الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الجِنَايَاتِ
مقدِّمة
الجنايات: واحدها: جناية، وهي مصدر: جنى يجني جِنَاية، وهي في الأصل من: جنى الثمرة من شجرتها، فهو عام، إلَاّ أنَّه خصَّ بما يحرم من فعل، ومنه: جنى الذَّنْبَ يجنيه جناية: إذا فعل مكروهًا.
وهو لغة: التَّعدي على بدنٍ، أو مالٍ، أو عرض.
واصطلاحًا: التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا، أو مالاً.
وتحريم الجنايات ثابت: بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فأما الكتاب:
فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].
وأما السنة:
فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لايحل دم امرىء مسلم
…
" الحديث.
وأما الإجماع:
فقد حكاه غير واحد من العلماء، وهو مما عُلم من الدين بالضرورة، ويقتضيه القياس، ولولا حكم القصاص، ولولا عقوبة الجناة المفسدين، لأهلك الناسُ بعضهم بعضًا، ولفسد نظام العالم؛ إذ لابد من عقاب يردعهم، ويجعل الجاني نكالاً وعِظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله.
قال الأستاذ عفيف طبارة: "تعتبر جريمة القتل العمد من أخطر الجرائم، وأشدها إخلالاً بالأمن، ولذا كانت عقوبتها في كل القوانين والشرائع من أقسى العقوبات، فجاء الإسلام بشريعة العدل في عقوبة القتل؛ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
…
} [البقرة: 178].
فحكمة القصاص متجلية في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
قال الشوكاني: "لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم -حياة".
ولذا نجد كثرة الجرائم، والقتل عند الأمم التي عدلت عن منهج الله تعالى، وحكمت بالقوانين الوضعية، فلم تجازِ الجاني بما يستحق، بل حكمت عليه بمجرد السجن، تمدُّنًا ورحمةً بِهِ، ولم ترحم المقتول الذي فقد حياته، ولم ترحم أهله وأولاده الذين فقدوا عمدتهم، ولم ترحم الإنسانية التي أصبحت خائفة غير آمنة على دمائها من هؤلاء الفتاكين المجرمين؛ لم يفكِّروا في هذه العواقب والمصائب التي حلَّت بهم؛ لأنَّهم ليسوا من أولي الألباب.
***
1007 -
عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِيءٍ مُسلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَاّ اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَاّ بِإِحْدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، والنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مُسلم: صفة مقيِّدةٌ لـ"امريءٍ".
- يشهد: مع ما هو متعلق به صفة ثانية، لـ"امرىءٍ"، جاءت للتوضيح والبيان؛ ليعلم أنَّ المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، وأنَّ الإتيان بهما كان للعصمة.
- بإحدى ثلاث: أي: إحدى خصال ثلاث.
- الثيِّب: قال في "النهاية": الثيب من ليس ببكر، ويقع على الذكر والأنثى؛ يقال: رجل ثيب، وامرأة ثيب، وأصل الكلمة الواو؛ لأنَّه من: ثاب يثوب".
- النفس بالنفس: أي: تقتل النفس بالنفس، التي قتلت عمدًا بغير حق، بمقابلة النفس المقتولة.
- التارك لدينه: هو المرتد عن الإسلام.
…
(1) البخاري (6878)، مسلم (1676).
1008 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إِلَاّ في إحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا، فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلَامِ، فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الأَرْضِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
هذا الحديث له ثلاث طرق عن عائشة رضي الله عنها:
الأولى: أخرجها أحمد، ومسلم، والدارقطني.
الثانية: أخرجها أحمد، والنسائي، وابن أبي شيبة، والطيالسي، ورجال سندها ثقات.
الثالثة: أخرجها أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي، كما صحَّحه الحافظ ابن حجر في "الدراية".
* مفردات الحديث:
- خصال: الخَصلة هي: الخُلق في الإنسان، قد تكون خَصْلَةَ فضيلةٍ، وقد تكون رذيلة.
- مُحْصَن: إما بكسر الصاد: اسم فاعل، وإما بفتح الصاد: اسم مفعول.
والمحصن: هو من وطيء امرأته المسلمة، أو الذمية في نكاح صحيح،
(1) أبو داود (4353)، النسائي (7/ 91)، الحاكم (4/ 367).
وهما بالغان عاقلان حران.
- فيُرجم: الرجم: هو الرمي بالحجارة حتى الموت.
- يُصْلب: الصلب هو أن يمد المعاقَب، ويُربط على خشبة، ويرفع عليها.
- يُنفى من الأرض: بأن يشرد، فلا يُترك يأوي إلى بلد؛ حتى تظهر توبته.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
حرص الشارع الحكيم الرحيم على بقاء النفوس وأمنها، فجعل لها من شرعه حماية وصيانةً، فجعل أعظم الذنوب بعد الشرك قتل النفس التي حرَّم الله قتلها. وبهذا حَفِظَهَا من الاعتداء عليها.
2 -
لم يبح المشرِّع قتل النفس المسلمة إلَاّ لأحد ثلاث: الثيب الزاني، والقاتل عمدًا عدوانًا، والمرتد عن الإسلام، فيجوز قتل هؤلاء الثلاثة؛ لأنَّ في قتلهم سلامة الأديان، والأبدان، والأعراض.
3 -
أنَّ من أتى بالشهادتين، وابتعد عمَّا يناقضهما -فهو مسلم، محرَّم الدم، والمال، والعرض، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
4 -
تحريم فعل هذه الخصال الثلاثة أو بعضها، وأنَّ من فعل واحدة منها، استحق عقوبة القتل: إما كفرًا وهو المرتد عن الإسلام، وإما حدًّا وهما: الزاني، والقاتل عمدًا.
5 -
الثيب هو المحصن الذي جامع، وهو حرٌّ مكلَّف في نكاح صحيح؛ سواء كان رجلاً أو امرأةً، فإذا زنا فعقوبته الرجم بالحجارة حتى يموت.
6 -
أنَّ مَن قتل نفسًا معصومةً عمدًا عدوانًا، فهو مستحق للقصاص بشروطه.
7 -
أنَّ المرتد عن الإسلام يُقتل؛ لأنَّ رِدَّته دليل على خبث طويته، وفساد نيته، وأنَّ قلبه خالٍ من الخير، وغير مستعد لقبوله، فإنَّ كفره أعظم من الكفر الأصلي.
8 -
توبة القاتل عمدًا مقبولة عند جمهور العلماء؛ لعموم الأدلة، لكن لا يسقط
حق المقتول بمجرد التوبة؛ كسائر حقوق الآدميين، وكذا القصاص، أو العفو لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفَّر ما بينه وبين الله، بل يبقى حق المقتول.
قال ابن القيم: "التحقيق أنَّ القتل يتعلَّق به ثلاثة حقوق:
الأول: حق الله، ويسقط حقه بالتوبة النصوح.
الثاني: حق ولي الدم، ويسقط بالاستيفاء، أو الصلح، أو العفو.
الثالث: حق المقتول يعوضه الله عن حقه الثابت، ويصلح بينه وبين قاتله، إن تاب القاتل".
9 -
استدلَّ كثير من العلماء بهذا الحديث على أنَّ تارك الصلاة لا يقتل بتركها، لكونه ليس من هؤلاء الثلاثة، أما ابن القيم فقال:"إنَّ هذا الحديث حجة في قتل تارك الصلاة، فإنَّه تارك لدينه".
10 -
قوله: "يشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأني رسول الله" -دليل على أنَّه لابد في صحة إسلام المرء من النطق بالشهادتين، أو بما يدل عليهما من لفظ، وأنَّه لا يكتفى بالإقرار بهما من قادر على النطق بهما، فإن قال: أنا مسلم، ولم ينطق بالشهادتين، لم يحكم بإسلامه.
قال في "الروض" وغيره: وتوبة كل كافر إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأنَّ محمَّدا رَسُولُ الله".
11 -
وفيه دليل على أنَّه بعد النطق بالشهادتين، لا يُكشف عن صحة ما شهد به عليه، ويخلى سبيله.
قال ابن القيم: "لا يكلف بأن يقول: أشهد، بل لو قال: لا إله إلَاّ الله، محمَّد رسول الله، كان مسلمًا بالاتفاق، وحصلت له العصمة".
12 -
أما من كان كفره بجحد فرض من الفروض؛ كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو بتحليل ما حرَّم الله، كالزنا، والخمر، أو بتحريم ما أُجْمَعَ على
حلِّه، أو جحد نبيًّا من أنبياء الله، أو كتابًا من كتبه، أو ملكًا من ملائكته، الذين ثبت أنَّهم ملائكة الله، أو رسالة محمَّد إلى غير العرب -فتوبة هؤلاء مع الشهادتين إقرارهم بما جحدوا به من ذلك، أو قوله: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام ونحوه.
13 -
لو قال الكافر: أسلمت، أو أنا مسلم، ونحو ذلك -صار مسلمًا، وإن لم يتلفظ بالشهادتين؛ لِما روى مسلم من حديث المقدام بن الأسود؛ أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو لقيت رجلاً من الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذَ مِنِّي بشجرة، فقال: أسلمت، أفأقتله بعد أن قالها؟ قال:"لا تقتله".
14 -
قال شيخ الإسلام: "إذا أسلم المرتد عصم دمه، وماله، وإن لم يحكم بصحة إسلامه حاكم، باتفاق الأئمة".
15 -
قوله: "الثيب الزاني" مفهومه: أنَّ البكر ليس حده الرجم، فقد جاء أن حده الجلد، كما في الآية الكريمة.
قال الوزير: "اتَّفقوا على أنَّ البكرين الحرين إذا زنيا أنَّهما يجلدان، كل واحد منهما مائة جلدة، وحكى ابن رشد فيه إجماع المسلمين".
16 -
قوله: "النفس بالنفس" عمومه يفيد أنَّ كل نفس تقاد بالنفس الأخرى، ولكن إطلاقه مقيَّد، ومجمله مبيَّن، وعمومه مخصَّص بنصوص أخرى، وحديث عائشة فيه بعض البيان، وسيأتي بيان ذلك مستوفى إن شاء الله.
