الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الرضاع
مقدمة
الرِّضاع: بفتح الراء وكسرها، مصدر: رضع الثدي؛ إذا مصَّه.
وتعريفه شرعًا: مص لبن ثاب عن حملٍ، أو شربه.
وحكم الرضاع ثابتٌ: بالكتاب، والسنة، والإجماع، ونصوصه مشهورة.
ففي الكتاب العزيز: قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].
وفي السنَّة: ما جاء في الصحيحين، من حديث ابن عباس، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"يَحْرُم من الرَّضاع ما يحرم من النَّسب".
وأجمع العلماء على أثره في تحريم التناكح والمحرمية، وجواز النظر والخلوة، لا وجوب النفقة، والتوارث، وولاية النكاح.
وحكمة هذه المحرمية والصلة ظاهرة؛ فإنَّه حين تغذى الرضيع بلبن هذه المرأة، نبت لحمه عليه؛ فكان كالنسب له منها.
ولذا كره العلماء استرضاع الكافرة، والفاسقة، وسيئة الخلق، أو من بها مرض مُعْدٍ، لأنَّه يسري إلى الولد.
واستحبوا أنْ يختار المرضعة الحسنة الخَلْقِ والخُلُق؛ فإنَ الرِّضاع يغيِّر الطباع.
والأحسن ألَاّ ترضعه إلَاّ أمه؛ لأنَّه أنفع وأَمْرَأُ، وأحسن عاقبة من اختلاط المحارم، التي ربما توقع في مشكلات زوجية.
وقد حثَّ الأطباء على لبن الأم، لاسيَّما في الشهور الأُوَل.
وقد ظهرت لنا حكمة الله الكونية، حين جعل غذاء الطفل من لبن أمه بالتجارب، وبتقارير الأطباء ونصائحهم.
قال الدكتور الطبيب محمد بن علي البار: "وللرضاع فوائد عظيمة"، وَمن فوائده الصحية: ما جاء في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
فيقرر المولى تعالى حق الطفل في الرضاعة، ويوجه الوالدين إلى أنْ يتشاورا في أمر وليدهما، ويربط ذلك بالتقوى، وبعد مضي أربعة عشر قرنًا من نزول الاية الكريمة، نادت المنظمات الدولية، والهيئات العالمية؛ مثل هيئة الصحة العالمية، التي تصدر البيان تلو البيان، تنادي الأمهات أنْ يرضعن أولادهنَّ، بينما أمر الإسلام به منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان.
فمن فوائد الرَّضاعة للوليد:
1 -
لبن الأم معقَّم، جاهز، ليس به ميكروبات.
2 -
لبني الأم لا يماثلة أيُّ لبن محضَّر؛ من البقر، أو الغنم، أو الإبل، فقد صُمِّم وَرُكِّب؛ ليفي بحاجات الطفل يومًا بعد يوم، منذ ولادته حتى سن الفطام.
3 -
يحتوي لبن الأم على كميات كافية من البروتين، والسكر، بنسب تناسب الطفل تمامًا، بينما البروتينات الموجودة في لبن الأبقار، والأغنام، والجواميس عسيرةُ الهضم على معدة الطفل؛ لأنَّها أُعدت لتناسب أولاد تلك الحيوانات.
4 -
نمو الأطفال الَّذين يرضعون من أمهاتهم أسرع وأكمل، من نمو أولئك الأطفال الَّذين يُعْطَوْن القارورة.
5 -
تقول تقارير هيئة الصحة العالمية لعام 1988 م: إنَّ أكثر من عشرة ملايين طفل قد لَقَوْا حتفهم؛ نتيجة عدم إرضاعهم من أمهاتهم.
6 -
الارتباط النفسي والعاطفي بين الأم وطفلها.
7 -
يحتوي لبن الأم على العناصر المختلفة الضرورية لتغذية الطفل، وفق الكمية والكيفية، وعناصر التغذية الثابتة، وتتغير يومًا بعد يوم، وفق حاجات الطفل.
8 -
يُحفظ لبن الأم تحت درجة من الحرارة معقولة، يستجيب تلقائيًّا لحاجيات الطفل، ويمكن الحصول عليه في أي وقت.
9 -
الإرضاع من الثدي هو أحد العوامل الطبيعية لمنع حمل الأم؛ وهي وسيلة تمنع من المضاعفات التي تصحب استعمال حبوب منع الحمل، أو اللولب، أو الحقن".
وذكر الدكتور أشياء كثيرة من الفوائد، نكتفي منها بهذا القدر، ولا نملك إلَاّ أن نقول:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل].
***
978 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ، وَالمَصَّتَانِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لَا تُحَرِّم: من التحريم.
- المصَّة: بفتح الميم، وتشديد الصاد المهملة؛ هي الواحدة من المص، يقال: مصَّ اللبن يمصُّه مصًا: رشفه وشربه شربًا رقيقًا، مع جذب نَفَسٍ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الرِّضاع المؤثِّر بانتقال نفعه من المرضعة إلى الرضيع -هو ما أنشز العظم، وأنبت اللحم، وأمَّا المصَّة والمصَّتان: فلا أثر لهما في تكوين الطفل؛ لذا لم يكنْ لهنَّ تأثيرٌ في الحكم.
