المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بما يليق بجلال الله تعالى من الصفات - إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل

[البدر ابن جماعة]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌مُقَدّمَة فِي علم التَّوْحِيد

- ‌السّلف الصَّالح يَخُوضُونَ فِي علم التَّوْحِيد

- ‌فصل

- ‌الْكَلَام فِي ذَات الله تَعَالَى وَصِفَاته

- ‌فصل

- ‌افْتِرَاق أمة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الطّرف الأول المشبهة والمجسمة

- ‌الطّرف الثَّانِي: المعطلة

- ‌اوسط

- ‌خُلَاصَة مُعْتَقد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة

- ‌فصل

- ‌السّلف وَالْخلف

- ‌قَول السّلف فِي الصِّفَات

- ‌الِاعْتِمَاد على الحَدِيث الصَّحِيح دون الضَّعِيف فِي العقائد

- ‌الْخلف

- ‌ التَّأْوِيل

- ‌قِرَاءَة فِي كتاب

- ‌الشبهه الأولى وَدفعهَا

- ‌الشُّبْهَة الثَّانِيَة وَدفعهَا

- ‌الشُّبْهَة الْخَامِسَة وَدفعهَا

- ‌جماع ابواب إِثْبَات صِفَات الله عز وجل

- ‌فصل

- ‌دعاوى خطيرة لَيْسَ لَهَا دَلِيل شَرْعِي

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌تَرْجَمَة مؤلف إِيضَاح الدَّلِيل فِي قطع حجج أهل التعطيل

- ‌مصنفاته

- ‌مُقَدّمَة الْكتاب

- ‌للْمُصَنف

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌الْكَلَام على مَا فِي الْكتاب الْعَزِيز من الْآيَات وتأويلها

- ‌بِمَا يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى من الصِّفَات

- ‌الْقسم الثَّانِي فِيمَا ورد من صَحِيح الْأَخْبَار

- ‌فِي صفة الْوَاحِد القهار

- ‌الحَدِيث الأول فِي ذكر الصُّورَة

- ‌الحَدِيث الثَّانِي

- ‌الحَدِيث الثَّالِث

- ‌الحَدِيث الرَّابِع

- ‌الحَدِيث السَّادِس

- ‌الحَدِيث السَّابِع

- ‌الحَدِيث الثَّامِن

- ‌الحَدِيث التَّاسِع

- ‌الحَدِيث الْعَاشِر

- ‌الحَدِيث الْحَادِي عشر

- ‌الحَدِيث الثَّانِي عشر

- ‌الحَدِيث الثَّالِث عشر

- ‌الحَدِيث الرَّابِع عشر

- ‌الحَدِيث الْخَامِس عشر

- ‌الحَدِيث السَّادِس عشر

- ‌الحَدِيث السَّابِع عشر

- ‌الحَدِيث الثَّامِن عشر

- ‌الحَدِيث التَّاسِع عشر

- ‌الحَدِيث الْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث السَّادِس وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّامِن وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث التَّاسِع وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الموفي ثَلَاثِينَ

- ‌الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ

- ‌الْقسم الثَّالِث

- ‌فِي الْأَحَادِيث الضعيفة الَّتِي وَضَعتهَا الزَّنَادِقَة أَعدَاء الدّين وأرباب الْبدع المضلين ليلبسوا على النَّاس دينهم

- ‌الحَدِيث الأول

- ‌الحَدِيث الثَّانِي

- ‌الحَدِيث الثَّالِث

- ‌الحَدِيث الرَّابِع

- ‌الحَدِيث الْخَامِس

- ‌الحَدِيث السَّادِس

- ‌الحَدِيث السَّابِع

- ‌الحَدِيث الثَّامِن

- ‌الحَدِيث التَّاسِع

- ‌الحَدِيث الْعَاشِر

- ‌الحَدِيث الْحَادِي عشر

- ‌الحَدِيث الثَّانِي عشر

- ‌الحَدِيث الثَّالِث عشر

- ‌الحَدِيث الرَّابِع عشر

- ‌الحَدِيث الْخَامِس عشر

- ‌الحَدِيث السَّادِس عشر

- ‌الحَدِيث السَّابِع عشر

- ‌الحَدِيث الثَّامِن عشر

- ‌الحَدِيث التَّاسِع عشر

- ‌الحَدِيث الموفى عشْرين

- ‌الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث السَّادِس وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّامِن وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث التَّاسِع وَالْعشْرُونَ

- ‌الحَدِيث الموفي للثلاثين

- ‌الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ

- ‌الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ

- ‌الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ

- ‌الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ

- ‌الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ

الفصل: ‌بما يليق بجلال الله تعالى من الصفات

‌الْكَلَام على مَا فِي الْكتاب الْعَزِيز من الْآيَات وتأويلها

‌بِمَا يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى من الصِّفَات

الْآيَة الأولى قَوْله تَعَالَى {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} ورد فِي خمس آيَات وَفِي سادس فِي طه (الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى)

فَنَقُول قد تقدم أَن الْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب ومعاني كَلَامهم وَمَا كَانُوا يتعقلونه فِي خطابهم أما الْعَرْش لُغَة فَهُوَ سَرِير الْملك وسقف الْبَيْت وَمِنْه قَوْلهم ثل عرش فلَان أَي زَالَ سُلْطَانه وجاهه وَيُقَال لسقف الْبَيْت عَرْشه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {معروشات وَغير معروشات}

وَالْعرش سقف الْعَالم بأسره وَالله أعلم

ص: 101

وسنبين فِيمَا يَأْتِي أَن إِرَادَة حَقِيقَة السرير فِي الْآيَات محَال

وَأما الاسْتوَاء فَلهُ فِي اللُّغَة معَان

الأول تَمام الشَّيْء وَمِنْه {فَإِذا سويته} {ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ} وَمِنْه {بلغ أشده واستوى}

الثَّانِي الْقَصْد وَمِنْه {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أَي قصد خلقهَا

الثَّالِث الِاعْتِدَال وَمِنْه {هَل يستويان مثلا} {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق} الْآيَة

الرَّابِع الْقَهْر والاستيلاء وَمِنْه قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق

ص: 102

وَقَول الآخر وأضحى على مَا ملكوه قد اسْتَوَى

وَاتفقَ السّلف وَأهل التَّأْوِيل على أَن مَا لَا يَلِيق من ذَلِك بِجلَال الرب تَعَالَى غير مُرَاد كالقعود والاعتدال وَاخْتلفُوا فِي تعْيين مَا يَلِيق بجلاله من الْمعَانِي المحتملة كالقصد والاستيلاء فَسكت السّلف عَنهُ وأوله المؤولون على الِاسْتِيلَاء والقهر لتعالي الرب عَن سمات الْأَجْسَام من الْحَاجة إِلَى الحيز وَالْمَكَان وَكَذَلِكَ لَا يُوصف بحركة أَو سُكُون أَو اجْتِمَاع وافتراق لِأَن ذَلِك كُله من سمات المحدثات وعروض الْأَعْرَاض والرب تَعَالَى مقدس عَنهُ

فَقَوله تَعَالَى {اسْتَوَى} بتعين فِيهِ معنى الِاسْتِيلَاء والقهر لَا الْقعُود والاستقرار إِذْ لَو كَانَ وجوده تَعَالَى مكانيا أَو زمانيا للَزِمَ قدم الزَّمَان وَالْمَكَان أَو تقدمهما عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا بَاطِل فقد صَحَّ فِي الحَدِيث كَانَ الله وَلَا شَيْء مَعَه وللزم حَاجته إِلَى الْمَكَان وَهُوَ تَعَالَى الْغَنِيّ الْمُطلق المستغني عَمَّا سواهُ كَانَ الله وَلَا زمَان

ص: 103

وَلَا مَكَان وَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ وللزم كَونه محدودا مُقَدرا وكل مَحْدُود ومقدر جسم وكل جسم مركب مُحْتَاج إِلَى أَجْزَائِهِ ويتقدس من لَهُ الْغنى الْمُطلق عَن الْحَاجة وَلِأَن مَكَان الِاسْتِقْرَار لَو قدر حَادث مَخْلُوق فَكيف يحْتَاج إِلَيْهِ من أوجده بعد عَدمه وَهُوَ الْقَدِيم الأزلى قبله

فَإِن قيل نفي الْجِهَة عَن الْمَوْجُود يُوجب نَفْيه لِاسْتِحَالَة مَوْجُود فِي غير جِهَة

ص: 104

قُلْنَا الْمَوْجُود قِسْمَانِ مَوْجُود لَا يتَصَرَّف فِيهِ الْوَهم والحس والخيال والانفصال وموجود يتَصَرَّف ذَلِك فِيهِ ويقبله فَالْأول مَمْنُوع لاستحالته والرب لَا يتَصَرَّف فِيهِ ذَلِك إِذْ لَيْسَ بجسم وَلَا عرض وَلَا جَوْهَر فصح وجوده عقلا من غير جِهَة وَلَا حيّز كَمَا دلّ الدَّلِيل الْعقلِيّ فِيهِ فَوَجَبَ تَصْدِيقه عقلا وكما دلّ الدَّلِيل الْعقلِيّ على وجوده مَعَ نفي الجسمية والعرضية مَعَ بعد الْفَهم الْحسي لَهُ فَكَذَلِك دلّ على نفي الْجِهَة والحيز مَعَ بعد فهم الْحس لَهُ

