المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الجهاد مقدمة الجهاد: بكسر الجيم، أصله لغة: المشقة، يقال: جاهدت جهادًا؛ - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٦

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌كتاب الجهاد مقدمة الجهاد: بكسر الجيم، أصله لغة: المشقة، يقال: جاهدت جهادًا؛

‌كتاب الجهاد

مقدمة

الجهاد: بكسر الجيم، أصله لغة: المشقة، يقال: جاهدت جهادًا؛ أي: بلغت المشقة، فهو مصدر: جاهدت العدو، إذا قابلته في تحمّل الجهاد، إذا بذل كل منهما جهده، وطاقته في دفع صاحبه، ثم غلب في الإسلام على قتال الكفار.

وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفَّار، والبغاة، وقطَّاع الطرق.

ومشروعيته: بالكتاب، والسنة، والإجماع.

وقد تكاثرت النصوص في الأمر به، والحث عليه، والترغيب فيه، وسيأتي شيء منها إن شاء الله تعالى.

وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين، وإلَاّ أثموا جميعًا، مع العلم والقدرة، إلَاّ في ثلاثة مواضع: فيكون فرض عين:

الأول: إذا تقابل الفريقان، تعيَّن وحرم الانصراف؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16].

الثاني: إذا نزل العدو بالبلد وحاصرها، تعيَّنت مقاومته.

الثالث: إذا استنفر الإمام الناس استنفارًا عامًّا، أو خصَّ واحدًا بعينه؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38].

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم، فانفروا".

ص: 331

* شبهة وردها:

ذهب بعض الغربيين المنصرين إلى أنَّ الإسلام قام على العنف والعسف، وانتشر بالسيف، واعتمد على القسر والإكراه في الدخول فيه.

والجواب أن نقول: هذا زعم خاطىء، وهو ناشىء إما عن جهل بالدين الإسلامي، وفتوحاته، وغزواته، ونصوصه.

وإما ناشىء عن عصبية، وعداء الدين.

والحق أنَّ الدين الإسلامي قام على الدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، ودعا إليه، فإنَّ الإسلام مشتق من السلام.

ومن تتبع نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، التي منها وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء جيوشه، ومنها سيرته صلى الله عليه وسلم في الغزوات، علِم أنَّ الإسلام جاء بالحكمة، والرحمة، والسلام، والوئام، وأنَّه جاء بالإصلاح، لا بالفساد.

اقرأ قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].

واقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس].

واقرأ قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة]، وقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.

وأما السنة: فكل أعمال النبي صلى الله عليه وسلم فى الحروب ووصاياه لقواده ناطقةٌ بذلك.

روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميرًا على سرية، أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر

ص: 332

بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا".

"ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان"[متَّفق عليه].

وقال صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع".

وقال: "ولا تقتلوا شيخًا فانيًا".

وأوصى أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان، حين بعثه أميرًا على ربع من أرباع الشام، بقوله: "إني موصيك بعشر خلال:

1 -

لا تقتل المرأة.

2 -

ولا صبيًّا.

3 -

ولا كبيرًا هَرِمًا.

4 -

ولا تقطع شجرًا مثمرًا.

5 -

ولا تخرب عامرًا.

6 -

ولا تعقرن شاة.

7 -

ولا بعيرًا إلَاّ لمأكلة.

8 -

ولا تقطعن نحْلاً، ولا تحرقه.

9 -

ولا تغلل.

10 -

ولا تجبن"، رواه مالك في "الموطأ".

وقال الأنباري عند قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]: معنى الآية: ليس الدين ما يدين به من الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، فتنطوي عليه الضمائر، إنَّما الدين هو المعتقد في القلب.

ومن تأمَّل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: تبيَّن له أنَّه لم يُكرِه على دينه قط، أو أنَّه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته، لم ينقض عهده.

بل أمره الله تعالى أن يفى لهم بِعهدهم ما استقاموا له؛ كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] ولما قدم المدينة، صالح اليهود، وأقرَّهم على دينهم.

فلما حاربوه، ونقضوا عهده، غزاهم في ديارهم، وكان كفَّار قريش هم الذين يغزونه، كما قصدوه يوم أُحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضًا هم جاؤوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه، لم يقاتلهم.

ص: 333

والمقصود أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُكره أحدًا على الدخول في دينه ألبتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا، وطوعًا.

فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته، لما تبيَّن لهم الهدى، وأنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا.

وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]: أي: لا تُكْرهُوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنَّه بيِّن واضح، جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه.

بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بيِّنة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنَّه لا يفيده الدخول في الدين مكرَهًا مقسورًا.

وكلام العلماء المحققين في هذا الباب كثير، وهو الذي يفهم من روح الإسلام، ومبادئه، ومقاصده.

ولكن أعداء الإسلام يأبون إلَاّ أن يصفوه بما يشوِّهه، ويشينه؛ للتضليل والتنفير.

وغزواته صلى الله عليه وسلم التي فتحت القلوب والعقول، ومعاملاته، ومعاهداته، ودعوته بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن -تدحض تلك المزاعم، فإنَّ ربَّك أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين.

وقد بيَّن ذلك ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"؛ حيث قال:

فصل

في ترتيب سياق هدْيه مع الكفار والمنافقين من حين بُعِث إلى حين لقي ربه عز وجل

أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك

ص: 334

أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بالتبليغ.

ثم نزل عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر]، فنبأه بقوله:{اقْرَأْ} ، وأرسله بـ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} ، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال، ويُؤمر بالكفِّ، والصبر، والصفح.

ثم أذن له في الهجرة، وأُذن له أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله، ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. اهـ.

قلتُ: ويعلم من المرحلة الأخيرة في القتال وجوب قتال الكفار، ومهاجمتهم بعد دعوتهم، والإعذار إليهم، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وأنَّ قتال الكفار في الإسلام ليس مدافعة فقط، بل هو حركة جهادية حتى يكون الدين كله لله، نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، إنه قوي عزيز.

قال العلماء: ويطلق الجهاد على: مجاهدة النفس، والشيطان، والفُسَّاق.

فأما مجاهدة النفس: فتكون على تعلم أمور الدين، ثم العمل بها، ثم تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، ومما يزينه من الشَّهوات. وأما مجاهدة الفسَّاق: فباليد، واللسان، ثم بالقلب.

أما فضل الجهاد: فيكفي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله ذروة سنام الدين، وذروة السنام هي أشرف، وأعلى شيء في الموصوف.

ومن تدبَّر آيات القرآن الكريم في الجهاد علِم مقامه، وفضله، وعلو رتبته في العبادات.

وكذلك طفحت السنة النبوية الشريفة بمثل ذلك، ولم يُصب المسلمون ما أصابهم من الذل، والمهانة، والضعف، وتسلط الأعداء، إلَاّ بتركهم الجهاد، وإخلادهم إلى الراحة والدَّعة، والله المستعان.

ص: 335

1094 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

1095 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (2).

ــ

* درجة الحديث (1095):

إسناده صحيح.

قال ابن عبد الهادي في "المحرر": رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود، والنسائي، وإسناده على رسم مسلم. اهـ.

وصححه الحاكم، وأقرَّه الذَّهبي، وقال النووي في "الرياض": إسناده صحيح.

* مفردات الحديث (1094):

- شُعْبَة: بضم الشين المعجمة، قال في "المصباح": الشعبة من الشيء: القطعة منه، فيكون معناه: مات على طائفة، وجزء من النفاق.

- نِفَاق: بكسر النون، وأصل النفاق مأخوذ من إحدى أجحار اليربوع، التي يكتمها، ويظهر غيرها، فهو أصل تسمية النفاق، فالمنافق: هو من يخفي الكفر، ويظهر الإيمان، فهو يُظهر خلاف ما يبطن.

(1) مسلم (1915).

(2)

أحمد (3/ 124)، النسائي (6/ 7)، الحاكم (2/ 81).

ص: 336

1096 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ وَالعُمْرَةُ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

فهو من رواية محمَّد بن فضيل عن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين، وأصله في البخاري، كما ذكر المؤلف.

* ما يؤخذ من الأحاديث:

1 -

الحديث رقم (1094): يدل على وجوب الجهاد في سبيل الله إذ إنَّه يجب الابتعاد عن صفات المنافقين، فهي أقبح الصفات.

2 -

وجوب العزم على الجهاد عند عدم التمكن منه، وفعله عند إمكان ذلك، فالواجبات المطلقة يجب العزم على فعلها، عند إمكانها.

والواجبات المؤقتة يجب العزم على فعلها، عند دخول وقتها.

3 -

ويدل على أنَّ من مات، وهو لم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو -مات على خصلة من خصال النفاق؛ ذلك أنَّه أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإنَّ ترك الجهاد شعبة من شعب النفاق.

4 -

أما الحديث رقم (1095): فيدل على وجوب جهاد الكفار بالمال، والنفس، واللسان.

فأما المال: فبإنفاقه على شراء السلاح، وتجهيز الغزاة، ونحو ذلك.

(1) ابن ماجه (2801)، البخاري (1520).

ص: 337

وأما النفس: فبمباشرة القتال للقادر عليه، والمؤهل له.

وأما اللسان: فبالدعوة إلى دين الله تعالى ونشره، والذود عن الإسلام، ومجادلة الملاحدة، والرد عليهم، وبث الدَّعوة بكل وسيلة من وسائل الإعلام، لإقامة الحجة على المعاندين.

5 -

بناءً على أنَّ الجهاد يكون باللسان، فإعطاء الزكاة في الدَّعوة إلى الله تعالى من مصرف "في سبيل الله".

6 -

كما يدل الحديث رقم (1095) على وجوب الجهاد، والجهاد من فروض الكفايات إذا قام به من يكفى، سقط عن الباقين؛ لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة].

7 -

إنما يكون فرض عين في ثلاثة مواضع:

(أ) إذا حضر صف القتال، وقابل المسلمون عدوّهم، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال].

(ب) إذا استنفره الإمام؛ حيث لا عذر له، قال تعالى:{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38].

(ج) إذا حضر بلده عدو احتيج إليه؛ لأنَّ دفع العدو من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

8 -

ويدل حديث رقم (1096) على أنَّ مباشرة الجهاد، وقتال الأعداء ليست مشروعة في حق النساء؛ لما هنَّ عليه غالبًا من ضعف البدن، ورِقة القلب، وعدم تحمل الأخطار، ولا يمنع ذلك قيامهن بعلاج الجرحى، وسقي العطشى، ونحو ذلك من الأعمال.

ص: 338

فقد جاء في الصحيح من حديث أم عطية قالت: غزوت مع رسول صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأُداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.

9 -

الجهاد واجب: فهو إما فرض كفاية، أو فرض عين في حق الرجال.

10 -

تشبيه الحج والعمرة بالجهاد بجامع الأسفار، والبعد عن الأوطان، ومفارقة الأهل، وخطر الأسفار، وتعب البدن، وبذل الأموال.

11 -

وجوب الجهاد على القادر عليه؛ حيث شبِّه بالحج والعمرة، الواجبين على المسلم القادر.

12 -

الأحاديث الثلاثة اشتركت في بيان فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وقد جاءت النصوص الكثيرة، في فضله وعِظم ثوابه.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111]. وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف] الآية.

والأيات في هذا الباب كثيرة.

وأما الأحاديث، فمنها:

ما رواه الشيخان عن أبي ذر قال: قلتُ: يَا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال:"الإيمان بالله، والجهاد في سبيله".

وجاء في الصحيحين أيضًا من حديث أنس؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لغَدْوَة في سبيل الله، أو رَوْحَة خير من الدنيا، وما فيها".

والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا.