2 -
الحديث يدل على أنَّ المصَّة والمصتين لا تحرمان، لأنَّهما يسيرتان، والمسألة فيها أقوال للعلماء، وخلافات بينهم، سيأتي تحقيقها، إنْ شاء الله تعالى.
3 -
مفهوم الحديث: أنَّ الرضاع الكثير يحرِّم، وسيأتي شرح حديث:"يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النسب"، إنْ شاء الله تعالى.
4 -
عدم تحريم المصَّة والمصتين؛ فلا يكون التحريم إلَاّ بخمس رضعات؛ لحديث عائشة الآتي قريبًا، إنْ شاء الله تعالى.
…
(1) مسلم (1450).
979 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- انْظُرْنَ: النظر هنا بمعنى: التفكير، والتأمل، والتدبر؛ فهو أمر بإمعان التحقيق، والتأكد البابغ في شأن الرِّضاع؛ هل هو ممَّا يوجب التحريم؟
- من: استفهامية، محلها النصب؛ لأنَّها مفعول به.
- فإنَّما الرضاعة: "الفاء" فيه للتعليل؛ لقوله: "انظرن من إخوانكنَّ"؛ يعني ليس كلّ من رضع معكن صار أخًا لَكُنَّ، بل شرطه أنْ يكون من المجاعة.
- الرَّضاعة: مصدرة رضع رضاعًا؛ وهو مص اللبن الَّذي ثاب عن حمل من ثدي المرضعة.
- المَجَاعة: بفتح الميم والجيم: خلو المعدة من الطعام؛ قال أبو عبيد: معناه: أن الَّذي إذا جاع كان طعامه الَّذي يشبعه اللبن من الرضاع، هو الَّذي يثبت الحرمة.
…
(1) البخاري (2647)، مسلم (1455).
980 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بنْتُ سُهَيْلٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بلغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ فَقَالَ:"أَرْضِعِيهِ، تَحْرُمِي عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يأمر صلى الله عليه وسلم بالتحقيق في أمر الرَّضاعة، هل هو الرضاع الصحيح المحرِّم الواقع في زمن الرَّضاع المشتَرَط؟
فإن الحكم هو للرضاع الذي ينبت به اللحم، وينشز منه العظم، وتثبت به الحرمة، وذلك حينما يكون الرضيع طفلاً يسد اللبنُ جوعَهُ، وينبت عليه لحمه، فيصير جزءًا من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها.
2 -
أما الحديث رقم (980) فيفيد أن رضاع الكبير يفيد، وأن له أثرًا، وأنه يفيد من المحرمية والأحكام ما يفيده رضاع الصغير، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في وقت الرَّضاع الذي يتعلق به التحريم، ولهم في ذلك أقوال، ولكن الذي يصلح للبحث والمناقشة، ويستند حكمه إلى الأدلة -أربعة مذاهب هي:
الأول: أن الرَّضاع المعتبر، هو ما كان في الحولين فقط.
(1) مسلم (1453).
الثاني: هو ما كان في الصغر، ولم يقدروه بزمان.
الثالث: أن الرضاع يحرم؛ ولو كان للكبير البالغ، أو الشيخ.
الرابع: أن الرضاع لا يكون محرِّمًا إلَاّ لمن كان في الصغر، إلَاّ إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير، الذي لا يُستغنى عن دخوله، وَيُشقّ الاحتجاب منه.
فذهب إلى الأول: الشافعي، وأحمد، وصاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وصح عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وروي عن الشعبي، وهو قول سفيان، وإسحاق، وابن المنذر.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فجعل تمام الرضاعة حولين، فلا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به تحريم.
وحديث: "إنما الرضاعة من المجاعة" المتقدم، ومدة المجاعة هي ما كان في حولين.
وما رواه الدارقطني بإسناد صحيح، عن ابن عباس يرفعه:"لا رضاع إلَاّ ما كان في الحولين".
وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه: "لا يحرم من الرَّضاع إلَاّ ما أنبتَ اللحم، وأنشزَ العظم".
ورضاع الكبير لا يُنبت اللحم، ولا ينشز العظم.
وذهب إلى القول الثاني: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خلا عائشة، وروي عن ابن عمر، وابن المسيب.
ودليل هؤلاء: ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الرضاعة من المجاعة"، حيث يقتضي عمومه، أن الطفل مادام غذاؤه اللبن فإنَ ذلك الرَّضاع محرِّم، وهو نظرٌ جيِّدٌ، ومأخذه قويٌّ.
وذهب إلى القول الثالث: طائفة من السلف والخلف؛ منهم عائشة،
ويروى عن: علي، وعروة، وعطاء، وقال به الليث بن سعد، وداود، وابن حزم، ونصره في كتابه، "المحلى"، ورد حجج المخالفين.
وكانت عائشة إذا أحبت أن يدخل عليها أحد من الرجال، أمرت أختها أم كلثوم، أو بنات أخيها، فأرضعته.