وَقد اتّفق أَكثر الْعُقَلَاء على وُجُوه مَا لَيْسَ فِي حيّز كالمعقول والنفوس والهيولي وعَلى وجود مَا لَا يتصوره الذِّهْن كحقيقة نفس الْحَرَارَة والبرودة فَإِنَّهَا مَوْجُودَة قطعا وَلَا يتَصَوَّر الذِّهْن حَقِيقَتهَا وَلم يقل أحد إِنَّهُم ادعوا مستحيلا أَو مُخَالفا للضَّرُورَة

فَإِن قيل قصَّة الْمِعْرَاج تدل على الْجِهَة والحيز

قُلْنَا قصَّة الْمِعْرَاج أُرِيد بهَا وَالله أعلم أَن يرِيه الله تَعَالَى أَنْوَاع مخلوقاته وعجائب مصنوعاته فِي الْعَالم الْعلوِي والسفلي تكميلا لصفاته وتحقيقا لمشاهداته لآياته وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {لنريه من آيَاتنَا} وَسَيَأْتِي الْبسط فِي هَذَا فِي جَوَاب الحَدِيث إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فَإِن قيل {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} وَهَذَا ظَاهر فِي الْجِهَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} وَقَوله {ثمَّ يعرج إِلَيْهِ} الْآيَة

ص: 105

قُلْنَا لَيْسَ المُرَاد بالغاية هُنَا غَايَة الْمَكَان بل غَايَة انْتِهَاء الْأُمُور إِلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى {أَلا إِلَى الله تصير الْأُمُور} وَإِلَيْهِ يرجع الْأَمر كُله وَقَول إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عليه السلام {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} {وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ} {تُوبُوا إِلَيْهِ} وَهُوَ كثير

فَالْمُرَاد الِانْتِهَاء إِلَى مَا أعده لِعِبَادِهِ وَالْمَلَائِكَة من الثَّوَاب والكرامة والمنزلة

فَإِن قيل قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم}

قُلْنَا يَأْتِي ذَلِك فِي مَكَانَهُ من آيَات الْقُرْآن

فَإِن قيل إِنَّمَا يُقَال استولى لمن لم يكن مستوليا قبل أَو لمن كَانَ لَهُ مُنَازع فِيمَا استولى عَلَيْهِ أَو عَاجز ثمَّ قدر

قُلْنَا المُرَاد بِهَذَا الِاسْتِيلَاء الْقُدْرَة التَّامَّة الخالية من معَارض وَلَيْسَ لَفْظَة ثمَّ

ص: 106

هُنَا لترتيب ذَلِك بل هِيَ من بَاب تَرْتِيب الْأَخْبَار وَعطف بَعْضهَا على بعض

فَإِن قيل فالاستيلاء حَاصِل بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيع الْمَخْلُوقَات فَمَا فَائِدَة تَخْصِيصه بالعرش

قُلْنَا خص بِالذكر لِأَنَّهُ أعظم الْمَخْلُوقَات إِجْمَاعًا كَمَا خصّه بقوله {رب الْعَرْش الْعَظِيم} وَهُوَ رب كل شَيْء فَإِذا استولى على الْعَرْش الْمُحِيط بِكُل شَيْء استولى على الْكل قطعا

إِذا ثَبت ذَلِك فَمن جعل الاسْتوَاء فِي حَقه مَا يفهم من صِفَات الْمُحدثين وَقَالَ اسْتَوَى بِذَاتِهِ أَو قَالَ اسْتَوَى حَقِيقَة فقد ابتدع بِهَذِهِ الزِّيَادَة الَّتِي لم تثبت فِي السّنة وَلَا عَن أحد من الْأَئِمَّة المقتدى بهم وَزَاد بعض الْحَنَابِلَة الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ الاسْتوَاء مماسة الذَّات وَأَنه على عَرْشه مَا ملأَهُ وَأَنه لَا بُد لذاته من نِهَايَة يعلمهَا وَقَالَ آخر يخْتَص بمَكَان دون مَكَان ومكانه وجود ذَاته على عَرْشه قَالَ وَالْأَشْبَه أَنه مماس للعرش والكرسي مَوضِع قَدَمَيْهِ

ص: 107

وَهَذَا مِنْهُم افتراء عَظِيم تَعَالَى الله عَنهُ وَجَهل بِعلم هَيْئَة الْعَالم فَإِن المماسة توجب الجسمية والقدمين يُوجب التَّشْبِيه وَالْإِمَام أَحْمد بَرِيء من ذَلِك فَإِن الْمَنْقُول عَنهُ أَنه كَانَ لَا يَقُول بالجهة للباري تَعَالَى وَكَانَ يَقُول الاسْتوَاء صفة مسلمة وَهُوَ قَول بعض السّلف رضي الله عنهم

الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} وَقَوله تَعَالَى {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم}

اعْلَم أَن لَفْظَة فَوق فِي كَلَام الْعَرَب تسْتَعْمل بِمَعْنى الحيز العالي وتستعمل بِمَعْنى الْقُدْرَة وَبِمَعْنى الرُّتْبَة الْعلية فَمن فوقية الْقُدْرَة {يَد الله فَوق أَيْديهم} {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} فَإِن قرينَة ذكر الْقَهْر يدل على ذَلِك وَمن فوقية الرُّتْبَة {وَفَوق كل ذِي علم عليم} لم يقل أحد إِن المُرَاد فوقية الْمَكَان بل فوقية الْقَهْر

ص: 108

والقدرية والرتبة

وَإِذا بَطل بِمَا قدمْنَاهُ مَا سنذكر من إبِْطَال الْجِهَة فِي حق الرب تَعَالَى تعين أَن المُرَاد فوقية الْقَهْر وَالْقُدْرَة والرتبة وَلذَلِك قرنه بِذكر الْقَهْر كَمَا قدمنَا

وَيدل على مَا قُلْنَاهُ أَن فوقية الْمَكَان من حَيْثُ هِيَ لَا تَقْتَضِي فَضِيلَة لَهُ فكم من غُلَام أَو عبد كَائِن فَوق مسكن سَيّده وَلَا يُقَال الْغُلَام فَوق السُّلْطَان أَو السَّيِّد على وَجه الْمَدْح إِذا قصد الْمَكَان لم يكن فِيهِ مدحه بل الْفَوْقِيَّة الممدوحة فوقية الْقَهْر وَالْغَلَبَة والرتبة وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخَاف الْخَائِف من هُوَ أَعلَى مِنْهُ رُتْبَة ومنزلة وأقدر عَلَيْهِ مِنْهُ فَمَعْنَاه يخَافُونَ رَبهم الْقَادِر عَلَيْهِم القاهر لَهُم وَحَقِيقَته يخَافُونَ عَذَاب رَبهم لِأَن حَقِيقَة الذَّات المقدسة لَا تخَاف وَإِنَّمَا الْمخوف فِي الْحَقِيقَة عَذَابه وبطشه وإنتقامه وَإِذا ثَبت ذَلِك فَلَا جِهَة

وَله وَجه آخر وَهُوَ أَن يكون {من فَوْقهم} مُتَعَلقا بِعَذَاب رَبهم الْمُقدر وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم} الْآيَة

فقد بَان بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن المُرَاد بالفوقية فِي الْآيَات الْقَهْر وَالْقُدْرَة والرتبة أَو فوقية جِهَة الْعَذَاب لَا فوقية الْمَكَان لَهُ

ص: 109

الْآيَة الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} {وَهُوَ الْعلي الْكَبِير}

الْكَلَام على وَصفه بذلك على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْفَوْقِيَّة وَهُوَ أَن المُرَاد علو السلطنة والرتبة والقهر لَا علو الْجِهَة وكما صَحَّ التَّجَوُّز فِي الْمَعِيَّة فِي قَوْله تَعَالَى وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا} {إِلَّا هُوَ مَعَهم} {وَالله مَعكُمْ}

فَكَذَلِك صَحَّ التَّجَوُّز فِي الْعُلُوّ والفوقية بعلو الرُّتْبَة والسلطنة وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْتُم الأعلون} {لَا تخف إِنَّك أَنْت الْأَعْلَى} وَكلمَة الله هِيَ

ص: 110

الْعليا) وَنَحْو ذَلِك

لم يرد بذلك من ذَلِك علو الْجِهَة بل علو الرُّتْبَة والمنزلة قطعا

الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} {ورافعك إِلَيّ}

اعْلَم أَنه قد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي آيَة الاسْتوَاء ونزيد هَهُنَا أَنه إِذا ثَبت اسْتِحَالَة الْجِهَة فِي حَقه تَعَالَى وَجب تَأْوِيل هَذِه الْآيَات وَأَن المُرَاد يصعد ويعرج إِلَى مَحل أمره وإرادته أَو أَن المُرَاد بالمعارج الرتب والدرجات كَمَا ورد فِي دَرَجَات الْجنَّة وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الدَّرَجَات الَّتِي هِيَ مراقي من سفل إِلَى علو الرُّتْبَة والمنازل عِنْده تَعَالَى وَفِي