ص: 339

* قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن إخراج الزكاة للجهاد في سبيل الله:

أصدر المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم قرارًا بتاريخ 7/ 2/ 1405 هـ وجاء فيه ما نصه:

نظرًا إلى أنَّ القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى، ونشر دينه بإعداد الدعاة ودعمهم ومساعدتهم على أداء مهمتهم، فيكون كِلا الأمرين جهادًا. ونظرًا إلى أنَّ الإسلام محارَب بالغزو الفكري والتصدي من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، وأنَّ لهؤلاء من يدعمهم الدعم المادي والمعنوي، فإنَّه يتعيَّن على المسلمين أن يقاتلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإسلام.

ونظرًا إلى أنَّ الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها، ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة، بخلاف الجهاد بالدَّعوة، فإنَّه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا دعوة.

لذلك كله، فإنَّ المجلس قرَّر بالأكثرية دخول الدعوة إلى الله، وما يعين عليها: وبدعم أعمالها في معنى في سبيل الله في الآية الكريمة.

هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وآله وصحبه أجمعين.

* فائدة: نلخصها من رسالة للشيخ عبد الرحمن حَبنَّكة في "الجهاد":

قال حفظه الله: "اتَّخذ أعداء الإسلام محاولات ذكية ماكرة لإلغاء الجهاد في سبيل الله من واقع المسلمين، عن طريق تحريف مفاهيم الإسلام، ونزع سند قوته، فوجهوا جهودهم لإزالة قوة الإيمان بالله من نفوس المسلمين، فوضعوا مكان ذلك قوى صورية مدوية، فكان بدل الاعتماد على الله الغرور بالنفس، والاعتماد على إمدادات الدول الطامعة، ذات المصالح الشخصية، وأحلوا محل ذكر الله تعالى عبارات الإلحاد والعنصرية والطبقية، وفرَّقوا صفوف المسلمين، وأفسدوا بين قادتهم، ففقدت الجيوش المسلمة بذلك عناصر قوتها

ص: 340

الحقيقية، فكيف يتم لها النصر على أعدائها؟!.

وأشاعوا أنَّ الإسلام لم ينتشر بالدعوة، وإنما انتشر بالقتال، وإكراه الناس عليه، فاضطر الغيورون من المسلمين إلى أن يعلنوا أنَّ الحروب في الإسلام لم تكن إلَاّ حروبًا دفاعية فقط، وأنَّه "لا إكراه في الدين"، وبهذا صار الفهم المبتدَع لحروب الإسلام، التي ترمي إلى نشر الدين، وإبلاغه للعالمين، وكسر الأسوار التي تحجب الحق عن أن يصل إلى أسماع الغافلين، المتعطشين إلى معرفة الحق من الشعوب المغلوبة على أمرها.

إنَّ الضرورة في المجتمع البشري قد تدعو إلى القتال؛ انتصارًا لحق المظلومين، ورفع حيف الطغاة عنهم؛ ليروا الحق والهداية، فيدينوا بالدين الذي يرتاحون إليه، وتؤمن به قلوبهم.

بعد هذا البيان لا يجد العقلاء المنصفون حاجة للاعتذار عن ركن الجهاد في سبيل الله بقتال الطغاة البغاة، الظلمة المستبدين، الذين يكرهون الناس على ما يريدون.

إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله بالقتال لتأمين رسالة الدعوة، وحمايتها، وإقامة العدل -قضية حق رباني، وإنَّ غايته من أشرف الغايات، وأنبلها.

ومن عجيب المفارقات: أنَّ كثيرًا من الذين يشنعون على الإسلام في شأن هذا الواجب العظيم، يمارسون أقبح صور الإكراه في الدين، وأقبح صور التعصب ضد المسلمين، أو يستخدمون ضدهم كل وسائل العنف؛ لإلزامهم بأن يتركوا دينهم، وعقائدهم، ومفاهيمهم، ويوجهون ضدهم حروب إبادة جماعية، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وللإسلام أعداء كثيرون، وأشد أعدائه المثلَّث، التي تلتقي أضلاعه بالشيوعية، والصهيونية، الممثلة بالمأسونية، والمنصِّرين، أبطل الله كيدهم، وأعلى كلمته، آمين" اهـ.

ص: 341

1097 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يسْتَأْذِنُ فِي الجِهَادِ، فَقَال: أَحَيٌّ وَالِدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

وَلأحمَدَ، وَأَبي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ:"ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ، وَإِلَاّ فَبِرَّهُمَا"(2).

ــ

* مفردات الحديث:

- ففيهما فجاهد: "فيهما" متعلق بالأمر، وقد يكون للاختصاص، "والفاء" الأولى جزاء شرط محذوف، و"الثانية" جزائية؛ لتضمن الكلام معنى الشرط، والمعنى: إذا كان الأمر كما قلتَ، فاختص المجاهدة في خدمة الوالدين، نحو قوله تعالى:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} [العنكبوت].

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

بر الوالدين من فروض الأعيان، لاسيَّما في حالة كبرهما، وحاجاتهما إلى ولدهما، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال؛ الجهاد في سبيل الله".

(1) البخاري (3004)، مسلم (2549).

(2)

أحمد (3/ 75)، أبو داود (2530).

ص: 342

وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قَال: "رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنة".

2 -

أما الجهاد: فهو فضيلة كبيرة جدًّا، ولكنه أقل فضلاً من بر الوالدين؛ كما أنَّ الجهاد فرض كفاية إلَاّ في حالات تقدم بيانها.

أما بر الوالدين: ففرض عين في كل حال؛ لذا فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل المستأذِن في الجهاد: "فيهما فجاهد" فيكون برهما مقدمًا على الجهاد في سبيل الله تعالى.

3 -

سمي إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين، وإزعاجهما الولد في طلب ما يحتاجانه، وبذل المال في قضاء حوائجهما: جهادًا، من باب المشاكلة؛ مثل قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] سميت الثانية: سيئة؛ لمشابهتها للأولى في الصورة.

4 -

سواء كان الجهاد فرض عين، أو فرض كفاية، وسواء عذَره الأبوان بخروجه، أو لا -فإنَّ برهما مقدم؛ لما روى أحمد، والنسائي، أنَّ جاهمة السلمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،! أريد الغزو، وجئتك لأستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: "الزمها فإنَّ الجنة تحت رجليها".

5 -

ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأنَّ برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهاد، فيقدم على برهما؛ لأنَّ الجهاد مصلحة عامة، إذ هو لحفظ الدين، والدفاع عن المسلمين.

6 -

يدل الحديث على وجوب النصيحة لمن استشارك في أمر من الأمور.

7 -

الحديث يدل على عظم بر الوالدين، وتقدم بعض النصوص في ذلك.

8 -

ويدل الحديث على أنَّ المفتي إذا سُئِل عن مسألة يتعيَّن عليه أن يستوضح من

ص: 343

السائل عن الأمور التي تعد من مجرى الجواب.

9 -

وفي الحديث بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على أن يأتوا بالعبادات على الوجه الصحيح، فإنَّهم لا يُقدمون عليها إذا كانوا يجهلونها أو يجهلون بعض أحكامها، حتى يسألوا عن ذلك؛ لتقع موقعها الشرعي، وهذا واجب المسلمين.

***

ص: 344

1098 -

وَعَنْ جَرِيرٍ البَجَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بيْنَ المُشْرِكِينَ". رَواهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ البُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ (1).

1099 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2).

ــ

* درجة الحديث (1098):

الحديث صحيح.

قال الحافظ: إسناده صحيح، وقال المباركفوري: رجال إسناده ثقات، مع أنَّ كثيرًا من الأئمة قالوا: إنه مرسل، ورجح البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم، ورواه الطبراني موصولاً.

* مفردات الحديثين:

- بريء: يقال: برىء فلان من كذا، يبرأ براءً وبراءةً: فارقه، وسلم منه، وتخلص، واسم الفاعل بريء، والجمع: برآء.

- لا هجرة بعد الفتح: بكسر الهاء، اسم من: هاجر يهاجر مهاجرة، وهي مفارقة الأهل، والعشيرة، والوطن فرارًا بالدين.

والفتح: هو فتح مكة، سنة ثمان من الهجرة.

(1) أبو داود (2645)، الترمذي (1604)، النسائي (8/ 36).

(2)

البخاري (2825)، مسلم (1353).

ص: 345

1100 -

وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ السَّعْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْقَطعُ الهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ العَدُوُّ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنِ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال في "التلخيص": رواه النسائي، وابن حبان، ولأبي داود عن معاوية مرفوعًا:"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".

قال الهيثمي: رجال أحمد رجال ثقات.

قال الألباني: أخرجه أبو داود، والدارمي، والنسائي في "الكبرى"، والبيهقي، وأحمد، ومن طرقه المجتمعة حكم بصحته.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث الأول يدل على وجوب الهجرة من ديار المشركين إلى ديار المسلمين، وهو مذهب جمهور العلماء؛ لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} [النساء].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وفي الآية دليل على أنَّ الهجرة من أكبر الواجبات، وأنَّ تركها من المحرَّمات، بل من أكبر الكبائر.

2 -

قال في "شرح الإقناع": وتجب الهجرة على كل من يعجز عن إظهار دينه

(1) النسائي (6/ 146)، ابن حبان (1579).

ص: 346

بدار حرب، وهي ما يغلب فيها حكم الكفر؛ لأنَّ القيام بأمر الدين واجب، والهجرة من ضرورة الواجب، وما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب.

قال في "المنتهى": أو بلد بغاة، أو بِدع مضلة، كرفض واعتزال، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، إن قدر على الهجرة من أرض الكفر، وما ألحق بها؛ لقوله تعالى:{إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ثم استثنى المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99].

و"عسى" واجب وقوعها من الله تعالى، بمقتضى كرمه وإحسانه.

قال السيد رشيد رضا: ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه، أو يؤذى إيذاء لا يقدر على احتماله.

أما المقيم في دار الكافرين، ولكنه لا يمنع، ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه، بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه، بلا نكير، فلا يجب عليه أن يهاجر.

3 -

قال شيخ الإسلام: الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله تعالى ورسوله، وأفعل للحسنات والخير؛ بحيث يكون المسلم أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له، أفضل من الإقامة في وضع حاله فيه دون ذلك، فالحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلَّق بالشخص، ومن هنا كانت المرابطة في الثغور أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ

ص: 347

عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19].

4 -

الشخص مسموع الكلمة، الذي يستطيع أن يؤدي رسالة الله تعالى على وجه حسن، لا شكَّ أنَّ إقامته حيث يقوى على الدعوة خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح، أما الشخص العادي: فهذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة، ويقيم فيها.

5 -

قوله: "لكن" يقتضي أنَّ ما بعدها ليس كما قبلها، والمعنى: أنَّ مفارقة الأوطان لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة قد انقطعت، لكن مفارقة الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالى، كطلب العلم، والفرار بدينه من دار الكفر، أو للجهاد في سبيل الله، فهي باقية مدى الدهر.

6 -

أما الحديث رقم (1099): فيدل على أنَّ الهجرة من مكة المكرمة انقطعت بعد فتحها؛ لكونها أصبحت بلاد مسلمين.

وبهذا فإنَّ فضل الهجرة فات على الذين لم يسلموا إلَاّ بعد الفتح، فقد غنمها السابقون الأولون إلى الإسلام من المهاجرين، قال تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].

7 -

وعلى الذين فاتتهم الهجرة أن يتداركوا فضل الجهاد في سبيل الله، والنية الصالحة بحسن الإسلام، والنصح لله، ورسوله، ودينه.

ولقد كان هذا من كثيرٍ من مسلمة الفتح، أمثال سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي سفيان بن الحارث، وغيرهم، فإنَّهم رضي الله عنهم أظهروا من حسن إسلامهم، والنصح له أمورًا كبيرة، وصار لديهم رغبة شديدة فيما عند الله تعالى، وأقبلوا على الجهاد في سبيل الله، فأبلوا البلاء الحسن حتى استشهدوا، رضي الله عنهم.

8 -

أما الحديث رقم (1100): فيدل على أنَّ الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد

ص: 348

الإسلام لم تنقطع، وإنما حكمها باقٍ.

قال في "شرح الإقناع": وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة؛ لما روى أبو داود عن معاوية؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".