17 -
قوله: "التارك لدينه، المفارق للجماعة" دليل على أنَّ الجامعة الحقَّة، والصلة الصحيحة، والرابطة القوية هي الإسلام، وأنَّ الوطنية، أو القومية، أو الجنسية، كلها شعارات زائفة، ومبادىء باطلة، أدخلها علينا أعداء الإسلام؛ ليفرقوا شمل المسلمين، ويَحُلوا رابطتهم، ويقللوا سوادهم.
18 -
ورد في آخر حديث عائشة حد الحرابة، وسيأتي مستوفى في موضعه، إن شاء الله.
والمشهور من مذهب الإمامين: أحمد، ومالك: أنَّ من تكررت ردته، والزنديق -وهو المنافق- ومَن سب الله، أو رسوله، وأمثالهم- أنَّه لا تقبل توبتهم في الدنيا، بل يقتلون بكل حال.
ومذهب الشافعي قبول توبتهم، والرواية الأخرى عن أحمد، اختارها أبو بكر الخلال.
والخلاف في أحكام الدنيا، مِن ترك القتل وغيره، أما في الآخرة؛ فإن صدقت توبته، قبلت بلا خلاف.
***
1009 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أول: مبتدأ، وخبره "في الدماء"، ولا يعارضه حديث:"أولُ ما يحاسب به العبد صلاته" فالصلاة في حق الله، والدماء في حق العباد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث عظم شأن دم الإنسان؛ فإنَّه لم يُبدأ به يوم القيامة، إلَاّ لكونه أهم وأعظم من غيره من أنواع مظالم العباد.
قال ابن دقيق العيد: "فيه تعظيم أمر الدماء؛ فإنَّ البداءة تكون بالأهم، وهي حقيقة بذلك؛ فإنَّ الذنوب تعظُم بحسب عِظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها، وهدم البنية الإنسانية من أهم المفاسد، ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه".
2 -
إثبات يوم القيامة والحساب والقضاء والجزاء فيه.
3 -
هذا الحديث لا ينافي ما أخرجه أصحاب السنن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أول ما يحاسب به العبد صلاته"؛ لأنَّ حديث الباب فيما بين العبد وبين غيره من الخلق، وحديث الصلاة فيما يتعلَّق بحقوق الخالق.
ولا شكَّ أنَّ أعظم حقوق الناس هي الدماء، وأنَّ أعظم حقوق الله على المسلم الصلاة.
(1) البخاري (6533)، مسلم (1678).
4 -
في الحديث وجوب الحذر من حقوق العباد؛ لئلا تلحق المسلم عاقبتها في ذلك الموقف العظيم، وأعظم الحقوق الدماء.
5 -
أنَّه على القضاة والمحاكم العناية بأمر قضايا القتل، وجعل الأهمية لها، والأولوية على غيرها من القضايا.
وهكذا محاكم المملكة العربية السعودية، أيَّدها الله تعالى؛ فإنَّ قضايا القتل، والرجم، والقطع، لا تنفذ حتى تمر على ثلاث هيئات قضائية: الهيئة الأولى تتكوَّن من ثلاثة قضاة، ينظرون في هذه الدعاوى، ويحكمون فيها، فإذا حكموا نظرها خمسة قضاة من محكمة التمييز، فإذا وافقوا نُظِرَتْ من الهيئة القضائية العليا، وكل هذا عنايةً بهذه القضايا، واهتمامًا بشأنها.
***
1010 -
وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عبْدَهُ جَدَعْنَاهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لأبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ بزِيَادَةِ:"وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ". وَصَحَّحَ الحَاكِمُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المؤلف: رواه الإمام أحمد، والأربعة، وحسَّنه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، وقد اختلف في سماعه منه على ثلاثة أقوال: قال ابن معين: لم يسمع الحسن منه شيئًا، وقيل: سمع منه حديث العقيقة فقط، وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة، وعلى الرأي الأخير، فالحديث صحيح، وعلى الرأيين: الأول والثاني، فهو منقطع، لكن جاء في رواية أحمد عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: ولم يسمع منه، فهو منقطع، وفي الباب أحاديث أخر، لا تقوم بها حجة.
أما زيادة أبي داود، والنسائي، فقد صحَّحها الحاكم، ووافقه الذَّهبي.
* مفردات الحديث:
- جدَعَ: الجَدْعُ: هو قَطْعُ الأنف، أو الأُذُنِ، أو الشَّفَةِ، وهو بالأنف أخص،
(1) أحمد (5/ 10) أبو داود (4515)، الترمذي (1414)، النسائي (8/ 21)، ابن ماجه (2663)، الحاكم (4/ 367).
فإن أُطْلِقَ فعليه.
- مَنْ خَصَى: الخِصْية هي: البيضة من أعضاء التناسل، وهما خِصْيتان، وَخَصَاه: سلَّ خِصْيتيه، ونزعهما من الصنفتين، أو جَبَّهما.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه إثبات القصاص في الجنايات، وأنَّ من قَتَلَ عمدًا، أو من أتلف طرفًا، أو عضوًا من إنسان؛ كأنفه، أو خصيته عمدًا -اقتُصَّ منه بمثل ذلك الطرف، وهذا من القصاص الذي جاء مُصَرَّحًا به في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
2 -
الحديث دلَّ على ثبوت القصاص بين السيد وعبده؛ وهي مسألة اختلف العلماء فيها:
فذهب أبو حنيفة إلى: أنَّ الحر يقتص بالعبد؛ سواء كان نفسًا، أو طرفًا، إذا أمن الحيف؛ لعموم آية القصاص، إلَاّ أنَّه إذا كان سيده، فلا يقاد به.
قال الصنعاني: "وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة".
وذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه لا يقاد حر بعبد مطلقًا؛ مستدلين بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]؛ فإنَّ تعريف المبتدأ يفيد الحصر، وأنَّه لايقتل الحر بغير الحر، أما آية المائدة:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فإنَّها مطلقة، وآية البقرة مقيِّدة لها ومبيِّنة، وآية المائدة سيقت لبيان شريعة أهل الكتاب، التي جاءت هذه الشريعة بعدها بالتخفيف، والرحمة عنها.
3 -
فيه ثبوت القصاص في الأطراف، قال شيخ الإسلام: "القصاص في الجراح ثابت: بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعلماء قيَّدوا جواز القصاص بما دون النفس بثلاثة شروط:
الأول: الأمن من الحيف؛ وذلك بأن يكون القطع من مفصل، أو له حد ينتهي إليه.
الثاني: تماثل العضوين في الاسم والموضع.
الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال".
4 -
الحديث من رواية الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، وهو مختلف في سماعه منه، وعلى هذا فالحديث منقطع، وعلى فرض صحته يمكن حمله على قتل السيد الطاغي المستبد؛ تعزيرًا من ولي الأمر، ولذا قال: "قتلناه
…
" إلخ.
***
1011 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُقَادُ الْوَالِد بِالْوَلَدِ" رَوَاهُ أَحمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَالبيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:"إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ (1) ".
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح بطرقه المتعددة المتصلة، عن ابن عباس، وسراقة.
وحديث عمر الذي معنا في إسناده: الحجاج بن أرطأة، وهو مدلس، وله طرق أخر عند أحمد، وطرق أخر عند الدارقطني والبيهقي أصح منها، وصحح البيهقي سنده؛ لأنَّ رواته ثقات، ورواه الترمذي من حديث سراقة، وإسناده ضعيف، وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بن شعيب، وفيه ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس، وفي إسناده: إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف.
قال عبد الحق: "هذه الأحاديث كلها معلولة، ولا يصح منها شيء.
وقال البيهقي: "طرق هذا الحديث منقطعة". وقال الألباني: "وطرق الحديث تدل بمجموعها على أنَّ الحديث صحيح ثابت".
* مفردات الحديث:
- لا يُقاد: يقال: قاد الأمير القاتل بالمقتول: قتله به قَودًا، والقود لغة: القصاصُ، وقَتْلُ القاتل بدل القتيل، وسُمِّي قودَا؛ لأنَّه يُقاد عند تنفيذ
(1) أحمد (1/ 22) الترمذي (1400)، ابن ماجه (2662)، ابن الجارود (788)، البيهقي (8/ 38).
القصاص فيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ الوالد لا يقاد بولده؛ ذلك أنَّ الولد جزء من والده، وولد ولده وإن نزلوا من أولاد البنين والبنات، والأم والأب في هذا سواء، وكذا الأجداد وإن علوا، والجدات وإن علون من الأب، والأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب.
2 -
هذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وقال به عمر ابن الخطاب، وربيعة الرأي، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق.
3 -
أما الإمام مالك فيقول: إنْ أضجعه، وذبحه أقيد به، وإلَاّ لم يقد به.
4 -
دليل الجمهور: هذا الحديث؛ قال ابن عبد البر: "هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يُسْتَغْنى بشهرته، وقبوله، والعمل به، عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد فيه مع شهرته تكلفًا".
5 -
أما الولد فيقتص منه لوالده؛ سواء أكان أبًا أم أمًّا، إذا قتله طبقًا للنصوص؛ لأنَّ النص الخاص لم يخرج من حكم النصوص، إلَاّ الوالد فقط.
6 -
يعلل العلماء هذه التفرقة في الحكم بين الوالد والولد-: بأنَّ الحاجة إلى الزجر والردع في جانب الولد أشهر منها في جانب الوالد؛ لأنَّ الوالد يحب ولده لنفسه، دون أن ينتظر نفعًا منه، وإنَّما ليحمى ذكره، وهذا يقتضي والحرصَ على حياته، أما الولد فيحب والده لما يصل إليه من منفعة عن طريقه، وهذا لا يقتضي الحرص على حياة والده.
7 -
إفراد عدم القصاص من الوالد بالولد -دليل على بقاء حكم القصاص فيما عداهما من الأقارب؛ وهذا مذهب جماهير العلماء.
***
1012 -
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِنَ الوَحْيِ غَيْرُ القُرآن؟ قَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَاّ فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلاً فِي القُرآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي هَذهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ فِيهِ:"المُؤْمِنُونَ تَتَكَافأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه". وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
صدر الحديث في البخاري، فلا بحث فيه، بل آخره فيه البحث، وله عدَّة طرق، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، من طريق قتادة عن الحسن عنه، ورجاله ثقات، فهم رجال الصحيحين.