ص: 111

إفاضات النعم فِي الْجنَّة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {ورافعك إِلَيّ} وَقَوله {بل رَفعه الله إِلَيْهِ} إِلَى مَحل كرامته كَمَا يُقَال رفع السُّلْطَان فلَانا إِلَيْهِ لَيْسَ المُرَاد مَكَانا وَلَا جِهَة علو بل قرب رُتْبَة ومنزلة

الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين عِنْد رَبك} {من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ} {عِنْد مليك مقتدر} {ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} {وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته}

ورد ذَلِك فِي الحَدِيث كثيرا كَقَوْلِه أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي أَنا عِنْد المنكسرة قُلُوبهم من أَجلي كل ذَلِك لَيْسَ المُرَاد بِهِ عندية الْجِهَة بل عندية الشّرف والكرامة والإعانة والجبر واللطف لَا عندية الحيز وَالْمَكَان فَإِن كَون الرب تَعَالَى عِنْد الْإِنْسَان بِاعْتِبَار الْجِهَة وَالْمَكَان محَال بِالْإِجْمَاع وَسَيَأْتِي شَرحه فِي الحَدِيث إِن شَاءَ الله

ص: 112

الْآيَة السَّادِسَة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} {ونزلناه تَنْزِيلا} {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة} {قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن والْحَدِيث وَتمسك بِهِ الْحَنْبَلِيّ فِي ثوب الْجِهَة وَلَيْسَ بِدَلِيل لَهُ بل لما كَانَ الْإِنْزَال من جِهَة اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَهُوَ فِي السَّمَاء عبر عَنهُ بالإنزال وَالنُّزُول وَهُوَ لَازم للخصم لِأَن الْقُرْآن عِنْده حرف وَصَوت والحروف والأصوات لَا تقبل النُّزُول والانتقال وَأَيْضًا فَإِن الْفِعْل قد يُضَاف إِلَى الْأَمر بِهِ كَمَا يُضَاف إِلَى فَاعله فَيُقَال نَادِي السُّلْطَان فِي النَّاس وَلم يُبَاشر ذَلِك بِنَفسِهِ بل أَمر بِهِ وَمثله قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس} فأضاف الْفِعْل إِلَى نَفسه وَقد قَالَ (توفته رسلنَا) وَقَالَ {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} فَلَمَّا كَانَ هُوَ الْآمِر بِهِ نسبه إِلَيْهِ وَمِنْه {وَإِنَّا لَهُ كاتبون} وَقَالَ {كراما كاتبين} وَقَالَ {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} وَقَالَ {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} وَمثله كثير وَمِنْه ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطا فِي قسم الحَدِيث إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى {أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض}

ص: 113

وَقَوله تَعَالَى {قل لَا يعلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله}

اعْلَم أَن الدَّلِيل الْعقلِيّ الْقَاطِع والنقلي الشَّائِع يدلان على أَن الْآيَات الْمَذْكُورَة لَيست على ظَاهرهَا لوجوه

الأول أَن لَفظه فِي للظرفية وَتَعَالَى الله أَن يكون مظروفا لخلق من خلقه

وَأَيْضًا فقد قَالَ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} وَالْجمع بَينهمَا متناقض

الثَّانِي أعلم أَن الْخصم يعْتَقد أَن الرب تَعَالَى على الْعَرْش وَالْآيَة تضَاد ذَلِك لِأَن من هُوَ فِي السَّمَاء لَيْسَ هُوَ على مَا هُوَ أَعلَى مِنْهَا بطبقات وآلاف سِنِين

ص: 114

وَكَذَلِكَ لَا يَصح أَن يُقَال لمن هُوَ فَوق سطح يسع لدار عَظِيمَة فِي وَسطهَا من أَسْفَل بَيت صَغِير إِنَّه فِي ذَلِك الْبَيْت مَعَ أَن نِسْبَة الْعَرْش إِلَى السَّمَاء أَضْعَاف أَضْعَاف ذَلِك السَّطْح بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الْبَيْت

وَأَيْضًا فَإِن بعض الْخُصُوم يَقُول إِنَّه على الْعَرْش وَقد قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع عِنْد الْعُقَلَاء أَن نِسْبَة السَّمَاء إِلَى الْعَرْش وعظمته قَلِيل جدا فَكيف تسع مَعَ لطفها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْش من هُوَ ملْء الْعَرْش مَعَ عَظمته فَإِنَّهُ يلْزم إِمَّا اتساع السَّمَاء أَو تضاؤل الذَّات تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا

الثَّالِث اعْلَم أَن السَّمَوَات كرية لقِيَام الدَّلِيل الْحسي والنقلي على ذَلِك فَإِن كَانَ فِي وَجههَا عنْدكُمْ فقد جعلتموه كفلك مِنْهَا وَإِن كَانَ فِي جِهَة الْبَعْض فترجيح من غير مُرَجّح

فَإِن قيل المُرَاد بالسماء الْجِنْس لَا الْمُسَمّى الْجَمِيع قُلْنَا يلْزم التَّنَاقُض لِأَن الْعَرْش خَارج السَّمَوَات وقلتم إِنَّه على الْعَرْش وَأَيْضًا يلْزم التجزيء أَو كَونه متحيز دَاخِلا فِي حيزين كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَات} وَالْكل محَال تَعَالَى الله عَن ذَلِك

ص: 115

إِذا ثَبت ذَلِك تعين أَن المُرَاد إِمَّا مَلَائِكَة فِي السَّمَاء مسلطون على من شَاءَ الله من الْكفَّار لِأَن اللَّفْظَة تحتمله أَو أَن المخاطبين كَانُوا يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَاد المجسمة فَقيل لَهُم بِحَسب مَا كَانُوا يعتقدونه فِي زعمهم أَو أَن المُرَاد التَّعْظِيم وعلو الرُّتْبَة وَالْقُدْرَة أَي من فِي السَّمَاء ملكوته وسلطانه وَمَلَائِكَته فَيكون المُرَاد بالسماء الْعُلُوّ والرفعة

فَإِن قيل فِي هَاهُنَا بِمَعْنى على كَقَوْلِه تَعَالَى {فِي جُذُوع النّخل}

قُلْنَا هَذَا مَرْدُود لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن ذَلِك خلاف الأَصْل وموضوع اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن وممنوع عِنْد الْمُحَقِّقين من نحاة الْبَصْرَة بل هُوَ على بَابه لتمكنهم على الْجُذُوع تمكن المظروف من ظرفه لآنهم لم يَكُونُوا مستعلين عَلَيْهَا بل كَانُوا مَعهَا

الثَّانِي لَو أُرِيد معنى على كَانَ لَفظه أفخم وَأعظم فَإِن قَوْله من على السَّمَاء أفخم وَأعظم من قَوْله {من فِي السَّمَاء} وَسَيَأْتِي الْكَلَام على حَدِيث الْجَارِيَة فِي قسم الحَدِيث إِن شَاءَ الله مَبْسُوطا

الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام}

ص: 116

وَقَوله تَعَالَى {أَو يَأْتِي رَبك} وَقَوله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا}

اعْلَم أَن الْمَجِيء والذهاب والإتيان بِالذَّاتِ على الله تَعَالَى محَال لِأَنَّهُ من صِفَات الْحَوَادِث المحدودة للإنتقال من حيّز إِلَى حيّز وَلذَلِك اسْتدلَّ الْخَلِيل عليه السلام على نفي الإهية الْكَوَاكِب بأفولهن وَصدقه الله تَعَالَى فِي استدلاله وَصَححهُ بقوله {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه} إِذا ثَبت هَذَا تعين تَأْوِيل ذَلِك وتأويله من وُجُوه

الأول وَهُوَ أظهر أَن فِي الْكَلَام مُضَافا مُقَدرا تَقْدِيره إِلَّا أَن يَأْتِيهم أَمر الله وَهُوَ مجَاز كثير مُسْتَعْمل وَمِنْه {إِن تنصرُوا الله ينصركم} أَي دين الله أَو نَبِي الله

ص: 117

أَو الْيَاء الله وَمِنْه {يخادعون الله} و {يحادون الله} {واسأل الْقرْيَة} وَهُوَ كثير فَيدل على مَا أولناه

قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي أَمر رَبك} فَتكون هَذِه الْآيَة مفسرة لِلْآيَةِ الْأُخْرَى

وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا قَوْله بعد هَذَا {وَقضي الْأَمر} وَلَيْسَ مَعنا أَمر مَعْهُود إِلَّا الْمُقدر الَّذِي ذكره فَيكون حرف التَّعْرِيف لَهُ وَكَذَلِكَ قَوْله {وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور}