فتجب على من يعجز عن إظهار دينه؛ بدار حرب، وتسن لقادر على إظهار دينه ليتخلص من تكثير الكفار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم.

9 -

الهجرة قسمان:

أحدهما: الهجرة من مكة إلى المدينة، وهي التي فاز بها أهلها من الصحابة من دون سائر الناس، فهذه انقطعت بفتح مكة شرَّفها الله.

الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو من دار البدعة إلى دار السنة، فإنَّ المسلم السني يؤمر بالهجرة إلى حيث يظهر شعائر دينه؛ لئلا يفتن عنه، ويؤذى.

***

ص: 349

1101 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعريِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كلِمَةُ اللهِ هِي العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تمام الحديث: أنَّ أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمَغْنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا: فهو في سبيل الله" فهذا منطوق الحديث.

2 -

معنى: يقاتل للذكر: أي: ليذكر بين الناس، ويوصف بالشجاعة، فالذكر: الشرف والفخر.

وقوله: يقاتل ليُرى مكانه: "يُرى" مبني للمجهول، و"مكانه": منزلته من الشجاعة، فالفرق بين هذا، والذي قبله: أنَّ الأوَّل يقاتل للسمعة، والثاني للرياء.

3 -

أما مفهوم الشرط في الحديث: أنَّ من قاتل لغير هذه الغاية، فليس في سبيل الله، وإنما قتاله في سبيل الغاية التي قصدها.

4 -

أما إذا انضمَّ إلى غاية الجهاد في سبيل الله مقصد آخر، فقال الطبري: إذا كان المقصد إعلاء كلمة الله، لم يضر ما حصل من غيره ضمنًا، وبهذا قال جمهور العلماء.

ويتأيد هذا: بما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كانت

(1) البخاري (2810)، مسلم (1904).

ص: 350

عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتَّجروا في المواسم، فنزلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج.

والقصد أنَّه إذا كان المقصد هو الجهاد، وإعلاء كلمة الله تعالى، فلا يضره فى دخول غيره ضمنًا.

5 -

أنَّ من الجهاد في سبيل الله دفع الكفار عن بلدان المسلمين، وأراضيهم، لاسيَّما الأمكنة المقدسة؛ كالقدس، والمسجد الأقصى، ودفع الحكومات الشيوعية عن بلدان المسلمين، كما كان في أفغانستان، وغيرها من بلدان

المسلمين، التي هي تحت سيطرة أعدائهم، فقد جاء في أبي داود، والترمذي في "جامعه" من حديث سعيد بن زيد، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد".

ووجه الدلالة: أنَّه لما جعله شهيدًا، دلَّ على أنَّ له القتل والقتال، فصار القتال مشروعًا، والله أعلم.

6 -

جاء في "سنن أبي داود": "أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد؟ فقال: يا عبد الله، إن قاتلت صابرًا محتسباً، بعثك الله صابرًا محتسباً، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، ويا عبد الله، على أي حال قاتلت أو قُتلت، بعثك الله على تلك الحال".

قلتُ: إنَّ اختلاف النية والقصد مؤثر في كل الأعمال لحديث: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى".

7 -

وبهذا الحديث وأمثاله، عُلِم مبدأ سامٍ، وهو إعلاء كلمة الله تعالى، ومن أحق بإعلاء كلمته غير الله جلَّ وعلا.

وبهذا، فالإسلام لا يبيح القتال لغايات عدوانية، أو مقاصد مادية،

ص: 351

بسيادة عنصر على عنصر، أو شعب على شعب، أو طبقة على طبقة أخرى، أو توسيع رقعة مملكة، أو أغراض حربية، أو مكاسب اقتصادية، أو أسواق تجارية، أو غير ذلك مما تتَّخذه الدول وسيلة لإشعال الحروب، وهدم السلم الدائم، فليس ذلك كله في شيء مما أباح الإسلام القتال لأجله؛ ذلك لأن غاية الإسلام مبادىء كريمة يعمّ نفعها الناس جميعًا.

***

ص: 352

1102 -

وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: "أَغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ" حَدَّثَنِي بِذلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِيهِ: "وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُويْرِيَّةَ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أغار: بالغين المعجمة، مصدره: الإغارة، والغارة اسم مصدر، ومعناه: هجم على غرة وبغتة.

- المُصْطَلق: -بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء، وكسر اللام، آخرها قاف-: بطن من خزاعة، وخزاعة قبيلة قحطانية أزدية.

- غارون: -بالغين المعجمة، وتشديد الراء-، جمع غار؛ أي: غافلون، فأخذوهم على غرَّة وبغتة، وهي جملة اسمية حالية.

- سبى: سبى عدوه سبيًا وسباء: استولى عليهم.

- ذراريهم: بتشديد الياء، وتخفيفها، جمع:"ذرية"، هم نسل الإنسان، وعقبه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث محمول على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بلَّغ بني المصطلق دعوة التوحيد، ودعاهم إلى الإسلام، فلما لم يستجيبوا، اغتنم فرصة غفلتهم، فأخذهم وهم غافلون، قبل أن يعلموا بقربه منهم.

قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وعلى معناه تظاهرت الأحاديث الصحيحة.

(1) البخاري (2541)، مسلم (1730).

ص: 353

إذا غار المغير على غفلة العدو، فهذا مبدأ صحيح، كحال النبي صلى الله عليه وسلم فالغارة على غفلة أصلح للطرفين في حقيقة الأمر؛ لأنَّ المغير سيحكم عليهم في حربهم، وسلمهم أحكامًا عادلة، لا جور فيها عليهم.

والمغار عليهم مع العدل بهم، سيسلمون من خسارة الأنفس، التي تذهب أثناء المعركة، وسيجدون عند من يستولون عليهم الرحمة والعدل، وقد كان في هذه القضية ذاتها.

فبنو المصطلق قبيلة من الأزد، لما استولى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّج جُوَيْرِيَّة بنت زعيمهم الحارث بن أبي ضرار المصطلقي الخزاعي، كعادته صلى الله عليه وسلم في إكرام ذوات العفاف، ورفع شأن الشريفات الأسيرات، فلما علم الصحابة، رضي الله عنهم بذلك قالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا كل من في أيديهم من سبي بني المصطلق.

لذا قالت عائشة: ما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية.

2 -

أما إذا كانوا غير مدعوين، ولا معذر إليهم، ولا منذَرين، فنصوص الشرع تمنع من مباغتهم، ولذا كانت من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا قوله:"لا تغدِروا، فإذا لقيت عدوك، فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله تعالى، وقاتلهم" هذه سنة الإسلام في الذين لم تبلغهم الدعوة.

3 -

يدل الحديث على جواز استرقاق العرب كغيرهم، وهو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو معروف من كتب السيرة، والمغازي.

وذهب بعضهم إلى: عدم استرقاقهم، والأدلة خلاف قولهم.

***

ص: 354

1103 -

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا، عَلَى اسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فَاقْبلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُم: ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبلْ مِنْهُم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا، فَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ كأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَاّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِاللهِ تَعَالَى، وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تفْعَلْ، وَلكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ، أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ، وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تَفْعَلْ، بلْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيِهمْ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى، أَمْ لَا؟ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- في خاصَّته: متعلق بـ"تقوى الله"، وخاصته: ما يخص نفسه من شؤونه.

(1) مسلم (1731).

ص: 355

- بمن معه: كأنه قال: أوصاه بتقوى الله في خاصته، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرًا.

- خيرًا: منصوب على نزع الخافض.

- على اسم الله -في سبيل الله: متعلق بـ"اغزوا"، ويجوز أن يكون الثاني ظرفًا له، ويكون الأول حالاً.

- قاتلوا: جملة معترضة موضحة لـ"اغزوا"، فأعاد "اغزوا"؛ لتعقبه بالمذكورات بعده.

- ولا تغُلُّوا: غل -من باب نصر- غلولاً، فهو غالٌّ، والغلول: الخيانة من المغنم، وكل من خان خفية، فقد غلَّ.

- لا تَغْدِروا: بكسر الدال، فهو من باب ضرب، والغدر: ترك الوفاء بالعهد.

- إذا لقيت: هذا من باب تلوين الخطاب، فبعد أن خاطب الجيش عامة، خصَّ الأمير وحده بالخطاب، فدخلوا بالتبعية.

- فادعهم إلى ثلاث خِصال: يعني: إلى إحدى الثلاث، وهي: الإسلام، أو عطاء الجزية، أو المقاتلة.

- التحول من دارهم: المراد بالتحول: الانتقال، والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين.

- ثم ادعهم: كرر لمزيد التأكيد.

- أعراب المسلمين: واحده "أعرابي"، لا واحد له من لفظه؛ لأنَّ البقاء بالبادية سبب لعدم معرفة الشريعة؛ لقلَّة من فيها من أهل العلم.

- الغنيمة: جمعها غنائم: يقال غنم فلان غنيمة، فاشتقاقها من "الغُنم" وأصلها: الربح والفضل، وهي ما أخذ من مال حربي قهرًا بقتال.

- الفيء: أصله "الرجوع"، يقال: فاء الظل: إذا رجع نحو المشرق، وسمي المال الحاصل من المشركين: فيئًا؛ لأنَّه رجع من المشركين إلى المسلمين.

ص: 356

وهو اصطلاحًا: ما أُخِذ من مال كافر بحق الكفر بلا قتال.

- الجزية: مأخوذة من: الجزاء، وهي ما يؤخذ من أهل الذمة على وجه الصَّغار كل عام، بدلاً من قتلهم، وإقامتهم بدارنا.

- حِصن: حصن المكان حصانة، فهو حصين، والحِصن: الموضع المنيع، جمعه: حصون، والحصين: المحكَم المنيع.

- ذِمة اللهِ وذمة نبيه: الذمة هنا معناها: عقد الصلح والمهادنة، وإنما نهى عن ذلك؛ لئلا ينقض الذمة من لايعرف حقها، وينتهك حرمتها من لا تمييز له من الجيش.

- تُخْفِرُوا: بضم التاء، وسكون الخاء، ثم فاء مكسورة، وراء، يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخَفَرته: بمعنى أمنته وحميته.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث الشريف الصحيح يصف أحسن وصف للجهاد في سبيل الله، من مصدره الأصلي المشرع صلوات الله وسلامه عليه، وما تتصف به تلك الحروب الإسلامية من العدل والإنصاف، وما تتحلى به من الرحمة، وما تهدف إليه من البر، والإحسان، وما تتمسك به من العهود والمواثيق، وأنَّها بخلاف ما يصفها به أعداء الإسلام، من القسوة، والعنف، وغير ذلك من الأوصاف التي يلحقونها بها، إما جهلاً، وتقليدًا، وإما عداوة وحقدًا.

2 -

أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يبعث أميرًا على سرية إلَاّ أوصاه، وأوصى سريته بما يجب عليهم، أو ينبغى لهم أتباعه في غزوتهم من الأحكام، والآداب، والفضائل.

3 -

الصحابة رضي الله عنهم لثقتهم الكبيرة بنبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وإيمانهم العميق بحسن وصاياه، وكبير فائدتها -فإنَّهم ينفذونها وفق ما رسمها لهم، بغبطة وفرحة، متمثلين قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

ص: 357

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور].

4 -

كان أول زاد من وصاياه الحكيمة الرشيدة هي الوصية "بتقوى الله"، وتقوى الله كلمة صغيرة تجمع كل خير، وتبعد كل شر، فهي امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وإذا حلت التقوط قلب العبد، صارت هي الرقيب الذي لا يغيب، ولا يغفل عن تصرفاته، فإنَّها تراقبه وتصرِّفه؛ لتكون دائمًا المهيمن عليه، فتقيه شر نفسه، وشر غيره، من شياطين الإنس والجن.

5 -

أوصاه بأن يتَّقي الله تعالى بمن معه من المسلمين خيرًا، فلا يستغل سلطته، وإمارته عليهم، ويغتنم فرصة اتباعهم أمره، وتنفيذهم رغبته بمصالحه الخاصة، وطلباته المحدودة، وإنما يكون أمره عليهم، ونهيه فيهم، وفق المصلحة العامة لهم، وللمسلمين عامة.