ودليل هؤلاء: ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله، إن سالمًا مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، فقال:"أرضِعيه، تحرمي عليه"؛ فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. [رواه مسلم].
وهذا حديث صحيح ليس في ثبوته كلام، ولكن أصحاب القول بالحولين يجيبون عنه بأحد جوابين:
الأول: أنه منسوخ. ولكن دعوى النسخ تحتاج إلى معرفة التاريخ بين النصوص، وليس هناك علم بالمتقدم منها، والمتأخر.
ولو كان منسوخًا، لقاله الذين يحاجّون عائشة في هذه المسألة، ويناظرونها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهن.
الجواب الثاني: دعوى الخصوصية؛ فيرون هذه الرخصة خاصة لسالم وسهلة، وليست لأحد غيرهما.
وتخريج هذا المسلك لهم: أنهم يقولون: جاءت سهلة شاكية متحرجة من الإثم والضيق، لما نزلت "آية الحجاب"، فرخَّص لها النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه استثناها من عموم الحكم.
قالوا: ويتعين هذا المسلك، وإلَاّ لزمنا أحد مسلكين: إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم، أو نسخها به.
ولا يمكن هذا؛ لأننا لا نعلم تاريخ السابق منها واللاحق، وبهذا المسلك نتمكن من العمل بالأحاديث كلها؛ فيكون هذا الحديث خاصًّا بـ"سالم " و"سهلة"، وسائر الأحاديث لعامة الأمة.
وذهب إلى القول الرابع -وهو أن رضاع الكبير رخصة عامة لكل من هو في مثل حال "سهلة"-: شيخُ الإسلام ابن تيمية، وجعله توسُّطًا بين الأدلة، وجمعًا بينهما؛ حيث إن النسخ لا يمكن بين هذه النصوص؛ لعدم العلم بالتاريخ.
والخصوصية لـ"سالم" وحده لم تثبت، فتكون خصوصية في مثل مَن هو في حال "سالم" وزوج أبي حذيفة؛ أنه يشق الاحتجاب عنه، ولا يُسْتَغنى عن دخوله، والخلوة به.
ورجَّح هذا المسلك ابن القيم في "الهدي"؛ فقال: "وهذا أولى من النسخ، ودعوى الخصوصية لشخص بعينه، وهذا أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له، والله الموفق".
****
981 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ، جاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الحِجَابِ، قَالَتْ: فَأَبيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بالَّذِي صَنَعْتُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَالَ:"إِنَّهُ عَمُّكِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- القُعَيْس: بضمِّ القاف، وفتح العين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ثم سين مهملة-: تصغير قَعْس، واسم أبي القعيس: الجعد.
- يستأذن: أي: يطلب الإذن بالدخول.
…
(1) البخاري (2644)، مسلم (1445).
982 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ فِيْمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُوْمَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُوْمَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ فِيْمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
*مفردات الحديث:
- نُسِخْنَ: النسخ لغةً: الإزالة والنقل، واصطلاحًا: رفع حكمٍ شرعيٍّ، أو رفعُ لفظه بدليلٍ من الكتاب والسنة.
- معلومات: متحققات ثابتات.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
وجوب التثبت من صحة الرَّضاع المحرِّم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ما معناه: يا عائشة، انظرن، وتثبتن في الرضاعة؛ فإن منها ما لا يسبب المحرمية، فلابد من رضاعة يَنْبُتُ منها اللحم، ويشتد بها العظم، وذلك أن تكون من المجاعة، حين يكون الطفل محتاجًا إلى اللبن، فلا يتقوت بغيره، فيكون حينئذٍ كالجزء من المرضِعة، فيصير كأحد أولادها؛ فتثبت المحرمية.
2 -
احتياط المرأة الصالحة من مواجهة الأجانب، إلَاّ بعد التأكد من صحة محرميته لها.
3 -
النبي صلى الله عليه وسلم لم يَلُمْ، ولم يُنْكِر على عائشة تحريها واحتياطها، فلابد من ذلك.
4 -
أنه لابد أن يكون الرضاع في وقت الحاجة إلى تغذيته؛ فإن الرضاعة من
(1) مسلم (1452).
المجاعة، ويأتي تحديد ذلك عددًا ووقتًا، والخلاف فيه إن شاء الله.
5 -
والحكمة في كون الرضاع المحرِّم هو ما كان من المجاعة: أنه حين يتغذى بلبنها محتاجًا إليه، يَشِبُّ عليه لحمه، وتقوى عظامه؛ فيكون كالجزء منها، فيصير كولد لها تغذى في بطنها، وصار بِضعةً منها.
6 -
أن الرضاع المحرِّم كان في أول الأمر عشر رضعات نزل بها القرآن، فنسخ لفظه وحُكمه، إلى خمس رضعات يحرمن، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنَّ هكذا.
7 -
قال البيهقي: "فالعشر مما نسخ رسمه وحكمه من القرآن، والخمس مما نسخ رسمه وبقي حكمه؛ بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن، لم يثبتوها رسمًا، وحكمها باقٍ عندهم".