الْوَجْه الثَّانِي أَن الْآيَة سيقت للتنديد وَلَو أُرِيد حَقِيقَة الذَّات لم يكن للتنديد معنى لإن إِتْيَانه يكون رَحْمَة ونعمة فَقَوله أَولا {فَإِن زللتم} إِلَى آخِره دَلِيل على التنديد فَيكون الْمُقدر أَمر الله تَعَالَى أَو عَذَابه أَو قَضَاؤُهُ قَالَ الإِمَام أَحْمد بن

ص: 118

حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى وَغَيره من الْأَئِمَّة المُرَاد قدرته وَأمره

الْوَجْه الثَّالِث أَن تكون فِي بِمَعْنى الْبَاء لِأَنَّهُمَا يتعاقبان كثيرا

وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده} أَي بِالْقُرْآنِ وَجَلَست بِالْمَسْجِدِ وَفِي الْمَسْجِد وَجئْت فِي حَاجَتك وبحاجتك فَيكون المُرَاد أَن يَأْتِيهم الله بظلل من الْغَمَام

الْوَجْه الرَّابِع قَالَه بَعضهم أَن الْخطاب مَعَ الْيَهُود وَفِيهِمْ طَائِفَة يَعْتَقِدُونَ التجسيم وَأَن الله يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة فِي ظلل من الْغَمَام كحالة خطابه لمُوسَى فِي اعْتِقَادهم فألزمهم الْحجَّة أَي هَل ينظرُونَ إِلَّا مَا يعتقدونه من مَجِيء الله تَعَالَى وَالْمَلَائِكَة وَهُوَ نَحْو مَا تقدم فِي قَوْله {أأمنتم من فِي السَّمَاء} الْآيَة ومثاله أَن يَقُول الْإِنْسَان لتهديد الْمُخَاطب الظَّان قدوم السُّلْطَان غدْوَة غده أأمنت مبيت عَدوك فلَان غَدا وَهُوَ يعلم أَنه لَا يقدم من الْغَد وَإِنَّمَا قصد خطابه بِمَا يَعْتَقِدهُ

ص: 119

الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُونَ وَجهه} {وَيبقى وَجه رَبك} كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه {يُرِيدُونَ وَجه الله} وَمَا ورد فِيهِ

اعْلَم أَنه أطلق الْوَجْه فِي هَذِه الْآيَات وَالْمرَاد بِهِ الذَّات المقدسة وَعبر عَنْهَا بِالْوَجْهِ على عَادَة الْعَرَب الَّذين نزل الْقُرْآن بلغتهم يَقُول أحدهم فعلت لوجهك أَي لَك

ص: 120

وَإِنَّمَا كنى عَن الذَّات بِالْوَجْهِ لِأَنَّهُ هُوَ المرئي الظَّاهِر من الْإِنْسَان غَالِبا وَبِه يتَمَيَّز الْإِنْسَان عَن غَيره وَلِأَن الرَّأْس وَالْوَجْه مَوضِع الْفَهم وَالْعقل والحس الْمَقْصُود من الذَّات وَلِأَن الْوَجْه مَخْصُوص بمزيد الْحسن وَالْجمال وَيظْهر عَلَيْهِ مَا فِي الْقلب من رَضِي وَغَضب فَأطلق على الذَّات مجَازًا وَقد يعبر بِالْوَجْهِ عَن الرِّضَا وَسبب الْكِنَايَة بِهِ عَنهُ أَن الْإِنْسَان إِذا رَضِي بالشَّيْء وَمَال إِلَيْهِ أقبل بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَإِذا كرهه أعرض عَنهُ فكنى بِالْوَجْهِ عَن الرِّضَا

إِذا أثبت ذَلِك تعين صرف الْوَجْه إِلَى الذَّات فِي قَوْله {وَيبقى وَجه رَبك} وكل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه وَلَا يجوز إِرَادَة ظَاهره حَقِيقَة لوجوه

الأول أَن الْمَوْصُوف بِالْبَقَاءِ عِنْد فنَاء الْخلق إِنَّمَا الذَّات المقدسة لَا مُجَرّد الْوَجْه لِأَنَّهُ لَو أُرِيد ذَلِك لزم مِنْهُ هَلَاك مَا سوى الْوَجْه تَعَالَى الله عَن ذَلِك وتقدس

الْوَجْه الثَّانِي قَوْله {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} لَو أُرِيد الْوَجْه نَفسه لزم وجوده فِي جَوَانِب الأَرْض وَيلْزم حُصُول ذَات وَاحِدَة فِي أَمَاكِن كَثِيرَة مُتَفَرِّقَة متباعدة وَهُوَ محَال اتِّفَاقًا وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي قسم الحَدِيث أبسط من هَذَا

الْوَجْه الثَّالِث أَنه وصف الْوَجْه بِذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام والموصوف بذلك هُوَ الله تَعَالَى بِدَلِيل قَوْله {تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام} فَإِنَّهُ صفة للرب

ص: 121

وبدليل مَا ورد فِي الدُّعَاء يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام فَدلَّ فِي تِلْكَ الْآيَة على أَنه وصف للذات لَا للْوَجْه خَاصَّة لِأَن الْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا

وَقَوله تَعَالَى {يُرِيدُونَ وَجهه} و {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} فَالْمُرَاد بذلك وَالله أعلم تَحْصِيل رِضَاهُ تَعَالَى كَمَا تقدم لِأَن الْإِرَادَة فِي قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُونَ وَجهه} لَا تتَعَلَّق بِحُصُول نفس الذَّات بمجردها وَلَا نفس ظَاهر الْوَجْه بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا تتَعَلَّق بِحُصُول مُرَاد يحصل لَهُم دُخُوله فِي الْوُجُود وَذَلِكَ فِي الذَّات أَو الْوَجْه الْقَدِيم الأزلي محَال فَدلَّ على أَن المُرَاد حُصُول شَيْء مِنْهُ وَهُوَ رِضَاهُ عَنْهُم وَعبر فِيهِ بِالْوَجْهِ كَمَا تقدم أَن الراضي يقبل بِوَجْه على من رضيه

وَقيل المُرَاد بِالْوَجْهِ الْقَصْد وَمِنْه قَول الشَّاعِر رب الْعباد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل

وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} أَي لرضاه كَمَا تقدم أَن المُرَاد حُصُول رِضَاهُ

فَإِن قيل إِضَافَة الْوَجْه إِلَى الرب يشْعر بِأَن الْمُضَاف غير الْمُضَاف إِلَيْهِ

قُلْنَا الْجَواب لما تقدم من امْتنَاع ذَلِك للإلزامات الْمَذْكُورَة

وَقَول من قَالَ المُرَاد صفة لَا يعقل مَعْنَاهَا مَرْدُود بِمَا قدمْنَاهُ أَن الْقُرْآن كتاب مُبين وَبَيَان للنَّاس وَهدى وَأَنه بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين وَالْوَجْه فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة إِمَّا الْعُضْو وَقدمنَا أَنه محَال أَو الذَّات أَو الرِّضَا كَمَا ذكرنَا فَمن ادّعى مرَادا لَا يعقل لُغَة وَلَا عرفا فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ لَا عقلا وَلَا نقلا فَلَا يعرج على قَوْله لَا تنظر إِلَى من قَالَ وَانْظُر إِلَى مَا قَالَ

الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى {لما خلقت بيَدي} يَد الله فَوق

ص: 122

أَيْديهم) {بل يَدَاهُ مبسوطتان} بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء

ص: 123

{بِيَدِك الْخَيْر}

اعْلَم أَن الْيَد لُغَة حَقِيقَة فِي الْجَارِحَة الْمَعْرُوفَة وتستعمل مجَازًا فِي معَان مُتعَدِّدَة كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَإِذا ثَبت بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن الْجَوَارِح لما فِيهِ من التجزىء الْمُؤَدِّي إِلَى التَّرْكِيب وَجب حمل اللَّفْظ على مَا يَلِيق بجلاله تَعَالَى من الْمعَانِي المستعملة بَين أهل اللِّسَان وَهِي النِّعْمَة وَالْقُدْرَة وَالْإِحْسَان

أما النِّعْمَة فكقولهم لفُلَان عِنْدِي يَد لَا أُطِيق شكرها وَلفُلَان عَليّ أياد يعجز عَن شكرها وَالْمرَاد نعم وإحسان يُرِيدُونَ التَّجَوُّز واستعماله أَن الْيَد آلَة الْإِعْطَاء غَالِبا فأطلقت على النِّعْمَة بِإِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب وَأما الْقُدْرَة فكقولهم هَذِه الْبَلدة فِي يَد السُّلْطَان وَيُقَال امري بِيَدِك وَفُلَان بِيَدِهِ الْأَمر وَالنَّهْي وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} وَالْمرَاد فِي ذَلِك كُله الْقُدْرَة والتمكن من التَّصَرُّف إِذْ لَيْسَ الْبَلَد وَالْأَمر وَالنَّهْي وعقدة النِّكَاح فِي حَقِيقَة يَد السُّلْطَان وَالْوَلِيّ الَّتِي هِيَ عَفْو فَتعين ان المُرَاد قدرته وتصرفه

وَقد تسْتَعْمل الْيَد مثله للتَّأْكِيد فِي التَّقَدُّم كَقَوْلِه تَعَالَى {بَين يَدي رَحمته} و