6 -

تصحيح النية، وسلامة الطوية؛ وذلك بأن تكون غزوتهم مقصودًا بها وجه الله تعالى، والدار الآخرة، بإرادة نصرة الإسلام، ونشر دعوة التوحيد، "فإنَّما الأعمال بالنيات" فلا يكون القصد من الغزو الغنيمة، أو مجرَّد الاستيلاء على الأعداء، أو إرادة الشجاعة والظهور، فكل هذا ليس على اسم الله تعالى، وإنما الذي على اسمه: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

7 -

"قاتِلوا من كفر بالله" هذا هو الهدف من الجهاد، وهو قتال الكفار؛ ليدخلوا في دين الإسلام، فإذا دخلوا في الإسلام، ودخل الإيمان قلوبهم، عرفوا أنَّ قتالكم لهم ما هو إلَاّ علاج لأنفسهم، ودواء لقلوبهم المريضة بالكفر، والشرك بالله تعالى، "وإن ربك ليعجب من رجال يقادون إلى الجنة بالسلاسل"، فلولا قاعدة الجهاد في سبيل الله، لفسدت الأرض ببقاء الكفر، والضلال، وامتداد الجهل، والظلام، قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].

ص: 358

8 -

"لا تغلوا" الغلول: الخيانة في الغنيمة، وإذا وجدت الخيانة في الغنائم، فسدت نية الجهاد في سبيل الله، وصار الغرض هو الطمع، وأنتم لم تغزوا، ولن يتوقع النصر إلَاّ بحسن نيتكم وقصدكم، فإذا فسدت النية، يُدَال عليكم، وينتصر عدوكم، قال تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].

9 -

"لا تغدروا" الغدر: نقض العهد، فهو ضد الوفاء، بل أتموا لهم ما عاهدتموهم عليه.

10 -

"ولا تمثلوا" بأن تقطعوا أطراف القتيل؛ كيديه، ورجليه، وأذنيه، وأن يبقر بطنه، ونحو ذلك من تشويهه، فإنَّ هذا قتال من يريد الانتقام، لا قتال من يريد الإحسان.

11 -

"ولا تقتلوا وليدًا" النَّهي عن قتل الصبيان، الذين هم دون البلوغ.

12 -

وجوب دعوة العدو، والمشرك إلى إحدى ثلاث خصال، فإن هم أجابوك إلى واحدة منها، فأقبل منهم، هي: الإسلام، أو الجزية، أو القتال.

وإذا أجابوا إلى الإسلام، فلابد أن يتحوَّلوا من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ ليتمكنوا من إظهار دينهم، وليكثروا سوادهم، وليكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.

13 -

قائد الجيش إذا عقد عهدًا مع المشركين، فلا يجعل بينه وبينهم عهد الله تعالى وعهد رسوله، وإنما يجعل لهم عهده الخاص؛ لئلا ينقض العهد ويغدر، وعهد الله وعهد الرسول منزهان عن الغدر، ولكن إذا جعل لهم عهده، فنقض، كان أَهْوَنَ إثمًا.

14 -

إذا أراد قائد الجيش، أو السرية إنزال عدوه من المشركين على حكم، فليكن على حكمه هو، واجتهاده، لا على حكم الله تعالى، فإنَّ المجتهد لا يدري أيصيب حكم الله، أم يخطئه؟ فإذا أخطأه فهو أهون عليه من أن

ص: 359

يكون على حكم الله تعالى.

15 -

هذه هي آداب الحروب الإسلامية، والجهاد في سبيل الله: التقوى، والاعتماد على الله تعالى، والدعوة إلى الخير، والدخول في دين الله تعالى، فإذا دخل الإنسان في الإسلام، فليس هو مستعمرًا، ولا مسترقًّا، ولا مضطهدًا، وإنما هو مسلمٌ له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم.

فإن لم يجيبوا إلى الإسلام، فلهم الحرية في البقاء على دينهم، على أن يؤدوا جزيةً، هي لحقن دمائهم، والحفاظ عليهم من عدوهم، ورعاية مصالحهم.

فإن أبوا عن هذا، وأصروا على الوقوف في وجه الدعوة، فلم يدعوها تبلغ المستعدين لقبولها، فالمسلمون مضطرون لقتالهم؛ لتصل دعوة الله، ودينه حيث أراد الله تعالى، فإذا قام قتال المسلمين مع عدوهم، فإنَّه قتال رحمة، فكل من لا علاقة له بالقتال لا يقتل، فلا يقتل شيخ كبير، ولا راهب في معبده، ولا صبي، ولا امرأة، وإنما يوجه القتال إلى المقاتلين المعاندين، الصادين دين الله تعالى، ثم إنَّ هذا القتال ليس قتال ثأر وانتقام، يحصل به تمثيل، وتشويه للقتلى، فلا تمثِّلوا.

وإذا أُبرم عهد مع العدو، فليحافظ على الوفاء به، والتزام شروطه وبنوده، وليُعقد على ذمة القائد، ولَا يُعقد على ذمة الله تعالى وذمة رسوله؛ خشية أن يحصل غدر، فتنسب الخيانة، والغدر إلى عهد الله جلَّ وعلا، وإلى رسوله، وهما مبرآن من ذلك.

وكذلك إذا أريد نزول العدو على الحكم، فلا ينزلون إلَاّ على حكم منسوب إلى اجتهاد القائد، لا إلى حكم الله تعالى؛ لئلا تخطئوا في الحكم، فيكون الخطأ منسوبًا إلى أحكام الله، فإنَّ القائد باجتهاده لا يدري هل يقع على الحق نفس الأمر، وهو حكم الله ومراده، أم لا؟.

ص: 360

16 -

قال الأستاذ سيد قطب: إنَّ الإسلام يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع، وحروب الاستعمار والاستغلال، والبحث عن الأسواق والخامات، واسترقاق المرافق والرجال، كما يستبعد أيضًا الحروب التي تثيرها حب الأمجاد الزائفة، والمغانم الشخصية، فلا مكان لهذه الحروب، وهو يأمر بالتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.

***

ص: 361

1104 -

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ارَادَ غَزْوَةٍ، وَرَّى بِغَيْرِهَا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- وَرَّى بغيرها: -بفتح الواو، وتشديد الراء، آخره ألف مقصورة أي: أخفاها، وسترها، وكنَّى عنها، وأظهر غيرها، ويفسره معنى الزيادة التي وردت في أبي داود "ويقول: الحرب خدعة".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث الشريف يبين جانبًا من جوانب قيادة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية، وتدابيره الحربية.

2 -

فهو إذا أراد غزو بلدة، أو قبيلة في الشمال، أظهر أنَّه يريد وجهة الجنوب مثلاً، فصار يسأل جهرة عن تلك الطريق، ومواردها، وطرقها، والقبائل التي في طريقه إليها؛ ليوهم أنَّه يقصد تلك الطريق.

3 -

الغرض من هذا: أن يفاجأ عدوه على غرة وغفلة، قبل أن يُنذَر، ويعلم عن قصده إليه فيستعد، وإنما يريد أن يصل إليه، بدون استعداد منه.

4 -

ففي هذه المفاجأة فائدتان:

الأولى: أنَّ خسائر الأرواح تقل بين الطرفين في هذه المفاجأة، فإنَّه إذا لم يحصل صدام بين جيشين متكافئين، خفَّت الخسارة، وحربه صلى الله عليه وسلم حرب رحمة وإحسان، فإنَّه يكفيه من عدوه الإذعان والاستسلام؛ لتحل الرحمة محل القسوة، ويكون الإحسان إلى الأسرى مكان الانتقام.

(1) البخاري (2947)، مسلم (2769).

ص: 362

الثانية: أنَّ في هذا توفيرًا لطاقة جيش المسلمين من رجال وعتاد، وهذا التوفير سيكون ذخيرة لمعركة لا تجدي فيها الخدعة، والمسير أمام الجيش المسلم طويل.

5 -

ففي الحديث دليل على جواز مثل هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الحرب خدعة"، ولكنه خداع ليس معه غدر، ونقض عهود.

6 -

تقدم أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يهجم على عدوه، إلَاّ بعد دعوته إلى الإسلام، والإعذار إليه.

***

ص: 363

1105 -

وَعَنْ مَعْقِلٍ؛ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه قَالَ: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَخَّرَ القِتَالَ حَتَى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن. فقد صحَّحه الترمذي، والحاكم، وقال: إنَّه على شرطهما، وأصله في البخاري.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

معقل بن يسار المزني: ألحقناه تصحيحًا من "الأطراف" للمزي، وإلَاّ فقد اختلفت نسخ "بلوغ المرام" في هذا، فقد جعل بعضهم "ابن" مكان "أنَّ"، فقال: وعن معقل بن النعمان، ولكن ما أثبتناه هو الصحيح إن شاء الله تعالى.

2 -

النعمان بن مقرن المزني من القواد الكبار، ومن الشجعان المشاهير، له مواقف عظيمة في حروب الإسلام ضد الفرس، وقد استشهد عند فتح مدينة "نهاوند"، بعد أن قرَّ الله عينه بفتحها.

3 -

كان رضي الله عنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في جهاده وغزواته، فكان قتاله أوَّل النَّهار، حينما تكون الأنفس، والأبدان نشيطة بعد راحة الليل، وحينما يكون الوقت باردًا، وحينما تكون البركة التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: "بورك

(1) أحمد (5/ 444)، وأبو داود (2655)، النسائي في الكبرى (5/ 191)، الحاكم (2/ 116)، البخاري (3160).

ص: 364

لأمتي في بكورها".

4 -

إذا فات وقت الصباح، ولم يحصل إنشاب القتال فيه، فإنَّه لا يقاتل في وسط النهار حين خمود الأذهان، وخمول الأبدان، وارتفاع الشمس، وإنما يؤخره حتى تزول الشمس، ويبرد الجو، وتهب الرياح التي يرسلها الله تعالى عادة بنصر عباده المؤمنين، كما قال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9].

وكما قال صلى الله عليه وسلم: "نُصِرتُ بِالصبا، وأُهلِكت عاد بالدبور".

فكان يتوخى هذا الوقت حين برودة الجو، وهبوب الرياح المسائية.

5 -

وكل هذا ما لم يباغتهم العدو، أو يفاجئهم بغارة غير منتظرة، فحينئذٍ يجب ردها، وصدُّها، ولا يؤخذ ذلك لأي وقت من الأوقات.

6 -

وهذه خطة حميدة جيدة من خطط القتال، وحكمة رشيدة في استغلال الأوقات الصالحة، والحالات المناسبة التي تزيد الجيش المحارِب قوَّة مادية، ومعنوية في وجه عدوه.

7 -

فيه حسن قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته في تدبير أمر القتال، فهؤلاء كبار القواد يجعلونه أسوة لهم في خططه الحربية، وتصرفاته القيادية، فصلوات الله وسلامه عليه.

8 -

في الحديث اتخاذ الأسباب النافعة، والتدابير المفيدة، مع الاستعانة بالله تعالى، والاتكال عليه، ورجاء نصره وعونه؛ لتجتمع القوَّة المادية والمعنوية.

***

ص: 365

1106 -

وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ المُشْرِكينَ يُبيَتُّونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الصَّعب: بفتح الصاد المهملة، وسكون العين المهملة.

- جَثَّامَة: بفتح الجيم، والميم، وتشديد الثاء المثلثة، يقال: رجل جثامة، للنؤوم الذي يلازم، ولا يسافر.

- الذراري: جمع: "ذرية"؛ وهم نسل الإنسان.