قال السمعاني: "وقولها" مما يتلى من القرآن "أي: يتلى حكمها دون لفظها".
وقال الطيبي: "وقول عائشة رضي الله عنها: "تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي فيما يقرأ من القرآن"؛ يعني: عند من لم يبلغه نسخهن، حتى بلغه، فترك؛ لأن القرآن محفوظ من الزيادة أو النقص، وهذا من جملة ما نسخ لفظه، ومعناه باقٍ".
8 -
قول عائشة رضي الله عنها: "عشر رضعات معلومات"؛ أي: منسوخات الحكم والتلاوة، وقولها:"خمس معلومات" منسوخات التلاوة، ثابتات الحكم؛ كآية الرجم.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في قدر الرَّضاع المحرِّم:
فذهب طائفة من السلف، والخلف إلى: أن قليل الرضاع وكثيره يحرِّم؛ وهو مرويٌّ عن: علي، وابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، وقتادة، والأوزاعي، والثوري، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة.
وحجتهم: أن الله سبحانه وتعالى علَّق التحريم باسم "الرضاعة"، فهي مطلقة في القرآن، لم يقيدها بشيء؛ فحيث وُجد اسمها، وُجِد حكمها.
وذهبت طائفة أخرى إلى: أنه لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات؛ وهذا قول أبي ثور، وابن المنذر، وداود.
وحجة هؤلاء: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحرِّم المصة، ولا المصتان". [رواه مسلم].
ومفهوم الحديث: أن ما زاد على المصَّتين يثبت به التحريم، وهو الثلاثة فصاعدًا.
وذهبت طائفة ثالثة إلى: أنه لا يثبت بأقل من خمس رضعات؛ وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وابن حزم.
ودليل هؤلاء: ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نُسِخْن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يُقرأ من القرآن".
وما جاء في صحيح مسلم أيضًا في قصة سهلة زوجة أبي حذيفة، حينما قالت: إنا كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيتٍ واحدٍ، ويراني فُضلى، وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيهن؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه"، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.
وأجابت هذه الطائفة عن أدلة الطائفتين الأوليين، فقالت: وأما من يرون أن قليله وكثيره يحرم: فجوابهم الحديث الصحيح المتقدم: "لا تحرِّم المصة، ولا المصَّتان".
وأما جواب أصحاب الثلاث: فهو أن دليلهم مفهوم، والمنطوق مقدم عليه، والعمل بأحاديث الرضعات الخمسة إعمال للأحاديث كلها.
وبالتأمُّل: فإن التعبير بـ"الأم" يقتضي أن المرضعة لا تحرم، إلَاّ إذا أرضعت مقدارًا تستحق به الاتصاف بالأمومة، ولا تتصف بذلك إلَاّ مَن ولدت الولد، أو مَن صار جزءُ بدنها -وهو اللبن- جزءًا لبدن الولد، وهذا لا يحصل بمجرد الرَّضاعة القليلة، بل لابد له من مقدار كبير، يصير به اللبن جزءًا للبدن، وذلك غير معلوم، فوجب الرجوع إلى تقدير الشارع، والأحاديث تدور حول كون الرَّضاعة من المجاعة، وكونها فاتقة للأمعاء، ومنشزة للعظم، ومنبتة للحم، وكونها في الحولين، وعدم اعتبار رضاع الكبير، كل ذلك لأجل هذه العلة.
وعلى هذا: فإنه لا تعارض بين الآية والحديث فقد جاء الحديث لبيان المقدار، والقرآن الكريم سمّى المرضعة أُمًّا فقال تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] والأُمومة لا تكون إلَاّ بالمقدار الذي جاء في الحديث، فظهر أن ما ذهب إليه الإمامان: الشافعي وأحمد، هو الصحيح، والله أعلم.
* فوائد.
الأولى: ذهب الإمام الشافعي، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، واختيار ابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي وغيرهم: إلى أن الرضعة لا تحتسب رضعة؛ حتى تكون وجبة للطفل تامَّة، كالأكلة من الأكلات، والشّربة من الشربات.
أما قطع الطفل الثدي لعارض كالتنفس، أو نقله من ثدي لآخر، فهذه لا يُعتبر رضعة، وإن كان هو المشهور من المذهب الحنبلي.
الثانية: قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: "أخذ الدم من الرجل للمرأة، وحقنها به لا ينشر به حرمة، ولو كَثُر، كما تنتشر الحرمة بالرَّضاع، وكذا الحكم لو حقن الرجل بدم المرأة، فيجوز لكل منهما أن يتزوج بالآخر".
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: نقل الدم من رجل إلى امرأة، أو بالعكس لا يسمى رضاعًا، لا لغةً، ولا عرفًا، ولا شرعًا، ولا تثبت له أحكام الرضاع".
الثالثة: أما المحرمات من الرَّضاع: فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
قال شيخ الإسلام: "مما اتفق عليه أنه يحرم من الرِّضاع ما يحرم من النسب، فإذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات في الحولين قبل الفطام، صار ولدها باتفاقٍ، وابنَ صاحب اللبن باتفاقِ الأئمة المشهورين، وصار كل من أولادهما إخوة للمرتضع؛ سواء أكانوا من الأب فقط، أم من الأم فقط، أو منهما.