ص: 124

{قدمُوا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} وَلَا يَد للرحمة والنجوى

إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول قَوْله تَعَالَى {لما خلقت بيَدي} فَلهُ ثَلَاثَة أجوبة

أَحدهَا أَن المُرَاد مزِيد الْعِنَايَة بِنِعْمَة عَلَيْهِ فِي خلقه وإيجاده وتكريمه كَمَا يُقَال خُذ هَذَا الْأَمر بكلتا يَديك وَأخذت وصيتك بكلتا يَدي

وَلَا شكّ أَن الاعتناء بِخلق آدم حَاصِل بإيجاده وَجعله خَليفَة فِي الأَرْض وتعليمه الْأَسْمَاء وإسكانه الْجنَّة وَسُجُود الْمَلَائِكَة لَهُ فَلذَلِك خصّه بِمَا يدل لُغَة على مزِيد الاعتناء

الْجَواب الثَّانِي أَن المُرَاد بيَدي الْقُدْرَة لِأَن غَالب قدرَة الْإِنْسَان فِي تَصَرُّفَاته بِيَدِهِ وثنيت الْيَد مُبَالغَة فِي عظم الْقُدْرَة فَإِنَّهَا باليدين أَكثر مِنْهَا بالواحدة

الثَّالِث أَن يكون ذكر الْيَدَيْنِ صلَة لقصد التَّخْصِيص بِهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ لما خلقت أَنا دون غَيْرِي وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {ذَلِك بِمَا قدمت يداك} أَي بِمَا قدمت أَنْت وَمِنْه قَوْلهم يداك أوكتا أَي أَنْت فعلت

وَأما قَوْله تَعَالَى {يَد الله فَوق أَيْديهم} فقد قَالَ الْحسن وَغَيره أَي منته وإحسانه وَأما قَوْله تَعَالَى {بل يَدَاهُ مبسوطتان} فَلَا يشك عَاقل أَن المُرَاد بذلك

... لِأَنَّهُ ورد ردا على الْيَهُود فِي قَوْلهم يَد الله

ص: 125

مغلولة) وَلَا يشك عَاقل أَنهم لم يقصدوا بذلك الْفِعْل الْمَعْرُوف وَإِنَّمَا قصدُوا إمْسَاك نعمه عَنْهُم وحبسها بإمساك الْمَطَر وَنَحْو ذَلِك فَرد عَلَيْهِم بقوله {بل يَدَاهُ مبسوطتان} أَي بِالْخَيرِ وإفاضة النعم لمن شَاءَ وَلذَلِك قَالَ {ينْفق كَيفَ يَشَاء} فَبين المُرَاد بِهِ

وَأما إِرَادَة بسط الْجَوَارِح الْمَعْرُوف حَقِيقَة فَلَا يتوهمه عَاقل فضلا عَن اعْتِقَاده

فَإِن قيل إِن كَانَ المُرَاد بخلقت بيَدي الْقَدَرِيَّة لم يكن لآدَم مزية لِأَن الْخلق كلهم بقدرته

قُلْنَا المُرَاد مزيته بالخلق فِي الْإِكْرَام بالأنواع الَّتِي ذَكرنَاهَا

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مِمَّا عملت أَيْدِينَا}

فَلَيْسَ لَهَا مزية على غَيرهَا بِاعْتِبَار الْخلق وَحده بل بإعتبار مَا جعل فِي خلقهَا من الْمَنَافِع المعدومة فِي غَيرهَا

فَإِن قيل فالقدرة شَيْء وَاحِد لَا يثنى وَلَا يجمع وَقد ثنيت وجمعت

قُلْنَا هَذَا غير مَمْنُوع فقد نطقت الْعَرَب بذلك بقَوْلهمْ مَالك بذلك يدان

ص: 126

وَفِي الحَدِيث عَن يَأْجُوج وَمَأْجُوج مَا لأحد يدان بقتالهم

فثنوا عِنْد قصد الْمُبَالغَة وَمِنْه {بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} و {بَين يَدي رَحمته} وَأَيْضًا فقد جَاءَ {يَد الله} وَجَاء {يَدَاهُ مبسوطتان} وَجَاء {بِأَيْدِينَا} فَلَو لم يحمل على الْقُدْرَة وَحمل على الظَّاهِر لزم من تَصْوِير ذَلِك مَا يتعالى الله عَنهُ

وَقَول بَعضهم إِن الْيَدَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {خلقت بيَدي} صفتان قائمتان بِذَات الرب تَعَالَى وَالْمُسلم يعقل مَعْنَاهَا فقد تقدم الْجَواب عَنهُ وَالرَّدّ عَلَيْهِ

الْآيَة الْحَادِيَة عشر قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} وَقَوله

ص: 127

تَعَالَى {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وَقَوله تَعَالَى {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة}

وَقد تقدم أَن إِرَادَة الْجَوَارِح محَال فَتعين أَن المُرَاد بِالْيَمِينِ الْأَخْذ الْأَقْوَى لِأَن الْيَد الْيُمْنَى والجانب الْأَيْمن أقوى بطشا من الْيُسْرَى والأيسر غَالِبا وَهَذَا أَمر محسوس وشائع فِي لِسَان الْعَرَب قَالَ الشَّاعِر

(إِذا مَا رَأْيه رفعت لمجد

تلقاها عرابة بِالْيَمِينِ)

أَي أَخذهَا بِقُوَّة وحزم وَيكون المُرَاد بالطي إذهابها كَمَا يُقَال طوى فلَان مَا كَانَ فِيهِ وطوى حَدِيثه أَي أذهبه

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} هُوَ حَال إِمَّا من الْآخِذ إِشَارَة إِلَى قُوَّة الْبَطْش وَالْأَخْذ وَإِمَّا حَال من الْمَأْخُوذ فَالْمُرَاد شدَّة الْقُوَّة عَلَيْهِ كمن يَسُوق إنْسَانا مَغْلُوبًا مَعَه خذا بِيَمِينِهِ الَّتِي هِيَ أقوى جانبيه قهرا لَهُ وَغَلَبَة عَلَيْهِ وَقيل سمي الْحلف يَمِينا لِأَنَّهُ يقوى الْعَزْم على المحلوق عَلَيْهِ ويؤكده

وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا ورد فِي الحَدِيث من ذَلِك

وَأما قَوْله تَعَالَى {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة} فَمَعْنَاه أَن قوته وَقدرته

ص: 128

عَلَيْهَا وعَلى إذهابها كقوة أحدكُم وَقدرته وتمكنه على مَا فِي قَبضته وَلذَلِك أعقبه بالتنزيه عَن توهم الْجَارِحَة بقوله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} فَمَعْنَاه أَن الأَرْض فِي تصرفه وَملكه كَمَا يُقَال الْبَلدة فِي قَبْضَة السُّلْطَان وَالْمَال فِي قَبْضَة فلَان وَالدَّار فِي قَبضته لم يرد بذلك الْكَوْن فِي الْكَفّ وَعطف الأنامل عَلَيْهِ قطعا بل الْقُدْرَة والإستيلاء

فَإِن قيل فَهِيَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِك فَلم خص يَوْم الْقِيَامَة

قُلْنَا لانفراده بِالْملكِ والاستيلاء فِي ذَلِك الْيَوْم كَقَوْلِه تَعَالَى {مَالك يَوْم الدّين} وَهُوَ مَالك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

الْآيَة الثَّانِيَة عشر قَوْله تَعَالَى {ولتصنع على عَيْني} {واصنع الْفلك بأعيننا} {تجْرِي بأعيننا} {فَإنَّك بأعيننا}

ص: 129

اعْلَم أَنه إِذا ثَبت تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن الْجِهَة والجوارح كَمَا تقدم وَجب تَأْوِيل هَذِه الْآيَات بِمَا يَلِيق بجلاله تَعَالَى

فَالْمُرَاد وَالله أعلم مزِيد الاعتناء والحراسة وَأَن ذَلِك بمرأى منا

قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي الْعَرَب تجمع الْوَاحِد إِمَّا لتعظيمه كَقَوْلِه أمرنَا ونهينا وَمِنْه إِنَّا نَحن نحي الْمَوْتَى {أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم} أَو لإِقَامَة الْجمع مقَام الْوَاحِد كَقَوْل الْقَائِل سكنت فِي دُورنَا وَآذَيْت غلماننا وسرنا فِي السفن وَإِن كَانَت الدَّار والغلام والسفينة وَاحِدًا وَلَو حملت الْآيَات الْوَارِدَة على ظَاهرهَا لاستقبحت تِلْكَ الْعُيُون تَعَالَى الله وتقدس عَن ذَلِك وللزم أَن يكون مُوسَى عليه السلام متلصقا بِالْعينِ وَعَلَيْهَا وَلزِمَ أَن تكون الْأَعْين آلَة لعمل الْفلك وَأَن تكون الْعين ظرفا للرسول عليه السلام