- يبيَّتون: مبني للمجهول بصيغة المضارع، من بيَتَّه والتبييت: الإغارة عليهم في الليل على غفلة، مع اختلاطهم بذراريهم ونسائهم، فيصاب النساء والذرية، بغير قصد لقتلهم ابتداء.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

النَّبي صلى الله عليه وسلم في غالب حروبه لا يهجم على عدوِّه إلَاّ نهارًا، حينما ينحاز الرجال المقاتلين عن النساء، والصبيان، والمسنين؛ لأنَّ حروبه صلى الله عليه وسلم لا تقصد الإفساد، وإنما تهدف إلى الإصلاح، ولذا نهى عن قتل غير المقاتلين، فقال:"ولا تقتلوا وليدًا"[رواه مسلم]، و"نهى عن قتل النساء والصبيان"[متَّفقٌ عليه].

ورأى امرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل"[رواه أحمد، وأبو داود]. وقال: "لا تغدروا، ولا تغُلَّوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب

(1) البخاري (3012)، مسلم (1745).

ص: 366

الصوامع" [رواه أحمد] وغير ذلك من النصوص.

2 -

إلَاّ أنَّ الخطة الحربية قد تلجئه إلى تبييت عدوه، والقتل الجماعي، الذي قد يصيب النساء، والذرية من غير قصد.

وإنما هذا من باب إعمال القاعدة الشرعية: "إذا تزاحمت المفاسد، ولابد منها، ارتكب أخفها".

فقتل بعض الأطفال، والنساء، الذين لا يمكن أن ينحازوا عن المقاتِلِين، يسوغ في سبيل إضعاف العدو، وكسر شوكته والنكاية به، وصد كَلبه، وشراسته عن المسلمين، لاسيَّما وقد حكم عليهم بالكفر.

3 -

قال في "الإقناع وشرحه": "ويجوز تبييت الكفار، وقتلهم وهم غارون، ولو قتل في التبييت من لا يجوز قتله، من امرأة: وصبي، ومجنون، وشيخ فانٍ، إذا لم يُقصدوا".

4 -

قال صلى الله عليه وسلم مبررًا قتل النساء، والصبيان في مثل هذه الحال:"هم منهم" في إباحة القتل، تبعًا لا قصدًا، إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل.

5 -

جواز قتل النساء من الكفار، وصبيانهم، ونحوهم، إذا تترس بهم المقاتلون منهم، وهو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، عملاً بهذا الحديث.

وذهب الإمام مالك، والأوزاعي إلى: أنَّه لا يجوز قتل النساء، والصبيان، ونحوهم بحال، حتى لو تترس أهل الحرب، أو تحصنوا بهم، لم يجز قتالهم، ولا تحريقهم.

***

ص: 367

1107 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: ارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على أنَّه لا يجوز الاستعانة بالمشركين في القتال.

والحكمة في هذا ظاهرة؛ ذلك أنَّ الكافر لا يقاتل عن إيمان، ولا عن عقيدة، فلا يؤمن مَكْره، ولا يطمئن إلى حسن نيته، وطويته.

2 -

ويجوز -عند الحاجة، وترجُّح كفة الأمان منه- الاستعانة به؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية يوم حنين.

3 -

وكذلك استعان صلى الله عليه وسلم بقبيلة خزاعة؛ لأنَّهم كانوا في زمن الجاهلية نصحةً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولجده عبد المطلب، فإذا وجدت الحاجة، وأمنت الخيانة، جازت الاستعانة بهم، جمعًا بين الأدلة، وهذا مذهب أبي حنيفة.

4 -

أما الأئمة الثلاثة: فذهبوا إلى أنَّه لا يجوز، واختاره الشيخ تقي الدين؛ لهذا الحديث، ولأنَّ الكافر لا يؤمن مكْره، وغدره.

5 -

أما شراء الأسلحة منهم، وتبادل الخبرات العسكرية، ونحو ذلك من الفنون الحربية، فلا ينبغي أن تكون موضع خلاف بين العلماء؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدراعًا، وهو كافر، وجعل فداء الأسرى يوم بدر تعليم أبناء المسلمين الكتابة، والقراءة.

(1) مسلم (1817).

ص: 368

* قرارات وتوصيات المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج:

المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 21 - 23/ 2/ 1411 هـ:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد، أفضل المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فنظرًا للأحداث الجديدة التي نزلت بمنطقة الخليج، من اجتياح القوات العراقية للكويت، وتهديدها المملكة العربية السعوية، ودول الخليج الأخرى، وما تبعه من الاستعانة بالقوات العربية، والإسلامية، والأجنبية، لمساندة قواتها.

فقد دعت رابطة العالم الإسلامي إلى مؤتمر إسلامي عالمي، ضم علماء المسلمين، ومفكريهم من أنحاء العالم؛ حيث انعقد في الفترة من 21 - 23 صفر 1411 هـ، الموافق 10 - 12 سبتمبر 1990 م.

وقد تداول أعضاء المؤتمر الأحداث الخطيرة؛ انطلاقًا من واجبهم الديني، ومسؤوليتهم الإنسانية، والتاريخية.

وبعد مداولات استغرقت ثلائة أيام، أصدر المؤتمر القرارات، والتوصيات التالية:

[ومما جاء فيه هذا القرار، وهو مناسب لشرح هذا الحديث]:

خامسًا: فيما يتعلَّق بالاستعانة بالقوات الأجنبية، فإنَّ المؤتمر بعد الاطلاع على بحوث العلماء يقرر أنَّ ما حدَث من استعانة المملكة بقوات أجنبية؛ لمساندة قواتها في الدفاع عن النفس، إنما اقتضته الضرورة الشرعية، والشريعة الإسلامية تجيز ذلك بشروط الضرورة المقررة شرعًا.

ومتى زالت أسباب وجود هذه القوات، من انسحاب العراق من الكويت، وعدم تهديد المملكة، ودول الخليج -فإنَّه على هذه القوات مغادرة المنطقة.

ص: 369

1108 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

1109 -

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا شُيُوخ المُشْرِكِينَ ، وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذيُّ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

فقد صحَّحه الترمذي، وابن حبان، وهو من رواية الحسن عن سمرة، التي اختلف العلماء في صحتها، ولكنها رواية مقبولة عند العلماء.

قال في "التلخيص": رواه أحمد، والترمذي من حديث الحسن عن سمرة.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

* مفردات الحديث:

- شُيوخ المشركين: الشيخ: من استبانت فيه السن، والمراد هنا: الرجال المسنون، أهل الجَلد، والقوة على القتال، ولم يرد: الهَرْمى.

- شَرْخَهُمْ: -بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء، ثم خاء معجمة- والمراد بهم: الصغار، الذين لم يدركوا، قاله في "النهاية".

(1) البخاري (3014)، مسلم (1774).

(2)

أبو داود (2670)، الترمذي (1583).

ص: 370

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

تقدم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، والشيوخ الكبار، والذرية، وأصحاب الصوامع، ونحوهم ممن لا شأن له في القتال، قال الإمام أحمد: الشيخ لا يكاد يسلم، والنساء أقرب إلى الإسلام.

2 -

هذان الحديثان يؤكدان هذا المعنى في النَّهي عن قتل النساء، والشيوخ المسنين، ما لم يكن لهم في الحرب عون، بفعلٍ، أو رأيٍ، فيقتلون كما يأتي بيانه.

3 -

ذلك أنَّ حروب الإسلام ليست حروبًا عدوانية، وليست حروب إفساد، وإنما هي حروب رحمةٍ، وشفقةٍ، ودعوة إلى الخير.

قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": "ولا يجوز قتل النساء والولدان في حرب، ولا غيرها، لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهم، كما نهى عن قتل الضعفاء، وعلى القائد أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله بالتزام أحكامه".

4 -

فمِن نهْج الإسلام، ما قاله أبو بكر الصديق، يوصي قوَّاده: أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني.

"لا تخونوا، ولا تغُلُّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً، ولا تقطعوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تذبحوا شاةً، ولا بقرةً، ولا بعيرًا، إلَاّ لمن أراد أكله، وستمرون بأقوام أهل صوامع، فدعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له".

5 -

فالحكم هو تحريم قتل النساء، والصبيان، والمسنين، وأصحاب الصوامع، والمعابد، ونحوهم ممن ليس لهم شأن في القتال، فإن كان لهم يد في الحرب، فيقتلون.

ومن تلجِىء الضرورة إلى قتلهم، كأن يتترسوا بهم، أو تقتضي الحرب بياتهم، أو ترمى حصونهم بما يعمّ قتلهم، كالمدافع، وغير ذلك، فحينئذٍ

ص: 371

ضرورة القتال تبيح ذلك، فإن الكفّ عنهم حينئذٍ يفضي إلى تعطيل الجهاد.

قال في "شرح الإقناع": وحرِّم قتل صبيٍّ، وامرأةٍ، وراهبٍ، وشيخٍ فانٍ، وزَمِنٍ، وأعمًى، وعبدٍ، وفلاحٍ، لا رأى لهم، فمن كان من هؤلاء ذا رأي، جاز قتله؛ لأنَّ دريد بن الصمة قتل يوم حنين، وهو شيخ لا قتال فيه؛ لأجل استعانتهم برأيه، فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قتله، إلَاّ أن يقاتلوا، فيجوز قتلهم بغير خلاف؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة، ألقت رحى على محمود بن سلمة، فقتلته، أو يحرضوا على القتال.

***

ص: 372

1110 -

وَعنْ عَلِىٍّ رضي الله عنه: "أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يوْمَ بَدْرٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلاً (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- تبارزوا: يقال: بارزه مبارزةً وبرازًا: برز إليه، ونازله بين الصفين.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

لما اصطف المسلمون يوم بدر، واصطف أمامهم المشركون، تهيُّئًا للقتال، برز من صفوف المشركين عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والوليد بن عتبة، فخرج إليهم من جيش المسلمين: عُبَيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليُّ الوليد، فأما حمزة وعلي: فقتلا قرينيهما، وأما عبيدة وقرينه: فاختلفا ضربتين، كل منهما أثبت صاحبه، ثم كر حمزة وعلي على عتبة، فأجهزا عليه، وحملا صاحبهما الجريح، فمات من جرحه شهيدًا، رضي الله عنه وعن صاحبيه.

2 -

فالحديث يدل على جواز المبارزة لمن علم في نفسه الكفاءة، وأما من ليس كفأً فلا يبارز؛ لئلا يعرض نفسه للقتل بحالة لم يتَّخذ لها الحيطة والحذر، ولئلا يَفُتَّ في عضد جيش المسلمين، ويكسر قلوبهم.

3 -

قال في "شرح الإقناع": وإن دعا كافر إلى البراز، استُحب لمن يعلم من نفسه القوَّة، والشجاعة مبارزته بإذن الأمير؛ لأنَّ في الإجابة إظهارًا لقوَّة المسلمين، وجلَدِهم على الحرب.

(1) البخاري (3965)، أبو داود (2665).

ص: 373

4 -

وقال أيضًا: ويباح للرجل المسلم الشجاع طلب المبارزة ابتداءً، ولا يستحب له ذلك؛ لأنَّه لا يأمن أن يُقْتل، فتنكسر قلوب المسلمين.

***

ص: 374

1111 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ". رَوَاه الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِم (1).

ــ

* درجة الحديث

الحديث صحيح.

قال ابن كثير في "تفسيره": رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعبد ابن حميد، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه".

قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي على تصحيحه.

* مفردات الحديث:

- معْشَر الأنصار: منصوب على الاختصاص، والمعشر: الجماعة، والجمع: معاشر.

- لا تُلْقُوا بأيديكم: كناية عن الأنفس.

- التَّهلُكَة: مصدر: هلك يهلك هلكًا وهلاكًا وتهلكة، وهو الموت، وكل شيء يكون سببًا إليه.

- الروم: جيل من الناس صار لهم دولة، وحضارة، وقوَّة قبل الإسلام.

(1) أبو داود (2512)، الترمذي (2972)، النسائي في الكبرى (6/ 299)، ابن حبان (1667)، الحاكم (2/ 275).

ص: 375

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

روى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من حديث أبي أيوب الأنصاري أنَّه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التَّهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إنَّ هذه الآية نزلت في الأنصار، حين أرادوا أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم.