ولا فرق بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل، وبين مَنْ وُلِدَ لها قبل الرَّضاعة، أو بعد الرَّضاعة، باتفاق المسلمين.
وعلى هذا فجميع أقارب المرأة للمرتضع من الرضاعة أقاربه: فأولادها إخوته، وأولاد أولادها أولاد إخوته، وآباؤها وأمهاتها أجداده وجداته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وكل هؤلاء حرامٌ عليه.
وأما بنات أخواله وخالاته من الرضاع فحلال، كما يحل له ذلك من النسب، وأقارب الرجل، وأقاربه من الرضاعة هكذا، وأولاد المرتضع بمنزلته.
وأما إخوة المرتضع من النسب، أو من الرضاع غير رضاع هذه المرضعة فهم أجانب من أقاربه، يجوز لإخوة هؤلاء أن يتزوجوا أولاد المرضعة وهذا كله متفق عليه بين العلماء".
واختار الشيخ تقي الدين: أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته من الرضاع، ولا بنت زوجته من الرضاع، إذا كان بلبن غيره، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها من الرضاع.
ولكن قد حُكِيَ الإجماع على خلاف قول الشيخ.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بنوك الحليب: قرار رقم (6):
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم
النبيين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة، من10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/ 22 - 28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب. وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين، ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة، شملت مختلف جوانب الموضوع -تبين:
1 -
أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية، والعلمية فيها، فانكمشت، وقل الاهتمام بها.
2 -
أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب، يحرم به ما يحرم من النسب، بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط، أو الريبة.
3 -
أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج، أو ناقص الوزن، أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب.
وبناءً على ذلك قرر:
أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.
ثانيًا: حرمة الرضاع منها، والله أعلم.
983 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيْدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ:"إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- إنها ابنة أخي من الرضاعة: تعليل لتحريم النكاح.
- يَحْرُمُ من الرضاعة ما يحرم من النسب: قال الخطابي: "اللفظ عامٌّ، ومعناه خاصٌّ، وتفصيله: أن الرضاع يجري عمومه في تحريم نكاح المرضعة، وذوي أرحامها على الرضيع مجرى النسب، ولا يجري في الرضيع، وذوي أرحامه مجراه".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج من بني هاشم، وعرض عليه الزواج بابنة عمّه حمزة بن عبد المطلب، الذي لم يخلف من الولد غيرها.
2 -
بنات العم حلالٌ له، ولغيره من أمته صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50].
3 -
ذكر صلى الله عليه وسلم المانع له من الزواج بابنة عمه حمزة؛ ذلك أنه أخوه من الرَّضاعة، فيكون صلى الله عليه وسلم عم البنت من الرضاعة، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
4 -
التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأرضعت عمه حمزة هي: "ثويبة مولاة لأبي
(1) البخاري (2645)، مسلم (1446).
لهب"، وقد اختلف المؤرخون هل أسلمت أو لا؟ وممن أثبت إسلامها الحافظ ابن مَنْدَه.
5 -
أدرك الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم التسعة أربعة؛ هم: أبو طالب، وأبو لهب، وحمزة، والعباس، مات على الشرك منهم اثنان، هما: أبو طالب، وأبو لهب، وأسلم منهم: حمزة والعباس، فأما أبو طالب فهو الذي ناصر النبي صلى الله عليه وسلم، وآزره مع أنه مقيم على شركه؛ حتى مات قبل الهجرة بثلاث سنين.
وأما أبو لهب: فصار من أشد أعداء الإسلام وأهله، وآذى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذًى شديدًا، هو وزوجته حمَّالة الحطب، واسمها:"أروى بنت حرب بن أمية" أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية.
وكانت عونًا له على كفره وشقاقه وأذيَّته للنَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنزلت فيهما سورة تتلى إلى يوم القيامة، وأبو لهب تُوفي على كفره بعد معركة بدر بأيام، وهو لم يحضرها، وإنما أُصيب بمرض مميت، لما بلغته هزيمة على قريش.
وأما حمزة: فقد أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، وله مواقف بطولية مشرّفة، ثم حضر أُحُدًا، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، إلَاّ أنه استشهد فيها رضي الله عنه وحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا.
وأمَّا العباس: فتأخَّر إسلامه إلى سنة ثمان من الهجرة، ولكنه لما أسلم، عرف له النبي صلى الله عليه وسلم قدره، فأَجَلَّه، ولما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم صار الصحابة يعظمونه؛ لشرفه، وسؤدده، ولمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة (32 هـ) في خلافة عثمان رضي الله عنهما.
6 -
قوله: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب".
