المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب حد القذف - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٦

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب حد القذف

‌باب حد القذف

مقدمة

القذف لغة: الرمي بالشيء، فيقال: قذف قذفًا، واسم الفاعل: قاذف، وجمعه: قذاف وقذفة.

وشرعًا: الرمي بزنا أو لواط.

القذف نوعان:

1 -

قذف يُحَد عليه القاذف.

2 -

قذف يعاقب عليه بالتعزير.

فأما الذي يحد فيه القاذف: فهو رمي المحصَن بالزنا، أو نفي نسبه، أو رميه باللواط.

وأما ما فيه التعزير: فهو الرمي بما ليس صريحًا فيما تقدم، أو الرمي بغير ذلك.

والقذف محرَّم بالكتاب، والسنة، والإجماع:

فمن الكتاب:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ} [النور: 4].

ومن السنة:

ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجتنبوا

ص: 252

السبع الموبقات

" وعدَّ منها القذف.

وأجمع المسلمون على أنَّه من كبائر الذنوب.

قال ابن رشد: اتَّفق العلماء على أنَّه يجب مع الحد سقوط شهادته، ما لم يتب، واتَّفقوا على أنَّ التوبة لا ترفع الحد.

***

ص: 253

1063 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذلِكَ، وَتَلَا القُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ، أمَرَ بِرَجُلَيْنِ، وَامْرَأةٍ، فَضُرِبُوا الحَدَّ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلَاّ من حديث ابن إسحاق.

قال المنذري: قد أسنده ابن إسحاق مرَّة، وأرسله أخرى.

* مفردات الحديث:

- عُذْرِي: يعني: لما نزلت براءة الصدِّيقة مما رميت به، وحُكِم ببراءتها في سورة النور من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ

} الآيات الكريمة [النور].

- رَجُلَيْنِ: هما: حسَّان بن ثابت الأنصاري، ومِسْطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي، فهما اللَّذان خاضا بالإفك في عائشة، رضي الله عنها.

- امرأة: هي: حمنة بنت جحش بن رئاب، من بني أسد بن خزيمة، هي أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وكانت تحت مصعب بن عمير، فاستشهد عنها في أحد، فتزوَّجها طلحة بن عبيد الله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

القذف: هو الرمي بالزنا، أو اللواط، وهو من الكبائر.

(1) أحمد (6/ 35)، أبو داود (4474)، الترمذي (3181)، النسائي في الكبرى (4/ 325)، ابن ماجه (2567).

ص: 254

2 -

عائشة الصديقة وبنت الصديق ابتليت رضي الله عنها بمن رماها بالفاحشة، مع صحابي تقي هو "صفوان بن المعطّل"، فبرَّأها الله تعالى من هذه الفرية التي زادتها نزاهة ورفعة، حينما نزل ببراءتها قرآن يُتلى إلى يوم القيامة من سورة النور.

3 -

لما نزلت براءتها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين؛ بذلك، وتلا القرآن النازل بالبراءة على المنبر، ثم نزل عليه الصلاة والسلام، فأُتي بالرجلين القاذفين: وهما حسَّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وبالمرأة وهي: حمنة بنت جحش، فأقام عليهم حد القذف؛ لثبوت كذبهم به.

4 -

ففي الحديث ثبوت القذف، وثبوت حده، ووجوب إقامته على القاذف الكاذب، وحد القذف ثمانون جلدة إن كان حرًّا، وإن كان القاذف عبدًا فأربعون جلدة.

5 -

يسقط حد القذف بواحدة من أربع:

(أ) عفو المقذوف، قال الشيخ: لا يحد القاذف، إلَاّ بطلب إجماعًا.

(ب) تصديق المقذوف للقاذف فيما رماه به.

(ج) إقامة البينة على صحة القذف.

(د) إذا قذف الرجل زوجته ولاعنها.

6 -

القذف له عدة أحكام:

(أ) حرام: إذا كان كاذبًا في إخباره.

(ب) واجب: على من رأى زوجته تزني، ثم تلد ولدًا يقوى ظنه أنَّه من الزاني.

(ج) مباح: إذا رأى زوجته تزني، ولم تلد ما يلزمه نفيه، فهو مخيَّر بين فراقها وقذفها وفراقها، أولى من قذفها؛ لأنَّه أستر، ولأنَّ قذفها يلزم منه أن يحلف أحدهما كاذبًا، أو تقرَّ فتفتضح.

***

ص: 255

1064 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَوَّلُ لِعَانٍ كانَ فِي الإِسْلَامِ، أَنَّ شَرِيْكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: البَيِّنَةَ، وَإِلَاّ فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ

" الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).

وَفِي البُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عبَّاسٍ، رضي الله عنهما (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

فقد قال أبو يعلى: رجاله ثقات.

وله شاهد من حديث ابن عبَّاس عند البخاري، وهو عند مسلم من حديث أنس بنحوه.

* مفردات الحديث:

- شَريك بن سَحْمَاء: بفتح الشين، فراء مكسورة، ثم ياء، فكاف، وأما سحماء: فسينه مفتوحة، وحاؤه ساكنة، وهو ممدود.

- قَذفَه: من قذف قذفًا فهو قاذف، والقاذف في اللغة: الرمي بقوة.

وشرعًا: الرمي بالزنا أو لواط، والمراد هنا: الرمي بالزنا.

- البيِّنة: منصوب بفعل تقديره: أحضر البينة، ويجوز الرفع على تقدير: عليك البينة.

(1) أبو يعلى (2824).

(2)

البخاري (2671).