وأما هذا، فهو الذي قال الله فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].

2 -

الحديث دليل على جواز المبارزة لمن عرف في نفسه البلاء في الحروب، والشدة، والشجاعة؛ فإنَّ انتصاره على خصمه يقوي عزائم المسلمين، ويشحذ هممهم، بينما يفُت في عضد عدوهم.

3 -

تقدم أنَّ المبارزة لا تكون إلَاّ بإذن الأمير، ولا يأذن إلَاّ حينما تنتفي المفاسد والأخطار، وهو صاحب تدبير الحرب، فطاعته بالمعروف واجبة، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62].

وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".

4 -

قال الحافظ: ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه يجوز للرجل الشجاع أن يحمل على الكثير من العدو، إذا كان له قصد حسن، كأن يرهب العدو، أو يجرىء المسلمين على الإقدام، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة، أما إذا كانت حملته مجرد تهور فلا يجوز، لاسيَّما إذا ترتَّب على ذلك وهن المسلمين، وكسر قلوبهم.

***

ص: 376

1112 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بنَي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- حرَّق: حرقت النار الشيء: أهلكته.

- بني النضير: قبيلة من اليهود كانت تسكن المدينة، وكان بينهم وبين المسلمين عهود، فغدروا، ونقضوا عهدهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليال، ثم صالحهم على أن يرحلوا من بلادهم، فرحلوا.

- قطع: يقال: قطع لشيء، فصل بعضه عن بعض، وأبانه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

بنو النضير إحدى قبائل اليهود المقيمين قرب المدينة، وقد أبرم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معهم عهدًا، يأمن به كل من الآخر، ولكنهم لم يَفُوا بهذا العهد؛ حسدًا وبغيًا، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بقصة مشهورة في السيرة، فانتقض عهدهم، فكان من الحزم ألا يبقوا مصدر خطر على الإسلام وأهله، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ستة أيَّام، فقطع الصحابة أثناء الحصار بعض نخيلهم، وحرَّقوها؛ نكاية بهم، وجزاء لغدرهم، فشكَّ الصحابة في جواز هذا العمل، فأنزل الله تعالى قوله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر].

2 -

اصطلحوا مع المسلمين: بأنَّهم يجلون من بلادهم، على أنَّ لهم ما حملته ظهور إبلهم إلَاّ السلاح، فحملوها، وجلوا عن ديارهم، وصارت بلادهم،

(1) البخاري (4031)، مسلم (1746).

ص: 377

وما خلفوا من أموالهم فيئًا، لم يقسم بين المجاهدين؛ لأنَّه لم يحصل بالقتال.

قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]، ثم ذكر تعالى مصرف الفيء بقوله:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].

3 -

الحديث يدل على جواز قطع النخل، وحرقها، وهدم الحصون، ونحو ذلك، إذا كان هذا يحقق مصلحة للمسلمين، ويحصل به نكاية للعدو، كما حصل في حصار بني النضير.

4 -

الفيء: هو ما أخذ من مال الكفار -ممن ليس لهم عهد- بحق من غير قتال، سمي: فيئًا، لأنَّه فاء؛ أي: رجع من الكفار، الذين هم غير مستحقين له إلى المسلمين، الذين لهم الحق الأوفر فيه.

5 -

ويدل الحديث على أنَّ التدمير إذا كان وسيلة إلى مصلحة أعظم من مفسدته فهو جائز، أما قاعدة:"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فإنَّه إذا كانت إفسادًا محضًا، أو كانت المفسدة أرجح من المصلحة.

***

ص: 378

1113 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغُلُّوا، فَإِنَّ الغُلُولَ نَارٌ، وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابهِ فِي الدُّنْيَا، وَالآخِرَةِ". رَوَاه أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحه ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن، صحَّحه ابن حبان.

رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان، وله ما يؤيده مما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الغلول، وعظم أمره

" إلخ الحديث.

قال الهيثمي: في هذا الحديث أم حبيبة بنت العرباض، لم أجد من وثَّقها، ولا من جرحها، وبقية رجاله ثقات.

* مفردات الحديث:

- الغُلول: بضم الغين، مصدر: غلَّ غلولاً، من باب قعد، وهو الخيانة في الغنيمة، وغيرها.

- عار: يعني: عيب، وفضيحة على صاحبها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغلول: هو الخيانة في الغنيمة، وهو من كبائر الذنوب؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].

وذلك بإجماع العلماء؛ لما يجمعه من المفاسد، فهو سفه وخيانة، وهو ظلم لعموم المجاهدين، وأصحاب الخمس.

(1) أحمد (22207)، النسائي (4138).

ص: 379

وهو يدل على أنَّ صاحبه لم يقصد بغزوه الجهاد في سبيل الله، فتكون كلمة الله هي العليا، وإنما أراد المَغْنَم، وإنَّما الأعمال بالنيات.

2 -

الغلول عار؛ لأنَّه عيب، وفضيحة أمام المسلمين، وقادتهم، وهو نار؛ لأنَّه عذاب في الآخرة.

روى أصحاب السنن، وأحمد من حديث زيد بن خالد الجهني:"أنَّ رجلاً توفي من المسلمين بخيبر، فقال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، فتغيَّرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم، قال: إنَّ صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتَّشوا متاعه، فوجدوا خرزًا لليهود ما يساوي درهمين".

3 -

الأخذ من أموال الدولة، وبيت مال المسلمين بغير حق حكمه حكم الغلول، فمن ولي على عمل من أموال الدولة، فأخذ منه شيئًا بطرق غير مشروعة -فهو غال.

4 -

قال شارح "البلوغ": العار: الفضيحة في الدنيا، إذا ظهر افتضح به صاحبه، وأما في الآخرة: فلعلَّ العار يبيِّنه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الغلول، وعظم أمره، فقال:"لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، أو على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك من الله شيئًا، قد أبلغتك" فلعلَّ هذا هو العار في الآخرة.

5 -

يؤخذ من هذا الحديث: أنَّ هذا ذنب لا يغتفر بالشفاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أملك لك من الله شيئًا"، ويحتمل أنَّه أورده مورد التغليظ والتشديد".

والغلول عام لكل ما فيه حق العباد.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ الغال يعيد ما غلَّ قبل القسمة.

***

ص: 380

1114 -

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

ذلك أنَّه ثابت في "صحيح مسلم" في حديث طويل بإسنادٍ صحيح ثابت، ليس فيه إلَاّ إسماعيل بن عياش، ولكن بروايته عن الشاميين، وهي عنهم ثابتة مقبولة.

* مفردات الحديث:

- السلب: بفتحتين، قال العيني: هو ما يأخذه أحد القرينين من قرنه، مما يكون عليه، ومعه، من سلاح، وثياب، ومركوب، وغيرها.

(1) أبو داود (2719)، مسلم (1753).

ص: 381

1115 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه "فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انصْرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا، قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا، فَقَالَ: كلَاكُمَا قَتَلَهُ، فَقَضَى صلى الله عليه وسلم بسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ابتدرَاهُ: يقال: بدره يبدره بدرًا: أسرع إليه، وعاجله.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

السَّلَب: هو ما على الكافر القتيل: من لباس، وحلي، ومِنطقة، ودرعٍ، ومِغفر، وبيضة، وتاج، وخُف، وسلاح: من سيف وبندق، وفرد، ورصاص، وحزام، ولو مذهبًا، وسيارته، أو دبابته، أو طيارته، التي يقاتل عليها، نحو ذلك من أنوع اللباس، والسلاح، والمراكب، التي معه حين قتله، قلَّ ذلك، أو أكثر، فكله يسمى: سلَبًا.

2 -

السَّلَب المذكور كله لمن قتل الكافر مبارزة، أو حال انتشاب الحرب، وذلك إذا كان قتل المسلم الكافر حال الحرب لا قبلها، ولا بعدها.

3 -

إعطاء السلب لقاتل الكافر من باب المكافأة، والمجازاة على إقدامه، وفعله الطيب، وتشجيعًا وتقديرًا لبطولته، وبلائه في سبيل الله تعالى.

4 -

يثبت استحقاق السلب بالبينة، ومن البينات أثر القتل في السلاح، إذا كان القتال مما يسمى بالسلاح الأبيض، أو بنوع الرصاص، ونحو ذلك.

(1) البخاري (3141)، مسلم (1752).

ص: 382

فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رأى ضربة معاذ بن عمرو بن الجموح، هي المؤثرة في قتل أبي جهل؛ لعمقها، أعطاه السلب، وطيَّب قلب ابن عفراء بقوله:"كلاكما قتله"، وإلَاّ فالضربة القاتلة لمعاذ بن عمرو.

5 -

وكذا يستحقه لو ثبت قتله بشهادة؛ لما في الصحيحين من حديث أبي قتادة قال: رأيتُ رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته على حبل عاتقه، فأدركه الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قتل قتيلاً له عليه بينته، فله سلبه"، فقلتُ: من يشهد لي؟ فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله! سَلبُ ذلك القتيل له، فأرضه عن حقه، فقال صلى الله عليه وسلم:"أعطه إيَّاه فأعطاني".

6 -

قال في "شرح الإقناع": ولا تقبل دعوى القتل لأخذ السلب إلَاّ بشاهدين رجلين؛ لأن الشارع اعتبر البينة، وإطلاقها ينصرف إلى شاهدين، وسيأتي في أقسام المشهود أنَّه يقبل رجل وامرأتان، ورجل ويمين، كسائر الأموال.

7 -

وقال أيضًا: وإن قتله اثنان فأكثر، فسلبه غنيمة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يشرك بين اثنين في سلب، ولأنَّه إنما يستحق بالتفرد في قتله، ولا يحصله بالاشتراك.

8 -

صفة مقتل أبي جهل هو أنَّ شابين من الأنصار، هما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، أخذا يتعرفان أبا جهل يوم بدر، ليقتلاه، فلما بصرا به، انطلقا إليه، فضربه معاذ، وبتر قدمه، فسقط يختبط في دمه، ثم ضربه معوذ، فأوجعه طعنًا، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، ثم نظر في سيفيهما، فقال:"كلاكما قتله" ولكنه قضى بالسلب لمعاذ.

وقال بعض العلماء: لأنَّ ضربته هي القاضية، ثم مرَّ بأبي جهل عبدُ الله بن مسعود، فوجده في آخر رمق، فاحتزَّ رأسه، وجاء به إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: هذا فرعون هذه الأمة، وقضى بسيفه لابن مسعود، رضي الله عنه.

***

ص: 383

1116 -

وَعَنْ مَكْحُولٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ المَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "المَرَاسِيلِ"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1)، وَوَصَلَهُ العُقَيْلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ، رضي الله عنه (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

رجاله ثقات.

قال في "التلخيص": رواه أبو داود في المراسيل عن ثور عن مكحول: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ علَى أَهْلِ الطائف المنجنيق".

ورواه الترمذي معضلاً عن ثور، وروى أبو داود بسند صحيح عن الأوزاعي قال: قلتُ ليحيى بن أبي كثير، أبلغك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق، فأنكر ذلك، وقال: ما يعرف هذا.

وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن سنان؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف خمسة وعشرين يومًا.

وأما حديث علي: ففيه عبد الله بن خراش، وهو منكر الحديث.

* مفردات الحديث:

- نصب: يقال: نصب الشيء ينصبه نصبًا: رفعه ووجهه.

- المنجنيق: جمعه: مجانق، ومجانيق، ومنجنيقات.

وهو آلة للحرب تقذف بها الحجارة على الحصون، فتهدمها، رمى به النبي

(1) أبو داود في المراسيل (335).

(2)

العقيلي (2/ 244).

ص: 384

-صلى الله عليه وسلم الطائف حين حصاره، والذي أشار به سلمان الفارسي، كما أشار بالخندق في غزوة الأحزاب.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدم أنَّه عند الحاجة يجوز رمي الكفار بما يعم إتلاف ذريتهم، ونسائهم معهم، كأن يُبيَّتون وهم غارون، أو يتترس مقاتلتهم بأطفالهم، ونسائهم.

