن الْمحبَّة قد تسمى ارادة كَمَا قَالَ الشَّاعِر

ص: 253

(يُرِيد الْمَرْء أَن يُعْطي مناه

ويأبى الله إِلَّا مَا أَرَادَا)

وَالْبَيْت عَرَبِيّ فصيح من شعر الحماسة وعَلى الْجُمْلَة أَن هَذَا نقل لمَذْهَب الأشعرية من بَصِير بِهِ بل من إِمَام فِيهِ فقد صَحَّ أَن هَذَا مَذْهَبهم سَوَاء كَانَ صَحِيحا أَو بَاطِلا قَوِيا أَو ضَعِيفا وعبارتهم فِي جَمِيع تصرفاتهم فِي تَأْوِيل الْآيَات وَالْأَحَادِيث مُخَالفَة لهَذَا ومصرحة بارادة الْمعاصِي فحين علمنَا أَن هَذَا حَقِيقَة قَوْلهم وَإِن ذَلِك مجَاز لم نوجب حملهَا على الْحَقِيقَة بل لم نجوز ذَلِك كَمَا أَن الزَّمَخْشَرِيّ قَالَ إِن الله يَأْمر بِالْفِسْقِ مجَازًا فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا} وَمَعَ ذَلِك لَا يحل لمُسلم أَن يحملهُ على الْحَقِيقَة لما كَانَ قد نَص على أَن ذَلِك مجَاز فَكَذَلِك هَؤُلَاءِ وَلَكِن هَذَا مِنْهُم مُجَرّد لجاج وَشدَّة مراء وجدل قابلوا بِهِ مَا وَقع من خصومهم من مثل ذَلِك وَقد نهى الله تَعَالَى عَن التَّفْرِيق بِنَصّ الْقُرْآن وَإِجْمَاع الْمُسلمين فَوَاجِب على كل من عرف هَذَا من الْفَرِيقَيْنِ ترك هَذِه الْعَادة الْمَكْرُوهَة فِي ابتداع الْعبارَات المفرقة بَين الْجَمَاعَة والمخالفة للطاعة وَلذَلِك نهى الامام ابراهيم بن عبد الله بن الْحسن عَن تَسْمِيَة الْفرق بِهَذِهِ الاسماء المبتدعة وَأمر أَن يسموا بِالْمُسْلِمين فانهم إِذا اجْتَمعُوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الاسماء المبتدعة وَأمر أَن يسموا بِالْمُسْلِمين فانهم إِذا اجْتَمعُوا فِي ذَلِك كَانَ أدعى إِلَى محو آثَار الحمية وَترك التعادي والعصبية وَلذَلِك أثنى الله تَعَالَى على الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا ولاخواننا الَّذين سبقُونَا بالايمان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم

وَقد كنت هَمَمْت أَن أقتصر على هَذَا الْبَحْث فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثمَّ رَجَوْت أَن يكون فِي ذكر سَائِر المباحث مزِيد فَائِدَة وَإِلَّا فَهَذَا أنفعها وأجلها وَهُوَ يَكْفِي صَاحب الْجمل إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد بَالغ فِي تَحْرِيم التَّفَرُّق وَترك التَّكْفِير بالاختلاف فِي مسَائِل الْكَلَام مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي محب أهل الْبَيْت وصنف فِيهِ كتاب الْجُمْلَة والالفة فأجاد رَحمَه الله تَعَالَى وَنقل فِيهِ القَوْل المفيدة عَن كبراء أهل الْبَيْت عليهم السلام بِاخْتِيَار ذَلِك وَنقل صَاحب الْجَامِع الْكَافِي مِنْهُ جملَة شافية فِي آخِره يَنْبَغِي مَعْرفَتهَا ذكرهَا فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن ومذاهب النَّاس فِيهِ

ص: 254

وَهنا تَحْقِيق بَالغ وَهُوَ أَن مُرَاد أهل السّنة فِي مَسْأَلَة الارادة أَن يكون الله تَعَالَى غَالِبا غير مغلوب كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالله غَالب على أمره} وَلم يصادم هَذِه الْقُدْرَة الْمُعْتَزلَة إِنَّمَا خالفوا فِي الْعبارَة حَيْثُ قَالُوا إِن الله تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ مُجَرّد تَعْرِيض الاشقياء للخير فقد حصل مُرَاده الَّذِي هُوَ التَّعْرِيض فَلم يكن مَغْلُوبًا على مُرَاده كَمَا مضى وَمَا يرد عَلَيْهِ قَالُوا وَأَرَادَ تَمْكِين الْعباد مَعَ علمه بِأَنَّهُ يكون وَسِيلَة إِلَى الْمعاصِي فقد أَرَادَ عِنْدهم سَببهَا لعلمه بذلك بل أجَاز جمهورهم أَن يَبْتَلِي الله تَعَالَى الْمُكَلّفين بعد تَمام التَّكْلِيف بِزِيَادَة فِي خلق الشَّهَوَات وَالشَّيَاطِين ومضلات الْفِتَن بِحَيْثُ تقع عِنْدهَا الْمعاصِي وَهُوَ يعلم أَنه لَو لم يفعل ذَلِك أطيع وَمَا عصى وَهَذَا هُوَ الاضلال الَّذِي تجيزه الأشعرية وتظن الْمُعْتَزلَة أَنَّهَا تَمنعهُ وَهُوَ الَّذِي قد يُسَمِّيه بعض الأشعرية ارادة لوُقُوع الْمعاصِي أَولهَا وَإِنَّمَا اخْتلفت عباراتهم فانهم الْجَمِيع قد اتَّفقُوا على نفي الْجَبْر وعَلى ثُبُوت الِاخْتِيَار وعَلى أَن الله تَعَالَى ملك عَزِيز غَالب غير مغلوب وعَلى أَن الاضلال إِن كَانَ من جنس الْعُقُوبَات لَا من جنس الِابْتِلَاء والامتحان لم يكن إِلَّا بعد الِاسْتِحْقَاق بِالذنُوبِ كعقاب الْآخِرَة لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فلولا اللجاج فِي المراء وَتمكن التعادي فِي الْقُلُوب لكانوا فرقة وَاحِدَة واجتمعوا على جِهَاد أعدائهم من الْكفَّار الْمَلَاحِدَة

وسر هَذَا التَّحْقِيق أَنه لَا خلاف أَن سَبَب الْمعاصِي مُرَاد وَهُوَ خلق الْقُدْرَة والتمكين والتكليف لكنه لَيْسَ بجبر مَحْض بل الظَّاهِر فِي سَبَب الشَّرّ أَنه شَرّ فَمن نفى الْحِكْمَة قَالَ هُوَ مُرَاد لنَفسِهِ وَمن أثبتها قَالَ لابد من مُرَاد آخر وَهُوَ الْمُسَمّى المُرَاد الأول وغرض الْغَرَض فَمن قَالَ هُوَ الْجنَّة فِي حق الْكفَّار ورد عَلَيْهِ أَن علم الْغَيْب يمْنَع من طلب حُصُول مَا علم أَنه لَا يحصل وَمن قَالَ هُوَ التَّعْرِيض لذَلِك ورد عَلَيْهِ أَن التَّعْرِيض لَيْسَ بِخَير مَحْض مَعَ الْعلم أَنه سَبَب حُصُول نقيض الْمَقْصُود وَمن قَالَ الْمعاصِي فَهُوَ أَجْهَل لِأَن سَببهَا لم يكن شرا إِلَّا لأَجلهَا فَثَبت أَنه اقامة الْحجَّة فِي الظَّاهِر وَتَأْويل الْمُتَشَابه فِي الْبَاطِن وَالْحق أَنه لَا يُعلمهُ إِلَّا الله كَمَا تقدم بدلائله

ص: 255

الْبَحْث السَّادِس فِي ذكر الْفَائِدَة فِي التَّكْلِيف بِالْأَعْمَالِ مَعَ سبق الاقتدار وَقد يذكر هَذَا جَوَابا على من قدح فِي صِحَة أَحَادِيث الاقدار من المبتدعة فَيُقَال الْفَائِدَة فِي الْعَمَل مَعَ الْقدر مثل الْفَائِدَة فِي الْعَمَل مَعَ سبق الْعلم إِذْ كل مِنْهُمَا غير مزيل للقدرة وَلَا مُؤثر فِيهَا وَلَو كَانَ شَيْء من ذَلِك يُؤثر فِيهَا لما تعلق جَمِيع ذَلِك بِأَفْعَال الله تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلق بهَا وَهِي اختيارية بِالنَّصِّ والاجماع أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {كَانَ على رَبك حتما مقضيا} وَأَنه سُبْحَانَهُ قد علم وَقت وُقُوع ذَلِك بِعَيْنِه وَهُوَ مَوْصُوف بِالْقُدْرَةِ على تَقْدِيمه وتأخيره بل على تَركه لكنه لَا يتْركهُ

وَقد قَالَ الرَّازِيّ أَن القَوْل بِأَن سبق الْعلم وَالْقدر يَنْفِي الِاخْتِيَار يسْتَلْزم ذَلِك فِي حق الله تَعَالَى وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى رفع أثر الْقُدْرَة وَإِلَى أَن تقع الْأَشْيَاء بِالْعلمِ دون الْقُدْرَة فينقلب الْعلم قدرَة وَذَلِكَ محَال وَقد يذكر هَذَا على سَبِيل التقوية للايمان الْجملِي بحكمة الله تَعَالَى وَقد ذكرت فِي ذَلِك وُجُوه كَثِيرَة بسطتها فِي العواصم ولنقتصر على شَيْء يسير من الْوَارِد فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَفِي الْفطْرَة

أما الْقُرْآن فورد بَان التَّكْلِيف فِي حق الاشقياء اقامة الْحجَّة وَقطع الْعذر قَالَ الله تَعَالَى {فالملقيات ذكرا عذرا أَو نذرا} وَقَالَ {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَقَالَ {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} وَهَذَا الْمَعْنى كثير وَفِيه سر لم أر أحدا تنبه لَهُ وَذَلِكَ أَن لله تَعَالَى حجَجًا مُنَاسبَة لعرف الْعُقَلَاء وَحِكْمَة مُنَاسبَة لعلمه الْحق الَّذِي تقصر عَنهُ عقول الْعُقَلَاء وَهَذِه الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا من الْقسم الاول وَمِنْه إِقَامَة الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة وإشهاد الْمَلَائِكَة والجوارح وَكِتَابَة الاعمال مَعَ الْغنى عَن ذَلِك كُله بِعلم الله تَعَالَى