قال شيخ الإسلام: "إذا ارتضع الطفل من امرأةٍ خمس رضعات في الحولين قبل الفطام -صار ولدها باتفاق الأئمة، وصار ولد الرجل الذي در اللبن بوطئه أبًا لهذا المرتضع، باتفاق الأئمة المشهورين، وصار كل من أولادهما أخوة المرتضع؛ سواء أكانوا من الأب فقط، أم من المرأة، أم منهما، ولا فرق -بالاتفاق- بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل، وبين من وُلِدَ لها قبل الرضاعة وبعدها. وصار أقارب المرضعة أقارب المرتضع، فأولادها إخوته، وأولاد أولادها أولاد إخوته، واباؤها وأمهاتها أجداده وجداته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وأقارب الرجل أقاربه من الرضاعة، كأقارب أمه من الرضاعة.
وأما أقارب المرتضع من نسب، أو رضاعٍ -فهم أجانب من أمه من الرضاع، ومن أقاربها، فيجوز لإخوته من الرضاع أن يتزوجوا بأخواته من النسب، وبالعكس، وأما بنات أخواله وخالاته من الرضاع فحلال للمرتضع، كما يحل له ذلك من النسب؛ وهذا كله متفق عليه بين العلماء".
***
984 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إلَاّ مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الفِطَامِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ، ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم، غير ابن لهيعة وهو سيء الحفظ، إلَاّ في رواية العبادلة عنه، فإنه صحيح، وهذا منها.
وممن صحَّح هذا الحديث ابن حبان، وابن القيم في كتابه "زاد المعاد".
* مفردات الحديث:
- لا يُحرِّم: بتشديد الراء المسكورة؛ أي: لا يكون سببًا في التحريم.
- فَتَق الأمعاء: بالفاء المثناة فوقية، فقاف في آخره، والفتق بمعنى: الشق، والمراد: ما سلك فيها.
الأمعاء: جمع معى، بكسر الميم وفتحها: المَصِيْر، واحد المِصْران.
- الفِطَام: يُقال: فطمت المرضعُ الرضيعَ: فصلته عن الرضاع، فهي فاطمةٌ، وهو فطيم ومفطوم، والاسم: الفِطَام، بكسر الفاء وفتح الطاء؛ وهو قطع الولد عن الرضاع.
(1) الترمذي (1152).
985 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَا رَضَاعَ إلَاّ فِي الحَوْلَيْنِ": رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، مَرْفُوْعًا وَمَوْقُوْفًا، وَرَجَّحَا المَوْقُوْفَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث موقوف.
قال في "التلخيص": رواه الدارقطني من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وقال: تفرد به ابن جميل، عن ابن عيينة، وكان ثقةً حافظًا، وقال ابن عدي: كان يغلط، قال البيهقي: الصحيح أنه موقوف.
وقال المؤلف: "أخرجه الدارقطني، وابن عدي مرفوعًا وموقوفًا".
ولكنهما رجَّحا الموقوف، ورجَّح الموقوف أيضًا البيهقي وعبد الحق، وابن عبد الهادي، والزيلعي، وهو الصواب.
أما ابن القيم فصحَّحه مرفوعًا في كتابه "الهدي".
…
(1) الدارقطني (4/ 174)، ابن عدي (7/ 2562).
986 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا رَضَاعَ إلَاّ مَا أَنْشَزَ العَظْمَ، وَانْبَتَ اللَّحْمَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
أخرجه أبو داود، وعند البيهقي من طريق الدارقطني عن النضر بن شميل، عن سليمان بن المغيرة، عن أبي موسى الهلالي، عن أبيه، عن ابنٍ لعبد الله بن مسعود، عن أبيه ابن مسعود؛ وهذا سند ضعيف لتسلسله بالمجاهيل.
* مفردات الحديث:
- أَنْشَزَ العظم: بفتح الهمزة، فنون، فشين معجمة، فزاي؛ أصل النشز: المكان المرتفع، فإنشاز العظام معناه: نموها، وارتفاعها في الجسم.
- أنبت اللحم: نشأ عليه اللحم، وربا، وزاد.
* ما يؤخذ من الأحاديث:
1 -
اقتضت حكمة الله -تعالى- أن حق المولود في الرَّضاع هو حولان كاملان؛ فقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
قال الأستاذ سيد قطب: "والله يفرض -أي: يجعل حقًّا- للمولود على أمه ترضعه حولين كاملين، لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} .
(1) أبو داود (2060).
وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية، لنمو الطفل نموًّا سليمًا من الوجهتين: الصحية والنفسية، ولكن نعمة الله تعالى على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، فالله رحيم بعباده، وبخاصة هؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية".
2 -
فالحديث رقم (984): يدل على أنه لا يحرِّم من الرِّضاع إلَاّ ما وصل إلى الأمعاء ووسَّعها، أما القليل الذي لم ينفذ إليها، ويفتقها، ويوسعها -فلا يحرِّم، فكان الرضاع في حال الصغر قبل الفطام؛ وهو مذهب جمهور العلماء.
3 -
أما الحديث رقم (985): فيدل على أن الرضاع الذي ينشر الحرمة، وَيحرُم منه ما يحرم من النسب -هو الرضاع في الحولين- وهو موافقٌ للآية الكريمة:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} .
