الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الحدود
بَابُ حَدِّ الزَّانِي
الحدود: هي جمع "حد"، وهو لغة: المانع، والحاجز بين الشيئين، يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.
وشرعًا: هي عقوبات؛ لتَمْنَعَ من الوقوع في مثل الذنب، الذي شُرِع له وحدود الله تعالى تُطلق على ثلاثة أنواع:
الأول: نفس المحارم التي نهى الله عنها؛ وذلك كالزنا، فهذه عبَّر القرآن الكريم عنها بقوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] فقد نهى عنها، وعن الوسائل التي قد تُوقع فيها.
الثاني: حدود الله تعالى التي نهى عن تعدِّيها، والمراد بها: جملة ما أذِنَ الله تعالى بفعله؛ سواء كان فعله عن طريق الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، والاعتداء فيها هو تجاوزها، وعبَّر القرآن الكريم عن مثل هذا بقوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وهذه الآية وردت فيمن يتجاوز ما أباح الله له من إمساك الزوجة بمعروف، أو تسريحها بإحسان، فإذا أمسكها بغير معروف، أو سرَّحها بغير إحسان -فقد تعدى ما أباح الله له إِلى ما حرَّم عليه.
الثالث: يراد بها الحدود المقدَّرة الرادعة عن المحارم، فيقال: حد
الزِّنا، وحد الشرب، وحد السرقة، وفد جاء في الحديث التصحيح: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله"؟! يريد بذلك حد السّرقة، فهذه يجب الوقوف عند ما قُدِّر فيها، بلا زيادة ولا نقصان.
ويَحْسُنُ بنا أن نوردَ في هذه المقدمة هذا الحديث العظيم؛ فقد روى الدارقطني وغيره: "عن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"، حسَّنه النووي.
قال السمعاني: هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه، منْ عمل به فأدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عمَّا غاب عنه -فقد استوفى أقسام الفضل، ووفَّى حقوق الدين.
وقال بعضهم: جمع النبي صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات، وذكر الحديث.
والحدود الرادعة ثابتة بالكتاب، والسنة، وإجماع العلماء في الجملة، ويقتضيها القياس التصحيح، فهي جزاء لما انتهكه العاصي من محارم الله تعالى.
* حكمتها التشريعية:
لها حِكم جليلة، ومعانٍ سامية، وأهداف كريمة.
ولذا يجب إقامتها لداعي التأديب والتطهير والمعالجة، لا لغرض التشفِّي والانتقام؛ لتحصل البركة والمصلحة، فهي نعمة من الله تعالى كبيرة على خلقه، فهي للمحدود طُهرة عن إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي.
وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور، والفساد في الأرض، وبإقامتها يصلح الكون، وتعمر به الأرض، ويسود الهدوء والسكون، وتتم النعمة، بانقماع أهل الشر والفساد، وبتركها -والعياذ بالله- ينتشر الشرّ، ويكثر الفساد،
فيحصل من الفضائح، والقبائح، ما معه يكون بطن الأرض خيرًا من ظهرها.
ولا شكَّ أنَّها من حكمة الله تعالى ورحمته، والله عزيز حكيم، وهو الشارع الرحيم حين شرع الحدود سبقت رحمته فيها عقابه، فعفا عن الصغار، وذاهبي العقول، والذين فعلوها لجهل بحقيقتها.
وصعَّبَ أيضًا ثبوتها، فاشترط في الزنا أربعة رجال عدول، يشهدون بصريح وقوع الفاحشة، أو اعترافًا من الزاني بلا إكراه، وبقاء منه على اعترافه حتى يُقام عليه الحد.
وفي السرقة لا قطع إلَاّ بالثبوت التام، وانتفاء الشبهة، إلى غير ذلك، مما هو مذكور في بابه، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، كل هذا؛ لتكون توبة العبد بينه وبين نفسه، والله غفور رحيم.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن مرض نقص المناعة المكتسب "الإيدز": قرار رقم (82):
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النببين وعلى آله وصحبه.
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ، الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "مرض نقص المناعة المكتسب "الإيدز".
وبعد استماعه إِلى المناقشات التي دارت حوله.
قرَّر ما يلي:
1 -
بما أنَّ ارتكاب فاحشتي الزنا واللواط أهم سبب للأمراض الجنسية، التي
أخطرها الإيدز "متلازمة العوز المناعي المكتسب"؛ فإنَّ محاربة الرذيلة، وتوجيه الإعلام، والسياحة وجهةً صالحةً، تعتبر عوامل هامة في الوقاية منها، ولا شكَّ أنَّ الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف، ومحاربة الرذيلة، وإصلاح أجهزة الإعلام، ومنع الأفلام والمسلسلات الخليعة ومراقبة السياحة -تعتبر من العوامل الأساسية للوقاية من هذه الأمراض.
ويوصي مجلس المجمع الجهات المختصة في الدول الإسلامية باتخاذ كافة التدابير للوقاية من الإيدز، ومعاقبة من يقوم بنقل الإيدز إِلى غيره متعمدًا، كما يوصي حكومة المملكة العربية السعودية بمواصلة تكثيف الجهود لحماية ضيوف الرحمن، واتخاذ ما تراه من إجراءات كفيلة بوقايتهم من احتمال الإصابة بمرض الإيدز.
2 -
في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض، فإنَّ عليه أن يخبر الآخر، وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة.
ويوصي المجمع بتوفير الرعاية للمصابين بهذا المرض، ويجب على المصاب، أو حامل الفيروس أن يتجنب كل وسيلة يعدي بها غيره، كما ينبغي توفير التعليم للأطفال، الذي يحملون فيروس الإيدز بالطرق المناسبة. والله أعلم.
***
1048 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنهما:"أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ بالله إِلَاّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَم، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَأَذَنْ لِي، فَقَالَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَان عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِيِ جَلْدَ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكَمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أنْشُدُك بالله: بفتح الهمزة، فنون ساكنة، ثم شين مضمومة معجمة، من "نشده": إذا سأله؟ أي: أسألك بالله تعالى.
- إلَاّ قَضَيْتَ: بكسر الهمزة، وتشديد اللام، أداة استثناء، والمعنى: ما أطلب منك إلَاّ قضاء.
(1) البخاري (5/ 301) فتح، مسلم (3/ 1324).
- أفْقه منه: الفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه] وكان أفقه منه: الواو للحال، ويحتمل أنه أفقه مطلقًا، أو أفقه في هذه القضية.
- عسِيفًا: بفتح العين المهملة، وكسر السين المهملة، ثم ياء، ففاء موحدة، على وزن فعيل، بمعنى مفعول، والعسيف هو: الأجير المستعان به، جمعه: عسفاء وعسفة.
- على هذا: قال علماء اللغة: إنما قال: "على هذا"؛ لما يتوجه للأجير على المستأجر من الأجرة، بخلاف ما لو قال:"عسيفًا لهذا"؛ لما يتوجه للمستأجر عليه من الخدمة والعمل، فـ"على هذا" صفة مميزة لـ"الأجير"، فأجرته عليه ثابتة.