فَأَما الْحِكْمَة الْمُنَاسبَة لعلمه الْحق فَهِيَ الْحِكْمَة الداعية إِلَى إِظْهَار هَذِه الْحجَج القاطعة للاعذار الباعثة على هَذَا الْعدْل وَهِي الَّتِي لم يعلمهَا سني وَلَا

ص: 256

مُبْتَدع وَلَا أثري وَلَا مُتَكَلم وَمن تعرض لَهَا لم يحظ بطائل وَقد يرد الْقُرْآن بِهَذِهِ الْحجَّة الظَّاهِرَة الْمُنَاسبَة لعرف الْعُقَلَاء وَحدهَا مثل آيَات الْوَعيد وَقد يرد بِمَا يَقْتَضِي التَّعْلِيل بِحِكْمَتِهِ الْحَقِيقِيَّة الْمُنَاسبَة لعلمه الْحق وَحدهَا كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة هود {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا} فانا نعلم أَن هَذِه لم تكن سدى خَالِيَة عَن الْحِكْمَة وَقد يرد الْقُرْآن بهما جَمِيعًا كَقَوْلِه تَعَالَى جَوَابا على من قَالَ {فارجعنا نعمل صَالحا} قَالَ تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا إِنَّا نسيناكم وذوقوا عَذَاب الْخلد بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَجمع بَينهمَا حَيْثُ أجَاب على الْكفَّار قَوْلهم {أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل} استدراكا مِنْهُم لما فَاتَ فَأخْبرهُم أَنه كَانَ قَادِرًا على تَحْصِيل ذَلِك مِنْهُم فِيمَا مضى وَلَو أرادوه لم يفته حَتَّى يحْتَاج إِلَى الملافاة والاستدراك وَحين علمنَا حكمته فِي ذَلِك حسن أَن نشِير اليها فِي الْجُمْلَة من غير بَيَان معِين كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى للْمَلَائكَة {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} جَوَابا على قَوْلهم {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا}

وَأما مَا ورد فِي ذَلِك من السّنة فأنواع

مِنْهَا حَدِيث لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله تَعَالَى من أجل ذَلِك أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب

وَمِنْهَا عَمَلهم بِمُقْتَضى قَوْله تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} وَقَوله {وخذوا حذركُمْ}

ص: 257

وَمِنْهَا حَدِيث أبي خزامة قلت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت رقي نسترقي بهَا ودواء نتداوى بِهِ وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا قَالَ هُوَ من قدر الله تَعَالَى رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من طرق عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ قَالَ الْمزي فِي أَطْرَافه وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالك وَيُونُس بن يزِيد وَعَمْرو ابْن الْحَارِث والاوزاعي عَن الزُّهْرِيّ

وَمِنْهَا أَن هَذَا السُّؤَال مِمَّا سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَتَوَلَّى جَوَابه كَمَا ثَبت فِي أَحَادِيث الاقدار فَقَالَ فِي الْجَواب اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} الْآيَتَيْنِ وَالْمعْنَى فِي الْجَواب النَّبَوِيّ أَن الله تَعَالَى قدر الْجَزَاء وأسبابه وَقدر أَن تكونه أَسبَابه اختيارية من أَفعَال العَبْد وَمَا قدره الله لابد أَن يَقع كَمَا قدره فارتفع توهم الاشكال فانا لَو لم نعمل مَعَ سبق الْعلم بعملنا وَسبق الْمَقَادِير لَكَانَ محارة للعقول بل محالا فِيهَا فَوَجَبَ أَن لَا يكون الْعَمَل محارة وَلَا محالا وَلَا مَوضِع شُبْهَة فَلَا اشكال

وَأما مَا دلّت عَلَيْهِ الْفطْرَة من ذَلِك فَهُوَ أَن الله تَعَالَى قدر الْجَزَاء فِي الْآخِرَة مُرَتبا على أَسبَاب وَقدر وُقُوع تِلْكَ الْأَسْبَاب على اختيارنا فِي الْأَعْمَال وَتارَة على اخْتِيَاره تَعَالَى فِي أَسبَاب الاعمال وَفِي الآلام وَنَحْوهَا وَذَلِكَ كَمَا قدر السَّبع بِالْأَكْلِ والري بالشرب وهما عملان اختياريان وَكَذَلِكَ قدر الْوَلَد بالوطئ وَحُصُول الزَّرْع بالبذر وَخُرُوج روح الْحَيَوَان بِالذبْحِ ذكر ذَلِك الْغَزالِيّ مُخْتَصرا وَابْن قيم الجوزية وَطوله وجوده هَذَا الْمَعْنى اسماعيل المقرى من عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة فِي قصيدة لَهُ وعظية بليغة فَقَالَ وأجاد

(تَقول مَعَ الْعِصْيَان رَبِّي غَافِر

صدقت وَلَكِن غَافِر بِالْمَشِيئَةِ)

(وَرَبك رزاق كَمَا هُوَ غَافِر

فَلم لم تصدق فيهمَا بِالسَّوِيَّةِ)

(فانك ترجو الْعَفو من غير تَوْبَة

وَلست براجي الرزق إِلَّا بحيلة)

(على أَنه بالرزق كفل نَفسه

لكل وَلم يكفل لكل بجنة)

فَثَبت أَنه يلْزم فِي قَضِيَّة الْعقل من احْتج بسبق الْقدر وَسبق الْعلم على

ص: 258

ذنُوبه وتفريطه فِي عمل الْخَيْر إِن يتْرك الاكل وَالشرب وَالْبذْر والوطئ والتوقي من الْحر وَالْبرد وَسَائِر المضار وَإِلَّا فقد فضل الدُّنْيَا على الْآخِرَة حَيْثُ توكل فِي الْآخِرَة وَمَا سعى لَهَا سعيها وَترك التَّوَكُّل فِي الدُّنْيَا وسعى لَهَا أَكثر من سعيها ثمَّ احْتج على ضلاله بِالْبَاطِلِ وهيهات

ثمَّ أَنه لابد مَعَ التَّوَكُّل من السَّعْي كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر فَإِذا عزمت فتوكل على الله} وَذكر الزَّرْكَشِيّ فِي شرح جمع الْجَوَامِع عَن الْجُنَيْد رحمه الله أَنه قَالَ كلمت يَوْمًا رجلا من الْقَدَرِيَّة فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل رَأَيْت فِي النّوم كَأَن قَائِلا يَقُول مَا يُنكر هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَن يكون الله قبل خلقه لِلْخلقِ علم أَنه لَو خلق الْخلق ثمَّ مكنهم أُمُورهم ثمَّ رد الِاخْتِيَار اليهم للَزِمَ كل امْرِئ مِنْهُم بعد أَن خلقهمْ مَا علم أَنهم لَهُ مختارون

قلت بل قد أوجب ذَلِك الرَّازِيّ بِنَظَر عَقْلِي مَعْنَاهُ أَن الْعلم تَابع للمعلوم فِي الرُّتْبَة لَا فِي الْوُجُود مثل تبع حَرَكَة الْخَاتم للاصبع فَلَا يتَصَوَّر حُصُول الْعلم مُتَعَلقا بالمعلوم إِلَّا وللمعلوم ثُبُوت فِي الذِّهْن لَا فِي الْخَارِج والنكتة فِي هَذَا أَن الله تَعَالَى غير مُخْتَار فِي علمه إِجْمَاعًا فان كَونه قَادِرًا عَالما من صِفَات الْكَمَال اللَّازِمَة الْوَاجِبَة وَإِنَّمَا يخْتَار سُبْحَانَهُ فِي كَونه فَاعِلا فان شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك وَلَيْسَ يُقَال إِن شَاءَ علم وَإِن شَاءَ جهل فَكَذَلِك لَا يُقَال إِن شَاءَ علم الْمَوْجُود مَعْدُوما والمعدوم مَوْجُودا وَنَحْو ذَلِك إِنَّمَا يُقَال لَو شَاءَ لجعل ذَلِك كَذَلِك لكنه لَا يَشَاء خلاف مَا علم كَمَا سبق تَقْرِيره لكنه يُقَال إِن كَانَ الْمَعْلُوم أسبق فِي الرُّتْبَة فانه رَاجع إِلَى أَفعَال الله تَعَالَى وَهِي اختيارية وَكَانَ الِاخْتِيَار تَابعا للحكمة فَهِيَ أسبق فِي الرُّتْبَة وَهَذَا نَفِيس جدا فَتَأَمّله

وَسبق فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة طرف صَالح من الْكَلَام فِي الْحِكْمَة فِي خلق الاشقياء فيراجع من هُنَالك وَمن ذَلِك أَن يُقَال انما يلْزم فِي قَضِيَّة الْعقل قطع أعذار الْخلق فِي الربوبية وتقديسها عَن كل عيب وَنقص وظلم وعبث وَلعب فَمن أنكر شَيْئا من ذَلِك قَامَت عَلَيْهِ الْبَرَاهِين كَمَا تقدم وَمن اعْترف بِهَذَيْنِ الامرين فقد اعْترف بَان الله حَكِيم نَافِذ الْمَشِيئَة غَنِي كريم فَلَا يَصح مِنْهُ بعد هَذَا ان يُنَازع ربه تَعَالَى فِي حِكْمَة خُفْيَة لوَجْهَيْنِ