وقد صحَّحه الحاكم، وقال:"إنَّه على شرط الشيخين"، ووافقه ابن عبد الهادي في "المحرر"، فقال:"رجاله رجال الصحيحين"، وحسَّنه المصنف في الفتح.
(1) البخاري (111).
(2)
أحمد (1/ 122)، أبو داود (4530)، النسائي (8/ 19)، الحاكم (2/ 153).
* مفردات الحديث:
- فَلق الحبة: الفلْق هو الشق، والحب ما يكون في السنبل.
- برَأ النَّسَمَة: بفتح الباء والراء أي: خلق، والنسمة الخلْق وهي كل كائن حي فيه روح.
- فَهْمٌ: قال الجوهري: "فهمت الشيء فهمًا علمته، وفلان فهيم، وتفهم الكلام إذا فهمه شيئًا بعد شيء، والفهم: جَوْدة استعداد الذِّهن للاستنباط، وحسن تصور المعنى، جمعه: أفهام وفهوم".
- الصحيفة: بوزن فضيلة، هي ما يكتب فيه من ورق ونحوه، والمراد هنا: الورقة المكتوبة.
- العقل: بفتح العين، وسكون القاف، هي الدية، والمراد هنا تفصيل أحكامها، وسميت الدية: عقلاً؛ لأنَّ أولياء القاتل كانوا يعطون أولياء المقتول الدية من الإبل، ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل.
- فِكَاك الأسير: بكسر الفاء وفتحها: إطلاق أسره، وتخليصه من يد العدو.
- الأسير: بوزن فعيل بمعنى مأسور؛ من أَسَره: إذا شدَّه بالإسَار، ويسمى كل أخيذ أسيرًا، وإن لم يُشَدَّ ويربط.
- تتكافأ دماؤهم: الكُفء: النظير والمساوي، والمراد هنا: تساوي دمائهم، وأنَّه لا فرق بين شريف ووضيع في الدم؛ بخلاف ما كان عليه الجاهلية من المفاضلة، وعدم التساوي.
- أدناهم: يعني: أقلهم قيمة في مجتمعهم، من: فقير، وضعيف، وامرأة، ونحوها؛ فإنه يسعى بذمتهم.
- وهُم يدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ: أي: هُم مجتمعون على أعدائهم، لا يسعهم التخاذل، بل يُعِين بعضهم بعضًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّه لا يقتل مسلم بكافر؛ فإنَّ الكافر غير مكافىء للمسلم؛ وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد.
أما أبو حنيفة: فيرى قتل المسلم بالذمي؛ لأنَّ النصوص جاءت بعقوبة القصاص عامة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، ويقول تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]؛ فهذه النصوص عامة، لم تفصِّل بين قتيل وقتيل، ونفس ونفس، ومظلوم ومظلوم، فمن ادَّعى التخصيص والتقييد، فهو يدعيه بلا دليل.
واستدل الجمهور: بحديث الباب، وبحديث:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم".
وعن علي رضي الله عنه: "من السنة ألا يقتل مؤمن مسلم بكافر"[رواه أحمد] فهذه النصوص تخصص العمومات التي احتجَّ بها الحنفية.
ولِفَقد الكفاءة بين المسلم والكافر؛ فإنَّها شرط في وجوب القصاص، فالكفر نقصان، فإذا وُجد امتنعت المساواة، فامتنع وجوب القصاص، والأصل في الكفر أنَّه مبيح للدم، ولكن عقد الذمة منع الإباحة.
2 -
أما الكافر فيقتل بالمسلم بإجماع العلماء؛ لما في الصحيح: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتَل يهوديًّا رَضَح رأس جارية من الأنصار"، ولأنَّ المسلم أعلى رتبة بإسلامه من الكافر.
3 -
ويدل الحديث على تحريم قتل المُعَاهَدِ، ما دام متمسِّكًا بعهده مع المسلمين؛ فقد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قَتَل معاهدًا، لم يُرَحْ رائحة الجنة".
وعند أبي حنيفة: يقاد المسلم بالمعاهد؛ خلافًا للأئمة الثلاثة.
والمعاهد: هو الكافر يعقد أمانًا يدخل به بلاد المسلمين، فهو في أمان المسلمين، حتى يعود إلى بلاده.
أما فِكاك الأسير: فهو تخليص الأسير المسلم من يد العدو، وهو من أفضل القُرَب، ويجوز فكاكه، ولو من الزكاة، قال تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
4 -
أما قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" فمعناه: أنَّ دماء المؤمنين والمسلمين تتساوى في الدية والقصاص، فليس أحد أفضل من أحد، لا في الأنساب، ولا في الأعراق، ولا في المذاهب، فهم أمام هذا الحق والواجب سواء.
5 -
أما قوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" فيعني: أنَّ المسلم الواحد إذا أمَّن كافرًا، صار أمانه ساريًا على عموم المسلمين، فيجب احترام أمانه، ولا يحل هتك عهده وعقده، لقوله صلى الله عليه وسلم:"قد أمَّنا من أَمَّنت يا أم هانىء".
6 -
أما قوله: "وهم يد على من سواهم" فيعني أنَّ كلمة المسلمين واحدة، وأمرهم ضد أعدائهم واحد، فلا يتفرقون ولا يتخاذلون، وإنما هم عصبة واحدة، وأمرهم واحد على الأعداء؛ قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
فهذه الأحكام الظاهرة الواضحة التي عليها عموم أهل السنة -هي في الصحيفة التي يحملها علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
أما أكاذيب الرافضة، ومزاعمهم الباطلة التي لا يرضاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطى عليًّا صحيفة، طولها سبعون ذراعًا بذراع الرسول، وأملاه من فلق فيه، وخط على يمينه، فيها ألف باب، يفتح في كل باب ألف باب، فيها كل حلال وحرام.
وكذلك ما زعموه من إعطاء علي الجَفْرَ، ومعارف آدم، وعلم البيتين،
والوصيين، وعلم الأولين والآخرين.
وعندهم من ميراث النبوة مصحف فاطمة، فيه قدر المصحف الذي عند المسلمين ثلاث مرات، إلى غير ذلك فهي من السخافات، والخرافات، والأباطيل، التي بَنَتِ الرافضة عليها عقائدهم الفاسدة.
فعلي رضي الله عنه وعن أهل بيته الطيبين الأطهار، أشرف وأجلُّ من أن ينسبوا لأنفسهم هلذه الأكاذيب على الله وعلى رسوله، وأن يزعموا التحدث عن الغيب، وإخفاء شيء من القرآن، وغير ذلك من عقائد الرافضة، التي شطُّوا في نسبتها، فشوَّهوا بها الإسلام؛ لأنَّهم زعموا أمام الأجانب عن الإسلام أنَّهم هم المسلمون، وأنَّ الإسلام ما افتروه، فشعائر الإسلام هي عباداتهم المحرفة، وأعماله هي صراخهم ولطمهم، وفواحشهم هي أحكامه، وأكاذيبهم هي حقائقه، فما أبعدهم عن الإسلام!
7 -
النَّبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الناس، وأُمر بتبليغهم شرع الله وأحكامه، ولم تَخُصَّ رسالته أحدًا دون أحد، وحاشاه أن يبلِّغ أحدًا دون أحد، أو أن يكتم شيئًا مما أرسله الله به؛ فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا قاسم، والله هو المعطي"؛ ومن الإعطاء أن يرزق الله بعض عباده فَهْمًا وإدراكًا في معاني كتابه، ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفتح الله له بابًا من أبواب العلم، كما قال ذلك الإمام علي رضي الله عنه.
***
1013 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ بِكِ هَذَا؟ فُلَانٌ؟ فُلَانٌ؟ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فأَوْمَأَتْ بِرَأسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُرَضَّ رَأسُهُ بيْنَ حَجَرَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- جارية: الجارية الأمة؛ سواء كانت شابة أو عجوزًا، وهذه فتاة من الأنصار؛ كما صرِّح به في رواية أبي داود.
- رُضَّ رَأسها: بضم الراء، وتشديد الضاد المعجمة، يقال: رضضت الشيء رضًّا، فهو رضيض ومرضوض، قال ابن الأثير؛ "الرضّ، الدق؛ أي؛ دق رأسها بين حجرين".
- فُلان؟ فلان؟: بحذف همزة الاستفهام، التي يقصد بها الاستخبار، وفلان وفلانة بغير ألف ولام، كناية عن الأناسي، وأما إذا كان بألف ولام، فكناية عن البهائم، تقول: ركبتُ الفلان، وحلبتُ الفلانة.
- أومأت برأسها: أشارت برأسها عند ذكر اسم قاتِلها؛ لأنَّها لا تقدر علىا الكلام.
- فأومأت: يقال: أومأت إليه، ولا يقال: أوميت، وهو معتل الفاء، مهموز اللام.
(1) البخاري (2413)، مسلم (1672).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أصل حكم القصاص بالنفس في قتل العمد العدوان.
2 -
ويدل على أنَّ الرجل يقاد بالمرأة، وبالعكس من باب أولى.
3 -
ويدل على طمع اليهود وجشعهم؛ فإنَّ القاتل إنما قتل من أجل "أَوْضَاحٍ لها"؛ كما في إحدى روايات الحديث.
4 -
ويدل على قسوتهم وخبثهم وخيانتهم؛ فإنَّ هذا المعاهَد يستطيع استلاب الأوضاح بلا هذه القتلة الشنيعة، للكن لؤمه وضغينته على المسلمين حَمَله على هذا المنكر.
5 -
استدل بالحديث على حكم قتل الغيلة؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي بلا طلب من أولياء الجارية، ويأتي إن شاء الله.
6 -
ويدل على أنَّ القاتل يقتل بمثل ما قتل به؛ مُثَقَّلاً كان، أو محدَّدًا، وقد اختلف العلماء في ذلك:
فذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة، واختاره شيخ الإسلام إلى: أنَّ الجاني يقتل بمثل ما قتل به، إن كان مثقلاً، فيقتل بمثقل، وإن كان محددًا فبمثله.