وَذَلِكَ لَا يَقُوله عَاقل فَوَجَبَ الْمصير إِلَى تَأْوِيله وَصَرفه عَن ظَاهره إِلَى مَا يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى وَوجه التَّجَوُّز بِالْعينِ عَن شدَّة الاعتناء أَن المعتني بالشَّيْء لمحبة أَو حَاجَة يكثر النّظر فِيهِ فَجعلت الْعين الَّتِي هِيَ آلَة النّظر كِنَايَة عَن مزِيد الاعتناء

وَمن جعل الْعين عبارَة عَن صفة لَا يعرف مَا هِيَ إِلَّا الله وَلَا معنى لَهَا فِي اللُّغَة فمردود كَمَا تقدم وَلَا يعول عَلَيْهِ

الْآيَة الثَّالِثَة عشر قَوْله تَعَالَى {واصطنعتك لنَفْسي} الْآيَة كتب

ص: 130

ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة) {ويحذركم الله نَفسه} {وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك}

اعْلَم أَن النَّفس فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة تطلق على معَان

الأول ذَات الشَّيْء وَحَقِيقَته كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} وَيَقُول الْإِنْسَان لغيره نَفسِي أحب إِلَى مِنْك أَي ذاتي وحقيقتي

الثَّانِي قد تطلق على الدَّم وَمِنْه نِفَاس الْمَرْأَة وَمِنْه قَول الْفُقَهَاء مَا لَيْسَ لَهُ نفس سَائِلَة أَي دم سَائل

ص: 131

الثَّالِث قد تطلق على الرّوح الَّتِي بهَا الْحَيَاة وَمن قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} وَمِنْه سمي النَّفس نفسا

الرَّابِع قد يُطلق على الْعقل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} وَقَوله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ} وَإِنَّمَا يفقد فِي النّوم الْعقل فَقَط دون سَائِر الْأَحْوَال

الْخَامِس قد يُطلق على الضَّمِير كَقَوْل الْقَائِل فِي نَفسِي أعمل كَذَا أَي فِي ضميري يفهم عَنهُ أَن مَا عدا الأول محَال على الله تَعَالَى فَتعين أَن المُرَاد الأول وَهُوَ الذَّات والحقيقة

وَالْمرَاد بقوله تَعَالَى {واصطنعتك لنَفْسي} الْمُبَالغَة فِي الِاخْتِصَاص والتقريب وَقَوله {وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} أَي معلومك مُبَالغَة أَي فِي سَعَة علمه وَقَوله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} مُبَالغَة فِي الْإِحْسَان بهَا وشمولها

{ويحذركم الله نَفسه} مُبَالغَة فِي التخويف والوعيد وَكَذَلِكَ فِي كل مَكَان مَا يَلِيق بِهِ وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا ورد فِي الحَدِيث فِي قسمه

الْآيَة الرَّابِعَة عشر قَوْله تَعَالَى {أَن تَقول نفس يَا حسرتى على مَا فرطت فِي جنب الله}

قد تقدم أَن الجسمية فِي حَقه تَعَالَى محَال فَوَجَبَ تَأْوِيل الْجنب الْمَذْكُور هُنَا وَأَن

ص: 132

المُرَاد بِهِ طَاعَته وَأمره لِأَن اسْتِعْمَال ذَلِك فيهمَا مَعْهُود شايع فِي كَلَام الْعَرَب وَعرف النَّاس قَالَ مُجَاهِد يَعْنِي مَا ضيعت فِي أَمر الله وَيُقَال فلَان يهمل جَانب فلَان وَرمى فلَان جنب فلَان أَي لَا يطيعه وَلَا يتعهده ذَلِك لِأَن الْجنب الْمَعْهُود لَا يَقع فِيهِ تَفْرِيط وَلَا يعقل مَعْنَاهُ فِيهِ بل إِنَّمَا يَقع التَّفْرِيط فِي طَاعَة الْأَمر وَفِي حق وَاجِب أَي بِتَرْكِهِ وَقد أنْشد ثَعْلَب فِيهِ خليلي كفا وَاذْكُر الله فِي جَنْبي وَوجه التَّجَوُّز عَن الطَّاعَة أَن تَارِك الْحق مُخَالف الْأَمر

الْآيَة الْخَامِسَة عشر قَوْله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق} وَقد ورد مثله

ص: 133

فِي الحَدِيث الصَّحِيح من رِوَايَات عدَّة

اعْلَم أَن نِسْبَة السَّاق الْمَعْرُوف إِلَى الله تَعَالَى محَال تَعَالَى عَن نِسْبَة الْأَعْضَاء والتجزي إِلَيْهِ

وَإِذا ثَبت استحالته فِي حق الله تَعَالَى وَجب تَأْوِيله بِمَا يَسْتَعْمِلهُ فِيهِ أهل اللُّغَة بِمَا يَلِيق بِجلَال الرب تَعَالَى

قَالَ ابْن عَبَّاس وَخلق من الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم إِن المُرَاد بالساق هُنَا الشدَّة أَي شدَّة أهوال يَوْم الْقِيَامَة وَمَا يلقاه أهل الْموقف وَسُئِلَ مرّة عَن الْآيَة فَقَالَ أما سَمِعْتُمْ قَول الشَّاعِر

قَامَت الْحَرْب على سَاق إِذا خَفِي عَلَيْكُم شَيْء فِي الْقُرْآن فابتغوه فِي الشّعْر فَإِنَّهُ ديوَان الْعَرَب

وَقَالَ مرّة يكْشف عَن سَاق عَن أَمر شَدِيد وَعَن بعض أَئِمَّة التَّفْسِير قَالَ عَن سَاق أَي عَن أَمر شَدِيد وَأنْشد

(قد جدت الْحَرْب بكم فجدوا

وكشفت عَن سَاقهَا فشدوا)

وَقَالَ بَعضهم يجوز أَن يكْشف الله عَن سَاق لبَعض مخلوقاته وَيجْعَل ذَلِك سَببا

ص: 134

لبَيَان حكمه فِي أهل الْإِيمَان وَأهل النِّفَاق وَقَالَ الْخطابِيّ هَذَا الحَدِيث مِمَّا تهيب القَوْل فِيهِ بعض شُيُوخنَا على نَحْو مَذْهَبهم فِي التَّوَقُّف وَهَذَا تقدم الْجَواب عَنهُ وَقَالَ سعيد ابْن جُبَير أَي يكْشف عَن أَمر عَظِيم وَاسْتِعْمَال السَّاق فِي ذَلِك مجَاز شَائِع مُسْتَعْمل

وَمِنْه قَوْلهم قَامَت الْحَرْب على سَاق إِذا اشتدت على اهلها

وأصل التَّجَوُّز بذلك أَن من قصد من الْعَرَب معاناة أَمر عَظِيم شمر عَن سَاقه ليسهل عَلَيْهِ مِنْهَا قَصده وَلَا يثبط عَن التَّمَكُّن مِنْهُ وَلذَلِك جَاءَ بِصِيغَة مَا لم يسم فَاعله وَلم يقل يكْشف عَن سَاقه

وَمَا رُوِيَ فِي بعض طرق الحَدِيث عَن سَاقه فَلَو ثَبت ذَلِك كَانَت إِضَافَته إِضَافَة خلق وَملك لَا إِضَافَة جارحة أَي عِنْد شدته الَّتِي أوجدها فِي تِلْكَ الْحَالة فأضيفموجدها وَمن قَالَ إِن السَّاق لَا يعقل مَعْنَاهَا مَرْدُود عَلَيْهِ بِمَا تقدم وَصرح بعض إِلَى الْحَنَابِلَة فِيهِ بالتجسيم وَأنكر ذَلِك عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من أهل مذْهبه وَالْإِمَام أَحْمد بَرِيء مِنْهُ مَعَ أَن الْوُقُوف عِنْد ظَاهره كَمَا زَعمه المجسمة يلْزم عَلَيْهِ اتِّخَاذ السَّاق وَهُوَ نقص تَعَالَى الله عَن ذَلِك وتقدس

الْآيَة السَّادِسَة عشر قَوْله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد}

ص: 135

{وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم} {فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع} {إِن رَبِّي قريب مُجيب}

إِذا ثَبت تَنْزِيه الرب تَعَالَى عَن الحيز والجهة والقرب الْحسي والبعد الْعرفِيّ وَجب تَأْوِيل ذَلِك على مَا يَلِيق بجلاله وَهُوَ قرب علمه وَرَحمته ولطفه

وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ أَو قرب الْمنزلَة عِنْده كَمَا يُقَال السُّلْطَان قريب من فلَان إِذا كَانَت لَهُ عِنْده منزله رفيعة وَالسَّيِّد قريب من غلمانه إِذا كَانَ يتنازل مَعَهم فِي مخاطبتهم وملاطفتهم وَلَيْسَ المُرَاد هَهُنَا قرب مَسَافَة وَلَا مَكَان

وَإِذا كَانَ ذَلِك مُسْتَعْملا فِي لِسَان الْعَرَب وَالْعرْف وَجب حمله عَلَيْهِ لِاسْتِحَالَة ظَاهر الْمسَافَة فِي حق الرب تَعَالَى

الْآيَة السَّابِعَة عشر قَوْله تَعَالَى {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون}