4 -
أما الحديث رقم (986): فيدل على أن الرضاع المعتبر شرعًا هو ما قوى العظم، وشدّه، وأنبت اللحم، فَكُسِيَ به العظم، ولا يكون هذا إلَاّ في حال الصغر.
5 -
الأحاديث الثلاثة متفقة على معنًى واحد؛ وهو أن الرضاع الذي ينشر الحرمة هو ما تغذَّى به الجسم، واستفاد منه، وهو ما كان في زمن الصغر، وهو وقت الرضاعة. والله أعلم.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الزمن المعتبر في التحريم: فذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد إلى: أن الرضاع المحرِّم هو الواقع في الحولين، فإن زاد عنهما -ولو قليلاً جدًا- لم تثبت به الحرمة.
ويروى هذا القول عن: عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن
مسعود، وأبي هريرة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة.
وإليه ذهب الشعبي، وابن شبرمة، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور.
ودليلهم على هذا: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، ولما في الصحيحين عن عائشة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الرضاعة من المجاعة".
وحديث أم سلمة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحرّم من الرضاع، إلَاّ ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". [رواه الترمذي].
وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أن الرضاعة المحرِّمة هي ما كانت في ثلاثين شهرًا؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ، ولم يُرِدْ بالحمل حمل الأحشاء؛ لأنه يكون سنتين، فعلم أنه أراد بالحمل في الفصال.
وذهب الإمام مالك في إحدى الروايتين عنه إلى: أن ما كان بعد الحولين من رضاع بشهرٍ، أو شهرين، أو ثلاثة -فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبثٌ.
وقال شيخ الإسلام: "ثبوت المحرمية بالرضاع إلى الفطام، ولو بعد الحولين، أو قبلهما، فالشارع أناط الحكم بالفطام؛ سواء أكان قبل الحولين، أم بعده". وهذا قول جيِّد له حظٌّ من النَّظرِ.
987 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ رضي الله عنه: "أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتِ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتكمَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ، كيْفَ وَقَدْ قِيْلَ؟! فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، فَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عُقْبة: بضم العين المهملة، وسكون القاف، وفتح الباء الموحدة: ابن الحارث بن عامر بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي.
- أبي إهَاب: بكسر الهمزة، واسم المرأة: غنية بنت أبي إهاب.
- أرضعتُكُما: مزيد: رَضَعَ الصبي أمه يَرْضَعُهَا رَضَاعًا؛ قال تعالى: {أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فالصبي راضعٌ ورضيعٌ، وجمع الراضع: رُضَّعٌ، كراكع ورُكَّع، ويجمع على رُضَّاع، ككافر وكفَّار.
- كيف: ظرف مبني على الفتح، وله عدة معانٍ: منها التعجُّب والإنكار، وهو المراد هنا.
- وقد قيل: الجملة في موضع نصبٍ على الحال، والحالان يستدعيان عاملاً، والتقدير: كيف تكون لها زوجًا، وقد قيل: إنك أخوها؟! أي أن ذلك بعيد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أن الرضاع يحرّم كما يحرم النسب، كما جاء في الحديث الصحيح:"يَحْرُم من الرضاع ما يحرم من النسب".
(1) البخاري (88).
2 -
أن الطفلين إذا رضعا من امرأة واحدة الرضاع -المحرّم-، فإنهما يصيران أخوين من الرضاع.
3 -
أن شهادة المرأة الواحدة بالرضاع هي نصاب الشهادة، فتكفي شهادتها لإثباته.
4 -
إذا ثبت الرضاع بين الزوج وزوجته، وجب التفريق بينهما؛ لأنها أصبحت أخته من الرضاعة، ولا يحل بقاؤها معه بصفتها زوجته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الرجل بقاءها معه.
5 -
أن الوطء الناشىء عن الجهل بالأمر، أو الجهل بالحكم -وطء شبهة، لا حرج على صاحبه، ويَلحق الولد بوالديه.
6 -
أن عقد النكاح بين المحرمين في النكاح من الرضاعة -باطل من أساسه، ومتفق على ذلك بين العلماء؛ لذا لم يحتج إلى فسخ، فهو غير منعقد من أصله في حقيقة الأمر.
* خلاف العلماء:
ذهب الإمام أبو حنيفة إلى: أنه لا يقبل في الرضاع شهادة النساء منفردة، فلابد من شهادة رجلين، أو رجل، وامرأتين؛ لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} .
وذهب الإمام مالك إلى: أنه لا يقبل إلَاّ شهادة امرأتين؛ وهو قول جماعة من السلف؛ لأن كل جنس يثبت به الحق لا يكفي فيه إلَاّ اثنان؛ كالرجال.
وذهب الإمام الشافعي إلى: أنه لا يقبل إلَاّ أربع نسوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شهادة امرأتين بشهادة رجل". [رواه مسلم].
وذهب الإمام أحمد وجماعة من السلف إلى: قبول شهادة المرأة الواحدة إذا كانت ثقة؛ لحديث الباب.