واستدلوا: بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وعملاً بهذا الحديث الصريح الصحيح، وهو رواية في مذهب أحمد.
وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه إلى: أنَّه لا يجوز أن يستوفى قصاص إلَاّ بآلة ماضية، كسيف وسكين؛ لما جاء في صحيح مسلم (1955):"إِذا قتلتم فأحسِنُوا القِتلة، وليُحدَّ أحدُكم شفرته".
***
1014 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه "أَنَّ غُلَامًا لأُنَاسٍ فُقَرَاءَ، قَطَعَ أُذُنَ غُلامٍ لأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المصنف: رواه أحمد، والثلاثة، بإسنادٍ صحيح.
وقال ابن عبد الهادي في "المحرر": "رجاله ثقات، فهم رجال الصحيحين، وحسَّنه الحافظ في الفتح، وسكت عنه المنذري".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أحسن ما يحمل عليه هذا الحديث: أنَّ الغلام الجاني صغير دون البلوغ.
2 -
الغلام لغة: الابن دون البلوغ، ولفظ الشارع:"يا غلام سمِّ الله"، وهو في هذه الجناية دون البلوغ، فلا يجب عليه قصاص؛ لأنَّ عمد الصبي حكمه حكم الخَطأ، بإجماع العلماء.
3 -
ولم يجب على عاقلته دية؛ لأنَّهم فقراء، والدية لا تجب على العاقلة، إلَاّ إذا كانوا أغنياء، وهذا أحسن محامل هذا الحديث، وهو موافق لألفاظه، ولعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم ودَاهُ من بيت المال.
4 -
قال شيخ الإسلام: "لا قصاص بين الصبيان والمجانين، وكل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وليس في ذلك إلزام الدية".
وقال الموفق: "لا خلاف بين أهل العلم في أنَّه لا قصاص على صبي،
(1) أحمد (4/ 438)، أبو داود (4590)، النسائي (8/ 25)، ولم يروه الترمذي.
ولا مجنون، وكذالك كل من زال عقله بسبب يُعذر فيه؛ كالنائم، والمغمى عليه، ونحوهما".
5 -
قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: "الواجب في بيت مال المسلمين:
أولاً: إذا مات مسلم وعليه دين، فعلى ولي الأمر قضاؤه.
الثانية: إذا جنى إنسان على آخر فقتله، وكانت الجناية خطأ، أو شبه عمد، ولم يكن قاتله موسرًا -فديته في بيت المال.
الثالثة: إذا حكم القاضي بالقسامة في قضية، فَنَكل الورثة عن الأيمان، ولم يرضوا بيمين المدَّعى عليه.
الرابعة: إذا وُجِدَ مقتول مجهولٌ قاتله؛ كمن قُتِلَ في زحمة طواف ونحوه".
* قرار هيئة كبار العماء بشأن استعمال المخدر فى القصاص:
قرار رقم (191) بتاريخ 27/ 10/ 1419 هـ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخمسين، المنعقدة في مدينة الرياض، ابتداءً من تاريخ 20/ 10 /1419هـ، اطَّلع على كتاب صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء رقم (4/ 35 م) بتاريخ 28/ 2/ 1419 هـ، حول حكم استعمال البنج في تنفيذ القصاص فيما دون النفس لضمان عدم التجاوز، وقد جاء فيه ما نصه:"نبعث لسماحتكم نسخة من برقية سمو وزير الداخلية رقم (16/ 59861) بتاريخ 27/ 8/ 1418 هـ، ومشفوعاتها، بشأن مسألة تنفيذ القصاص فيما دون النفس، التي صدر فيها قرار الهيئة القضائية العليا رقم (82) في 14/ 3/ 1393 هـ، المتضمن أنَّ الهيئة القضائية لا ترى أن يتم القصاص تحت تأثير مخدر "البنج"، ولو كان موضعيًّا؛ لأنَّه لا يحصل باستيفاء القصاص مع المخدِّر (البنج) التشفِّي للمجني عليه من الجاني، فتفوت حكمة القصاص؛
لفوات إحساس الجاني المقتص منه بالآلام، التي أحسَّ بها المجني عليه عند وقوع الجناية، كما صدر الأمر رقم (16485) في 1/ 11/ 1415 هـ، المبني على قرار مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة رقم (455/ 3) في 12/ 10/ 1415 هـ؛ بأنَّه ينبغي انفاذ القصاص بواسطة مختص، يؤمن من جانبه الحيف من أهل الطب، أما إنفاذ الحدود كقطع اليد والرِّجل، فقاء سبق أن صدر قرار مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة رقم:(145/ 5/ 20) في 7/ 6/ 1406هـ المتضمن أنَّه لم يظهر للمجلس ما يمنع من استعمال البنج عند قطع اليد والرجل في الحدود، وهذا ما يخص القطع بالحدود (الحق العام)، وأنَّ سمو أمير منطقة الرياض أشار إلى أنَّ الوضع يتطلب استصدار فتوى بإجازة استعمال البنج بالقطع بالقصاص، أسوةً بالحدود، لضمان عدم التجاوز، وإنفاذًا الأمر رقم (16485) في 1/ 11/ 1415هـ المشار إليه من إجراء القطع من قبل أهل الطب، وهم لا ينفذون العمليات، إلَاّ تحت تأثير البنج، ويرى سمو وزير الداخلية تأييدًا لما رآه سمو أمير منطقة الرياض، إحالة الأمر لمجلس هيئة كبار العلماء لإصدار فتوى بذلك، ونرغب إليكم أن يدرس مجلس هيئة كبار العلماء الموضوع، ويصدر فتوى بشأنه، فأكملوا ما يلزم بموجبه" اهـ.
وقد اطَّلع المجلس على البحث المعد في ذلك، وبعد الدراسة والمناقشة، وتداول الرأي، قرَّر المجلس بالأكثرية: جواز استعمال المخدر "البنج" عند القصاص فيما دون النفس، إذا وافق صاحب الحق، وهو "المجني عليه"، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
***
1015 -
وَعنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكبتَهِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ:"حَتَّى تَبْرَأَ"، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ الَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرجْتُ، فَقَالَ:"قَدْ نَهَيْتُكَ، فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ، وَبَطَلَ عَرَجُكَ"، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحِ حَتَّى يَبْرأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أحمد عن ابن إسحاق، والدارقطني عن ابن جريج، كلاهما عن عمرو بن شعيب به، ورجاله ثقات، غير أنَّ ابن إسحاق وابن جريج مدلسان، ولم يصرحا بالتحديث، لكن للحديث شواهد يتقوى بها.
قال ابن التركماني: هذا أمر قد روي من عدَّة طرق، يشد بعضها بعضًا، قلتُ: فهو صحيح لغيره.
* مفردات الحديث:
- قَرْن: بفتح القاف، وسكون الراء، آخره نون: مادة صُلبة ناتئة بجوار الأذن، تكون في رؤوس البقر والغنم ونحوها، وفي كل رأس قرنان غالبًا.
- رُكْبته: بضم الراء، وسكون الكاف: موصل أسفل الفخذ بأعلى الساق،
(1) أحمد (2/ 217)، الدارقطني (3/ 88).
جمعه: رُكب.
- أَقِدني: بفتح الهمزة، وكسر القاف، ثم دال مهملة، ثم نون الوقاية، وياء المتكلم، من القود، يريد: الاقتصاص من الذي جنى عليه.
- عَرجْت: عرج مبني للفاعل، أي: غمز في رجله، لعلة طارئة، فهو أعرج، وهي عرجاء، جمعه: عُرج.
- بَطل عرَجُك: بطل فعل ماض، وعرجك فاعل مرفوع؛ أي: بطل ما كان له من دية جرحك بتعجلك بالقصاص.
- أن يُقتص: مبني للمجهول، من القِصاص -بكسر القاف- من: اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأنَّ الذي يطلب القصاص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها، فهو مقاصة ولي القتيل القاتل، والمجروح الجارح.
- جُرح: بضم الجيم المهملة، شق في بدنه، فهو جريح، جمعه: جرحى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يحرم أن يقتص من عضو قبل برئه.
وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، كما لا تطلب له دية قبل برئه؛ وذلك لاحتمال السراية.
2 -
فإن حتم المجني عليه على طلب المبادرة بالقود -كما في هذا الحديث- فسرايتها بعد القصاص، أو أخذ الدية هدر، والدليل على تحريم القصاص المعجل، أو الدية، ثم هدَر السراية -هذا الحديث.
3 -
الحكمة في هذا: أنَّ الجرح ما دام طريًّا لم يبرأ؛ فإنَّ فيه احتمالاً أن تكون له سراية ومضاعفات، فالواجب الصبر حتى يتم شفاؤه، ثم يقتص له، أو تؤخذ له الدية.
4 -
ذهب الإمام الشافعي إلى: أنَّه لا يحرم طلب القصاص، أو الدية قبل البرء، وهو رواية لأحمد، خرَّجها في "المغني" و"الشرح الكبير"، واستدلوا بهذا
الحديث الذي فيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مكَّنه من طلب القصاص فيه.
وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، إلى: أنَّه يحرم أن يقتص من الطرف قبل برئه، وهو قول أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وإسحاق.
قال ابن المنذر: "هو قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم".
5 -
أما إذا انتظر المجني عليه حتى يبرأ جرحه، ثم سرت الجناية، فإذا كانت الجناية مما لا يقتص فيها، ولا في سرايتها، ففيها الدية، أو الأرش، باتفاق العلماء، وإن كانت الجناية مما يقتص فيها، فيرى الإمام مالك والشافعي: أنَّ القصاص في الجناية فقط، لا فيما سرت إليه.
وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ القصاص في الجناية، وسرايتها.
قال في "نيل المآرب": "وسراية الجناية مضمونة في النفس وما دونها، لو قطع إصبعًا، فتآكلت أخرى، أو تآكلت اليد، وسقطت من مفصل، أو مات، ضمن الجاني ذلك بقود، أو دية".
6 -
وفيه: دليل على أنَّ الحكم الذي لا يعود ضرره إلَاّ على صاحبه، وأصرَّ على الحكم، فإنَّه يجاب إلى ذلك، بعد أن يبيِّن له عاقبة أمره، وضرره الذي سينجم عنه.