ص: 259

أَحدهمَا أَن علمه الْجملِي بحكمة ربه كَاف شاف وَثَانِيها ان علمه بِكَمَال ربه فِي جَمِيع أَسْمَائِهِ الْحسنى مَعَ نقص العَبْد فِي كل معنى وَكَثْرَة جهالاته وظلمه وخبث كثير من طباعه وغلبتها عَلَيْهِ يَكْفِيهِ وازعا عَن اتِّبَاع سنة الشَّيْطَان لَعنه الله تَعَالَى حَيْثُ نَازع ربه تَعَالَى فِي حسن سُجُوده لآدَم وَهَذِه هِيَ سنة السُّفَهَاء من النَّاس الَّذين قَالُوا {مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وَلَو كَانَت تجب ازاحة كل عذر بَاطِل لازاح الله تَعَالَى اعذارهم حَيْثُ قَالُوا {فارجعنا نعمل صَالحا} واقتراحهم على الرَّسُول أَن يكون ملكا وان يفجر لَهُم الْأَنْهَار تفجيرا وَنَحْو ذَلِك على ان الله تَعَالَى لم يخل كِتَابه الْكَرِيم من الاشارة الى مَا تحمله عقول الْبشر ويليق بعلومهم من ذَلِك فَنَقُول بِقدر مَا وهب الله لنا من ذَلِك ان الله تَعَالَى خلق الاشياء لحكم كَثِيرَة شاهدة لَهُ سبحانه وتعالى بالنزاهة من الظُّلم واللعب والعبث بل شاهدة لَهُ سبحانه وتعالى بالحكمة الْبَالِغَة وَالنعْمَة السابغة وَالْحجّة الدامغة فَمن قَالَ ان الله تَعَالَى مَا خلق الاشقياء الا لعمل القبائح فِي الدُّنْيَا وللعذاب فِي الْآخِرَة أَو كَانَت عِبَارَته توهم ذَلِك فَمَا أصَاب الْحق وَلَا أحسن التَّرْجَمَة عَن الْكتاب وَالسّنة وَمن أَرَادَ اصابة الْحق فِي ذَلِك تتبع متفرقات الْحِكْمَة المنصوصة بألفاظها وأداها بهَا والمعقولة بمعانيها وَجَمعهَا بل جمع مَا يسر الله لَهُ مِنْهَا لَا يُمكن الْبشر الاحاطة بجميعها

وَالَّذِي حضرني مِنْهَا سَبْعَة أُمُور تفصيلية لفظية ومعنوية وَأمر جملي يعمها

أما الْأَمر الْجملِي فَمَا تقرر بالبراهين الجمة سمعا وعقلا من حِكْمَة الله تَعَالَى كَمَا قَالَ للْمَلَائكَة {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى {أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين} وَأما التفصيلية فانها وان رجعت فِي الْمَعْنى الى أقل من ذَلِك الْعد فقد أدّيت مَا أمكنني تأديته بِلَفْظِهِ عَسى أَن أنال الدعْوَة النَّبَوِيَّة لمن أدّى مَا سمع كَمَا سمع من الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي ذَلِك

ص: 260

الأول خلق الله تَعَالَى الاشقياء لعبادته بِالنّظرِ إِلَى أوامره اجماعا ونصا وبالنظر الى محبته للخير من حَيْثُ هُوَ خير على الصَّحِيح كَمَا مر فِي اثبات الْحِكْمَة وَقد أوضحت هَذَا فِي العواصم فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور أهل السّنة فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَوله تَعَالَى {وَالله لَا يحب الْفساد} فانهم أقروهما وَفرقُوا بَين الرضى والمحبة وَمعنى الارادة والمشيئة وَلذَلِك قَالَ السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع فِي آخِره فِي الِاعْتِقَاد مَا لَفظه والمحبة غير الْمَشِيئَة والارادة فَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ وَلم يحك خلافًا لشذوذه عِنْده وَمن لم يبْحَث حوافل أهل السّنة يظنّ ان هَذَا يُخَالف قواعدهم

الثَّانِي الِابْتِلَاء بِالنّظرِ الى عدله وحجته كَمَا يظْهر من قَوْله تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} كَمَا مر فِي الْحِكْمَة فِي الْعَمَل مَعَ الْقدر

الثَّالِث لما يُوجب عَلَيْهِم شكره من احسانه اليهم بعظيم نعمه وسوابع مواهبه بِالنّظرِ الى تكليفهم شكر نعْمَته وَقد ذكر غير وَاحِد من الائمة الأذكياء ان فرار الْحَيَوَانَات من الْمَوْت وحرصها على الْحَيَاة من أعظم الْأَدِلَّة على عظم النِّعْمَة بهَا وعَلى وجوب الشُّكْر عَلَيْهَا ثمَّ نعْمَة الْعَافِيَة والتمكين من الْخَيْر والمعارف باكمال الْعُقُول والاسماع والابصار وَالْأَيْدِي والبنية السوية الصَّحِيحَة والانفاس والارزاق الْجَارِيَة

الرَّابِع لما شَاءَ بِالنّظرِ الى عزة ملكه وعظيم سُلْطَانه وقاهر قدرته

الْخَامِس لما لم يحط بِجَمِيعِهِ الا هُوَ سبحانه وتعالى بِالنّظرِ الى وَاسع علمه وَرَحمته

السَّادِس للعذاب الْمُسْتَحق بِكفْر نعْمَته وَجحد حجَّته بِالنّظرِ الى علمه واختياره وَقدرته وقضائه وكتابته

ص: 261

السَّابِع الْحِكْمَة المرجحة فيهم بعقابه على عَفوه وعدله على فَضله الراجعة بعدله الى فَضله الَّتِي هِيَ تَأْوِيل المشابه وَهُوَ الْخَيْر الْمَقْصُود بِمَا ظهر للعقلاء من ارادة وُقُوع مَا قبلهَا من الْمُتَشَابه وَهُوَ الشرور الَّتِي لَا يعلم فِيهَا خير ان سلم وُقُوع ذَلِك

وَهَذَا النَّوْع السَّابِع هُوَ بِالنّظرِ الى خَفِي حكمته مُنْتَهى مُتَعَلق ارادته ومشيئته الَّذِي هُوَ المُرَاد الاول وَهُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه الَّذِي لَا يُعلمهُ الا هُوَ على الْمُخْتَار كَمَا سبق بَيَانه وَدَلِيله فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر

وزادت الْمُعْتَزلَة على هَذِه الامور السَّبْعَة ثَلَاثَة انْفَرَدت بهَا دون أهل السّنة

أَحدهَا تَعْرِيض الاشقياء لدرك ثَوَابه الْعَظِيم وَسُكُون جنَّات النَّعيم فان التَّعْرِيض لذَلِك نعْمَة وان لم يقبلوها كَمَا ورد فِي حَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة كل أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة الا من أبي قَالُوا وَمن يَأْبَى ذَلِك يَا رَسُول الله قَالَ من عَصَانِي فقد أَبى

وَثَانِيها ارادة وُقُوع الطَّاعَة مِنْهُم لظَاهِر قَوْله تَعَالَى (وَمَا خلقت الْجِنّ والانس الا ليعبدون) ومنعت هذَيْن الاشعرية وَغَيرهم كَمَا تقدم

وَثَالِثهَا مصلحَة الْخَوْف لَان الْعُقَلَاء اذا علمُوا ان الله مَا يخلق الا سعيدا غير معذب تجرؤا على الْفساد والفسوق ذكرته البغدادية مِنْهُم وَمَا هُوَ بالضعيف وَلَا بالمخالف للقواعد فقد نَص الله تَعَالَى على أَن بسط الرزق مفْسدَة للعباد فَكيف يرفع الْخَوْف والامان من التَّبعَات فِي الدَّاريْنِ كَذَلِك نَص على أَنه تَخْصِيص الْكَافرين بالتوسيع الْكثير فِي الْغنى مفْسدَة وانه انما تَركه لذَلِك كَمَا فِي سُورَة الزخرف وَلذَلِك قَالَ {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فابهم المغفور لَهُ ليبقى الْخَوْف وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حق الْكفَّار أَيْضا فِي التَّوْفِيق للتَّوْبَة فِي الدُّنْيَا {لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم نعذب طَائِفَة بِأَنَّهُم كَانُوا مجرمين} فَلم يقنطهم الْجَمِيع وَلم يؤمنهم لانهما جَمِيعًا مفسدتان وتركهم فِي مَحل الْخَوْف والرجاء لانهما جنَاحا الدَّوَاعِي الناهضة للعباد الى طَاعَة رَبهم وفيهَا الْحجَّة الدامغة لمن عصى

ص: 262

مِنْهُم وَورد فِي السّنة النَّبَوِيَّة مَعَ ذَلِك كُله غَيره مِمَّا لَا غنى عَن ذكره فان الشَّيْء قد يحسن مَعَ غَيره وَلَا يحسن وَحده كَمَا ذكره كثير من أهل الْعلم فِي جَمِيع الآلام والمصائب لعَظيم الْجَزَاء مَعَ عَظِيم الِاعْتِبَار

فَمن أحسن مَا ورد فِي ذَلِك فِي السّنة حَدِيث فدَاء كل مُسلم من النَّار بِيَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيّ خرجه مُسلم واسناده على شَرط الْجَمَاعَة كلهم وَله طرق جَيِّدَة كَمَا أوضحته فِي العواصم والاجادة وَغَيرهمَا وأوضحت مَا فِيهِ من الْحِكْمَة وَالْعدْل واجماع الْعُقَلَاء على نَظَائِره

فَمن الْعدْل فِي ذَلِك أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَادوا الْمُسلمين فِي الدُّنْيَا وظلموهم وكذبوهم وفعلوا مَا أمكنهم من مضارهم وَمن لم يسْتَطع ذَلِك مِنْهُم ورد انه تمكن مِنْهُ وَأَنه فعله ووالى من فعله من أَصْحَابه وَقد ثَبت وجوب الْقصاص بَين الْمُسلمين بَعضهم من بعض بل بَين الشَّاة الْجَمَّاء وَالشَّاة القرناء فَكيف لَا ينتصف للْمُسلمين من أكفر الْكَافرين المكذبين الْبغضَاء الْمُعْتَدِينَ وَالله تَعَالَى يَقُول {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} وَقد صَحَّ فِي الْأَحَادِيث الثَّابِتَة ان الْقصاص بِالْحَسَنَاتِ والسيئات ان كَانَ للظالم حَسَنَات أَخذ مِنْهَا للمظلوم وان لم يكن حمل الظَّالِم من ذنُوب الْمَظْلُوم بِقدر مظلمته وَهَذَا عدل مَعْقُول وَلَيْسَ فِيهِ مناقضة لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} لَان الْمَعْنى انها تظلم لَا بتحميلها وزر الاخرى لَا انه لَا ينتصف مِنْهَا بِالْحَقِّ وان شقّ فَمَا كَانَ على وَجه الانتصاف من الظَّالِم للمظلوم لم يكن من تحميل الذُّنُوب من لم يَفْعَلهَا ظلما وعدوانا بل هُوَ من الْعدْل الْوَارِد فِي السّمع الْمَعْلُوم لقَوْله تَعَالَى {وأثقالا مَعَ أثقالهم} وَقَول ابْن آدم الصَّالح لِأَخِيهِ الْكَافِر {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك} وَهَذِه أَدِلَّة خَاصَّة مفسرة لما أجمل من قَوْله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَكَذَلِكَ وَردت الْأَحَادِيث الصِّحَاح بِأَن من سنّ سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ اثمها واثم من عمل بهَا من غير أَن