ص: 136

اعْلَم ان أصل الْحجاب الْمَنْع وَقَالَ الْعلمَاء احتجب الله عَن الْخلق وَلَا يُقَال مَحْجُوب لِأَن الاحتجاب مشْعر بِالْقُدْرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِك الْحجب ومحجوب مشْعر بالمفعولية وَالْعجز

وَحَقِيقَة الْحجب عرفا توَسط الْجِسْم بَين جسمين حجب أَحدهمَا عَن الآخر وَذَلِكَ فِي حق الله تَعَالَى محَال فَوَجَبَ تَأْوِيله على مَا يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى وَهُوَ أَنهم محجوبون عَن رَحمته وفضله وإحسانه وَأَنه حجبهم عَن النّظر إِلَيْهِ بعد أَن خلق قُوَّة النّظر إِلَيْهِ فيهم وَفِيمَا ورد فِي الحَدِيث من ذَلِك يَأْتِي فِي قسم الحَدِيث أبسط من هَذَا

الْآيَة الثَّامِنَة عشر قَوْله تَعَالَى {وَالله لَا يستحيي من الْحق} {إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا} الْآيَة

ص: 137

اعْلَم أَن الْمُخَالفَة من تغير وإنكار يعتري الْإِنْسَان عِنْد ظُهُور خوف عتب لتقصير أَو رُؤْيَة مستقبح مِنْهُ وَالله تَعَالَى منزه عَن ذَلِك فَوَجَبَ تَأْوِيله بِمَا يَلِيق بجلاله

فَنَقُول الْحيَاء لَهُ مُبْتَدأ أَو غَايَة فمبتدأه تغير جسماني يلْحق الْإِنْسَان لخوف أَو نِسْبَة إِلَى قَبِيح فيكدر الْحَيَاة وَلذَلِك سمي حَيَاء وغايته ترك مَا حصل الْحيَاء مِنْهُ وَهُوَ فعل مَا ترك أَو ترك مَا فعل

والمبتدأ الْمَذْكُور على الله محَال فَتعين أَن المُرَاد غَايَته وَهُوَ ضرب الْمثل وإنزال الْحق وَسَيَأْتِي مَا فِي الحَدِيث مِنْهُ فِي قسم الحَدِيث إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الْآيَة التَّاسِعَة عشر قَوْله تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {إِن الله يحب التوابين} كلمتان خفيفتان على اللِّسَان حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه

ص: 138

اعْلَم أَن الْمحبَّة فِي اللُّغَة إِنَّمَا هِيَ ميل الْقلب إِلَى المحبوب وَذَلِكَ فِي حق الْبَارِي تَعَالَى محَال لَكِن نِهَايَة الْمحبَّة غَالِبا إِرَادَة الحيز للمحبوب وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ على الْقَوْلَيْنِ المعروفين أَن محبَّة الله تَعَالَى هِيَ صفة ذَات أَو صفة فعل فَمن قَالَ صفة ذَات فَمَعْنَاه أَنه يُرِيد بالمحبوب مَا يُرِيد المحبوب لمحبوبه من الْإِكْرَام وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ

ومحبة الله تَعَالَى للأقوال والخصال المحمودة يرجع إِلَى إِرَادَته كاسبها وَالْإِحْسَان

الْآيَة الموفية عشْرين قَوْله تَعَالَى {وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى} وَقَوله تَعَالَى {وَغَضب الله عَلَيْهِ} الْآيَة

اعْلَم أَن الْغَضَب فِينَا لَهُ مُبْتَدأ وَغَايَة كَمَا تقدم فِي الْحيَاء والمحبة فمبتدأ حَقِيقَته غليان الدَّم عِنْد حرارة الغيظ لإِرَادَة الانتقام بالمغضوب عَلَيْهِ أَو إِرَادَة ذَلِك والرب تَعَالَى منزه من الغليان أَعنِي مُبْتَدأ الْغَضَب فَوَجَبَ تَأْوِيله بِأَن المُرَاد غَايَته وَهُوَ الانتقام أَو إِرَادَته كَمَا قدمنَا فِي الْمحبَّة وَالْحيَاء

الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَفِي

ص: 139

الحَدِيث اللَّهُمَّ لَك الْحَمد أَنْت نور السَّمَوَات وَالْأَرْض

اعْلَم أَنه لَا يجوز أَن يُقَال وَلَا يعْتَقد أَنه هُوَ الشعاع الْمُحِيط فِي الأَرْض والجو والحيطان المحسوس لنا تَعَالَى الله عَن ذَلِك وتقدس إِذْ لَو كَانَ لما وجدت ظلمَة قطّ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَزُول ولكان مغنيا عَن نور الشَّمْس وَالْقَمَر وَالنَّار لِأَنَّهُ خَالق النُّور لقَوْله تَعَالَى {وَجعل الظُّلُمَات والنور} وَلِأَنَّهُ أضَاف النُّور إِلَى نَفسه فِي قَوْله تَعَالَى {مثل نوره كمشكاة} وَفِي قَوْله {يهدي الله لنوره من يَشَاء}

إِذا ثَبت ذَلِك وَقد أَضَافَهُ إِلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجب تَأْوِيله بِمَا يَلِيق بجلاله وَيكون مَعْنَاهُ منورهما إِمَّا بإرسال الرُّسُل وإنزال الْوَحْي كَقَوْلِه تَعَالَى {قد جَاءَكُم من الله نور وَكتاب مُبين}

ص: 140

فَوَجَبَ حمله عَلَيْهِ أَو لحسن خلقه لَهما وتدبيره كَمَا يُقَال فلَان نور بَلَده وَنور قبيلته أَي هُوَ الْقَائِم بصلاح أهل بَلَده أَو قبيلته أَو المُرَاد هادي أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض لِأَنَّهُ سمي الْهِدَايَة نورا فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس}

وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله تَعَالَى تلو ذَلِك {يهدي الله لنوره من يَشَاء}

الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {الَّذين يظنون أَنهم ملاقو رَبهم} {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه}

اعْلَم أَن اللِّقَاء لُغَة هُوَ الِاجْتِمَاع المحسوس قربه فِي مَكَان وَهُوَ من صِفَات الْأَجْسَام قَالَ الله تَعَالَى {يَوْم التقى الْجَمْعَانِ} أَي قرب أَحدهمَا من الآخر وَلما ثَبت أَنه تَعَالَى لَيْسَ بجسم وَجب تَأْوِيل ذَلِك على مَا يَلِيق بجلاله وَهُوَ إِمَّا رُؤْيَته كَمَا يَقُول أهل السّنة لِأَن من لَقِي شَيْئا أبصره فَأطلق السَّبَب على الْمُسَبّب وَإِمَّا ظُهُور عَظمته وسلطانه وَقدرته وقهره لِأَن من لَقِي من هَذِه صفته ظهر لَهُ ذَلِك فَأطلق اسْم السَّبَب على الْمُسَبّب وَأما المماسة والمجاورة فقد أبطلناهما فَتعين مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن أحدا لم يقل إِن ذَوَات النَّاس تماس ذَات الْبَارِي تَعَالَى

الْآيَة الثَّالِثَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {ونفخت فِيهِ من روحي}

ص: 141

{فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} وَقَالَ تَعَالَى {وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ}

اعْلَم أَن الرّوح الَّتِي بهَا حَيَاة الْأَحْيَاء فِي الْحَيَوَان المتشعبة فِي الْأَجْسَام لَا يجوز إِطْلَاقهَا على الْبَارِي تَعَالَى لما ثَبت من اسْتِحَالَة الجسمية والتجزي عَلَيْهِ سبحانه وتعالى فَوَجَبَ حمله فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة على غير ذَلِك

أما قَوْله فِي حق آدم {من روحي} فَهُوَ إِضَافَة خلق إِلَى خالقه وَملك إِلَى مَالِكه لِأَن الْأَرْوَاح كلهَا بيد الله تَعَالَى لَا أَنه جُزْء مِنْهُ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وإضافته إِلَيْهِ إِضَافَة تشريف إِمَّا لآدَم عليه السلام كَمَا قَالَ {خلقت بيَدي} أَو لِأَنَّهَا جَوْهَر لطيف شرِيف علوي وَأما النفخ فَالْمُرَاد بِهِ وَالله أعلم خلقهَا وإيجادها

وَقَالَ بَعضهم كَيْفيَّة النفخ لَا يعلمهَا إِلَّا الله تَعَالَى

وَأما قَوْله {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} فَالضَّمِير فِيهِ رَاجع إِلَى جيب درعها

ص: 142

فوصل النفخ إِلَيْهَا

وَقَوله {من رُوحنَا} أَي نفخ جِبْرِيل عليه السلام وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا} والمرسل جِبْرِيل بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَقد سَمَّاهُ الله تَعَالَى روحا فِي مَوَاضِع من كِتَابه الْعَزِيز وَمِنْه {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} وَقَالَ {نزله روح الْقُدس من رَبك} وَقَالَ {وأيدناه بِروح الْقُدس} يَعْنِي جِبْرِيل