7 -
وفيه: أنَّ اتباع الشرع هو الخير والبركة في الحال والمآل، وأنَّ مخالفته شرٌّ حاضرًا، ومستقبلاً.
8 -
وفيه: أنَّ تبيين غلط المستعجل في الأمور لا يعد شماتة فيه، إذا قيل له ذلك للاعتبار، والاتعاظ في المستقبل له، ولغيره.
***
1016 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "اقْتَتَلَتِ امْرَاتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا، وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ اوْ وَلِيدةٌ، وَقَضى بِدِيَةِ المَرْأةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا، وَمَنْ مَعَهُم. فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كيْفَ يُغْرَمُ مَنْ لَا شرِبَ وَلَا أَكلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
وَأَخْرَجَهُ أَبُو داوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَأَلَ مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الجَنِينِ؟ قَالَ: فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ، فَقَالَ: كنْتُ بَيْنَ امْرَأتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى
…
" فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
ذلك أنَّه جاء من طريقٍ إسنادها صحيح، وقد صحَّحه كل من: الحاكم، وابن حبان، وابن حزم، وقال ابن حزم في "المحلى": إسناده في غاية الصحة.
(1) البخاري (5758)، مسلم (1681).
(2)
أبو داود (4572)، النسائي (8/ 21)، ابن ماجه (2641)، ابن حبان (5989)، الحاكم (3/ 575).
وجاء في رواية البخاري من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فِي جنين امرأة من بني لحيان بغرة: عبدٍ أو أمةٍ، ثم إنَّ المرأة القاتلة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ميراثها لبنيها وزوجها، وأنَّ العقل على عصبتها.
* مفردات الحديث:
- هُذيل: هذيل بن مدركة وهي قبيلة من القبائل العدنانية، لا تزال تقيم في ضواحي مكة الشرقية والجنوبية، وسكان وادي نعمان، وما حوله كلهم من هذيل، ومن هذيل قبيلة لحيان الذين يقيمون الآن في ضواحي مكة الشمالية.
- جَنينها: ما في بطن الحامل وهو من: الاجتنان، وهو الاختفاء، فإنَّ مادة جنَّ كلها تدور على الاختفاء والاستتار.
- غرَّة: بضم الغين، وتشديد الراء، آخره تاء التأنيث، أصل الغرة البياض في وجه الفرس، وهي عندهم أنفس شيء، والمراد به هنا: العبد نفسه؛ لأنَّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم.
- وليدة: الشابة الأنثى من العبيد، جمعها: ولائد.
- عاقلتها: العاقلة صفة موصوف محذوف؛ أي: الجماعة العاقلة، يقال: عقل القتيل إذا غرم ديته، مأخوذ من: العقل، وهو المنع؛ لأنَّ العاقلة تمنع عن القاتل، ويتحملون العقل عنه، والعقل هو الدية.
أما تعريف العاقلة شرعًا: فهم من غرم ثلث الدية فأكثر من ذكور العصبة، بسبب جناية الخطأ، أو شبه العمد.
- حَمَل: حَمل بن النابغة الهذلي، من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهو زوج المرأتين المذكورتين، صحابي، نزل البصرة.
- يُغْرَم: مبني للمجهول، غرم يغرم غرامة، والغارم: هُو من لزمه مال يجب عليه أداؤه، وغرم الدية: أداها عن غيره.
- استهلَّ: استهل الصبي: رفع صوته بالبكاء، وصاح عند الولادة.
- يُطل: بضم التحتية، وفتح الطاء، وتشديد اللام؛ أي: يبطل ويهدر دم القتيل، فلا يثأر له، ولا تؤخذ ديته.
- الكُهَّان: بضم الكاف، ثم هاء مشددة، جمع: كاهن، والكاهن: اسم لكل من يدَّعي علم الغيب، أو يدَّعي الكشف عن المغيبات، من: عرَّافٍ، ومنجمٍ، ورمَّالٍ، وغيرهم.
- سَجعه: السجع: نوع من أنواع المحسنات البديعية، وتعريفه عند علماء البلاغة: أنَّه اتِّفاق الفواصل في الكلام المنثور في الحرف، أو في الوزن معًا، والكهان يجيدون هذا السجع، ويكثرون منه في كلامهم لخداع الناس.
- على عاقلتها: الضمير فيها يعود إلى الجانية.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
اختصمت امرأتان ضرَّتان من قبيلة هذيل، فرَمَت إحداهما الأخرى بحجر صغير، لا يقتل غالبًا، ولكنه قتلها، وقتل جنينها الذي في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ ديَة الجنين غرَّة؛ وهي: -عبد أو أمة- على الجاني، وقضىى للمرأة المقتولة بالدية؛ لكون قتلها "شبه عمد"، وتكون على عاقلتها؛ لأنَّ مبنى العاقلة على التناصر والتعاون، ولكون القتل غير عمد.
2 -
هذا الحديث أصل في النوع الثاني من القتل، وهو "شبه العمد"؛ وهو أن يقصد الجاني الجِناية بما لا يقتل غالبًا؛ كالقتل بالحجر الصغير، أو العصا الصغيرة، فحكم هذا النوع من القتل هو تغليظ الدية على القاتل، ولا يقاد.
3 -
أنَّ ديَة "شبه العمد"، ومثله "الخطأ" -تكون على عاقلة القاتل، وهم: الذكور من عصبته القريبون والبعيدون، ولو لم يكونوا وارثين؛ لأنَّ مبنى العصوبة التناصر والتآزر، وهذه الجائحة وقعت منه بلا قصد، فناسب مساعدتهم له، ولو كان غنيًّا، وللكن تخفف عنهم بتوزيعها عليهم حسب قربهم، وتؤجل عليهم مقسَّطة إلى ثلاث سنوات.
4 -
أنَّ ديَة الجنين الذي سقط ميتًا بسبب الجناية -"غرة": عبد أو أمة.
وقدَّر الفقهاء قيمة هذه الغرة بخمس من الإبل، تورث عنه، كأنَّه سقط حيًّا. ودية الجنين على القاتل لا على العاقلة؛ لأنَّها أقل من ثلث الدية، وما كان أقل من ثلث الدية، فإنَّ العاقلة لا تتحمله.
5 -
أنَّ الدية تكون ميراثًا بعد المقتول؛ لأنَّها بدل نفسه، وليس للعاقلة فيها شيء.
6 -
قال العلماء: إنَّما كره النبي صلى الله عليه وسلم سجع حَمَل بن النابغة لأمرين:
الأمر الأول: أنه عارض به حكم الله تعالى وشرعه، ورام إبطاله.
الأمر الثاني: أنَّه تكلَّف هذه السجعات بخطابه؛ لنصر الباطل، كما كان الكهَّان يروِّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، فيستميلون بها القلوب والأسماع.
فأما إذا وقع السجع بغير هذا التكلف، ولم يقصد به نُصْرة الباطل -فهو غير مذموم.
وقد جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد خاطب الأنصار بقوله: "أما إنكم لَتقِلُّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع".
وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمَّ! إني أعوذ بك من علم لا يَنْفَع، وقول لَا يُسمع، وقلب لَا يخشع، ونفسٍ لَا تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع". [رواه مسلم "2722"].
* قرار هيئة كبار العلماء فى إسقاط الجنين: قرار رقم (140) وتاريخ 20/ 6/ 1407 هـ:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والعشرين، المنعقدة في مدينة الرياض، ابتداء من يوم 9/ 6/ 1407 هـ، حتى نهاية 20/ 6/ 1407 هـ قد
اطَّلع على الأورِاق المتعلِّقة بالإجهاض الواردة من المستشفى العسكري بالرياض، كما اطَّلع على كلام أهل العلم في ذلك، وبعد التأمل والمناقشة والتصور لما قد يحدث للحامل من أعراض وأخطار في مختلف مراحل الحمل، ولاختلاف الأطباء في بعض ما يقرِّرونه، واحتياطًا للحوامل من الإقدام على إسقاط حملهن لأدنى سبب، وأخذًا بدرء المفاسد، وجلب المصالح، ولأنَّ من الناس من قد يتساهل بأمر الحمل رغم أنَّه محرم شرعًا -لذا فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء يقرر ما يلي:
1 -
لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله، إلَاّ لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدًّا.
2 -
إذا كان الحمل في الطور الأول، وهي مدة الأربعين، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه، أما إسقاطه في هذه المدة، خشية المشقة في تربية الأولاد، أو خوفًا من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم، أو من أجل مستقبلهم، أو اكتفاءً بما لدى الزوجين من الأولاد -فغير جائز.
3 -
لا يجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة، حتى تقرر لجنة طبية موثوقة؛ أنَّ استمراره خطر على سلامة أمه، بأن يُخشى عليها الهلاك من استمراره، فيجوز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.
4 -
بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل لا يحل إسقاطه، حتى يقرر جمع من الأطباء المختصين الموثوقين؛ أنَّ بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته، وإنما رخِّص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط، دفعًا لأعظم الضررين، وجلبًا لعظمى المصلحتين.
والمجلس إذ يقرر ما سبق يوصي بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم.
* قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن موضوع إسقاط الجنين المشوَّه خلقيًّا:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت: 15 رجب 1410 هـ، الموافق 10 فبراير 1990م، إلى يوم السبت 22 رجب 1410 هـ، الموافق 17 فبراير 1990 م -قد نظر في هذا الموضوع، وبعد مناقشته من قِبل هيئة المجلس الموقرة، ومن قِبل أصحاب السعادة الأطباء المختصين، الذين حضروا لهذا الغرض- قرر بالأكثرية ما يلي:
- إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا، فإنه لا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنَّه مشوَّه الخِلقة، إلَاّ إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أنَّ بقاء الحمل فيه خطر على حياة الأم، فعنذئذٍ يجوز إسقاطه؛ سواء أكان مشوهًا أم لا؛ دفعًا لأعظم الضررين.