ص: 263

ينقص من آثامهم وان على ابْن آدم اثم من قتل الى يَوْم الْقِيَامَة لانه أول من سنّ الْقَتْل بل قد أَشَارَ الْقُرْآن الْعَظِيم الى هَذَا الحَدِيث الْعَظِيم الى هَذَا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} وَكَذَلِكَ لَا يُنَاقض هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} لانه عُمُوم مَخْصُوص بالاجر على الآلام والاقتصاص من الظَّالِم وَيجوز أَن يفضل الرب سبحانه وتعالى على من يَشَاء كَمَا قَالَ {ويزيدهم من فَضله} لَان فَضله لَيْسَ هُوَ مِمَّا هُوَ حق لَهُم حَتَّى يدْخل فِي قَوْله {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} فَهَذَا مَا فِي فدَاء الْمُسلمين بالكافرين من الْعدْل

وَأما مَا فِيهِ من الْحِكْمَة فَفِيهِ صدق وَعِيد العصاة من الْمُسلمين بذلك وَعدم الْخلف كَمَا أَشَارَ اليه قَوْله تَعَالَى {وفديناه بِذبح عَظِيم} فانه لَا معنى للْفِدَاء الا انه قد كَانَ لزم ذبحه بالامر لَان البداء لَا يجوز على الله سُبْحَانَهُ وَذبح الْفِدَاء يقوم مقَام ذبح الذَّبِيح عليه السلام وَمِنْه فدَاء وَالِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمِائَة من الابل كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل} أَي فديَة لَكِنَّهَا فِي الْكَافرين كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَة الْحَدِيد فِي خطاب الْمُنَافِقين {فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة وَلَا من الَّذين كفرُوا} وَفِي تخصيصهم بِالذكر اشارة الى الْقبُول من الْمُسلمين بمقتضي مَفْهُوم الصّفة والمسلمون أَيْضا باقون على الإصل فِي حسن ذَلِك كَمَا قرر فِي مَوْضِعه وَيَأْتِي مِنْهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَا فِيهِ كِفَايَة وَقد استوفيت مُطَابقَة ذَلِك لعمل الْحُكَمَاء والعقلاء من جَمِيع الْمُسلمين بل من جَمِيع النَّاس أَجْمَعِينَ فِي كتاب العواصم

وَمِمَّا جَاءَ فِي السّنة من حِكْمَة الله تَعَالَى فِي خلق الْكَافرين فِي الدُّنْيَا ونفع الْمُسلمين بهم مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث سَلمَة بن نفَيْل الْكِنْدِيّ قَالَ كنت

ص: 264

جَالِسا عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقيل أَزَال النَّاس الْخَيل وَوَضَعُوا السِّلَاح وَقَالُوا لَا جِهَاد قد وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا فاقبل رَسُول الله بِوَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ كذبُوا الْآن جَاءَ الْقِتَال وَلَا تزَال من أمتِي أمة يُقَاتلُون على الْحق ويزيغ الله قُلُوب أَقوام ويرزقهم مِنْهُم حَتَّى تقوم السَّاعَة وَحَتَّى يَأْتِي وعد الله الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر الى يَوْم الْقِيَامَة الحَدِيث قَالَ الْمزي فِي أَطْرَافه رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي الْخَيل باسنادين الى أبي عَلْقَمَة والوليد بن عبد الرَّحْمَن الجرشِي كِلَاهُمَا عَن جُبَير بن نفَيْل عَن سَلمَة

قلت واسناد النَّسَائِيّ جيد قوي رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي الْمسند بطرِيق أُخْرَى الى الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن فصح الحَدِيث وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَيشْهد لذَلِك من كتاب الله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا من الْمُجْرمين وَكفى بِرَبِّك هاديا ونصيرا} وَمَا اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِعِلْمِهِ فِي ذَلِك من الحكم والعنايات الحميدة أَكثر وَأعظم وَالله سُبْحَانَهُ أعز وَأعلم وَأجل وَأحكم آمنا بِهِ وبجميع أَسْمَائِهِ ومحامده وَله الْمِنَّة علينا فِي ذَلِك وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء

الْبَحْث السَّابِع قد ظهر من جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين استقباح الظَّوَاهِر السمعية مثل قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فأوجبوا تَأْوِيلهَا وأمثالها وشنعوا على من آمن بهَا من غير تَأْوِيل الا التَّأْوِيل الَّذِي اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ على مَا تقدم وَالْعجب من المقبحين لذَلِك من الْمُخَالفين أَنهم قبحوا خلق أهل النَّار لَهَا وارادة ذَلِك لَهُم فِي الِابْتِدَاء مَعَ تحسينهم لفعل ذَلِك بهم فِي الِانْتِهَاء بل أوجبوا ذَلِك على الله تَعَالَى فِي الِانْتِهَاء وأوجبوا عَلَيْهِ تخليدهم فِي النَّار وقبحوا مِنْهُ الْعَفو عَن أحد مِنْهُم فَكيف قبحوا ارادة ذَلِك الْوَاجِب عِنْدهم فِي الِابْتِدَاء مَعَ ان الارادة لَا تزيد على المُرَاد فِي الْحسن والقبح عقلا وَشرعا فان كَانَ عَذَاب الْآخِرَة من الْحق الرَّاجِح الْمُشْتَمل على الْعدْل والمصالح كَمَا هُوَ الْحق عقلا وسمعا كَمَا يَأْتِي فَلَا يَنْبَغِي تقبيح ارادته وَلَا تقبيح خلق أَهله لَهُ فِي الِابْتِدَاء لَان مَا حسن فعله حسنت ارادته فَكيف بِمَا وَجب

ص: 265

فعله والارادة أَهْون من التعذيب نَفسه وَأَقل مضرَّة مِنْهُ فَكيف يعقل أَن يكون التعذيب وَاجِبا على الله تَعَالَى وارادته مِنْهُ قبيحة

فان قَالُوا انما قبحناها اذا وَقعت مُتَقَدّمَة لمعاصيهم لانهم حِينَئِذٍ غير مستحقين لذَلِك قُلْنَا انها لم تعلق بهم حِينَئِذٍ وانما تعلّقت بهم حِين الِاسْتِحْقَاق لانه لم يرد أَن يُوقع بهم الْعَذَاب قبل ذَلِك بل بعده والعزم على مثل ذَلِك من مثلنَا حسن عقلا فَكَذَلِك الارادة الْمُتَقَدّمَة فِي حَقه تَعَالَى وَقد ورد السّمع بتقدمها وَالدَّلِيل على من ادّعى قبح ذَلِك

وَالْقَوْل بَان عَذَاب الْآخِرَة حق رَاجِح مُشْتَمل على الْعدْل والمصالح الَّتِي هِيَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه هُوَ قَول البغدادية وَطَائِفَة كَثِيرَة من السّلف وَالْخلف وَمن تَبِعَهُمْ من أهل السّنة كَمَا نَصره ابْن تيمة وَأَصْحَابه وَأَجَازَ ذَلِك الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسنى وَاحْتج عَلَيْهِ كَمَا تقدم وَيدل على ذَلِك اقسام الله تَعَالَى فِي غير آيَة على وُقُوعه وتسميته حَقًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم} وانما يخْتَلف هَؤُلَاءِ فِي قدر الْعَذَاب الْمُشْتَمل على الْمصَالح الراجحة فَمنهمْ من جوز ذَلِك فِيهِ مُطلقًا وَلَو مَعَ الخلود والدوام الَّذِي لَا نِهَايَة لَهُ وَمِنْهُم من جوزه فِيهِ مُطلقًا الا فِي الخلود

وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل دلَالَة السّمع على الخلود قَاطِعَة أم لَا لوُرُود الِاسْتِثْنَاء فِيهِ فِي الْقُرْآن والْحَدِيث الا تَحِلَّة الْقسم ولغير ذَلِك كَمَا تقدّمت اليه الاشارة فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة وَهُوَ مَبْسُوط فِي موَاضعه فقد صنفت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مصنفات مُسْتَقلَّة

وَالْعجب مِنْهُم كَيفَ يمْنَعُونَ تقدم إِرَادَته مَعَ مثل هَذِه الْأَقْسَام الْمُؤَكّدَة السَّابِقَة من الله تَعَالَى على فعله وتسميته حَقًا وَلم يبْق بَينهم خلاف وَبَين أهل السّنة الا فِي تَجْوِيز تقدم ارادته لذَلِك والنصوص شاهدة لاهل السّنة بتقدمها وَكَذَلِكَ الْعُقُول

أما النُّصُوص فَمثل قَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميرا}

ص: 266

) وَهِي وَاضِحَة فِي تقدم الارادة قبل وَقت قطع الاعذار وَالْعَذَاب لَا يَقع قبل ذَلِك فِي حكم الله تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَفِي آيَة أُخْرَى {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَفِي آيَة اخرى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا} الاية وَفِي هَذِه الْآيَات الثَّلَاث دلَالَة وَاضِحَة على أَن عَذَاب الاخرة من قبيل الْحق الرَّاجِح المتضمن للْمصَالح وَهَذِه الْعبارَات الْمُؤَكّدَة فِي وُقُوعه كَلَام من قد أَرَادَ ذَلِك فَكيف يقسم عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُريدهُ

وَأما دَلِيل الْعُقُول على ذَلِك فلَان الارادة انما تتأخر فِي حَقنا لتأخر الْعلم بالمرجحات وَعدم الْعلم بِانْتِفَاء الْمَوَانِع والمعارضات وَلذَلِك قَالَ أَبُو الْحُسَيْن انها هِيَ الدَّاعِي الرَّاجِح الرَّاجِع الى الْعلم لملازمة الْفِعْل لذَلِك ولملازمة الارادة لَهُ وَذَلِكَ مِنْهُ يُفْضِي الى نَحْو قَول الاشعرية فِي قدم الارادة وَأما الاثري السّني فَلَا حَاجَة لَهُ الى الْخَوْض فِي ذَلِك كَمَا تقدم