- افْتَدَيْتُ مِنه: أي: استنقذت ابني من الرجم بمائة شاة وأمة.
- وليدة: الشابة من العبيد.
- لأقضين بينكما بكتاب الله: أي: بحكمه؛ إذ ليس في الكتاب ذكر الرجم منصوصًا عليه.
- فاقض: "الفاء" جزاء شرط محذوف، أي: إذا اتَّفقت معه بما عرض عليك فاقض، فوضع كلمة التصديق موضع الشرط.
- تغريب عام: التغريب: التسفير سفرًا بعيدًا، ومعناه الشرعي: نفي المحدود عن بلده سنةً كاملةً.
- اغْدُ يا أُنَيس: اغد من: غدا يغدو -بالغين المعجمة- من: الغدو، وهو الذهاب بالغداة، وقيل: المراد مطلق الذهاب، أي: بكِّر إليها صباحًا.
- أُنَيس: تصغير "أنس"، وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، وقد عيَّنه صلى الله عليه وسلم لهذه
المهمة؛ لأنَّه من القبيلة التي سيقام على امرأة منهم الحد، والقبيلة تمكن من إقامة ذلك إذا كان المتولي إقامته منهم.
- ارْجُمْهَا: الرَّجْم هو: الرمي بالحجارة حتى الموت، وهو حد الزاني الثيب.
***
1049 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- خُذوا عنِّي: يشير إِلى أمر قد خفي شأنه، وأُبهم بيانه، فعلم سبيله، وظهر حكمه.
- لهنَّ سبيلًا: السبيل المشار إليه في الحديث هو المذكور في آية النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء: 15] وهو "البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب جلد مائة والرجم".
- البِكْر: التي لم تتزوج، فهي خلاف الثيب، رجلًا كان أو امرأة، والبكارة عذرة المرأة.
- البِكْر بالبكْرِ: مبتدأ، و"جلد مائة" خبره؛ أي: حد زنا البكر جلد مائة.
- الثيِّب: على وزن فيعل، اسم فاعل من:"ثاب"، ويستوي فيه الذكر والأنثى، وإطلاقه على المرأة أكثر؛ لأنَّها ترجع إِلى أهلها بوجه غير الأول، ولأنَّها توطأ وطأ بعد وطء، من قوله: ثاب إذا رجع.
- جلد: يقال: جلد يجلد جلدًا، فالجلد: الضرب بالسوط، سمي: جلدًا؛ لأنَّ
(1) مسلم (1690).
الضرب يقع على الجلد.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
جفاء الأعراب لبعدهم عن العلم، والأحكام، والآداب؛ حيث ناشد من لا ينطق عن الهوى: ألا يحكم إِلَاّ بكتاب الله تعالى.
2 -
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم يعنِّفه علما سوء أدبه معه.
3 -
أنَّ حد الزاني المحصن الرجم بالحجارة حتى يموت.
والمحصن: هو من جامع من قُبُل في نكاح صحيح، وهو حر مكلَّف.
4 -
أنَّ حد الزاني الذي لم يحصن مائة جلدة، وتغريب عام.
5 -
أنَّه لا يجوز أخذ العوض لتعطيل الحدود، وإن أُخِذت فهو، من أكل الأموال بالباطل.
6 -
أنَّ من أقدم على محرَّم جهلًا، أو نسيانًا، لا يؤدب، بل يعلم، فهذا افتدى الحد عن ابنه بمائة شاة ووليدة، ظانًّا إباحته وفائدته، فلم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ أن أعلمه بالحكم، وردَّ عليه شياهه، ووليدته.
7 -
وفي الحديث قاعدة شرعية عامة، وهي:"أنَّ من فعل شيئًا، لظنه وجود سببه، فتبيَّن عدم وجود السبب، فإن فعله لاغٍ لا يعتد به، ويرجع بما يترتَّب على ظنه الذي لم يتحقق".
8 -
قال الحافظ ابن حجر: والحق أنَّ الإذن بالتصرف مقيَّد بالعقود الصحيحة، قال ابن دقيق العيد: فما أخذ بالمعاوضة الفاسدة يجب رده، ولا يُمْلك.
9 -
أنَّه يجوز التوكيل في إثبات الحدود، واستيفائها.
10 -
أنَّ الحدود مرجعها إلى الإمام الأعظم، أو نائبه، ولا يجوز استيفاؤها من غيرهما.
11 -
استُدلَّ بالحديث على أنَّه يكفي لثبوت الحد وإقامته الاعتراف مرَّةً واحدةً، ويأتي ذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
12 -
قال ابن القيم في حكمة جلد الزاني: "وأما الزاني: فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء الشهوة يعم البدن".
13 -
والحكمة في رجم المحصَن، وجلد غير المحصن: أنَّ الأول قد تمَّت عليه النعمة بالزوجة، فإقدامه على الزنا يعد دليلاً على أنَّ الشر متأصل في نفسه، وأما غير المحصَن فلعلَّ داعي الشهوة غلبه على ذلك، فخُفِّفَ عنه الحد؛ مراعاة لحاله، وعذره.
14 -
جواز الحلف بالله تعالى لتأييد صحة المسائل الهامة.
15 -
فيه دليل على صحة استفتاء أهل العلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بعده من باب أولى، وعلى جواز سؤال المفضول مع وجود من هو أفضل منه.
16 -
وفي الحديث دليل على استعمال حسن الأدب مع أهل الفضل، والعلم، والكبار، وأنَّ ذلك من فقه النفس.
17 -
إنما سأل المترافعان أن يحكم بينهما بحكم الله تعالى، وهما يعلمان أنَّه لا يحكم إلَاّ بحكم الله؛ ليفصل بينهما بالحكم بالفصل، لا بالنصائح، والترغيب فيما هو الأرفق بهما، ذلك أنَّ للحاكم أن يفعل ذلك، ولكن برضا الخصمين.
* خلاف العلماء:
قوله: "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" يدل على الجمع بين حدَّي البكر والمحصن، وهي مسألة خلافية.
فقد ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- إلى: أنَّه لا يجمع بين الجلد والرجم، وإنما يكتفي بالرجم فقط، وهو المروي عن الخليفتين الراشدين عمر وعثمان رضي الله عنهما: وبه قال ابن مسعود، ومن التابعين الزهري، والنَّخعي، والأوزاعي وأبو ثور، ذلك أنَّ الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه رجم ماعزًا، والغامدية، وغيرهما، ولم يجلدهم، ولأنَّ الحدود إذا اجتمعت وفيها
قتل، سقط ما سواه.