- قبل مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناء على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل الممكنة-: أنَّ الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا غير قابل للعلاج، وأنَّه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلامًا عليه وعلى أهله- فعندئذٍ يجوز إسقاطه؛ بناء على طلب الوالدين، والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
***
1017 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ الرُّبيَعَ بِنْتَ النَّضْرِ -عَمَّتَهُ- كسَرَتْ ثَنِيّهَّ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ، فَأَبَوْا، فَأَتوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَوْا إِلَاّ القِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أتُكْسَرُ ثَنيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟! لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَنَسُ، كتَابُ اللهِ القِصَاصُ"، فَرَضِيَ القَوْمُ، فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الرُّبيَع: تصغير ربيع، وهو بضم الراء، وفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء، آخره عين مهملة-: بنت النضر الأنصارية الخزرجية، أخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم.
- ثَنيَّة: واحدة الثنايا، وهنَّ أربع أسنان في مقدم الفم: اثنتان من أعلى، واثنتان من أسفل.
- جَارية: شابة من بنات الأنصار، وليس المراد بها الأمة؛ لعدم القصاص بينهما.
- الأَرْش: بفتح الهمزة، وسكون الراء، آخره شين معجمة-: هو قدر ما بين قيمة المجني عليه صحيحًا، وبين قيمته وفيه الجناية، فيقوَّم كأنه عبد سليم،
(1) البخاري (2703)، مسلم (1675).
ثم يقوَّم مرَّة أخرى وفيه الجرح، فما بين القيمتين ينسب إلى دية الحر؛ فيكون أرش الجناية.
- أتُكسر: الهمزة للاستفهام الإنكاري، ولم يقصد الإنكار، ولكن أخذه الغضب والحمية، أو أنَّه يجهل الحكم الشرعي.
- كتاب الله القصاص: مبتدأ وخبر؛ أي أنَّ كتاب الله يَحْكُم بالقصاص.
- لأبره: اللام للتأكيد في جواب القسم؛ أي: لا يحنثه، بل يبر قسمه، ويجيبه إلى ما أقسم عليه، ويعطيه مطلوبه لكرامته عليه، وعلمه أنَّه من جملة عباد الله الصالحين.
* ما يؤخذ من الحديث:
قال الله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، والرُّبيع بنت النضر أخت أنس بن النضر أحد شهداء أحد، وهي عمة أنس بن مالك، خادم النبي صلى الله عليه وسلم، كسَرت ثنية إحدى بنات الأنصار عمدًا، فطلب أنس بن النضر من أولياء المجني عليها العفو عن أخته، فأبوا، فعرضوا عليهم الدية، فأبوا، ورفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مطالبين بالقصاص، وأصرُّوا على طلبهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟! لا، والذي بعثك بالحق، لا تُكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أنس، كتاب الله"، فرضي القوم، وعفوا، فقال رسول الله:"إنَّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه".
هذا الحديث فيه جملة معان وأحكام منها:
1 -
ثبوت القصاص في السن؛ كما قال تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، ولا يكون القصاص إلَاّ في العمد، أما الخطأ وشبه العمد فليس فيهما إلَاّ الدية.
2 -
يكون القصاص بالسن المماثلة للسن المجني عليها.
3 -
أنَّ القصاص هو حكم الله تعالى، يجب القيام به، ما لم يَعْفُ صاحب الحقِّ؛ قال تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178].
4 -
أنَّ المؤمن إذا لجَّ به الغضب والحمية، فصدر منه ما ظاهره الاعتراض على أمر الله وحكمه، وهو لم يرد به الإنكار والمعارضة، وإنما قصد به طلب الشفاعة -فلا يؤخذ بنالك؛ فإنَّما الأعمال بالنيات.
ويحتمل: أنَّ أنس بن النضر إنما قال ذلك توقعًا من الله تعالى، ورجاءً من فضله أن يرضي الله عنه خصم أخته، ويلقي في قلبه العفو، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه".
5 -
أنَّ القصاص من حق المجني عليه، فإذا عفا عنه سقط، ولا يعتبر هذا تعطيلاً لحدود الله؛ لأئَه محض حق آدمي.
6 -
أنَّ الله تعالى بكرمه وعدله يعرف لذوي السابقة بطاعته سباقتهم، فإذا وقعوا في معضلة سهَّلها لهم؛ كما في قوله تعالى:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات] وكما جاء في الحديث: "تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدَّة"[رَواه أحمد وأبو القاسم في "أماليه"، وحسَّنه السيوطي في "الجامع الصغير"، وكذلك المناوي].
7 -
أنَّ القلوب بين يدي الله تعالى، فالمجني عليهم كانوا ممتنعين من العفو، ومن الدية، وطبيعة الحال أنَّ تشدد أنس بن النضر في عدم تنفيذ القصاص، في أخته مما يزيدهم شدة في طلب القصاص، وإلحاحًا فيه، إلَاّ أنَّهم عفوا، وهذا من الأدلة أنَّ المتصرِّف في القلوب هو الله وحده.
8 -
في الحديث منقبة عظيمة لأنس بن النضر رضي الله عنه وهي أنَّه من جملة عباد الله تعالى، الذين يعطيهم الله مطلوبهم، ويسمع نداءهم، ويجيب دعاءهم، وقصة استشهاده يوم أحد مشهورة.
* فائدة:
قال ابن القيم: أتباع الأئمة الأربعة لا قصاص عندهم في اللطمة والضربة، وحكى بعضهم الإجماع.
وخرجوا عن محض القياس، وموجب النصوص، وإجماع الصحابة، قال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]
فالواجب للمظلوم أن يفعل بالجاني عليه كما فعل به، فلطمةٌ بلطمةٍ، وضربةٌ بضربة في محلها، بالآلة التي لطم بها، أو مثلها، أقرب إلى المماثلة المأمور بها شرعًا من تعزيره بغير جنس اعتدائه، وصفته.
وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ومحض القياس، ونصوص أحمد.
***
1018 -
وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ عِمِّيًّا اوْ رِمِّيًّا، بِحَجَرٍ اوْ سَوْطٍ اوْ عَصًا -فَعَقْلُهُ عَقْلُ الخَطَإِ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
إسناده قوي، كما قال المؤلف.
وقال ابن عبد الهادي: "إسناده جيِّد".
* مفردات الحديث:
عِمِّيًّا: بكسر العين المهملة، وتشديد الميم، والياء المثناة من تحت، بالقصر، على وزن فِعِّيلى، من: العَمَاء.
- رِمِّيًّا: بكسر الراء، وتشديد الميم، ثم ياء مثناة تحتية، بالقصر، على وزن فعيلى، من الرمي، وكل من عِمِّيا ورِمِّيًّا مصدر يراد به المبالغة، والمعنى: أنه إذا وجد جماعة من الناس في اقتتال، ثم وجد قتيل يُعمى أمره، ولم يتبيَّن قاتله -فحكمه حكم الخطأ تجب فيه الدية.
- سَوْط: بفتح السين، وسكون الواو، ما يُضرب به من جلد؛ سواء كان مضفورًا، أو لا.
- عَصا: ما يتخذ من خشب وغيره للتوكؤ، أو الضرب، جمعه: عِصِىّ.
- فعقْله عقل الخطإ: العقل: الدية، ومعناه: فديته قدر ديَة قتل الخطأ.
- قوَد: بفتح القاف، والواو، آخره دال مهملة، القود: القصاص؛ سمي قودًا؛
(1) أبو داود (4540)، النسائي (8/ 39)، ابن ماجه (3635).
لأنَّه يقاد عند تنفيذ القصاص فيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قتيل العمياء؛ وهو الذي يُقْتل في زحام، فيُجهل قاتله؛ كزحام الطواف، والسَّعي، ورمي الجمار، فهذا ديته من بيت مال المسلمين.
قال الشيخ صالح الحصين المستشار في وزارة المالية: "القاعدة أنَّ دم المعصوم لا يضيع هدرًا، فالدية تجب على بيت المال في مثل حالة، لا يبقى فيها سبيلٌ للثبوت على غير بيت المال، ولا يوجد ما يسقط العقل عنه".
2 -
أما القتل برمي حجر، أو سوط، أو عصًا مما لا يقتل غالبًا، فهلذا شبيه بالخطأ من حيث عدم وجوب القصاص، وشبيه بالعمد من حيث تغليظ الدية؛ فدية شبه العمد كدية العمد قدرًا.
3 -
أما قتل العمد العدوان فإنَّ فيه القود، وهو القصاص، وقد أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:"ومن قتل عمدًا فهو قَود".
وعرَّف الفقهاء قتل العمد: بأن يقصد آدميًّا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظن موته به، فلا قصاص بما لا يقتل غالبًا، وكذا لاقصاص إن لم يقصد القتل، أو قصد غير معصوم.
4 -
وهناك تسع صور لقتل العمد العدوان:
1 -
الضرب بمُثَقَّل.
2 -
الضرب بما له نفوذ في البدن.
3 -
إلقاؤه في زُبْيَةِ سبُع مفترس.
4 -
إلقاؤه في ماءٍ يغرقه، أو نار تحرقه.
5 -
أن يخنقه.
6 -
أن يحبسه عن الطعام والشراب، فيموت جوعًا، أو عطشًا في مدة يموت فيها غالبًا.
7 -
أن يسقيه السم.
8 -
أن يقتله بسحر.
9 -
أن يشهد عليه رجلان بما يوجب قتله.
والضابط لهذا كله تعريفه بأنه: "القتل بما يغلب عليه الظن موته به"؛ فهذا تعريف مطرد على عمومه، فلا يدخل فيه ما لو غرزه بإبرة، أو شوكة في غير مقتل، وخرج منه دم، فمات منه؛ فإنَّ هذا من شبه العمد؛ لأنَّ هذا لا يقتل غالبًا، فهو من صور شبه العمد، كما نبَّه على لك شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله.
5 -
أنَّ القصاص أو الدية إذا وجب، فحالت يد ظالمة عن تنفيذه، فعلى تلك اليد الحائلة بين الدية أو القود، وبين أولياء القتيل -لعنة الله؛ لأنَّها منعت أصحاب الحق من حقهم وقد قال تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء].
6 -
قوله: "عمدًا" فيه دليل على أنَّه لابد في القود من تحقيق قتل العمد.