الْبَحْث الثَّامِن ان ارادة الله تَعَالَى نَافِذَة وانه لَا راد لما أَرَادَ وَقد تقدم كثير مِنْهَا وَلَكِن فِي هَذَا الْبَحْث فَوَائِد مهمة لم تقدم وَلَا بَأْس بِبَعْض التّكْرَار للتَّأْكِيد والفائدة وَلذَلِك ورد بِهِ كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ أَكثر الْكتب حِكْمَة وأحكاما

وَهَذَا الْبَحْث مَبْنِيّ على ان الله تَعَالَى على كل شَيْء قدير وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَلَكِن أَكثر الْمُعْتَزلَة زَعَمُوا ان الله تَعَالَى مُرِيد لفعل جَمِيع مَا يقدر عَلَيْهِ من هِدَايَة الْمُكَلّفين واللطف بهم بل اعتقدوا ان ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ ولاجل اعْتِقَادهم وُجُوبه عَلَيْهِ قطعُوا حِين لم يَفْعَله انه غير قَادر عَلَيْهِ تَنْزِيها لَهُ من الاخلال بِالْوَاجِبِ

ص: 267

وَقد صرح الامام يحيى بن حَمْزَة بابطال قَوْلهم فِي كِتَابه التَّمْهِيد فِي أَوَائِل الْبَاب السَّابِع من النبوات على ذَلِك وَهُوَ قَول جمَاعَة من قدماء مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي وَالسَّيِّد أَبُو عبد الله الْحُسَيْنِي فِي كِتَابه الْجَامِع الْكَافِي وَهُوَ قَول غير وَاحِد مِمَّن عاصرت من أئمتهم عليه السلام

وَهَذِه الْمَسْأَلَة هفوة الْمُعْتَزلَة الْكُبْرَى فِي مُقَابلَة هفوة الجبرية فِي نفسى الِاخْتِيَار وَبهَا تمكن خصومهم مِنْهُم وَمن سلم مِنْهُم من هَذِه الْمَسْأَلَة قَارب أهل السّنة فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال بل كَانَ مِنْهُم فان أَمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ مَا وَافق أهل السّنة فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال الا فِيهَا فعدوه من أئمتهم وَلم يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِك وَلَا شكّ فِي صِحَة قدرته على هِدَايَة الْخلق أَجْمَعِينَ باللطف وَالِاخْتِيَار عقلا وسمعا وَلَا شكّ انه أحوط وَأولى من قَول الْمُعْتَزلَة فانه يُمكن فِي الْعقل أَن يكون الله تَعَالَى انما ترك ذَلِك لحكمة اسْتَأْثر بعلمها مثل حكمته فِي خلق أهل النَّار والعقول تقصر عَن الاحاطة بِجَمِيعِ حِكْمَة الله تَعَالَى ومعلوماته فَيحسن فِي بعض مَا لَا تعرف الْعُقُول حسنه أَن يكون حسنا عِنْد الله لحكمة اخْتصَّ بعلمها فَيجب قصر استقباح الْعُقُول على من لم يعلم من الحكم فِي الغيوب المحجوبة الا مَا يُعلمهُ وَلَيْسَ يحسن أَن يُقَال ان الله لَا يقدر على شَيْء لوجه حسن اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَلَا نَحْو ذَلِك من الاعذار لَان عدم الْقُدْرَة نقص فِي الربوبية وان مثل الْجَهْل بِبَعْض الامور وَأما التحسين والتقبيح فبابه وَاسع وتفاوت المعارف فِيهِ غير وَاقِف على حد وَلَا نِهَايَة لانه مَوْقُوف على الْوُجُوه والاعتبارات وَمَعْرِفَة العواقب الحميدة والغاية الغيبية الْبَعِيدَة

والمرجحات الْخفية عِنْد تعَارض الْمصَالح والمفاسد وَهَذَا بَاب وَاسع يدْخلهُ التَّأْوِيل الْقَرِيب والبعيد بل قد اخْتلفُوا فِي هَذَا أَحْوَال المخلوقين كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن مُوسَى وَالْخضر عليهما السلام وَلَا يزَال الْعَالم يُنكر على الاعلم كَيفَ الْجَاهِل على الْعَالم كَيفَ الْمَخْلُوق الظلوم الجهول على علام الغيوب كَمَا تقدم فِي الْحِكْمَة فِي خلق الأشقياء فَكَمَا أَن الْحِكْمَة فِي خلق الأشقياء لما خفيت لم يحسن من أحد أَن يَقُول انه تَعَالَى غير مُخْتَار فِي وجودهم ورد أهل الاسلام ذَلِك على الفلاسفة فَكَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا

ص: 268

ثمَّ ان الْمُعْتَزلَة رجعُوا إِلَى قَول أهل السّنة فِي هَذَا بعد التعسف الشَّديد فِي تَأْوِيل الْقُرْآن وَالسّنة وَاجْتمعت الْكَلِمَة فِي الْحَقِيقَة على ان الله تَعَالَى على كل شَيْء قدير وعَلى مَا يَشَاء لطيف وَمَا بَقِي الا اللجاج فِي المراء بَين أهل الْكَلَام كَمَا أوضحت ذَلِك فِي الْبَحْث الْخَامِس من هَذِه الْمَسْأَلَة أَعنِي مَسْأَلَة الارادة

ونزيد هُنَا وَجها لم نذكرهُ هُنَاكَ وَهُوَ ان الله تَعَالَى قد نَص على دين الاسلام انه الْفطْرَة قَالَ تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم} وَاتفقَ أهل الحَدِيث على صِحَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وانما أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه وَقد ذكر الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة عَن أَكثر أهل السّنة أَن الْآيَة على عمومها فِي السُّعَدَاء والاشقياء وَاحْتج لَهُم بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك وَغَيره وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَقَوله صلى الله عليه وسلم وانما يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه انما هُوَ فِي الاشقياء فَلَزِمَ الْمُعْتَزلَة أَن يَقُولُوا بِهِ ويتركوا قَوْلهم ان الله بني الاشقياء على بنية علم مَعهَا انه لم يبْق لَهُم لطف فِي مقدوره وَلزِمَ أهل السّنة أَن يَقُولُوا بِهِ وَلَا يعتقدوا ان أَحَادِيث الْقَضَاء وَالْقدر مبطلة للاختيار وَلَا لحجة الله تَعَالَى وَفِي الْحَقِيقَة ان الْجَمِيع قد فعلوا بِمُقْتَضَاهُ لَكِن أهل السّنة بالنصوص الصَّرِيحَة الْكَثِيرَة والمعتزلة فِي بعض الْمَوَاضِع كَمَا تقدم فِي الْبَحْث الْخَامِس على ان هَذِه الْآيَة وَهَذَا الحَدِيث عِنْد الْمُعْتَزلَة مِمَّا يصولون بِهِ على أهل السّنة وَلَيْسَ كَذَلِك بل هما على الْمُعْتَزلَة لَا لَهُم

وانما ظنُّوا ذَلِك لانهما حجتان على الجبرية وهم يَعْتَقِدُونَ الا العارفين مِنْهُم ان أهل السّنة كلهم جبرية فَهَذَا سَبَب وهمهم وَأما كَونهمَا على الْمُعْتَزلَة فلقولهم ان اللطف غير مَقْدُور لله تَعَالَى وتعليلهم ذَلِك بانه تَعَالَى بنى الاشقياء على بنية لَا تقبل اللطف ثمَّ ان أهل السّنة يلزمونهم تعجيز الرب تَعَالَى بذلك وهم يأبون ذَلِك وَيَقُولُونَ انه غير قَادر على اللطف وَلَا يُوصف بِالْعَجزِ وانما قَالُوا ذَلِك لاعتقادهم أَن اللطف بالاشقياء محَال كوجود ثَان لله تَعَالَى عَن ذَلِك

ص: 269

والقادر على كل شَيْء لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على المحالات لانها لَيست بِشَيْء والا لزم أَن يُوصف بِالْقُدْرَةِ على لَا شَيْء

وَقَوْلهمْ هَذَا ضَعِيف لَان الاحالة لم تبين فِي اللطف بالعصاة وَلَو تبين ذَلِك لقبح تكليفهم على أصُول الْمُعْتَزلَة فان خلقهمْ على تِلْكَ البنية مفْسدَة فِي التَّكْلِيف وهم لَا يجيزون الْمُفْسد فِيهِ وَلَو جوزوها فِيهِ مَا أوجبوا اللطف فِيهِ والا لتناقض انما الْمحَال مَا لَا يُمكن تصَوره مثل كَون الشَّيْء قَدِيما حَادِثا كَمَا فِي تقديرهم ان الله لَو خلق مثله تَعَالَى عَن ذَلِك لم يكن مثله قطّ لَان الْمَخْلُوق حَادث مربوب بِالضَّرُورَةِ وَالله تَعَالَى رب قديم فَقِيَاس هَذَا باللطف بالعصاة واه لَا يرضى فِي الْفُرُوع الظنية

وَقد اعتذرت الفلاسفة بِمثل عذرهمْ فِي هَذَا فِي قَول الفلاسفة انه لَيْسَ فِي مقدورالله تَعَالَى أحسن من هَذَا الْعَالم مَعَ انه على كل شَيْء قدير لانهم زَعَمُوا انه لَو كَانَ فِي مقدوره لَا وجده على الْفَوْر والا كَانَ بَخِيلًا تَعَالَى عَن ذَلِك وَأجِيب عَلَيْهِم بِمثل مَا أُجِيب على الْمُعْتَزلَة من ان حِكْمَة الله تَعَالَى أعظم من أَن يُحِيط بهَا خلقه وانه قد بَين مِنْهَا انه يبلو عباده ليميز الْخَبيث من الطّيب كَمَا صرحت بِهِ الْآيَات القرآنية