ص: 256

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الأصل أنَّ من قذف محصنًا بالزنا، فعليه إقامة البيِّنة، وبينة الزنا شهادة أربعة رجال، فإن لم يأت بهذه البينة، فعليه حد القذف: ثمانون جلدة، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].

2 -

استثني من هذا العموم، إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، فعليه إقامة البينة أربعة شهود، فإن لم يكن لديه أربعة شهود، دُرِىء عنه حد القذف على أن يحلف أربع مرات أنَّه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا، وفي الخامسة يلعن نفسه، فيقول: وإنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتكون الشهادات قائمة مقام الأربعة الشهود.

3 -

ذلك أنَّ الرجل إذا رأى الفاحشة في زوجته، فلا يتمكن من السكوت، كما لو رآه من الأجنبية؛ لأنَّ هذا عار عليه، وفضيحة له، وانتهاك لحرمته، وإفساد لفراشه، فلا يقدم على قذف زوجته إلَاّ من تحقَّق؛ لأنَّه لن يقدم عليه إلَاّ بدافع من الغيرة الشديدة؛ إذ إنَّ العار واقع عليهما، فيكون هذا مقويًّا لصحة دعواه.

4 -

يدل الحديث على أنَّ هلال بن أمية قذف شريكًا بالزنا بزوجة القاذف، وليس القذف للزوجة إلَاّ ضمنًا.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء فيمن قذف رجلاً بزوجته:

فذهب الإمامان: أبو حنيفة، ومالك إلى أن من قذف رجلاً بزوجته، فعليه إقامة البيِّنة على ذلك، وإلَاّ فعليه حد القذف؛ لأنَّه قذف من لم يكن له ضرورة إلى قذفه، فهو على أصل حد القذف.

قال ابن العربي: وهذا هو ظاهر القرآن؛ لأنَّ الله تعالى وضع الحد في

ص: 257

قذف الأجنبي، والزوجة مطلقين، ثم خصَّ الزوجة بالخلاص باللعان، وبقي الأجنبي على مطلق الآية، وإنما لم يحدّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هلالاً لشريك؛ لأنَّه لم يطلبه، وحد القذف لا يقيمه إلَاّ الإمام بعد المطالبة إجماعًا.

وذهب الإمامان: الشافعي، وأحمد إلى: أنَّ الزوج إذا قذف زوجته برجل معيَّن، ثم لاعن، سقط عنه الحد للزوجة، ومن قذفها به، ذكره في اللعان، أو لم يذكره فيه؛ لأنَّ اللعان بينة في أحد الطرفين، فكان بيِّنة في الطرف الآخر، كالشهادة، فإن لم يلاعن الزوج، فلكل واحد من الزوجة، والرجل المقذوف بها المطالبة بالحد، وأيهما طالب: حُدَّ له وحده دون من لم يطلب.

واستدل الإمامان: بهذا الحديث؛ فإنَّ هلال بن أمية قذف شريكًا بزوجته، ولم يحده النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية:"البيِّنة، وإلَاّ فحد في ظهرك" -فالبينة شهادات اللعان اللاتي تقوم مقام الأربعة الشهداء.

***

ص: 258

1065 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَر وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ فِي القَذْفِ إِلَاّ أَرْبَعِينَ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّورِيُّ فِي "جَامِعِهِ"(1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال في "أوجز المسالك في شرح موطأ مالك": أخرجه البيهقي من رواية يحيى بن بكير عن مالك عن ابن أبي الزناد، ثم قال: ورواه الثوري عن أبي الزناد حدَّثني عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال:"لقد أدركتُ أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومن بعدهم من الخلفاء، فَلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلَاّ أربعين".

وأخرجه البيهقي من وجه آخر، وإسناده صحيح.

(1) مالك (2/ 828).

ص: 259

1066 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ، يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلَاّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْه (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الأثر المروي عن الخلفاء الراشدين الثلاثة، أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم هو أنَّ العبدَ إذا قذف محصنًا فحده على النصف من حدّ الحر، فإنَّ حد الحر ثمانون جلدة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].

أما المملوك: فهو على النصف من حد الحرة لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وعلى هذا إجماع الأئمة الأربعة.

2 -

أما الحديث رقم (1066): فيدل على أنَّه يحرم على السيد أن يقذف مملوكه، وهو كاذب عليه في ذلك، فإنَّ للمماليك من الشعور والإحساس مثل ما للأحرار، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم".

3 -

أما إذا قذف السيد مملوكه، فلا يقام عليه الحد في الدنيا؛ ذلك أنَّ الحدود كفارات لمن أقيمت عليه، وما دام أنَّه سيلحقه العذاب في الآخرة، ويحد لذلك، فإنَّه دليل على أنَّه لا يحد في الدنيا، وعدم إقامة الحد عليه في الدنيا إجماع العلماء.

(1) البخاري (6858)، مسلم (1660).

ص: 260

4 -

قال في "شرح الإقناع": والقذف محرَّم إلَاّ في موضعين:

أحدهما: أن يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه، ولو دون الفرج، فيعتزلها، ثم تلد ما يمكن أن يكون من الزاني، فيجب عليه قذفها، ونفي ولدها؛ لأنَّ ذلك يجري مجرى اليقين في أنَّ الولد من الزنا.

الثاني: أن يراها تزني، ولم تلد ما يلزم نفيه، أو يستفيض زناها في الناس، أو يخبره ثقة، ونحو ذلك، فلا يجب قذفها؛ لأنَّه يمكنه فراقها، وهو أولى من قذفها؛ لأنَّه أستر، وتقدم.

***

ص: 261