وذهب إلى الجمع بين الجلد والرجم-: جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وأبيّ بن كعب وأبوذر، والحسن البصري، وداود، وهو رواية عن الإمام أحمد، أخذ بها الخرقي، والقاضي، وأبو الخطاب؛ أخذًا بهذا الحديث، وقد جَلَدَ ورَجَمَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولما سألة الشَّعبي عن وجه الجمع بين الحدَّين، قال: جلدت بكتاب الله، ورجمتُ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الأول هو الراجح، وعليه العمل، والله أعلم.
***
1050 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "أَتَى رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذلِكَ عَلَيْهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
1051 -
وَعنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَهُ: لَعلَّكَ قَبَّلْتَ، أوْ غَمَزْتَ، أوْ نَظَرْتَ، قَالَ: لَا، يَا رَسُولَ اللهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- قَبَّلْت: يقال: قبله تقبيلاً؛ أي: لثمه، والاسم: القُبلة بضم القاف، وجمعها:"قُبَل".
- غَمزت: يقال: غمزه بيده يغمزه غمزًا: جسَّه، ومنه غَمزَ الكبش بيده: إذا جسَّه؛ ليعرف سمنه.
(1) البخاري (5271)، مسلم (1691).
(2)
البخاري (6824).
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
أتى ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، واعترف على نفسه بالزنا، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم لعلَّه يرجع، فيتوب فيما بينه وبين ربه، ولكن قد جاء غاضبًا على نفسه، جازمًا على تطهيرها بالحد، فقصده من تلقاء وجهه مرَّة أخرى، فاعترف بالزنا أيضًا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه بالزنا أربع مرات، حينئذٍ استثبت النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله، فسأله: هل به من جنون؟ قال: لا، وسأل أهله عن عقله، فأثنوا عليه خيرًا، ثم سألة: هل هو محصن، أم بِكر لا يجب عليه الرجم؟ فأخبره أنَّه محصن، وسأله: لعلَّه لم يأت ما يوجب الحد، من لمس أو تقبيل، فصرح بحقيقة الزنا، فلما استثبت صلى الله عليه وسلم من كل ذلك، وتحقق من وجوب إقامة الحد، أمر أصحابه أن يذهبوا به فيرجموه، فخرجوا به إلى بقيع الغرقد، وهو مصلى الجنائز، فرجموه، فلما أحسَّ بحر الحجارة، طلبت النفس البشرية النجاة، ورغبت في الفرار من الموت، فهرب، فأدركوه بالحرة، فأجهزوا عليه حتى مات، رحمه الله، ورضي عنه.
2 -
أنَّ الزنا يثبت بالإقرار، كما يثبت بالشهادة، ويأتي: هل يكفي الإقرار مرَّة، أم لابد من الإقرار أربع مرات كما في هذا الحديث؟.
3 -
أنَّ المجنون لا يعتبر إقراره، ولا يثبت عليه الحد؛ لأنَّ شرط الحد التكليف؛ فقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:"أبك جنون؟ قال: لا".
4 -
أنه يجب على القاضي والمفتي التثبت في الأحكام، والسؤال بالتفصيل عما يجب الاستفسار عنه، مما يغيِّر الحكم في المسألة؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سأل المقر هنا عن عمله، حتى تبيَّن له أنَّه فعل حقيقة الزنا، وأعرض عنه لعله يرجع عن اعترافه، حتى كرر الإقرار، أربع مرات.
قال في "فتح الباري": فقد بالغ صلى الله عليه وسلم في الاستثبات غاية المبالغة، وهذا وقع بعد إقراره أربع مرات، فهو يؤكد اشتراط العدد.
5 -
أنَّ حد المحصَن الزاني رجمه بالحجارة حتى يموت، ولا يحفر له عند الرجم.
6 -
أنَّه لا يشترط في إقامة الحد حضور الإمام أو نائبه، والأولى حضور أحدهما؛ ليُؤمَن الحيْف، والتلاعب بحدود الله تعالى.
7 -
جواز إقامة الحدود في مصلى الجنائز، وكانوا في الأول يجعلون للصلاة على الجنائز مصلى خاصًّا.
8 -
أنَّ الحد كفارة للمعصية التي أقيم الحد لها، وهو إجماع، وقد جاء صريحًا في قوله عليه الصلاة والسلام:"من فعل شيئًا من ذلك، فعوقب به في الدنيا، فهو كفارته".
9 -
أنَّ إثم المعاصي يسقط بالتوبة النصوح، وهو إجماع المسلمين أيضًا.
10 -
إعراض الإمام والحاكم عن المقر على نفسه بالزنا، لعلَّه فعل ما لا يوجب الحد، فظنه موجبًا، والحدود تدرأ بالشُّبهات.
11 -
هذه المنقبة العظيمة لماعز رضي الله عنه إذْ جاء بنفسه؛ غضبًا لله تعالى وتطهيرًا لها، مع وجود الإعراض عنه، وتلقينه ما يسقط عنه الحد.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل يشترط الإقرار بالزنا أربع مرات، أو لا؟
ذهب الإمامان: أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء، ومنهم الحكم بن عتيبة، وابن أبي ليلى، إلى: أنَّه لابد من الإقرار أربع مرات، مستدلين بهذا الحديث الذي معنا، فإنَّه لم يُقِم النبي صلى الله عليه وسلم على "ماعز" الحد، إلَاّ بعد أن شهد على نفسه أربع مرات، وقياسًا على الشهادة بالزنا فلا يقبل إلَاّ أربعة شهود.
ولا يشترط أن تكون الإقرارات في مجالس، خلافًا للحنفية.
وذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر إلى: أنَّه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد؛ لحديث: "وَاغْدُ يَا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها" ولم يذكر إقرارات أربعة.
ورجم صلى الله عليه وسلم الجهينية، وإنما اعترفت واحدة.
وأجابوا عن حديث ماعز: بأنَّ الروايات في عدد الإقرارات مضطربة، فجاء أربع مرات، وجاء مرتين، أو ثلاثًا.
وأما القياس: فلا يستقيم؛ لأنَّ الإقرار في المال لابد فيه من عدلين، ولو أقرَّ على نفسه مرَّة واحدة كفت إجماعًا.
والقول الأخير من حيث الدليل وجيه، والقول الأول أحوط، والله أعلم.
***
1052 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ فِيْمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيْضَةٍ أنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كتَابِ اللهَ تَعَالَى عَلَا مَنْ زَنَى، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- آية الرجم: بالرفع، اسم "كان"، وخبرها الظرف.
وآية الرجم هي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم ".
- أحصن: مادة "حصن" تدل علها المناعة، فيقال: مكان حصين؛ أي: منيع، وأحصن الرجل: إذا وطىء في نكاح صحيح، واسم الفاعل من "أحصن" محصِن، بكسر الصاد، وأما فتحها فاسم مفعول، والمرأة المصانة في نكاح صحيح: مِحصَنة، بفتح الصاد على غير قياس، والمرأة سميت: محصنة في القرآن في أربع صفات: بالإسلام، والعفاف، والتزويج، والحرية.