وَاعْلَم ان قَول أهل السّنة فِي الْمَشِيئَة وَالْقَضَاء وَالْقدر وسبقها للاعمال لَا يَقْتَضِي الْجَبْر كَقَوْل الْجَمِيع فِي سبق الْعلم بل كثير من أهل السّنة فسروا الْقَضَاء وَالْقدر بِعلم الْغَيْب السَّابِق مِنْهُم القَاضِي عِيَاض فِي شَرحه لمُسلم وَالنَّوَوِيّ فِي شَرحه لَهُ وَابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ وَغَيرهم وانما وَقع الْخلاف فِيمَا تعلق بِهِ الارادة السَّابِقَة كَمَا تقدم تَحْقِيقه فِي المباحث الْمُتَقَدّمَة وانما مَقْصُود أهل السّنة بذلك نفي الْعَجز والقصور عَن قدرَة الله تَعَالَى فقد وَقع الِاتِّفَاق على نَفْيه فِي الْحَقِيقَة ان شَاءَ الله تَعَالَى

وَقد وضح بِذكر هَذِه المباحث للْخلاف هُنَا خمس مَرَاتِب قد بسطتها فِي العواصم وَلَا غنى عَن الرَّمْز اليها على سَبِيل الايجاز الْكثير

الْخلاف الأول هُوَ الْخلاف فِي قدرَة الله تَعَالَى على هِدَايَة الله العصاة مَا داموا على بنيتهم الَّتِي خلقُوا عَلَيْهَا حَتَّى يغيرها الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي فَرغْنَا

ص: 270

من ذكره وَبَيَان الْحجَّة على بُطْلَانه وعَلى ان الْمُخَالف فِيهِ أَخطَأ فِي الْعبارَة وَوَافَقَ فِي الْمَعْنى لَا قدرته تَعَالَى على تَغْيِير البنية هِيَ قدرته على اللطف بِعَينهَا فارتفع الْخلاف وَللَّه الْحَمد

الْخلاف الثَّانِي القَوْل بِنَفْي قدرته تَعَالَى على ذَلِك مُطلقًا ادَّعَاهُ بعض أهل الْعَصْر على أَصْحَاب أبي هَاشم المعتزلي وَلم ينصوا عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي ان يصدق عَلَيْهِم حَتَّى ينصوا عَلَيْهِ لمُخَالفَته الْأَدِلَّة الجلية من الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول كَمَا أوضحته فِي العواصم وانما حمل هَذَا على دَعْوَاهُ مَا رأى فِي اعْتِرَاف الْمُعْتَزلَة بِخِلَافِهِ من لُزُوم مُوَافقَة أهل السّنة ففر من مُوَافقَة خصومه الى مَا هُوَ شَرّ مِنْهَا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار

وَقد تمدح الرب سبحانه وتعالى بانه لَو شَاءَ لجعل منا مَلَائِكَة وَقَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَقَالَ {كونُوا حِجَارَة أَو حديدا أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الَّذِي فطركم أول مرّة} وَقد علم من الدّين واجماع الْمُسلمين انه تَعَالَى قَادر على تَغْيِير صِفَات الْأَجْسَام مثل قلب خبث الْحَدِيد فضَّة أَو ذَهَبا وقلب الْبَهَائِم نَاسا وَالنَّاس بهائم مثل مَا خسف باليهود قردة بقوله لَهُم {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} فَكَذَلِك لَو شَاءَ خلق من الاشقياء أَنْبيَاء وملائكة وَمَا السِّرّ فِي تَغْيِير شَيْء مِنْهُم الا تليين قساوة قُلُوبهم كَمَا أوضحته فِي العواصم فَليُرَاجع اذا احْتِيجَ الى ذَلِك

الْخلاف الثَّالِث خلاف من منع عُقُوبَة العصاة بالاضلال وَقد توهم كثير مِنْهُم أَن ذَلِك يُؤَدِّي الى الْجَبْر فيتأولونه بالخذلان وَلَا يعلم أَن الاضلال لَيْسَ من الْجَبْر فِي شَيْء انما هُوَ الخذلان وسلب الالطاف أَلا ترى أَن من هداه الله تَعَالَى فَلم يَقْهَرهُ وَلم يجْبرهُ على الْهدى فَكَذَلِك من أضلّهُ فَلم يَقْهَرهُ وَلم يجْبرهُ على الضلال انما هُوَ التَّيْسِير للعسرى عُقُوبَة كَمَا ان الْهدى هُوَ

ص: 271

التَّيْسِير لليسرى مثوبة وَأما من خَالف فِي هَذَا فُلَانُهُ لم يستحسن ارادة وُقُوع الذَّنب عُقُوبَة مَعَ كَرَاهَة الذَّنب نَفسه وَقد تقدم القَوْل فِيهِ مُسْتَوْفِي فِي الْوَجْه الثَّالِث من المبحث الثَّالِث

الْخلاف الرَّابِع خلاف من يُخَالف فِي تَجْوِيز ارادة وُقُوع الذَّنب مَعَ كَرَاهَة الْوَاقِع ليظْهر كثير من اسمائه تَعَالَى الْحسنى مثل اسمائه تَعَالَى الْعَفو الغفور التواب الْوَاسِع الْحَلِيم الرَّحْمَن الرَّحِيم وَقد صحت النُّصُوص النَّبَوِيَّة بِمَا يَقْتَضِي هَذَا كَمَا خرجه مُسلم عَن أبي أَيُّوب الانصاري وَعَن أبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون كي يغْفر لَهُم وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة كي يَسْتَغْفِرُوا فَيغْفر لَهُم وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة غَيرهمَا كَمَا ذكرته فِي العواصم وَذكره الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَبعد وُرُود السّمع بِهَذَا فالحجة على من ادّعى قبحه لَان قبحه لَا يعلم بِالضَّرُورَةِ بالاجماع فَإِن الاجماع انما ينْعَقد على مثل قبح الْكَذِب الضار وَحسن الصدْق النافع أما مثل الْكَذِب النافع والصدق الضار فانه استدلالي والسمع فِيهِ مقدم مَقْبُول

الْخلاف الْخَامِس قَالَ أهل السّنة وَأَبُو هَاشم وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة يجوز أَن يَبْتَلِي الله تَعَالَى العَبْد فِي أول أَحْوَال تَكْلِيفه قبل أَن يَعْصِي وَيسْتَحق الْعقُوبَة بِمَا يعلم انه يَعْصِي عِنْده مُخْتَارًا لحكمة لَا يعلمهَا الا هُوَ كَمَا يحسن ان يكلفه وَهُوَ يعلم ان يَعْصِي حِينَئِذٍ وَلَو لم تقع مِنْهُ الْمعاصِي وَلم يفرقُوا بَينهمَا وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو عَليّ الجبائي من الْمُعْتَزلَة وَغَيره وَهَذِه مسَائِل الْخلاف بَين أبي عَليّ وَبَين وَلَده أبي هَاشم فانه فِي هَذِه وَأَصْحَابه مَعَ أهل السّنة وَالْمرَاد بِهَذَا التجويز انه لَو ورد بِهِ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَجب قبُوله وَلَو ورد بِهِ ظَاهر يحْتَمل التَّأْوِيل لم يجب تَأْوِيله بل لم يحل وَقيل فِي هَذَا مَا دلّ عَلَيْهِ السّمع والسمع أقوى الادلة فِي مثل هَذِه المحتملات فِي الْعُقُول وَقيل انه لَا يجوز فِي هَذِه الْحَال من الله تَعَالَى الا التَّخْلِيَة بَين العَبْد وَبَين نَفسه بعد التَّمْكِين وَمعنى التَّخْلِيَة ترك اللطف والخذلان مَعًا وَقد دلّ السّمع على ان العَبْد لَا يخْتَار حِينَئِذٍ إِلَّا الْمعْصِيَة وَدلّ على ان فعل اللطف حِينَئِذٍ فضل من الله يؤتيه من يَشَاء كَمَا يخْتَص برحمته من يَشَاء بِالنَّصِّ وَذَلِكَ التَّخْصِيص لحكمة بَالِغَة

ص: 272

وَيدل على ذَلِك قَول يُوسُف عليه السلام {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} بل قَول الله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {فلولا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لكنتم من الخاسرين} وَأَبُو عَليّ يحمل ذَلِك فِي الِابْتِدَاء على فَضله الْعَام بخلقه

وروى الْحَاكِم فِي تَفْسِير سُورَة (ص) من حَدِيث ابْن عَبَّاس ان سَبَب ذَنْب دَاوُد عليه السلام انه قَالَ اللَّهُمَّ انك تعلم انه لَا يمْضِي سَاعَة من ليل أَو نَهَار الا وَهُوَ يصعد اليك عمل صَالح من آل دَاوُد يَعْنِي نَفسه فعتب الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ أما علمت انه لَوْلَا اعانتي لَك الحَدِيث وروى نَحْو ذَلِك فِي سَبَب ذَنْب آدم عليه السلام وَرُوِيَ الْحَاكِم وَأحمد من حَدِيث زيد بن أَرقم مَرْفُوعا وان تَكِلنِي الى نَفسِي تَكِلنِي الى ضَيْعَة وَضعف وذنب وخطيئة وَقَالَ الْحَاكِم فِيهَا كلهَا انها صِحَاح وَالْقُرْآن يدل على ذَلِك ويغني عَنهُ كَمَا تقدم وَهَذِه التَّخْلِيَة فِي الِابْتِدَاء لَا تسمى اضلالا لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَلقَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} كَمَا تقدم وانما تسمى ابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَالله تَعَالَى لم يقل انه لَا يَبْتَلِي بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين انما قَالَ {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} كَمَا انه لَا يعذب غَيرهم فالاضلال من جنس الْعقَاب وَقد دلّ السّمع على ان الله خلق الْخلق فِي الِابْتِدَاء على الْفطْرَة نعْمَة وَرَحْمَة للأوليائه ونقمة وَحجَّة على اعدائه كَمَا خلقهمْ كَذَلِك فِي الْخلق الأول فِي عَالم الذَّر كَمَا جَاءَ فِي الاحاديث الَّتِي لَا مَانع من صِحَّتهَا وَقد أوضحتها فِي كتاب العواصم فِي الْوَهم الثَّلَاثِينَ مِنْهُ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَله أسلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} ثمَّ دلّ الْقُرْآن على ان الله تَعَالَى يبْدَأ باللطف ثمَّ يُعَاقب من يَشَاء مِمَّن لم يقبل اللطف