قال الشيخ ناصر بن حمد بن معمر ما خلاصته:
"إذا ادَّعى القاتل أنَّ قتله للقتيل كان خطأً، لا عمدًا، وفسَّره بذلك، والقتل لم يثبت إلَاّ باعترافه -فإنَّه يقبل قوله في دعوى الخطأ، ولا قصاص عليه؛ لأنَّ من شرط القصاص أن يكون عمدًا محضًا".
***
1019 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَقَتَلَهُ الآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولاً، وَمُرْسَلاً، وصَحَّحَهُ ابْنُ القَطَّانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَاّ أَنَّ البَيْهقِيَّ رَجَّحَ المُرْسَلَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مرسل.
قال المصنف: "رواه الدارقطني موصولاً ومرسلاً، وصحَّحه ابن القطان، ورجاله ثقات، إلَاّ أنَّ البيهقي رجح المرسل".
قال الحافظ ابن كثير في "الإرشاد": "وإسناده على شرط مسلم".
قال الشوكاني: "قال الدارقطني: الإرسال أكثر، وقال البيهقي: المرسل أصح، فالوصل غير محفوظ".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال فقهاؤنا الحنابلة: إذا أمسك إنسان آخر؛ ليقتله ثالث، فقتله -قُتِل القاتل بلا خلاف بين العلماء؛ لأنَّه قتل من يكافئه عمدًا بغير حق، أما الممسك فيحبس حتى يموت، ولا قود عليه، ولا دية.
2 -
هذا إذا كان الممسك يعلم أنَّ القاتل سيقتله، أما إذا كان لا يعلم ذلك، كان يكون في مزاحٍ أو لعب، فليس على الممسك شيء؛ لأنَّ موته ليس بفعله، وحينئذٍ فلا يعتبر فيه قصد القتل.
هذا هو المشهور من مذهب أحمد، وهو من مفردات مذهبه.
(1) الدارقطني (3/ 140)، البيهقي (8/ 50).
ودليله: حديث الباب.
3 -
ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى: أنَّه إذا كان الممسك يرى أنَّ الجاني سيقتل المجني عليه -قُتِلا جميعًا، كان أمسكه وهو يرى أنه يريد الضرب فقط، فإنه يقتل القاتل، ويعاقب الممسك عقوبة شديدة، ويسجن.
قال الشوكاني: "الحق العمل بمقتضى الحديث المذكور؛ لأنَّ إعلاله بالإرسال غير قادح على ما ذهب إليه أئمة الأصول".
4 -
أما مذهب أبي حنيفة والشافعي فيريان: تعزير الممسك إذا أمسك بقصد، القتل، وهو عالم بأنه سيقتل؛ لأنَّ فعل الطالب مباشرة، وفعل الممسك تسبب، وقد تغلبت المباشرة على السبب.
ومن التعزير الحبس، ولكنهم لا يرونه مؤبدًا، كما يراه الحنابلة، وإنما يرون أنَّ الحبس موكول إلى اجتهاد الإمام في طول المدة وقصرها؛ لأنَّ الغرض تأديبه، وليس استمراره إلى الموت بمقصود.
5 -
وذهب الإمام مالك إلى: أنَّ الممسك يقتل قصاصًا إذا أمسك القتيل لأجل القتل، فقتله الطالب، وهو يعلم أن الطالب سيقتله؛ لأنَّه بإمساكه تسبب في قتله، فإن لم يعلم أنَّه يقصد قتله، فعقاب الممسك التعزير، وليس القصاص، والله أعلم.
6 -
حبس الممسك حتى الموت مناسب لتسببه بإمساك القتيل حتى قتل.
7 -
في الحديث دليل على القاعدة المشهورة: إذا اجتمع المباشر والمتسبب كان الضمان على المباشر، وهنا لقي كل منهما جزاءه المناسب لجنايته، والله حكيم عليم.
***
1020 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ البَيْلَمَانِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ، وَقَالَ:"أنَا أَوْلَى مَنْ وَفَّى بذمَّتِه". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقٍ هَكَذَا مُرْسَلاً، (1) وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَإِسْنَادُ المَوْصُولِ وَاهٍ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
هذا الحديث مرسل من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، وقد روي مرفوعًا، لكن قال البيهقي:"هو خطأ"، وقال الدارقطني:"ابن البيلماني ضعيف، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما أرسله؟! ".
وقد ضعفه كل من الشافعي، والدارقطني، والبيهقي، وقد وثَّقه بعضهم، والمضعفون له أكثر.
* مفرادات الحديث:
- بمعاهد: المعاهَد هو: الكافر الذي أُعطي العهد والأمان، فحرم به قتله وأسره ورقُّه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على جواز قتل المسلم بالكافر المعاهَد، وأنَّ المعاهَد في ذمة إمام المسلمين، وفي ذمة المسلمين جميعًا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"أنا أولى مَن وفَّى بذمته".
(1) عبد الرزاق (10/ 101).
(2)
الدارقطني (3/ 134).
2 -
والحديث يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: جواز قتل المسلم بالكافر، كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، لعموم النصوص التي جاءت في القصاص، وتحقيق الأمن والاستقرار؛ فإن قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم؛ لأنَّ العداوة الدينية تحمله على القتل، خصوصًا عند الغضب، فكانت الحاجة داعية إلى الزجر، وكان فرض القصاص أبلغ في تحقيق الحياة الآمنة، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقد أخذت محاكم مصر بهذا القول، فهي لا تفرق في العقوبة؛ لاختلاف الدين.
أما مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة-: فلا يرون قتل المسلم بالكافر مطلقًا؛ لأنَّ الكافر لا يكافيء المسلم، ولكن الكافر يقتل إذا قتله؛ لأنَّه قَتْلُ الأدنى بالأعلى، ويطبق هذا على الذميين.
الوجه الثاني: أنَّ المراد بالقتل لأجل التعزير، وليس القصاص، ولهذا جعل اختياره لنفسه صلى الله عليه وسلم، ولم يَكِلْهُ إلى أولياء الدم.
الوجه الثالث: أن يكون القتل هنا قتل غيلة، وقتل الغيلة عند القائلين به لا يرون شروط القصاص من المكافأة وغيرها، والله أعلم.
قال في "الاختيارات": لا يقتل مسلم بذمي، إلَاّ أن يكون غيلة".
وقال في موضع آخر: "إنَّ العفو لا يصح في قتل الغيلة، لتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة".
وذكر ابن القيم أنَّ قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدًّا، ولا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهو مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ تقي الدين.
3 -
فيه تعظيم قتل المعاهد؛ فقد روى البخاري من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَن قتل معاهدًا، لم يُرَح رائحة الجنة".
1021 -
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "قُتِل غُلَامٌ غِيْلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- غِيلَة: بكسر الغين المعجمة، وسكون المثناة التحتية، يقال: قتله غيلة؛ أي: قتله على غفلة من المقتول، وغِرَّة.
- صَنْعَاء: بفتح الصاد، وسكون النون، ممدود: هي عاصمة بلاد اليمن، وتقع في الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية، وهي مدينة قديمة أثرية.
وتخصيص صنعاء بالذكر في هذا الأثر؛ لأنَّ هؤلاء الرجال القتلة كانوا منها، أو أنَّه مثل عند العرب يضرب لكثرة السكَّان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قوله: "لو اشترك فيه أهل صنعاء، لقتلتُهم به" فيه قتل الجماعة بالواحد، وهو مذهب جماهير العلماء.
قال ابن القيم: "اتَّفق الصحابة، وعامة الفقهاء على قتل الجميع بالواحد، وان كان أصل القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء".
وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد وأتباعه.
قال في "كشاف القناع": ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كل واحد منهم صالحًا للقتل به لو انفرد، وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة
(1) البخاري (6896).
للقتل؛ كما لو ضربه كل واحد بحجر صغير، فمات -فلا قصاص عليهم، ما لم يتواطؤوا على ذلك الفعل، ليقتلوه به؛ فعليهم القصاص؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى درء القصاص".
قال الشيخ عبد الله أبابطين: "معنى قوله: أن يكون فعل كل واحد منهم صالحًا للقتل به، أي: يكون فعل كل واحد صالحًا أن يكون سببًا لموت المجني عليه، لا أنَّه يغلب حصول الموت من تلك الجناية؛ لأنَّ الفقهاء مثَّلوا بالمُوضحة، مع أنَّ حصول الموت بها نادر".
كما استدلَّ بهذا الأثر التصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في قتل الغيلة:
فقال الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية: إنه يوجب القتل قصاصًا؛ كسائر أنواع القتل عمدًا، وعدوانًا، وعليه يكون الحق في قتل الجاني لأولياء الدم، من ورثة القتيل، أو عصبته، فيجب تنفيذه إن اتَّفقوا على ذلك، ويسقط بعفوهم، أو عفو بعضهم.
وقال أبو الزناد، ومالك، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم: إنَّه يوجب قتل الجاني حدًا، لا قودًا، فيتولى تنفيذه السلطان، أو نائبه، ولا يسقط بعفو أحد، لا السلطان، ولا غيره.
استدلَّ: من قال: إنه يقتل قصاصًا؛ بالكتاب، والسنة، والقياس.
أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء].
قالوا: جعل الله سبحانه الحق في الدم لأولياء القتيل، من ورثة، أو عصبة، دون غيرهم، وعمم في ذلك، فلم يخص قتلًا دون قتل، والأصل بقاء
النص على عمومه، حتى يرد ما يصلح لتخصيصه.
وأيضًا: عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، فحكم الله تعالى في عموم القتلى بوجوب القصاص، إلَاّ ما خصَّه الدليل، كما عمَّم تعالى في العفو بقوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]؛ فلم يخص به قتلًا دون قتل، فوجب تعميمه في كل قتل عمد عدوان، غيلةً كان، أم غير غيلة.
وأما من السنة:
فعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "منَ قُتل له قتيل، فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل، أو أن يقتلوا"؛ فجعل عليه الصلاة والسلام الخيرة لأهل القتيل بين العقل والقصاص في كل قتل، غيلةً كان، أو غير غيلة.