- وَعَيْنَاهَا: وَعَي الحديث يعيه وعيًا: حفظه وجمعه.
(1) البخاري (6829)، مسلم (1691).
- عقَلْنَاهَا: عقل الشيء عقلاً: فهمه وتدبره.
- فريضة: بوزن فعيلة، قال في "النهاية": أصل الفرض: القطع، وهو عام في كل فرض مشروع من فرائض الله تعالى.
- البيِّنة: ما أبان الحق وأظهره من الأدلة.
- الحَبل: يقال: حبلت المرأة حبلاً؛ أي: حملت، فهي حبلى، والحَبَل بفتحتين: هو الحمل.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فاحشة الزنا من الكبائر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32] وكان حده في أول الحبس في البيت؛ لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] الآية، ثم نُسِخ بحديث عبادة الذي في الباب، ونسخُ القرآن بالسنة جائز على الصحيح؛ لأنَّ الكل من عند الله، وإن اختلف طريقه.
2 -
أنزل الله آية الرجم في كتابه، فكان نصها:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم ".
فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنَّ الله بعث محمَّدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها، ووعيناها، وعقلناها، فرَجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده.
قال ابن كثير في تفسيره: إنَّ آية الرجم كانت مكتوبة، فنسخت تلاوتها، وبقي حكمها معمولاً به.
3 -
الرجم لا يكون إلَاّ في حق المحصَن، والمحصن هو مَن وطىء زوجته -ولو ذمية- في نكاحٍ صحيحٍ، في قبُلها، والزوجان مكلَّفان حرَّان، فإن اختل شرط من هذه الشروط، فلا إحصان لواحد منهما.
4 -
أما الرجم: فهو الرمي بالحجارة حتى يموت المرجوم.
5 -
ذكر في الحديث أنَّ أدلة ثبوت الزنا ثلاثة:
الأول: أن يقرَّ به الزاني المكلف أربع مرات؛ لِما في الصحيحين من حديث ماعز أنَّه أقرَّ عند النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات قال:"اذهبوا به، فارجموه".
وأن يصرح بحقيقة وطء؛ لتزول الشبهة، وألا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، فلو رجع عن إقراره قبل رجمه، قُبِلَ رجوعه، وكُفَّ عنه.
الثاني: أن يشهد عليه أربعة رجال عدول، فيصفون الزنا بإيلاج ذكر الرجل الزاني في فرج المرأة المزني بها.
الثالث: أن تحبل المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، فهو ظاهر حديث الباب، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وقال: هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، والأشبه بأصول الشريعة، ومذهب أهل المدينة، فإنَّ الاحتمالات البارزة لا يلتفت إليها.
قال ابن القيم: وحكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد؛ اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
أما مذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد فلا حد عليها؛ لأنَّه يحتمل أنه من وطء أو شبهة، ولأنَّ عمر أُتِي بامرأة حامل فادعت أئَها مكرهة، فقال: خلّ سبيلها، ورُفعت إليه امرأة أخرى، فقالت: إنَّها امرأة ثقيلة، فلم تستيقظ حتى فرغ، وقد درأ عنها الحد.
وروي عن ابن مسعود وغيره أنَّهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد، فادرأ ما استطعت.
قال الموفق بن قدامة: لا خلاف أنَّ الحد يدرأ بالشُّبهات، وهي متحققة هنا. وهذا القول أرجح من الأول، والله أعلم.
6 -
في الحديث أنَّ الرجم وقع في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم، كما صحَّ في أحاديث أُخر.
7 -
كما يدل على خشية السلف على أحكام الله وفرائضه أن تنسى وتهمل بترك العمل بها، كما وقع الآن في بلدان المسلمين؛ من الإعراض عن أحكام الله تعالى إلى حكم الطاغوت.
8 -
أنَّ الأحكام الشرعية ليست محصورة في القرآن الكريم، بل قد أعطي النَّبي صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله معه من الحكمة، فيجب العمل به كله فكله من عند الله تعالى.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم من زنا بذات محرم عليه:
فذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: إلى أنَّ حكمه حكم غيره من الزناة في غير المحارم، يجلد البكر ويغرَّب، ويرجم الثيب.
وذلك لعموم الآية والخبر، وهو قول الحسن، وأبي ثور، وصاحبي أبي حنيفة.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد-: أنَّه يقتل مطلقًا، سواء كان بكرًا أو ثيبًا، وهي من مفردات المذهب.
قال في "شرح المفردات": إذا وطىء امرأة من محارمه المحرمات عليه أمه أو أخته بعقد نكاح، أو غيره، فحدّه القتل في رواية، وبهذا قال جابر بن زيد وإسحاق وأبو أيُّوب وابن أبي خيثمة.
لما روى أبو داود والترمذي وحسَّنه من حديث البراء بن عازب قال: لقيتُ خالي ومعه راية، فقلتُ: إلى أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه، وآخذ ماله".
ولما روى الترمذي وابن ماجه والحاكم وأحمد وغيرهم عن ابن عباس؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على ذات محرم، فاقتلوه".
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكَر، وقال الألباني: ضعيف.
وذهب ابن حزم إلى أنَّ: من وطىء امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد، فإنَّه يقتل؛ لحديث البراء الذي ساقه ابن حزم من عدة طرق، وصحح بعضَها، أما من عداها من المحارم فحكم الزنا فيها والعقد عليها كغيرها في الحدِّ.
وحديث البراء جاء بطرق بعض رجالها رجال الصحيح، ولكن الحديث مختلف فيه، قال المنذري: اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، فروي عنه أنَّه قال: مرَّ بي عمي، وروي عنه قال: مرَّ بي خالي أبو بردة، والحديث إذا اختلف فهو شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، فالأرجح مذهب الجمهور أنَّ حد الزاني بذوات المحرم هو حد الزاني بغيرها، والله أعلم.
***
1053 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، ولَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- زَنَت: يُقَال: زنا يزني زنا، والزنا هو: الفجور، والزنا بالقصر في لغة أهل الحجاز، وبالمد "زناء" في لغة أهل نجد.
قال في "التعريفات": الزناء: الوطء في قبل، خالٍ عَن مِلك وشبهة.
- الأمة: هي الرقيقة.
- لا يُثَرِّب عليها: بضم الياء، وتشديد الراء، يقال: ثرَّب عليها يثرب تثريبًا: لامها، وعيَّرها بذنبها، وقبَّح عليها فعلها، والمعنى: لا يعاتبها، ولا يلومها، ولا يعنِّفها بعد أن طهَّرها بالحد.
- مِنْ شَعر: الشعر زوائد خيطية تظهر على جلد الإنسان وغيره، فما على الماعز يسمى شعرًا، وما على الضأن فهو صوف، وما على الإبل فهو وبر.
…
(1) البخاري (2152)، مسلم (1703).