ص: 273

قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} وَقَالَ {ثمَّ السَّبِيل يسره} وَقَالَ {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَان ذَلِك {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يضرعون ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء فأخذناهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ} وَدلّ السّمع أَيْضا على انه تَعَالَى يبتدي بالاحسان من غير اسْتِحْقَاق وَلَا يبتدي بالعقوبة من غير اسْتِحْقَاق بل يُمْهل بعد الِاسْتِحْقَاق وَيحكم ويكرر الْحجَّة ويعذر وَيَعْفُو عَن كثير كَمَا قَالَ تَعَالَى ثمَّ ينْتَقم مِمَّن يَشَاء بالحكمة الْبَالِغَة وَيَعْفُو عَمَّن يَشَاء بِالرَّحْمَةِ الواسعة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} والمصيبة فِي الدّين أعظم المصائب وَقد جَاءَ ذَلِك فِي أُمُور الدّين مَنْصُوصا فِي قَوْله {فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} {وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} وَقَوله {وأضله الله على علم} أَي علم باستحقاقه الاضلال وأصرح من ذَلِك قَوْله {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} فَمَا كَانَ على جِهَة الْعقُوبَة لم يَفْعَله الله بِهِ ابْتِدَاء قبل الِاسْتِحْقَاق وَمَا كَانَ على جِهَة الِابْتِدَاء الَّذِي لَا يَصح التَّكْلِيف إِلَّا بِهِ فعله وَمَا زَاد على ذَلِك مِمَّا يَقع عِنْده الْمعاصِي فَهُوَ مَسْأَلَة الْخلاف

فان قيل إِن القَوْل ان العَبْد يضل فِي الِابْتِدَاء بِاخْتِيَارِهِ بِغَيْر اضلال من الله يُؤَدِّي إِلَى أَنه يملك لنَفسِهِ نفعا وضرا على جِهَة الِاسْتِقْلَال وَهَذَا مِمَّا يمنعهُ السّمع

فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن الأول أَنه لَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك إِلَّا لَو قُلْنَا أَنه الَّذِي خلق نَفسه فسواها فألهمها فجورها وتقواها وَخلق قدرته وتمكنه وَقدر لنَفسِهِ أَفعاله ومبدأه ومصيره وهداها النجدين ومكنها الْأَمريْنِ وَأما إِذا

ص: 274

كَانَ ذَلِك فعل الله فَمن أَيْن لَهُ الِاسْتِقْلَال وَللَّه الْخلق وَالْأَمر واليه يرجع الْأَمر كُله وَلَكِن الله قد اسْتثْنى من تعجيز الْعباد حَيْثُ قَالَ {قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله} وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء هُوَ الَّذِي رددنا بِهِ قَول الجبرية حَيْثُ احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} فانهم تمسكوا بِنَفْي الْمَشِيئَة ونسوا الِاسْتِثْنَاء وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك فَلَا تؤاخذني فِيمَا لَا أملك وَقَالَ مُوسَى عليه السلام {رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي} وَذَلِكَ مثل كوننا لَا نعلم إِلَّا مَا علمنَا يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وَلم يؤد إِلَى اسْتِقْلَال العَبْد فِي الْعلم فَلَا بِدعَة فِي القَوْل بِأَن العَبْد يملك بعض الامور بِتَمْلِيك الله لَهُ ذَلِك لاقامة حجَّته أَو سَعَة رَحمته أَو خَفِي حكمته

وَالْقطع بِأَن ذَلِك محَال غير مُمكن يُؤَدِّي إِلَى تعجيز الله عَنهُ وَرُجُوع الْقَهْقَرِي من مَذْهَب السّنة وَالْمُسْلِمين فَانْظُر إِلَى الغلو فِي الْأُمُور كَيفَ يَنْتَهِي إِلَى الْوُقُوع فِيمَا كَانَ الْفِرَار مِنْهُ فان السّني إِنَّمَا يحاول الْبَقَاء على تَعْظِيم الْقُدْرَة لله عز وجل فاذا غلا فِي مَذْهَب رَجَعَ إِلَى تعجيز الله الَّذِي كَانَ يشنع بِهِ على المبتدعة فَصَارَ هَذَا التَّمْلِيك من الله تَعَالَى لمن يَشَاء من عباده من جملَة أَحْكَام ملكه وعطاياه الَّتِي لَا مَانع لما أعْطى وَلَا معطى لما منع على معنى مَا كَانَ يَقُول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لنا من أمرنَا مَا شِئْنَا وَإِنَّمَا نَأْخُذ مَا أعطينا فَجعل أَخذهم مَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى من فعلهم ليَكُون فرق بَين الْحَيَوَان الْمُخْتَار والجماد المسخر وَهُوَ فرق مَعْلُوم ضَرُورَة وعقلا وَشرعا مدرك بالفطرة الَّتِي فطر الله الْخلق وَلنْ تَجِد لسنة تبديلا فنسأل الله الِاعْتِدَال وَترك بدع الْجَبْر والاعتزال وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل

الْوَجْه الثَّانِي إِن العَبْد لَا يسْتَقلّ فِي الْخَيْر لقَوْل الله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا} وَلِحَدِيث أبي ذَر رضي الله عنه من وجد خيرا فليحمد الله وأمثال ذَلِك كثير وَأما الشَّرّ فَسَيَأْتِي تَحْقِيقه فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال وَالظَّاهِر أَن اللطف

ص: 275

يَنْقَسِم فَمِنْهُ لطف هِدَايَة وَمِنْه لطف حجَّة وازاحة عذر فَمن وضح لَهُ فِي هَذِه الْمرتبَة الْخَامِسَة من مواقع الْخلاف شَيْء قَالَ بِهِ وَإِلَّا فالموقف مَعَ الْقطع بِصِحَّة الْقَوَاعِد الثَّلَاث وَهِي عُمُوم قدرَة الله تَعَالَى ونفوذ مَشِيئَته وَكَمَال حجَّته بالتمكين وَالْبَيَان

وَبِالْجُمْلَةِ فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة على العصاة فِي الِابْتِدَاء والانتهاء علمنَا تفاصيلها أَو لم نعلمها مَعَ مَا لَهُ عَلَيْهِم من النعم وَله سبحانه وتعالى الْمِنَّة الْبَالِغَة على المطيعين فِي الِابْتِدَاء والانتهاء علمنَا تفاصيلها أَو لم نعلمها مَعَ تجاوزه عَنْهُم من الذُّنُوب وكل هَذَا مَعْلُوم من الدّين وَإِنَّمَا نسعى فِي تَقْرِيره فِي الْقُلُوب وَزِيَادَة الْيَقِين بِهِ وَنفي الشُّبُهَات عَنهُ وَرفع الْخُصُومَات فِيهِ وَالله سبحانه وتعالى أعلم

وَاعْلَم أَن طَرِيق الْمُتَكَلِّمين فِي مثل هَذِه المشكلات المسارعة إِلَى الْقطع بِأحد الِاحْتِمَالَيْنِ وان خَفِي الامر وَالْأولَى عِنْدِي عدم المسارعة إِلَى ذَلِك وَعدم الجراءة عَلَيْهِ لما ذكره الْمُؤَيد عليه السلام أَن الْخَطَأ فِي ذَلِك قد يَنْتَهِي إِلَى حد الْكفْر وَالْخُلُود فِي الْعَذَاب وَهَذَا خطر عَظِيم لَا يُسَارع إِلَى مَا يحْتَملهُ أدنى احْتِمَال عَاقل فان كَانَ لابد من اخْتِيَار كَانَ القَوْل الْمُخْتَار أَكثر الاقوال ملاءمة للسمع وأكثرها ثَنَاء على الله تَعَالَى وأبعدها من المتشابهات لقَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَقد ذكرت هَذَا غير مرّة

الْبَحْث التَّاسِع فِي الْفرق بَين الْمحبَّة والرضى والارادة والمشيئة فَاعْلَم أَن الْفرق بَينهمَا فِي اللُّغَة وَاضح فالمحبة والرضى نقيض الْكَرَاهَة والارادة والمشيئة مَعْنَاهُمَا وَاحِد وَهُوَ مَا يَقع الْفِعْل بِهِ على وَجه دون وَجه كَمَا تقدم فِي أول المباحث

بَيَان ذَلِك أَن الصَّائِم العاطش يحب شرب المَاء فِي حَال صَوْمه بالطبيعة وَلَا يُريدهُ بالعزيمة وَنَحْو ذَلِك فاذا عرفت ذَلِك فَاعْلَم أَن الْمحبَّة قد يعبر عَنْهَا بِالْمَشِيئَةِ والارادة كَمَا تقدم قَول الشَّاعِر

ص: 276

(يُرِيد الْمَرْء أَن يُعْطي مناه

ويأبى الله إِلَّا مَا أَرَادَ)

أَي يحب أَن يعْطى مناه فَتَأمل ذَلِك لتعرف موَاضعه حَيْثُ يتعارض السّمع فانه قد تقدم قَول الشهرستاني أَن الارادة الْمَحْضَة الَّتِي لَيست بِمَعْنى الْمحبَّة لَا تعلق بِأَفْعَال الْغَيْر وَإِنَّمَا تعلق من كل مُرِيد بِأَفْعَال نَفسه وَأَن الارادة الَّتِي تعلق بِفعل الْغَيْر هِيَ الْمحبَّة لَكِن أهل الْكَلَام من الأشعرية والمعتزلة لَا يجيزونها على الله تَعَالَى وَأهل السّنة والمتكلمون مِنْهُم كَابْن تَيْمِية وَمن تَابعه يجيزونها مُجَرّدَة من نقائصها المختصة بالمخلوقين كَسَائِر الصِّفَات صِفَات الله تَعَالَى اتبَاعا مِنْهُم لنصوص الْكتاب وَالسّنة وَالسَّلَف وَقد تقدم طَرِيق أهل السّنة فِي هَذَا وَأَمْثَاله عِنْد الْكَلَام على الرَّحْمَن الرَّحِيم وَسَائِر الْأَسْمَاء الْحسنى وَإِن مُجَرّد الِاشْتِرَاك فِي لفظ مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الْمَعْنى لَا يَقْتَضِي التشيبه