2 -

وفي هذا الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رمى أهل الطائف بالمنجنيق، ومثله بالجواز غيره من المدافع، والصواريخ وغيرها.

3 -

ومثل هذا الحديث تؤخذ القاعدة الشرعية: "ارتكاب أخف المفسدتين" فإنَّ قتل النساء، والأطفال ونحوهم مفسدة، وتعطيل الجهاد في سبيل الله مفسدة أكبر منه، فارتكبت الخفيفة منهما.

4 -

أما قصد من لا يقاتل: من النساء، والصبيان، والشيوخ، والمسنين، وأصحاب الصوامع، والأديرة، ونحوهم بالقتل -فلا يجوز، ما لم يكن لهم في الهيجاء غناء، أو منفعة برأي وتدبير، أو يكون منهم من ارتكب جريمة قتل، مثل ما أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم قتل دريد بن الصمة يوم حنين؛ لأنَّه يدبر برأيه، وكما قُتلت المرأة القرظية؛ لأنَّها قتَلتْ أحد الصحابة.

***

ص: 385

1117 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ! فَقَالَ: اقْتُلُوه". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- المِغْفَر: -بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، ففاء، بوزن "مِنْبَر"- نوع من الدروع، ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة، للوقاية من السلاح.

- ابن خطل: بفتحتين اسمه: عبد الله بن خطل، أسلم ثم ارتد، ولحق بمشركي مكة، فكان له قينتان يأمرهما بالغناء بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم فتح مكة، قال صلى الله عليه وسلم:"اقتلوه، ولو وجدتموه متعلقًا بأستار الكعبة، فقُتِل".

- أستار الكعبة: جمع "سترة"؛ أي: كسوتها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ مكة -شرَّفها الله- فتحت عنوة، لا صلحًا، كما هو الراجح من قولي العلماء.

2 -

مشروعية أخذ الأهبة، والحذر من الأعداء، بأخذ الحيطة من الاعتداء، والتحصن من العدو، ووقوع الشر.

3 -

أنَّ الاستعداد والحزم، والاحتياط من الشر لا ينافي التوكل على الله تعالى، فإنَّه أحد أسباب الوقاية المطلوبة عقلاً، وشرعًا.

4 -

جواز دخول مكة -شرَّفها الله- بدون إحرام، لمن لم يقصد حجًّا، ولا عمرة.

(1) البخاري (3044)، مسلم (1357).

ص: 386

5 -

إباحة القتال بمكة تلك الساعات التي أحلَّت فيها للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: لما فتح الله تعالى على رسوله مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"إنَّ الله حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنَّها لم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلَّت لي ساعة من نهار، وإنَّها لن تحل لأحد بعدي".

6 -

أنَّ الحرم لا يعيذ جانيًا، فمن وجب عليه حد من حدود الله تعالى -سواء كان جلدًا، أو حبسًا، أو قتلاً- أقيم عليه الحد، ولو كان في الحرم، فإنَّ ابن اخطل المرتد قُتل، وهو متعلق بأستار الكعبة بأمر من النَّبي صلى الله عليه وسلم.

7 -

تعظيم البيت الحرام عند الله تعالى، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي صدور الناس، فالكافر تعلق بأستاره، والصحابة هابوا قتله في هذه الحال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في وصيته عند دخول مكة:"اقتلوا ابن خطل، ولو وجدتموه متعلقًا بأستار الكعبة" فهذا منتهى الملجأ، ولكن لعلَّ الذين وجدوه، لم يسمعوا وصيته.

8 -

تقديم المصالح العامة على المصلحة الخاصة، فهنا قدم الجهاد على النسك؛ لأنَّ مصالح الجهاد أعم، وأنفع.

9 -

ابن خطل: اسمه: عبد الله بن خطل القرشي التيمي، أسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا، وبعث معه رجلاً من الأنصار، فقَتل الأنصاريَّ، ثم ارتد مشركًا، وكان له قنينان، تغنيان بهجو النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأهدر صلى الله عليه وسلم دمه، فقُتل وهو متعلق بأستار الكعبة، لعنه الله تعالى.

قال الخطابي: قَتْلُهُ بحق ما جناه في الإسلام، يدل على أنَّ الحرم لا يعصم من إقامة واجب.

* خلاف العلماء:

قال ابن القيم في "زاد المعاد": ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ مكة فتحت

ص: 387

عنوة، ولا يعرف في ذلك خلاف إلَاّ عند الشافعي، وأحمد في أحد قوليه.

قال أصحاب الصلح: لو فتحت عنوة لقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الغانمين، ولو فتحت عنوة، لملك المجاهدون رباعها، ودورها، وكانوا أحق بها من أهلها، ولجاز إخراجهم منها، فهذا منافٍ لأحكام فتح العنوة.

قال أصحاب العنوة: لو كان صالحهم، لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره، وإغلاق بابه، وإلقائه سلاحه فائدةٌ، ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتَلَ منهم جماعة، ولم ينكر عليه.

ولو فتحها صلحًا، لم يقل:"إنَّ الله أحلها لي ساعة من نهار"، فإنَّها إذا فتحت صلحًا، كانت باقية على حرمتها، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة.

ولو فتحت صلحًا، لم يعبىء جيشه: خيالتهم ورجالتهم، ميمنة وميسرة، ومعهم السلاح.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين".

واختلفوا في جواز إقامة الحدود فيها:

فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه يستوفى فيها الحدود، والقصاص؛ لعموم الأدلة، ولأنَّ حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، ولأنَّ الحد فيما دون النفس جار مجرى التأديب، فلا يمنع فيه.

وذهب أبو حنيفة إلى: أنَّه لا يستوفى فيها حدود القصاص؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].

***

ص: 388

1118 -

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً صَبْرًا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "المَرَاسِيلِ"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث مرسل. ورجاله ثقات.

قال في "التلخيص": في "المراسيل" لأبي داود عن سعيد بن جبير: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبرًا: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط".

وفي قوله: "والمطعم" تحريف، والصواب "طعيمة بن عدي"، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، ووصله الطبراني بذكر ابن عباس، وقال الحافظ: رجاله ثقات، ولم أقف على إسناده، ورويت قصة مقتل هدؤلاء الثلاثة صبرًا عن عدة طرق، وهي قصة مشهورة؛ لكن لا تخلو طرقها من إرسال، أو انقطاع، أو ضعف.

أما الشيخ الألباني فيقول: وجملة القول "أني لم أجد لهذه القصة: -مقتل عقبة، والنضر- إسنادًا تقوم به الحجة، على شهرتها في كتب السيرة، وأما ما أخرجه أبو داود في عقبة خاصة، فيما رواه عمرو بن مرة عن إبراهيم قال: أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقًا، فقال له عمَّار بن عقبة بن أبي معيط: أتستعمل رجلاً من بقايا قتلة عثمان؟ فقال مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، كلما أراد قتل أبيك قال: من للصبية؟ قال: النار".

قلت: وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، فهم رجال الشيخين. اهـ.

(1) أبو داود في المراسيل (337).

ص: 389

* مفردات الحديث:

- الثلاثة: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، وقيل: ثالثهم: طعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، والحقيقة أنَّ طعيمة قتل في معركة بدر، وأنه لم يكن مع الأسرى.

- صبرًا: -بفتح الصاد، وسكون الباء الموحدة، آخره راء-: هو كل من قتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنَّه مقتول صبرًا.

***

ص: 390

1119 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مُشْرِكٍ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (1).

1120 -

وَعنْ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى -لَتَرَكْتُهُمْ لَه". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2).

ــ

* مفردات الحديثين:

- فدى: يقال: فداه من الأسر، يفديه فداءً: استنقذه بمالٍ، أو غيره، فهو فادٍ، وذاك مُفْدًى.

- أسارى: جمع: "أسير"، ويجمع أيضًا على:"أسرى"، مثل: سكارى وسكرى، والأسير: هو من يشد بالقِدّ أو غيره، وسمي كل أخيذ: أسيرًا، وإن لم يشد بالقِدّ أو غيره.

- المطعم بن عدي: بن نوفل بن عبد مناف، وهو أخو طعيمة السابق ذكره، وكان المطعم من رؤساء قريش، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف دخل مكة بجواره، وحمايته، وهو أحد الخمسة الذين قاموا بنقض الصحيفة، وتوفي قبل بدر بنحو سبعة أشهر، وفي بعض الروايات أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لجبير:"لو كان الشيخ أبوك حيًّا، فأتانا فيهم، لشفعناه" يريد صلى الله عليه وسلم يكافئه على صنيعه الطيب.

- النَّتْنَى: قال في "النهاية": النتنى: واحدهم "نتن"، كزمن وزمْنى، قال في

(1) الترمذي (1568)، مسلم (1641).

(2)

البخاري (3139).

ص: 391

"الوسيط": نتن نتنًا: خبثت رائحته.

وسمَّاهم نتنا؛ لكفرهم، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

ووصفهم بالنتن؛ لخبث عقائدهم، فالنتن يشمل النجاسة المادية، والنجاسة المعنوية العقائدية.

* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة:

- إذا أسر المسلمون مقاتلة عدوهم، خيِّر الأمير فيهم بين أربعة أمور:

إما قتلهم، أو استرقاقهم، أو إطلاقهم بفداء يسلمونه، أو فداء أسير منهم بأسير مسلم، أو المن عليهم بالإطلاق، بلا فداء، وبلا أسير.

وهو تخيّر مصلحةٍ، لا تخيّر شهوةٍ.

قال في "شرح الإقناع": ويخير الأمير تخير مصلحةٍ، واجتهاد في الأصلح في الأسرى الأحرار المقاتلين بين:

قتل؛ لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة.

أو استرقاق؛ لما في الصحيحين أنَّ سبية من بني تميم عند عائشة، فقال صلى الله عليه وسلم:"أعتقها؛ فإنَّها من ولد إسماعيل".

أو منّ؛ لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد: 4]، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم منَّ على أبي عزة الجمحي يوم بدر، وعلى أبي العاص بن الربيع، وعلى ثمامة بن أثال.

أو فداء بمسلم؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، ولما روى أحمد والترمذي من حديث عمران بن حصين:"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل".

أو فداء بمال؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فادى أهل بدر بالمال.

فما فعله الأمير من هذه الأمور الأربعة تعين، ولم يكن لأحد نقضه،

ص: 392

ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين؛ لأنَّه يتصرَّف لهم على سبيل النظر، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ؛ لأنَّ كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى.

2 -

أنَّ المُطعِم هو أحد الرجال الخمسة الذين قاموا بنقض الصحيفة التي كتبتها قريش في مقاطعة بني هاشم، إن لم يسلموا لهم النبي صلى الله عليه وسلم يقتلوه، وقد توفي المطعم بن عدي قبل بدر بأشهر.

3 -

أما الحديث رقم (1118): فيدل على جواز قتل الأسير الكافر، إذا كان في قتله جلب مصلحة للمسلمين، أو دفع مضرة عنهم، والثلاثة الذين قتلوا من أسرى بدر هم:

طعيمة بن عدي من بني نوفل بن عبد مناف.

النضر بن الحارث من بني عبد الدار.

عقبة بن أبي معيط من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

والسبب في صبرهم وقتلهم-: أنَّ لهم سوابق في الشر كثيرة كبيرة معروفة في كتب التاريخ والسيرة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم مع أتباعه بمكة.

4 -

قال الألباني: "وجملة القول أني لم أجد لهذه القصة "مقتل الثلاثة" إسنادًا تقوم به الحجة على شهرتها في كتب السيرة.

نعم وجدت لقصة عقبة خاصة أصلاً فيما أخرجه أبو داود والبيهقي أنَّ الضحاك بن قيس استعمل مسروقًا، فقال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط: أتستعمل رجلاً من بقايا قتلة عثمان؟ فقال له مسروق: حدَّثنا عبد الله بن مسعود، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل أبيك، قال: من للصِّبية؟ قال: "النار" وإسناده ورجاله كلهم رجال الشيخين.