1054 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
الحديث بتمامه: "أنَّ جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجَرت، فقال: يا علي، انطلق، فأقم عليها الحد، قال علي: فانطلقت، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فقال: يا علي، أفرغت؟ قلتُ: أتيتها ودمها يسيل، فهي حديثة عهد بنفاس، فقال دعها: حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". فقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والبيهقي، وغيرهم عن عبد الأعلى الثعلبي عن أبي جميلة، عن علي رضي الله عنه.
قال الألباني: وهذا إسنادٌ حسنٌ، فأبو جميلة روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، والثعلبي فيه ضعفٌ، لكنه تابعه أبو جميلة، وهو مجهول.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديثان يدلان على أنَّ للسيد إقامة الحد على مواليه؛ وذلك حينما يثبت لديه فعل الفاحشة بإقرار، أو شهادة كافية.
وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.
2 -
أما الإمام مالك: فيرى أنَّ إقامة الحد على الرقيق مردودة إلى الإمام كبقية الرعية.
(1) أبو داود (4473)، مسلم (1705).
3 -
ويدل الحديث على أنَّ السيد، إذا أقام الحد على موليه؛ سواء كان ذكرًا، أو أنثى -فلا يثرِّب عليه، ويعيِّره، ويعيبه، لأنَّ الكلام القاسي هو تعزير بذاته، فلا يجمع عليه بين التأديب الحسِّي والمعنوي، ويرجو من الله تعالى أنَّه مع الإغضاء عن تأنيبه يهديه الله، أما تأنيبه فربَّما يحمله على العناد والإصرار.
4 -
ويدل الحديث على أنَّ السيد يؤدب أمته مرَّتين، فإذا لم تنته، وأصرَّت، عُلِمَ أنَّ هذا خلق قبيح عند تلك الأمة، فلا يحل له أن يبقيها عنده، بل يجب عليه إبعادها عنه، ولو بأبخس الأثمان؛ فإنَّ إمساك الأمة بعد تكرر الفاحشة منها والتأديب عليها، يكون من نوع الدياثة.
5 -
الأمر ببيع الأمة الزانية دليل على أنَّ الزنا فيها، أو في العبد عيب يرد به المبيع، وأنَّه يجب على البائع أن يخبر المشتري بهذا العيب، وإلَاّ فقد غشَّه، وأخفى عنه العيب.
***
1055 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: "أَنَّ امْرَاةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولِيَّهَا، فَقَالَ: أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ، فَأْتِنِي بِهَا، فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، تُمَّ أُمِرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ! وَقَدْ زَنَتْ؟! فَقَال: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تَعَالَى". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- جُهَيْنَة: قَبِيلة جهينة بن زيد قبائل كثيرة، من قضاعة من القبائل القحطانية، منازلهم كانت ولا زالت على ساحل البحر الأحمر، وهي من الجزء الغربي من المملكة العربية السعودية، وعاصمة حاضرتهم بلدة أملج، بلدة ساحلية غرب المدينة المنورة.
- حُبْلَى: الحامل في بطنها جنينها، جمعها:"حبالى".
- فَشُكَّت عليها ثيابها: بضم الشين، مبني للمجهول؛ أي: شدَّت، وربطت عليها ثيابها؛ لئلا تنكف.
- لوَسعتهم: يقال: وسع يسع سعة؛ بمعنى: أحاطت بهم، وشملتهم.
- جادت: من جاد يجود جودًا، "وجادت بنفسها"؛ أي: بذلتها، وسمحت بها.
(1) مسلم (1696).
1056 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: "رَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلاً مِنَ اليَهُودِ، وَامْرَأةً". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
وقِصَّةُ رَجْمِ اليَهُودِيَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (2).
ــ
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
ثبوت حكم رجم الزاني المحصن؛ بأن يرجم بالحجارة حتى يموت.
2 -
أن اعتراف العاقل مرَّة يثبت حكم الحد عليه.
3 -
ظاهر الحديث أنَّ الحكم يثبت بالاعتراف مرَّة واحدة، ولو لم يكرره أربعًا، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
4 -
ويشترط في استيفاء الحد أن يؤمن الحَيف، فلا يتعدى إلى غيره ممن عليه الحد، فإذا وجب الحد على امرأة حامل، أو حائل فحملت، لم ترجم حتى تضع الولد، وتسقيه اللَّبَأَ؛ لأنَّ رجم الحامل يتعدَّى إلى الجنين، فصار الحد فيه قتل لغيرها، وهو حرام، إذ هو جناية على بريء.
5 -
مشروعية شد ثياب المرأة عليها عند إرادة تنفيذ الحد عليها؛ خشية أن تنكشف عورتها.
6 -
وجوب الصلاة على المقتول حدًّا، وجوازها من الإمام، كبقية موتى المسلمين، فليست الشهادة تسقط الصلاة عنها، وليست من العصاة الذين يردع غيرهم؟ بترك الصلاة عليهم، وهما:"الغال وقاتل نفسه".
(1) مسلم (1701).
(2)
البخاري (6841)، مسلم (1699).
7 -
إقامة الحد كفارة لذنب صاحبه، وهو إجماع المسلمين، فقد ورد أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عظم أمر هذه التائبة، بأنَّها لو قُسمَتْ توبتها على سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهُم، وَلَعَلَّ العدد غير مراد، وأنَّ ميدان توبتها أوسع من هذا العدد.
8 -
قال العلماء: إنَّ الأفضل لمن أتى ذنبًا، أن يتوب فيما بينه وبين الله تعالى، ويجعلها توبة نصوحًا، ويكثر من الطاعات، وفعل الخيرات، ويبتعد عن أمكنة الشر، وقرناء السوء.
أما اعتراف هذه الصحابية: فهو غضب شديد على نفسها التي أمرتها بالسوء، ورغبة في سرعة تكفير ذنبها، فهذا هو الذي حملها على أعترافها، وتسليمها نفسها لتطهيرها بالحد.
9 -
أنَّ إثم المعصية يسقط بالتوبة النصوح، وهو إجماع المسلمين، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل يشترط لثبوت حد الزنا تكرار الاعتراف أربع مرات، أم يكفي الاعتراف مرَّة واحدة؟
فذهب إلى الأول: الإمامان: أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء، مستدلين على ذلك: بما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه: إني زنيتُ، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إِني زنيتُ، فأعرض عنه، حتى فعل ذلك أربع مرات، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به، فارجموه".
وذهب الإمامان: مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر إلى: أنَّه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد؛ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَاغْد يا أنيس، إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجمت".
ولحديث الباب الذي معنا في قصة المرأة الجهنية.
وبناءً على خطورة الأمر، وأنَّ الحدود تدرأ بالشُّبهات، وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن المعترفين على أنفسهم وإمهالهم المرة، فإنه دليل على قوَّة القول باشتراط الإقرار أربع مرات، ومراعاة الخلاف لا تخلو من زيادة فائدة.
واختلفوا في اشتراط الإسلام للإحصان:
فذهب الشافعي وأحمد إلى: عدم اشتراطه، ويدل عليه الحديث رقم (1056).