وَنسبَة إِضَافَة الرّوح فِي آيَات مَرْيَم كلهَا نِسْبَة إِضَافَة ملك وَخلق وتشريف كَمَا قدمْنَاهُ فِي آدم عليه السلام لِأَن نفخ جِبْرِيل كَانَ بِأَمْر الله وَسمي الْمَسِيح عليه السلام روح الله إِمَّا تَشْرِيفًا لَهُ أَو لِأَنَّهُ كَانَ بأَمْره وخلقه من غير وَاسِطَة لأَب

وَهَذَا كَاف فِي هَذَا وَمن جعل من للتَّبْعِيض فحلولي مجسم تَعَالَى الله وتقدس عَن ذَلِك

الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ}

اعْلَم أَن معنى الرِّضَا سُكُون النَّفس إِلَى الشَّيْء والإرتياح إِلَيْهِ وَذَلِكَ على الله تَعَالَى

ص: 143

محَال فَالْمُرَاد بِهِ مَا تقدم فِي الْمحبَّة وَالْغَضَب من أَنه من صِفَات الْفِعْل أَو من صِفَات الذَّات فعلى الأول أَنه يُعَامل من رَضِي عَنهُ مُعَاملَة الراضي عَمَّن رَضِي عَنهُ من الْإِكْرَام وَالْإِحْسَان وعَلى الثَّانِي أَنه يُرِيد بِهِ إِرَادَة الراضي كَمَا تقدم والسخط يُقَابل الرِّضَا فَمَعْنَاه أَنه يعامله مُعَاملَة الساخط أَو يُرِيد بِهِ إِرَادَته كَمَا تقدم

الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {ثمَّ دنا فَتَدَلَّى فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى}

اعْلَم أَن دنو الْمسَافَة على الله تَعَالَى محَال وَالَّذِي صَحَّ فِي الحَدِيث عَن عَائِشَة وَابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة رضي الله عنهم أَن الْآيَتَيْنِ فِي روية النَّبِي صلى الله عليه وسلم جِبْرِيل على صورته

ص: 144

الَّتِي خلقه لله تَعَالَى عَلَيْهَا فَإِنَّهُ رَآهُ مرَّتَيْنِ مرّة فِي أفق الْمشرق وَالثَّانيَِة عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى ثَبت ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا عَن عَائِشَة وَابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَأما حَدِيث شريك بن أبي نمر الطَّوِيل فقد خلط فِيهِ وَزَاد زيادات لم يروها غَيره مِمَّن هُوَ أحفظ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي رِوَايَة ثَابت وَلَا قَتَادَة عَن أنس لفظ الدنو وَلَا التدني وَلَا الْمَكَان وَلَا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أنس وَأبي ذَر وَذكر شريك فِي حَدِيثه مَا يدل على أَنه لم يحفظ الحَدِيث على مَا يَنْبَغِي فَإِنَّهُ خلط فِي مقامات الْأَنْبِيَاء وَقَالَ فِي آخر حَدِيثه فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام والمعراج إِنَّمَا كَانَ رُؤْيَة عين

ثمَّ الْحِكَايَة كلهَا مَوْقُوفَة على أنس من تِلْقَاء نَفسه لم يرفعها إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا رَوَاهَا عَنهُ وَلَا عزاها إِلَى قَوْله وَقد رَوَت عَائِشَة وَابْن مَسْعُود وابو هُرَيْرَة مَرْفُوعا أَن المُرَاد بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة جِبْرِيل وهم أحفظ وَأكْثر فَكيف يتْرك لحَدِيث شريك وَفِيه مَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ رَحمَه الله تَعَالَى لم يثبت فِي شَيْء مِمَّا رُوِيَ عَن السّلف أَن التدلي مُضَاف إِلَى الله سبحانه وتعالى تَعَالَى رَبنَا عَن صِفَات المخلوقين ونعوت الْمُحدثين وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو من رِوَايَة انس فِي إِضَافَة الرُّؤْيَة إِلَى الله تَعَالَى وَلَا يَصح شَيْء من ذَلِك بل طرقها واهية ضَعِيفَة عَن ضعفاء مجهولين وَفِي

ص: 145

بَعْضهَا انْقِطَاع

وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس مَا هُوَ مِنْهُ بَرِيء من أَحَادِيث تدل على التَّشْبِيه والتجسيم تَعَالَى الله عَن ذَلِك

وَيرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي قسم الحَدِيث الضَّعِيف

الْآيَة السَّادِسَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم}

ص: 146

وَقَوله وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم الْآيَة

اعْلَم أَن إِضَافَة معية الْقرب بالمسافة إِلَى الله محَال كَمَا تقدم فَوَجَبَ تَأْوِيلهَا بِمَا نقلته الْأَئِمَّة من السّلف عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره وَهُوَ أَن المُرَاد معية الْعلم وَالْقُدْرَة لَا الْمَكَان قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ علمه وَقَالَ الضَّحَّاك قدرته وسلطانه

الْآيَة السَّابِعَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {إِن رَبك لبالمرصاد}

عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {إِن رَبك لبالمرصاد} قَالَ يسمع وَيرى

وَقَالَ الْفراء {إِلَيْهِ الْمصير} وَمعنى قَوْلهمَا أَن المُرَاد تخويف الْعباد ليحذروا

ص: 147

عُقُوبَته إِذا علمُوا أَنه يسمع وَيرى مَا يَقُولُونَ ويفعلون

الْآيَة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {سنفرغ لكم أَيهَا الثَّقَلَان}

اعْلَم أَنه تَعَالَى لَا يشْغلهُ شَأْن عَن شَأْن

فَمَعْنَى الْآيَة مَا قَالَه ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ هُوَ وَعِيد من الله تَعَالَى للعباد وَلَيْسَ لله تَعَالَى شغل وَقَالَ غَيره سنقصد لعقوبتكم ولحكم جزائكم

وَقَالَ الْفراء هَذَا من الله وَعِيد لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يشْغلهُ شَيْء عَن شَيْء يَقُول لصَاحبه إِذا أحسن سأفرغ لَك مَعْنَاهُ لأجزينك ولايشغلني عَن مقابلتك شاغل

ص: 148

الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {ويستخلفكم}

الْآيَة الموفية ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَات وَفِي الأَرْض يعلم سركم وجهركم} الْآيَة

اعْلَم أَنه لَا يجوز حمل هَذِه الْآيَة على ظَاهر الظَّرْفِيَّة فِيهَا للباري تَعَالَى وتقدس الْوُجُوه

ص: 149

الأول الدَّلِيل الْعقلِيّ أَن التحيز والجهة فِي حَقه تَعَالَى محَال

الثَّانِي أَنه قَالَ {فِي السَّمَاوَات} فَجمع السَّمَوَات فَإِن كَانَ مَعَ الِاتِّحَاد لزم كَون متحيز وَاحِد فِي عدَّة أَمَاكِن متباعدة وَهُوَ محَال وَإِن كَانَ فِي كل سَمَاء غير مَا فِي الْأُخْرَى لزم التجزي والتركيب وَهُوَ محَال تَعَالَى الله عَن ذَلِك كُله

الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {لله ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ} فَيلْزم أَن يكون مَالِكًا لنَفسِهِ وَأَنه يسْجد لنَفسِهِ وَهُوَ محَال

فَإِن قيل هُوَ عَام قُلْنَا لَا يَصح التَّخْصِيص مَعَ قيام الدَّلِيل الْعقلِيّ والنقلي على خِلَافه

الرَّابِع لَو كَانَ كل مظروف محدودا وكل مَحْدُود متناه قَابل للزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وكل قَابل لذَلِك يحْتَاج إِلَى مُخَصص لذَلِك المتناهي مُحدث لَهُ وَذَلِكَ على الله محَال

الْخَامِس قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه}

ص: 150

فَلَيْسَ تَخْصِيص أَحدهمَا بِأولى من الآخر لِأَن الظَّرْفِيَّة فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاء فَيلْزم أَن يكون فِي الأَرْض أَيْضا

السَّادِس قَوْله تَعَالَى وَهُوَ مَعكُمْ اينما كُنْتُم {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} {فَإِنِّي قريب} {وَنحن أقرب إِلَيْهِ} وَلَيْسَ تَأْوِيل هَذَا بِأولى من تَأْوِيل ذَلِك لِأَن تحكم

وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} وَالْمرَاد بِوَجْهِهِ ذَاته كَمَا تقدم

السَّابِع أَنهم يَقُولُونَ إِنَّه على الْعَرْش فَيلْزم التَّنَاقُض أَو يكون متحيزا فِي حيزين كَمَا تقدم وَهُوَ محَال

إِذا ثَبت هَذَا وَجب حمل الْآيَة على مَا يَلِيق بجلاله تَعَالَى

وَفِيه لأهل التَّأْوِيل وُجُوه

الأول مَا دلّ عَلَيْهِ لفظ الله من العظمة والإلهية وَاسْتِحْقَاق الْعُبُودِيَّة وَتَقْدِيره وَهُوَ الله المعبود الْمُعظم إِلَه فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه}

وَيُؤَيِّدهُ قِرَاءَة من قَرَأَ وَهُوَ فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض الله

ص: 151