وأيضًا: ما روى عبد الرزاق عن سِماك بن الفضل: "أنَّ عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل خَنَق صبيًّا على أوضاح له حتى قتله، فوجدوه والحبل في يده، فاعترف بنالك، فكتَب: أن ادفعوه لأولياء الصبي، فإن شاءوا قتلوا" ولم يسأل عمر عن صفة القتل، أهو غيلة، أم لا؟ ولم ينكر عليه أحد.
أما القياس:
فقالوا: فيه: إنَّه قتل في غير حرابة؛ فكان كسائر أنواع القتل في إيجاب القصاص، وقبول العفو؛ لعدم الفارق.
واستدل: من قال: إنَّ قتل الغيلة يقتل فيه الجاني حدًّا، لا قودًا، فلا يسقط بالعفو من السلطان، أو غيره -: بالكتاب، والسنة، والقياس.
أما الكتاب: فإنَّ قتل الغيلة نوع من الحرابة؛ فوجب به القتل حدًا، لا قودًا؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
…
} الآية [المائدة: 33].
أما من السنة:
(أ) فاستدلوا بما ثبت من أنَّ جارية وُجدت قد رُضَّ رأسها بين حجرين، فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديًّا، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فأقرَّ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضوا رأسه بالحجارة.
قالوا: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل اليهودي، ولم يجعل ذلك إِلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصًا، لكان الحق لأوليائها؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه قتله حدًّا، لا قودًا.
(ب) واستدلوا بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاة قتل حرابة وغيلة، ولم ينقل أنه جعل لأولياء الرعاة الخيار، ولو كان قتله إيَّاهم قصاصًا لشاورهم، وطلب رأيهم، فدلَّ على أنَّه قتلهم حدًّا، لا قودًا.
وبذلك تبَيَّن أنَّ قتل الغيلة له حكم خاص يختلف عن حكم سائر القتل العمد العدوان.
وأما الآثار: فمنها:
ما ثبت أنَّ عمر رضي الله عنه أمر بقتل جماعة اشتركوا في قتل غلام بصنعاء.
وفي رواية: "لو تمالأ عليه أهل الصنعاء، لقتلتهم جميعًا".
فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولم ينقل أنَّه استشار أحدًا من أولياء الدم، ولو كان لهم حق العفو، لرد الأمر إليهم، وطلب رأيهم، ولم يُنقل أنَّ أحدًا من الصحابة أنكر عليه.
وأما القياس:
فإنَّ القتل غيلة لمَّا كان في الغالب عن ختل وخداع، وأَخْذٍ على غرة -تعذَّر التحفظ منه؛ فكان كالقتل حرابة، ومكابرة؛ حيث إِنَّ عقوبة كل منهما من
الحدود، لا القود والقصاص، وأيضًا في ذلك سد لذريعة الفساد والفوضى في الدماء، والقضاء على الاحتيال والخديعة، وسائر طرق الاغتيال، وبذلك يخصص عموم النص في وجوب القتل قصاصًا، فيحمل على ما عدا قتل الغيلة.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن قتله الغيلة: رقم (38) بتاريخ 11/ 8/ 1395 هـ:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السادسة لهيئة كبار العلماء؛ بأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثًا في الغيلة، وقد أعدت، وأُدرج في جدول أعمال الهيئة في الدورة السابعة المنعقدة في الطائف: من 2/ 8/ 1395 هـ، إلى 8/ 11/ 1395 هـ، وعرض البحث على الهيئة، وبعد قراءته في المجلس، ومناقشة المجلس كلام أهل العلم في تعريف الغيلة في اللغة، وعند الفقهاء، وما ذكر في عقوبة القاتل قتل غيلة؛ هل هو القصاص، أم الحد؟ وتداول الرأي.
وحيث أنَّ أهل العلم ذكروا أنَّ قتل الغيلة ما كان عمدًا وعدوانًا على وجه الحيلة والخداع، أو على وجه يأمن معه المقتول من غائلة القاتل؛ سواء أكان على مال، أم انتهاك عرض، أم خوف فضيحة، وإفشاء سر، أم نحو ذلك.
وكأن يخدع شخصًا حتى يأمنه، ويأخذه إِلى مكان لا يراه فيه أحد، ثم يقتله، وكأن يأخذ مال رجل بالقهر، ثم يقتله خوفًا من أن يطلبه بما أخذ، وكأن يقتله لأخذ زوجته، أو ابنته، وكأن تقتل الزوجة زوجها في مخدعه، مثلًا للتخلُّص منه، أو العكس، ونحو ذلك.
لذا قرَّر المجلس بالإجماع ما عدا الشيخ صالح بن غصون أنَّ القاتل قَتْلَ غيلة يقتل حدًّا، لا قصاصًا، ولا يصح فيه العفو من أحد، والأصل في ذلك: الكتاب، والسنة، والأثر، والمعنى.
أما الكتاب:
فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
…
} الآية [المائدة: 33].
وقتل الغيلة نوع من الحرابة؛ فوجب قتله حدًّا، لا قودًا.
أما من السنة:
فما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها، أو حلي، فأخذ، واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرض رأسه بين حجرين" فَأَمْرُ صلى الله عليه وسلم بقتل اليهودي، ولم يرد الأمر إِلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصًا لرد الأمر إليهم؛ لأنَّهم أهل الحق -يدُلُّ على أنَّ قتله كان حدًّا لا قودًا.
وأما الأثر: فما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنَّه قتل نفرًا -خمسة، أو سبعة- برجل واحد، قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا".
فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولا نعلم نقلاً يدلُّ على أنَّه رد الأمر إِلى الأولياء، ولو كان الحق لهم لرد الأمر إليهم؛ فدل على أنَّه يقتل حدًّا، لا قودًا.
وأما المعنى: فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق يتعلَّق به حق الله تعالى، فلا عفو فيه لأحد، كالزكاة وغيرها، ولأنه يتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة، وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
***
1022 -
وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا العَقْلَ، أَوْ يَقْتُلُوا" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ (1).
وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، من طريق يحيى بن سعيد، حدَّثنا ابن أبي ذئب، حدَّثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح.
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، وهو على شرط الشيخين، وقد أخرجاه من طريق الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد به".
قال في "البلوغ": وأصله في الصحيحين عن أبي هريرة، وصححه الترمذي، والسهيلي في "الروض الأنف"، وابن حزم في "المحلى".
* مفردات الحديث:
- بين خيرتين: بكسر الخاء، وفتح التاء؛ أي: له الخيار بين أخذ الدية، والقصاص.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الواجب بقتل العمد عند الإمام أحمد أحد شيئين: القَوَدَ، أو الدية، فيخير ولي الدم بينهما، فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، ولو لم يرض الجاني.
(1) أبو داود (4504)، الترمذي (1406)، ولم يروه النسائي.
(2)
البخاري (6880)، مسلم (1355).
وبه قال جماعة من السلف؛ منهم سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وعطاء ومجاهد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر.
2 -
ويرى الأئمة الثلاثة: أنَّ الواجب القود، والدية بدل عنه؛ لقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]؛ والمكتوب لا تخيير فيه؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتَل عمدًا، فهو قَود"[رواه النسائي] من حديث ابن عباس.
3 -
أما دليل القول الأول: فقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وحديث الباب صريح في هذا الحكم.
4 -
ثمرة الخلاف بين القولين أنَّ صاحب القول الأول له العدول إلى الدية، ولو لم يرض الجاني، وأما القول الثاني، فإنَّه ليس له إلَاّ القصاص، أما الديَة فلا يستحقها إلَاّ بصلح بينه وبين الجاني.
والنتيجة الثانية: أنَّه لو فات محل القصاص بوفاةٍ، أو آفة لعضو، ونحو ذلك -فعند القائلين بوجوب أحد الشيئين، يعدل إلى الدية، أما عند الذين لا يوجبون إلَاّ القصاص عينًا، فلا يجب للمجني عليه شيء.
5 -
قال في "شرح الإقناع": أجمعوا على جواز العفو عن القصاص، وأنَّه أفضل؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237].
وقد جاء في سنن أبي داود، عن أنس قال:"ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفِعَ إليه شيء فيه قصاص، إلَاّ أمر بالعفو"؛ والنصوص في هذا كثيرة.
6 -
قال الشيخ تقي الدين: "استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو عنه إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلَاّ بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، وإلَاّ كان ظلمًا: إما لنفسه، وإما لغيره، قال في الإنصاف: وهذا عين الصواب".
7 -
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا عفا أحد الأولياء من الرجال، سقط القود،
والمشهور عند مالك: أنَّه للعصبات خاصة، قلتُ: وهو رواية عن أحمد، واختاره الشيخ تقي الدين".
وإليك الخلاف بأوسع من هذا.
* خلاف العلماء:
ذهب الأئمة الثلاثة، وجمهور العلماء إِلى: أنَّ القصاص حق لجميع الورثة، من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال، والنساء، والصغار، والكبار، فمن عفا منهم صحَّ عفوه، وسقط القصاص، ولم يكن لأحد على الجاني سبيل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فأهله بين خِيرَتَين"؛ وهذا عام في جميع أهله، والمرأة من أهله؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن يعذرني من رجل، بلغني أذاه في أهلي، وما علمت على أهلى إلَاّ خيرًا".
وذهب الإمام مالك إلى: أنَّ القصاص والعفو عنه موروث، ولكنه منوط بالعصبات من الرجال خاصة؛ لأنَّه ثبت؛ لدفع العار، فاختصَّ به العصبات؛ كولاية النكاح.
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وهو وجه لأصحاب الشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين.
قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: "العفو حق لجميع الورثة من الرجال، والنساء، لكن إذا كثر التحيل لإسقاط القصاص، وخيف اختلال الأمن بكثرة العفو -جاز العمل ضرورة بالقول الآخر، الذي اختاره الشيخ تقي الدِّين، وهو المشهور من مذهب مالك؛ وهو أنَّ النساء ليس لهن العفو عن القصاص، وأنَّه مختص بالعصبة، والشيخ بناها على قاعدة ذكرها في بعض كتبه، وهي: أنَّه إذا ثبتت الضرورة جاز العمل بالقول المرجوح؛ نظرًا للمصلحة.
ولا يُتَّخذ هذا عامًّا في كل قضية، بل الضرورة تقدر بقدرها، والحكم يدور مع علَّته.