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى: أنَّ الإسلام شرط في الإحصان، وأجابا عن هذه القصة بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما رجم اليهوديين بحكم التوراة.
والقول الأول أصح، فالتوراة إنما نشرها النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليهم الحجة من كتابهم، وإلَاّ فإنَّه صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلَاّ بما أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم.
***
1057 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنهما قَالَ: "كانَ فِي أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبُثَ بِأَمَةٍ مِنْ إِمَائهِمْ، فَذَكرَ ذلِكَ سَعِيدٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اضرِبُوهُ حَدَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، انَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ: خُذُوا عِثْكَالاً فِيهِ مِائهٌ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنْ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال المصنف: رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وإسناده حسن، لكن اختلفوا في وصله وإرساله، قال البيهقي: المحفوظ أنَّه مرسل، وأخرجه أحمد من حديث سعيد بن سعد موصولاً، وهذه ليست بعلة قادحة، فروايته موصولاً زيادة من ثقة وهي مقبولة.
وقال الحافظ في "التلخيص": طرق هذا الحديث مدارها على أبي أمامة، ولكن أبا أمامة قد حملها عن جماعة من الصحابة. قال ابن عبد الهادي: إسناده جيِّد.
* مفردات الحديث:
- رُوَيْجِل: تصغير: "رجُل"، والتصغير لعدة معان:
أحدها: التحقير، وهو المراد هنا.
(1) أحمد (5/ 222)، النسائي في الكبرى (4/ 313) ابن ماجه (2574).
فخبُث بأمة: خبث بالمرأة -بالخاء المعجمة، فموحدة- يخبث خبثًا، من باب قتل؛ أي: زنا بالأمة.
- عِثْكَالاً: بكسر العين، وسكون الثاء المثلثة، بزنة "قرطاس"، هو عذق النخلة، أو العذق الذي يكون عليه أغصان دقيقة.
- شِمْرَاخ: -بالشين المعجمة، وسكون الميم، فراء، ثم ألف، آخره خاء معجمة- هو غصن دقيق في أصل العِثْكال، جمعه "شماريخ".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ حد الزاني البكر هو جلد مائة جلدة؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
وأما تغريب الزاني البكر عامًا: فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البِكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة".
2 -
فيه دليل على أنَّ الإمام ينبغي أن يراقب حال المجلود، ويحافظ على حياته، ومضاعفة الحد عليه.
3 -
أنَّ الحد لا يؤخر لمرض إلَاّ لمدة يزول فيها، أو يكون الحدّ يتعدى إلى غير المحدود كالحبلى، كما في قصة الغامدية.
4 -
تحتم إقامة الحد، ولو على ضعيف البدن بقدر ما يستطيع، فإنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم لما أخبروه عن ضعف بدن "الرويجل" الزاني، أمرهم أن يضربوه بعذق فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، إقامة لصورة حد الله تعالى بقدر المستطاع، فدلَّ على أنَّ المريض والكبير والعاجز ممن لا يطيق إقامة الحد عليه بالمعتاد، يقام عليه بما يتحمله مجموعًا دفعة واحدة.
قال ابن كثير: إنَّ أيوب عليه السلام غضب على زوجته، وحلف إن شفاه الله تعالى، ليضربنَّها مائة جلدة، فلما شفاه الله تعالى، قال الله تعالى له:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأخذ ضغثًا -وهو الشِّمْراخ- فيه مائة قضيب، أو قبضة من أعواد دقائق، فضربها به ضربة واحدة، فبرَّت يمينه، وخرج من حِنثه.
5 -
إذا زنى الحر بأمة، أو بالعكس؛ بأن زنت الحرة بعبد، فكل واحد منهما له حكمه في الحد.
6 -
وفي الحديث: أنَّ المخارج المؤدية إلى أعمال مباحة، فإنه يجوز ارتكابها، وأنَّها لا تُعد من الحِيل المحرَّمة المفضية إلى تعاطي المعاملات المحرمة.
***
1058 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوا البَهِيمَةَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَاّ أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
رجال الحديث موثقون، إلَاّ أنَّ فيه اختلافًا.
والحديث اشتمل على فقرتين:
الأولى: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل، والمفعول به".
قال الألباني: الحديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وكلهم من طريق عبد العزيز بن محمَّد.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي، وهو كما قال، وقد تابعه عباد بن منصور عن عكرمة به، وأخرجه أحمد، والبيهقي من طرق عن عباد به.
الفقرة الثانية: "ومن وجدتموه وقع على بهيمة، فاقتلوه، واقتلوا البهيمة".
قال الألباني: الحديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس به.
(1) أحمد (1/ 300)، أبو داود (4462)، الترمذي (1456)، النسائي (4/ 322)، ابن ماجه (1561).
* ما يؤخذ من الحديث:
هذه جمل من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- عن فاحشة اللواط:
1 -
مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، فليس في المعاصي أعظم مفسدة منها، وهي تلي مفسدة الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل.
2 -
لم يبتل الله سبحانه بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدًا من العالمين، قال تعالى:{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف]، وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدًا غيرهم، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)} [هود].
فجمع عليهم من أنواع العقوبات، بين الإهلاك، وقلب الديار عليهم، والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، فنكل بهم نكالاً لم ينكله أمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة.
3 -
ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط" ولم يجيء عنه صلى الله عليه وسلم لعنه الزاني ثلاث مرات في حديث واحد.
*خلاف العلماء:
قال ابن القيم: هل عقوبة اللواط أغلظ عقوبة من الزنا، أو الزنا أغلظ؟ على ثلاثة أقوال:
فذهب الإمام مالك إلى: أنَّ عقوبة اللواط أغلظ من عقوبة الزنا، وهو رواية عن الإمام الشافعي، والإمام أحمد، فعقوبته القتل، فاعلاً كان، أو مفعولاً به.
وهذا قول أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد رضي الله عنهم وإنما اختلفوا في صفة قتله.
وهو قول عبد الله بن معمر، والزهري، وربيعة، وإسحاق ابن راهوية.
وذهب الإمامان: الشافعي، وأحمد، إلى-: أنَّ عقوبته كعقوبة الزاني؛ سواء كان فاعلاً، أو مفعولاً به.
وهذا قول عطاء، والحسن، وسعيد بن المسيب، والنَّخعي، وقتادة، والأوزاعي؛ لما روى البيهقي من حديث أبي موسى أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان".
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى: أنَّ عقوبته دون عقوبة الزنا، وهي التعزير.
قال أصحاب القول الأول، وهم جمهور الأمة: إنَّه ليس في المعاصي أعظم مفسدة من هذه المعصية، وإنَّ الله تعالى جمع على أهلها من أنواع العقوبات ما لم ينكل به أمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة.