وَقد تقدم كَلَام الْغَزالِيّ فِي ذَلِك الْمَنْقُول من المعصد الْأَسْنَى وَهُوَ كَلَام مجود وأجود مِنْهُ كَلَام ابْن تَيْمِية فِي ذَلِك وَمِثَال ذَلِك صفة الْوُجُود والحي فانهما يطلقان على الله تَعَالَى على صفة الْكَمَال الَّذِي لَا يسْتَلْزم صفة نقص وعَلى عباده على وُجُوه تَسْتَلْزِم جَوَاز الفناء وَالْمَوْت وَالْمَرَض وَاعْتِرَاض الْآفَات والعلل وَلم يسْتَلْزم ذَلِك تَشْبِيها وَكَذَلِكَ محبَّة الله تَعَالَى وَرَحمته وَسَائِر مَا ورد مَنْصُوصا فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَكَلَام سلف هَذِه الْأمة الصَّالح وشاع بَينهم وذاع وَكثر وَاسْتمرّ من غير تَأْوِيل وَلَا تحذير من اطلاقه بِغَيْر قرينَة الله سُبْحَانَهُ أعلم

وَأما مَوضِع الِاحْتِيَاط فِي هَذِه المباحث فانه مُلَاحظَة إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله تَعَالَى وَنفي صِفَات النَّقْص بتبين وَفِي الْوَقْف حَيْثُ يخفى فَمن صِفَات الْكَمَال الْبَيِّنَة الْمَعْلُومَة من الدّين وَمن إِجْمَاع الْمُسلمين أَن الله على كل شَيْء قدير وَإِن مَا شَاءَ كَانَ وانه يهدي من يَشَاء وَأَن لَهُ الْحجَّة الدامغة وَالْحكمَة الْبَالِغَة وَمن صِفَات النَّقْص المنفية عَنهُ سبحانه وتعالى فِي كِتَابه الْكَرِيم أَنه لَا يحب الْفساد وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَلَيْسَ بظلام للعبيد وَلَا يُرِيد ظلما للعباد وَلَا يُرِيد ظلما للْعَالمين كَمَا قَالَ فِي ذَلِك كُله وانه لم يخلق السَّمَوَات والارض بَاطِلا وَلَا لعبا وَلَا عَبَثا بل خلق ذَلِك وَغَيره بِالْحَقِّ

ص: 277

وللحق وَيَقْضِي الْحق وَلذَلِك تسمى سبحانه وتعالى بِالْحَقِّ وَكَانَ قَوْله الْحق وَحكمه الْحق فَهُوَ سبحانه وتعالى الْحق اسْما وَمعنى وَقَضَاء وقصصا وفعلا وقولا وخلقا وأمرا وعدلا وفصلا وَابْتِدَاء وانتهاء وَدُنْيا وآخرة كل ذَلِك حَقِيقَة لَا مجَازًا وَلَا تخبيلا وَلَا اسْتِعَارَة وَلَا مُبَالغَة وتفاصيل ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه الحاسبون وَلَا يجمعه الكاتبون وَلَا يُحِيط بِهِ الراسخون وَلَا يبلغهُ العارفون ولايستقصيه الحامدون

وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سُبْحَانَكَ لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك فَهَذَا كَلَام سيد ولد آدم وَالَّذِي تقدم للشفاعة حِين تَأَخّر من تقدم فَكيف أَيهَا الْعُقَلَاء يكون هَذَا كَلَامه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إمامنا وقدوتنا ومعلمنا وَرَسُوله ثمَّ نتأول ممادح الرب الحميد الْمجِيد نَحن ونقول أَنَّهَا تَقْتَضِي بحقائقها الذَّم وَهُوَ الَّذِي لَا أحد أحب اليه الْمَدْح مِنْهُ وَلذَلِك مدح نَفسه فَاتَّقُوا الله وتأدبوا مَعَ كتب الله وَلَا تضربوا بَعْضهَا بِبَعْض وَلَا تبَادرُوا إِلَى الْقدح فِي ظواهرها والتحكم فِي تأويلاتها وَالله سبحانه وتعالى هادينا الْجَمِيع وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَهَذَا آخر الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الارادة ومباحثها على حسب هَذَا الْمُخْتَصر وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

وَيتَعَلَّق بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة الْكَلَام فِي الْقَضَاء وَالْقدر وَأَنه لَا يدل على الْجَبْر بِالنَّصِّ والاجماع وَقد كثرت الاحاديث فِي وجوب الايمان بِهِ كَثْرَة توجب التَّوَاتُر فقد ذكرت مِنْهَا فِي العواصم أَكثر من سبعين حَدِيثا وَذكرت مَعَ ذَلِك نَحْو مائَة وَخمسين حَدِيثا فِي صِحَة ذَلِك مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذكر وجوب الايمان بِهِ وَذكرت مِمَّا ورد من كتاب الله تَعَالَى نَحْو مائَة آيَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} وَقَوله تَعَالَى {وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار} وَقَوله تَعَالَى {إِلَّا امْرَأَته قدرناها من الغابرين} وَفِي آيَة أُخْرَى {قَدرنَا إِنَّهَا لمن الغابرين} وَقَوله تَعَالَى

ص: 278

{كَانَ على رَبك حتما مقضيا} وَقَوله تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} وَقَوله تَعَالَى {وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَقَوله {قضي الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان} وَقَوله فِي هود وَفِي السَّجْدَة {لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَقَوله {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} وَقَوله {وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء} وَقَوله تَعَالَى {ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَقَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم} وأمثال ذَلِك وَإِنَّمَا المهم من ذَلِك معرفَة معنى الْقَضَاء وَالْقدر وَأَن أحدا لم يقل أَن مَعْنَاهُمَا هُوَ الْجَبْر وسلب الِاخْتِيَار وَكَيف يكون كَذَلِك وَقد ثَبت تعلق الْقَضَاء وَالْقدر بِأَفْعَال الله تَعَالَى كَمَا قَالَ {كَانَ على رَبك حتما مقضيا} وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُخْتَار بِغَيْر شكّ وَلَا خلاف

وَاعْلَم أَن أَكثر الاخبار وأقوال السّلف تدل على أَن الْقَضَاء يرجع إِلَى كِتَابَة مَا سبق فِي علم الله تَعَالَى وتيسير كل لما خلق لَهُ على مَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} على مَا مضى تَفْصِيله فِي الْخلاف الْخَامِس من المبحث الثَّامِن فِي الارادة

وَقد ذكر الطَّبَرِيّ أَن الْجَبْر هُوَ الاكراه على الشَّيْء كالمسحوب على وَجهه وَأَن أهل الْمعاصِي يأتونها برغبتهم اليها وهم مستلذون بهَا بل مِنْهُم من يُقَاتل من دَفعه عَنْهَا وَهَذَا نقيض الْجَبْر فِي اللُّغَة وَبطلَان الْجَبْر مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ على الصَّحِيح وَهُوَ قَول أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة وَأكْثر أهل السّنة وَالله سبحانه وتعالى أعلم وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَة الافعال بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله

ص: 279

تَعَالَى ثمَّ أَنه ورد النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْقدر وَفِي أَحَادِيث عرفت مِنْهَا عشرَة وَلَيْسَ فِيهَا شَيْء مُتَّفق على صِحَّته وَلَا خرج البُخَارِيّ وَلَا مُسلم مِنْهَا شَيْئا لَكِن خرج أَحْمد بن حَنْبَل مِنْهَا حَدِيثا من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده وَهِي طَرِيق مُخْتَلف فِيهَا اخْتِلَافا كثيرا وَهُوَ يصلح مَعَ الشواهد وَخرج التِّرْمِذِيّ مِنْهَا حَدِيثا عَن أبي هُرَيْرَة وَقَالَ غَرِيب وَفِي سَنَده صَالح الْمزي لَكِن خرج الْبَزَّار لَهُ اسنادين آخَرين قَالَ الهيثمي رجال أَحدهمَا رجال الصَّحِيح غير عمر بن أبي خَليفَة وَهُوَ ثِقَة وَإِن لم يكن من رجال الصَّحِيح وَخرج الطَّبَرَانِيّ فِي المعجمين الاوسط وَالْكَبِير وَالْحَاكِم حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك وَقَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرطهمَا وَلَا نعلم لَهُ عِلّة

قلت رَوَاهُ السُّبْكِيّ مَوْقُوفا وَلم يذكر رَفعه وَإِن سلم من الاعلال بذلك كَانَ أصلحها اسنادا وَمعنى ذَلِك إِذا صَحَّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى التحذير من مجاراة المبتدعة فِي الْقدر والمراء بِغَيْر علم على وَجه يُؤَدِّي إِلَى إثارة الشَّرّ وَالشَّكّ كَمَا هُوَ ظَاهر حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأخر الْكَلَام فِي الْقدر لشرار أمتِي فِي آخر الزَّمَان فَالَّذِي أخر هُوَ مَا ذكرته فَأَما الْخَوْض فِيهِ على جِهَة التَّعَلُّم والتعرف لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة ثمَّ الايمان بِهِ بعد مَعْرفَته على الْوَجْه الْمَشْرُوع فان هَذَا لم يُؤَخر لشرار الامة بل قد تَوَاتر أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم وخاضوا فِي مَعْرفَته وَفِي وجوب الايمان بِهِ فَلم يزجرهم صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِك الْقدر وَلم يتْرك الْجَواب عَلَيْهِم بِالْقدرِ الْوَاجِب على بَيَان ذَلِك

وَقد احْتج ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد على ذَلِك بمحاجة آدم ومُوسَى وَهُوَ من أثبت الاحاديث وَأَصَح مَا قيل فِي مَعْنَاهُ أَن لوم مُوسَى لآدَم كَانَ على الْخُرُوج من الْجنَّة واخراجه ذُريَّته مِنْهَا على جِهَة الأسف على فَوَات هَذِه النِّعْمَة وَتلك فِي الْحَقِيقَة مُصِيبَة من فعل الله قدرهَا بِسَبَب ذَنْب آدم عليه السلام لحكمته فِي ذَلِك وَلما قد علمه وقضاه من خلَافَة آدم عليه السلام فِي الأَرْض وَإِلَّا فذنب آدم عليه السلام صَغِير لِأَنَّهُ نَبِي مَعْصُوم عَن الْكَبَائِر وَقد تَابَ أَيْضا والمذنب التائب لَا تجب عَلَيْهِ الْعقُوبَة بِالْخرُوجِ من دَاره وَلَا بِغَيْر ذَلِك فاحتج آدم بسبق الْقَضَاء فِي الْخُرُوج الْحسن لِأَنَّهُ من فعل الله تَعَالَى

ص: 280