وقال ابن القيم: "إذا شهدت المرأة بأنها قد أرضعته وزوجَته، فقد لزمته
الحجة من الله -تعالى- في اجتنابها، ووجب عليه مفارقتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"دعها عنك، وليس لأحد أن يفتي بغيره".
قال الشوكاني في "نيل الأوطار": "الحق وجوب العمل يقول المرضعة".
قال الصنعاني: "وهذا الحكم مخصوص من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد، وقد اعتبر ذلك في عورات النساء، فاكتُفِيَ بشهادة امرأة واحدة، والعلة أنه قلما يطلِّع الرجال على ذلك، فالضرورة داعية إلى اعتباره، فكذا هنا".
***
988 -
وَعَنْ زِيَادٍ السَّهْمِيِّ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَرْضَعَ الحَمْقَى". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتْ لزيَادٍ صُحْبَةٌ. (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مرسل ضعيف؛ فقد رواه أبو داود في المراسيل -وليس في السنن كما هو ظاهر كلام المصنف- بسنده إلى زياد بن إسماعيل المخزومي المكي، وليست له صحبة.
قال في "تهذيب التهذيب": "قال ابن معين: ضعيف، وقال يعقوب بن سفيان: ليس حديثه بشيء".
وقال ابن المديني، وأبو حاتم، والنسائي:"ليس به بأس".
وعلى كلٍّ فالحديث مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف.
* مفردات الحديث:
- تُسْتَرضع: يُطْلَب منها لتكون مرضعة للطفل الرضيع، وهناك فرقٌ بين المرضع وبين المرضعة؛ ذلك أنه إن أُريد بها المرأة حال الإرضاع، وإلقام ثديها الصبي -فهي المرضعة، وأما إن أُريد بها التي من شأنها أن ترضع، ولو لم تباشر الإرضاع- فهي المرضع؛ وبهذا أجاب الزمخشري عن قوله تعالى:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2].
- الحَمْقَاء: بفتح الحاء المهملة، ثم ميم ساكنة، منتهية بألف التأنيث الممدودة-: قليلة العقل، ضعيفة البصيرة، جمعها: حَمْقَى وحُمُق.
(1) أبو داود في المراسيل (207).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ؛ فلبن الأم في هذه السن للطفل هو الغذاء الملائم لحالة الطفل، وهو الغذاء الذي يستفيد منه الطفل، ولا يستفيد من غيره من الأغذية الأخرى؛ لأنه مجهَّز ومصنَّع من قبل حكيم خبير، عليم بحال الطفل، وما يناسبه في هذه السن.
2 -
لذا جاءت الأحاديث الشريفة بتحديد الزمن الذي يصلح أن يستفيد جسم الطفل من الرضاع؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلَاّ ما كان في الحولين". [رواه الدارقطني]، وجاء في الصحيحين من حديث عائشة؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّما الرضاعة من الجماعة".
3 -
كما جاءت أحاديث أُخَر تفيد أنَّ الرضاع المؤثر المحرم هو ما كان غذاءً للطفل، ولا غذاءَ غيره؛ من جث إنه لبن امرأةٍ، ومن جث كميته، وقدره، وتجهيزه، وتركيبه الرباني؛ فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تحرِّم المصة، ولا المصتان"[رواه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحرِّم الرضعة، ولا الرضعتان". [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلَاّ ما أنشز العظم، وأنبت اللحم". [رواه أبو داود].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلَاّ ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". [رواه الترمذي وصححه الحاكم].
4 -
كل ما تقدم قد سقناه لبيان أن الرضاع الكثير في هذه السن المبكرة له دورٌ كبيرٌ في تنشئة الطفل، وبناء جسمه، فهذا الغذاء يتحول بإذن الله إلى طاقات مختلفة في الجسم، ومنها الطاقة العقلية والفكرية.
5 -
من هذا جاء النهي عن استرضاع المرأة الحمقاء؛ قال الدكتور الطبيب محمد علي البار: "مما لا ريب فيه أن المرضع تؤثر على الوليد بأخلاقها،
وخطورة جعل الرضيع في يد حمقاء، قد يؤدي إلى إهماله، أو قتله خطأ، كما يؤدي إلى تكرر الحوادث، والسقوط، والارتطام.
قال أصحاب الطب الحديث عن فوائد رضاع لبن الأم أو المرضعة:
(أ) لبن الأم معقم مجهزة، ليس فيه ميكروبات.
(ب) لبن الأم لا يماثله اللبن المحضر، فقد ركب على أساس حاجات الطفل يومًا بعد يوم، منذ ولادته حتى سن الفطام.
(جـ) لبن الأم يحتوي على كميات كافية من عناصر الغذاء، بنسب تناسب الطفل تمامًا.
(د) تقول التقارير الصحية العالمية لعام (1980 م): إن أكثر من عشرة ملايين طفل، قد ماتوا نتيجة عدم إرضاعهم من أمهاتهم.
(هـ) في الإرضاع ارتباط نفسي وعاطفي بين الأم وطفلها".
وذكر الأطباء أشياء كثيرة من فوائد الرضاع، دون الحليب الذي تجهزه المصانع بعلوم قاصرة، وأفكار ضعيفة، والله عليم حكيم.
***