وإنَّ الله تعالى جعل حد القاتل إلى خيرة الولي، بينما حتم قتل اللوطي حدًّا، وأجمع على ذلك الصحابة، ودلَّت عليه السنة الصحيحة الصريحة، التي عمل بها الصحابة، والخلفاء الراشدون، رضي الله عنهم.
وإنما اختلف الصحابة في صفة قتله: فقال علي بن أبي طالب: أرى أن يحرق بالنار، وقال ابن عباس: يرمى من شاهق، ثم يتبع بالحجارة.
أما الذين ذهبوا إلى أنَّ عقوبة اللواط دون عقوبة الزنا، وإنما هو عقوبته التعزير -فيقولون: إنَّه معصية لم يقدر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها حدًّا مقدرًا، فكان فيه التعزير، ولأنَّه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، والقواعد الشرعية أنَّ المعصية إذا كان الوازع منها طبيعيًّا، اكتفي بذلك الوازع عن الحد، أما إذا كان في الطباع ميل إليها جعل فيها الحد؛ لذا جعل الله الحد من الزنا، والسرقة، والسكر، دون أكل الميتة.
قُلتُ: وهذه تعللات لا تقوم بجانب النصوص، وإجماع الصحابة.
1059 -
وَعَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبا بكرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغرَّبَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَاّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه الترمذي، والبيهقي من طرق عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به.
قال الترمذي: حديث غريب، رواه غير واحد عن عبد الله بن إدريس، فرفعوه، وروى بعضهم عن عبد الله بن إدريس هذا الحديث عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر:"أنَّ أبا بكر ضرب وغرب، وأنَّ عمر ضرب وغرب".
قلتُ: الحديث صحيح الإسنادة؛ لأنَّ عبد الله بن إدريس الأزدي ثقة محتج به في الصحيحين، وقد رواه عنه الجماعة مرفوعًا، ومن رواه عنه موقوفًا لم يخالف رواية الجماعة؛ فإنَّ في رواية الجماعة زيادة، والزيادة مقبولة، لاسيَّما إذا كانت من الجماعة، وقد صحَّح الحديث أيضًا: ابن القطان، والحاكم، وقال: على شرط الشيخين.
* مفردات الحديث:
- غرَّب: بفتح الغين، وتشديد الراء، ثم باء موحدة، يقال: غرَّب يغرِّب تغريبًا: أبعده عن وطنه، والمعنى: حكم عليه القاضي بالنفي عن بلده لمدة سنة.
(1) الترمذي (1438).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أنَّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما نفذا في خلافتهما سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فضربا الزاني البكر، فجلداه مائة جلدة، كما في الآية الكريمة:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
2 -
وأنَّ الخليفتين الراشدين غرَّبا الزاني البكر عن بلده إلى بلد آخر عامًا كاملاً، كما صحَّت السنة بذلك ..
3 -
فهذا دليل على بقاء هذا الحد، وأنَّه لم يُنسَخ ولم يبدل، بل نفذه هذان الإمامان الكبيران رضي الله عنهما وأرضاهما.
قال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبي بكر، وعمر". رواه ابن ماجه، والحاكم، والترمذي وحسَّنه.
***
1060 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجالِ، وَالمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتكُمْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
*مفردات الحديث:
- المُخَنثَّيِنَ: جمع "مُخَنَّث"، بالخاء المعجمة، فنون، فمثلثة، يقال: خنث الرجل يخنث خنثًا أي: صار خنِثًا، والخَنِث: من فيه لينٌ، وتكسُّرٌ، وَتَثَنٍّ، وتشبُّهٌ بالنساء في زيه، وحركاته، وكلامه.
- المتَرَجِّلات: المتشبهات بالرجال، هكذا ورد تفسيره في حديث آخر، أخرجه أبو داود، والمراد: أنَّهنَّ يتشبهن بالرجال بخصائصهم: من الحركات، والكلام، واللبس، والزي، وغير ذلك من الأمور الخاصة بالرجال.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
المتخنثون من الرجال هم الذين يتشبهون بالنساء في حركاتهم، ومشيتهم، وتكسرهم، ولباسهم، وغير ذلك من الأمور المختصة بالنساء.
ووجد فئة من الشباب قبيحة، اتَّخذت خصائص النساء في كل شيء، فيجب ردعهم؛ لئلا يستشري فسادهم في أنفسهم، وفي غيرهم، فهذه طائفة من الشباب المائع الماجن المتأنث، يسمون:"الجنس الثالث"، ظهر منهم أعمال، وحالات يندى لها الجبين، فهؤلاء يجب التشديد في حقهم، وقطع دابرهم.
2 -
أما المترجلات من النساء: فهنَّ المتشبهات بالرجال بكلامهن وحركاتهن،
(1) البخاري (6834).
وأعمالهن، وغير ذلك من الأمور الخاصة بالرجال.
وهدذه الظاهرة برزت من مزاحمة الفتيات بالمكاتب، والدوائر، والشركات، وغير ذلك.
3 -
فالصنفان لعنهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، لأنَّهم حاولوا تغيير خلقة الله تعالى، التي أرادها في خلقه، فالله تبارك وتعالى خلق كل خَلْقٍ على هيئة وشكل، يناسب طبيعته، وعمله الذي خُلِق من أجله، فعكس هذا الأمر هو تغيير لخلق الله، وفطرته التي فطر الناس عليها.
4 -
الحديث يدل على أنَّ تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال -أنَّه من المحرَّمات، ومن كبائر الذنوب؛ لأنَّ اللَّعنة لا تلحق إلَاّ صاحب كبيرة.
5 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند هذا الحديث:
الأصل في جميع الأمور العادية الإباحة، فلا يحرم منها إلَاّ ما حرَّم الله ورسوله: إما لذاته كالمغصوب، وإما لخبث مكسبه، وإما لتخصيص الحل فيه بأحد المصنفين، فالذَّهب والفضة والحرير خاص للنساء، وأما تحريم تشبه الرجال بالنساء، وبالعكس فهو عامٌّ في اللباس، وغيره.
***
1061 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْفَعُوا الحُدُودَ، مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (1).
وأَخرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِلَفْظِ:"ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ، مَا اسْتَطَعْتُمْ"، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا (2).
وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ عِليٍّ رضي الله عنه مِن قَوْلهِ بلَفْظِ: "ادْرَءُو الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"(3).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
أما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن ماجه من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة به، ومن هذا الوجه رواه أبو يعلى في "مسنده"، قال في "الزوائد": هذا إسناد ضعيف، فإبراهيم بن الفضل المخزومي ضعَّفه أحمد، وابن معين، والبخاري، والنسائي.
أما حديث عائشة: فأخرجه الترمذي، وفيه يزيد بن زياد متروك.
وأما حديث علي: قال البيهقي: في إسناده ضعف، وعلَّته مختار التمار.
(1) ابن ماجه (2545).
(2)
الترمذي (1424)، الحاكم (4/ 384).
(3)
البيهقي (8/ 238).
قال البخاري: منكر الحديث.
قال ابن حجر في "التلخيص": قد روي عن غير واحد من الصحابة أنَّهم قالوا ذلك، ورواه ابن حزم في الإيصال عن عمر بإسناد صحيح، وفي مسند أبي حنيفة للحارثي من طريق مقسم عن ابن عباس مرفوعًا.
* مفردات الحديث:
- ادرءوا: من: درأ يدرء درءًا أي: دفعه، فالدرء: الدفع.
والمعنى: التمسوا الأعذار مما يسقط الحد.
- الشبهات: يقال: اشتبه الأمر: خفي والتبس، فالشبهة: التباس للأمر بالثبوت وعدمه، جمعه:"شُبَه وشُبُهَات".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة؛ لِما اتَّصف به جلَّ وعلا من الستر على عباده، والعفو، والمغفرة عن ذنوبهم، وخطاياهم.
2 -
ومن هذا ما جاء في هذا الحديث الذي جاء من طرق مرفوعة وموقوفة، يعضد بعضها بعضًا، لتدل على أصل هذا المعنى، وهو معنى دلَّ عليه كرم الله تعالى، وصفحه عن عباده.
3 -
فحدود الله تعالى، وحقوقه تدرأ وتدفع بالشبهات، ما وجد إلى درئها ودفعها سبيل، من الأمور التي يجوز دفعها، ويمكن درؤها؛ كأن تدعي المرأة الإكراه، أو أنَّها وطئت وهي نائمة، ونحو ذلك، فحينئذٍ يقبل قولها، ويدفع عنها الحد، ولا تكلف البينة فيما دفعت به، وزعمته.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنَّ الحدود تدرأ بالشبهات.
وقال الموفق: ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّه لا حد مع الشبهة؛ لأنَّ الحدود تدرأ بالشُّبهات.
قال الشوكاني عن حديث الباب: الحديث يصلح للاحتجاج على مشروعية درء الحدود بالشُّبهات المحتملة، لا مطلق الشبهة.
4 -
أما حقوق الخلق: فهي مبنية على الشح والتقصي، فالمقر بحق آدمي لا يقبل رجوعه عن إقراره، والقرينة على صحة الدعوى يعمل بها، ويحاول إظهار الحق ممن أنكره
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند هذا الحديث: يدل الحديث على أنَّ الحدود تدرأ بالشُّبهات، فإذا اشتبه أمر الإنسان: هل فعل ما يوجب الحد، أم لا؟ وهل هو عالم، أو جاهل؟ وهل هو متأول، أو معتقد حِلَّه، أم لا؟ دُرئت عنه العقوبة؛ لأنَّنا لم نتحقق موجبًا، فالخطأ في درء العقوبة، أهون من الخطأ في إيقاع العقوبة على من لم يفعل سببها؛ فإنَّ رحمة الله تعالى سبقت غضبه، وشريعته مبنية على اليسر والسهولة، وهذا في الاحتمالات المعتبرة، أما الاحتمالات التي تشبه الوهم والخيال، فلا عبرة بها.
وقال: وفي الحديث دليل على أصل هو: أنَّه إذا تعارضت مفسدتان، تحقيقًا أو احتمالاً، راعينا المفسدة الكبرى، فدفعناها؛ تخفيفًا للشر، والله أعلم.
***
1062 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا هَذِهِ القَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِهَا، فَلْيَسْتَتِرْ بسِتْرِ اللهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كتَابَ اللهَ تَعَالَى". رَوَاهُ الحَاكِمُ.
وَهُوَ فِي "المُوطَّإِ" مِنْ مَرَاسِيلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (1).
ــ
* درجة الحديث.
الحديث صحيح.
قال المصنف: رواه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين.
وهو في "الموطأ" من مراسيل زيد بن أسلم، قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث أُسْنِدَ بِوجه من الوجوه.
ومراد ابن عبد البر بذلك: حديث مالك، وأما الحاكم: فرواه مسندًا عن أنس بن عياض عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذَّهبي، وصحَّحه ابن السكن.
* مفردات الحديث:
- القاذورات: مفرده: "قاذورة"، يقال: قذر الشيء -وهو مثلث العين- ومصدره: قذرًا وقذارة، وهو ضد النظيف، يقال: شيء قذْر بسكون العين وتثليث حركتها، والقاذورة لها عدة معانٍ؛ منها: الفاحشة، وهو المراد هنا.
- ألَمَّ: يقال: لمّ الشيء يلمّه لمًّا؛ أي: جمعه وضمه، وألم الرجل بالذنب فعله.
(1) الحاكم (4/ 272)، مالك (2/ 825).
- يُبْدِ: من: بدا الأمر يبدو بَدْوًا وبُدُوًّا بمعنى: ظهر وبان.
- صفحته: حقيقة الصفحة: جانب الوجه، فلكل وجه صفحتان هما الخدان، بمعنى: أظهر ذنبه وأبانه.
- كتاب الله: جمعه: "كتب" -بضم العين وسكونها- وهو مصدر سمي به المكتوب؛ لجمعه أحكام الله، والمراد هنا: حكم الله الذي لا يخالف التنزيل.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
دلَّ الحديث على رغبة الشارع الحكيم من المذنب أن يستر نفسه، ويتوب عن الذنب فيما بينه وبين ربه، والله سبحانه غفور رحيم:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].
2 -
وكان صلى الله عليه وسلم يُعرِض عن المقرين، والمعترفين عنده بذنوبهم؛ كقصة ماعز بن مالك، يريد بَذلك صلى الله عليه وسلم أن تكون توبتهم فيما بينهم وبين ربهم، فيقول: لعلَّك قبَّلْت، لعلَّك غمزت، لعلَّك نظرت.
3 -
أما إذا رُفِع أمر من أتى بفاحشة، وأبان عن حقيقة حالة إلى ولي أمره، فإنَّه حينئذٍ يجب على ولي الأمر إقامة ذلك الحد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"من يُبْدِ لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله عز وجل".
وكما قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية حنيما شفع للسارق الذي سرق رداءه: "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟! " وقال صلى الله عليه وسلم منكرًا على أسامة بن زيد: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! ".
4 -
أما حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم": فقد قال الإمام الشافعي: سمعت من يفسِّر هذا الحديث، فيقول: يتجاوز للرجل من ذوي الهيئات عثرته ما لم تكن حدًّا.
قال الماوردي في تفسير العثرات: فيها وجهان:
أحدهما: الصغائر.
الثاني: أول معصية زلَّ فيها مطيع.
والمتعارف عند الناس أنَّ ذوي الهيئات هم أصحاب الخصال الحميدة، وذوي المروءات، وكرائم الأخلاق.
والمراد بقوله: "إلَاّ الحدود"؛ أي: فإنَّها لا تُقَالُ، بل تقام على ذي الهيئة، وغيره بعد الرفع إلى الإمام.
***