5 -

وأما الحديث رقم (1119): فيدل على جواز فداء أسرى المسلمين بأسرى المشركين، وتقدم ذكر الدليل.

ص: 393

6 -

وأما الحديث رقم (1120): فيدل على جواز إطلاقهم، والمنّ عليهم بلا فداء: لا بمال، ولا بأسير.

7 -

جواز مكافأة المشرك على إحسانه، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لو كان المطعم بن عدي حيًّا، وكلَّمني في هؤلاء النتنى -لأطلقتهم له، كل هذا وفاء لجميله؛ ذلك أنَّ المطعِم له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدان:

أولاهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف قبل الهجرة داعيًا أهلها، خاف من عدوان كفار مكة، فدخلها بجوار المُطعم بن عدي، الذي لبس السلاح هو وأبناؤه، وأبناء أخيه، فدخلوا معه المسجد الحرام، فقال أبو جهل: أمجير، أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت، فلا يُخْفَر جوارك.

الثانية: ما قام به مع أربعة من رجال قريش من نقض الصحيفة، التي كتبتها قريش في مقاطعة بني هاشم، وعلَّقوها بالكعبة.

***

ص: 394

1121 -

وَعَنْ صَخْرِ بْنِ العَيْلَةِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ القَوْمَ إِذَا أسْلَمُوا، أَحْرَزُوا دمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه أبو داود، ورجاله موثوقون، وفي معناه ما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم:"أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إلَاّ الله، فَإذا قَالُوها، أَحرزوا مني دماءهم، وأموالهم". وقال ابن عدي: إسناد الحديث جيد.

* مفردات الحديث:

- أحرزوا: منعوا دماءهم بتحريم قتلهم واسترقاقهم لما أسلموا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في معنى هذا الحديث ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلَاّ الله، فمن قال لا إله إلَاّ الله، عصم مني ماله ونفسه، إلَاّ بحقها، وحسابه على الله عز وجل".

2 -

فحديث الباب وشواهده تدل على أنَّ من أسلم من الكفار، حرُم دمه وماله؛ لأنَّه أصبح في عداد المسلمين.

3 -

ومفهوم الحديث، وشواهده تدل على أنَّ من أبى الإسلام، فإنَّه يجب قتاله حتى يسلم؛ تنفيذًا لأمر الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].

(1) أبو داود (3067).

ص: 395

أي: شرك، ويكون الدين لله، قاله ابن عباس وغيره.

وهذا مما يؤيد القول الراجح؛ أنَّ قتال الكفار ليس هو مجرد دفاع، وإنما هو قتال لأجل سير الدعوة وإبلاغها، وإزاحة من يقوم في وجه تبليغها.

4 -

قال ابن رجب: من المعلوم بالضرورة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله من قال: لا إلله إلَاّ الله، لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه.

5 -

قال ابن رجب أيضًا: وقد ظنَّ بعضهم أنَّ معنى الحديث: أنَّ الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، وفي هذا نظر.

فإنَّ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تدل على خلاف هذا، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا عليًّا يوم خيبر، فأعطاه الراية، وقال:"قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلَاّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد عصموا منك دماءهم، وأموالهم إلَاّ بحقها، وحسابهم على الله عز وجل".

فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمة للنفوس والأموال إلَاّ بحقها، ومن حقها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة بعد الدخول في الإسلام، كما فهمه الصحابة، رضي الله عنهم.

6 -

قال في "شرح الإقناع": وتوبة كل كافر موحدًا كان كاليهودي، أو غير موحد كالنصراني، وعبدة الأوثان -إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله كان مسلمًا، وإن لم يأت بلفظ:"أشهد".

7 -

وقال الأستاذ محمد ياسين: الجهاد يعتبر الوسيلة العملية المشروعة؛ لتحقيق عقائد البشر، والعدل بين العباد، والقضاء على ظلم الطواغيت،

ص: 396

وإزاحتهم من مركز القوة، وطريق الدعوة، فمن الطبيعي إذن أن ينتهي القتال كلَّما وصل الدعاة إلى تحقيق الدعوة الإسلامية، فغاية القتال في الإسلام يدل بوضوح على وجوب كف القتال عن قوم يقبلون الدخول في الإسلام.

8 -

وفي الحديث وأمثاله دلالة ظاهرة لمذهب المحققين، وجماهير السلف والخلف أنَّ الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا، كفاه ذلك عن تعلم أدلة المتكلمين، ومعرفة الله تعالى بها، خلافًا لمن أوجب ذلك، وجعله شرطًا في كونه من أهل القبلة، وهذا خطأ ظاهر، فإنَّ المراد: التصديق الجازم، وقد حصل، ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به، ولم يشترط المعرفة بالدليل.

وقد تظاهرت بهذا الأحاديث التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، والله أعلم.

***

ص: 397

1122 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَجٌ، فَتَحَرَّجُوا، فَأَنْزلَ اللهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ

} الآية". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- سبايا: جمع "سبية"، قال في "النهاية": السبية المرأة المنهوبة، جمعها "سبايا".

- أوطاس: تقدم تفصيل الكلام فيها، وهو موضع بين مكة والطائف، صار فيه معركة بين المسلمين، والكفار من قبيلة هوازن، في شوال سنة ثمان من الهجرة، وهي امتداد لمعركة حنين.

- فتحرَّجوا: خافوا أن يقعوا في الحرج، وهو الذنب والإثم.

- المُحصنات: من حصن المكان حصانة، فهو حصين، فالمادة تدور على الحصانة والحفظ، قال الراغب في:"مفردات القرآن": والحَصَان في الجملة إما بصفتها، أو تزوجها، أو بمانع من شرفها، وحديثها. اهـ.

فالمحصنات جاءت في القرآن على أربعة معان: العفيفات، والمسلمات، والحرائر، والمتزوجات، والأخير هو المراد هنا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

إذا استولى المسلمون بالجهاد على نساء الكفار وذريتهم، فإنَّهم صاروا أرقَّاء بمجرد السبي.

(1) مسلم (1456).

ص: 398

قال في "شرح الإقناع ": وإن سبيت المرأة وحدها -دون زوجها- انفسخ نكاحها، وحلَّت لسابيها؛ لحديث أبي سعيد الخدري.

2 -

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ومن المحرَّمات في النكاح: "المحصنات من النساء" أي: ذوات الأزواج {إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فإنَّه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج:{إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ؛ أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج، حلَّت للمسلمين، بعد أن تُستبرأ.

3 -

الحديث دليل على انفساخ نكاح المسبية وجواز وطئها، ولو قبل إسلامها؛ سواء كانت كتابية أو وثنية، فإنَّ الآية عامة، فإنَّه لا يعلم أنَّه صلى الله عليه وسلم عرض على السبايا الإسلام، ولا نهى سابيها عن وطئها قبل إسلامها، وهو مذهب جمهور العلماء.

4 -

أما المشهور من مذهب الإمام أحمد:

فقال في "المقنع": ومن حرُمَ نكاحها، حرم وطؤها بملك اليمين.

قال في "الإنصاف": هذا المذهب، وعليه الأصحاب.

واختار الشيخ تقي الدين جواز وطء إماء غير أهل الكتاب.

قال ابن القيم في "الهدي": "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا، فكأنَّ الصحابة تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا مَلَكَتْ} [النساء: 24]، أي: لكم حلال إذا انقضت عدَّتهن"[رواه مسلم].

فتضمن هذا الحكم إباحة وطء المسبية، وإن كان لها زوج من الكفار، وهذا يدل على انفساخ نكاحه، وزوال عصمته بغُنم امرأته، وهذا هو الصواب.

ودلَّ هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين،

ص: 399

فإنَّ سبايا أوطاس لم يكنَّ كتابيات، ولم يشترط صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن، ولم يجعل المانع إلَاّ الاستبراء فقط.

5 -

القصد أنَّه لا يحل وطؤها إذا كانت حاملاً حتى تضع، ولا غير ذات الحمل حتى تسْتبرىء بحيضة؛ وذلك لما روي أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس:"لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة".

***

ص: 400

1123 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً -وَأَنَا فِيهِمْ- قِبلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلاً كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- نجد: -بفتح النون، وسكون الجيم، آخره دال- هي لغةً: المكان المرتفع، وهي قلب الجزيرة العربية، ذلك أنَّ حدودها ما يلي:

غربًا: سفوح جبال السراة الشرقية.

شرقًا: حدود بلدان الخليج، والإحساء.

جنوبًا: الربع الخالي.

شمالاً: مشارف بلدان الشام.

- سُهْمَانُهُم: -بضم السين- جمع "سهم"؛ هي نصيبهم من الغنيمة.

- نُفِّلوا: بتشديد الفاء، ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل، وهي المفعول الأول.

- بعيرًا بعيرًا: "بعيرًا" الأول مفعول ثانٍ، منصوب، و"بعيرًا"، الثاني مفعول ثانٍ منصوب لفعل محذوف تقديره: نفل كل واحد بعيرًا.

والتنفيل: هي زيادة يزادها الغازي على نصيبه من المغنم.

(1) البخاري (3134)، مسلم (1749).

ص: 401

1124 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوْمَ خَيْبرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا" مُتَّفَقٌ عَليْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبخَارِيِّ، وَلأبِي دَاوُدَ:"أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمًا لَهُ"(1).

ــ

* درجة الحديث:

رواية أبي داود جاءت من طريق ابن معاوية، وسفيان الثوري عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، فسندها صحيح؛ لأنَّه على شرط الشيخين.

* مفردات الحديث:

- الفَرس: بفتحتين، واحد الخيل، يطلق على الذكر والأنثى، جمعه أفراس وفروس.

- الرَّاجِل: هو الماشي على رجليه، خلاف الفارس، يجمع على رجال ورجالة.

(1) البخاري (4228)، مسلم (1762)، أبو داود (2733).

ص: 402

1125 -

وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا نَفَلَ إِلَاّ بَعْدَ الخُمُسِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال محرره: الحديث أخرجه أبو عبيد في الأموال، بقوله: حدَّثنا عفَّان عن أبي عوانة عن أبي الجورية عن معن بن يزيد أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلَاّ بعد الخُمُس" ثم ساق أبو عبيد الحديث من طريق أخرى إلى حبيب بن مسلمة يرفعه، كما ذكر أثرًا عن عمر بن الخطاب، ثم قال: وكذلك يروى عن التابعين.

قال المؤلف: صحَّحه الطحاوي. اهـ.

وقال ابن عبد الهادي في "المحرر": رواه أحمد، وأبو داود بإسنادٍ صحيح.

* مفردات الحديث:

- الخُمس: خُمسُ الغنيمة، يقسم إلى خمسة أسهم:

1 -

سهم لله ورسوله، وهو للمصالح العامة.

2 -

وسهم لذوي القربى.

3 -

وسهم لليتامى.

4 -

وسهم للمساكين.

5 -

وسهم لابن السبيل.

(1) أحمد (3/ 470)، أبو داود (2753)، الطحاوي (3/ 242).

ص: 403

1126 -

وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبعُ فِي البَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصحَّحه ابن الجارود، وابن حبَّان، والحاكم عن حبيب بن مسلمة، وله شواهد:

1 -

حديث عبادة بن الصامت؛ وقد صحَّحه ابن حبان.

2 -

حديث معن بن يزيد، رواه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه الطحاوي.

* مفردات الحديث:

- البَدْأَة: -بفتح الباء، وسكون الدال المهملة، ثم ألف،. فهمزة، فتاء التأنيث -هي ابتداء السفر إلى العدو.

- الرَّجعة: -بفتح الراء، وسكون الجيم المهملة- هي الرجوع، والإيقاع بالعدو مرَّة ثانية.

(1) أبو داود (2750)، الجارود (1079)، ابن حبان (4815)، الحاكم (2/ 133).

ص: 404

1127 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الجَيْشِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الأحاديث:

1 -

في الحديث رقم (1123) بيان مشروعية بعث السرايا إلى العدو ، لاستنزاف قوته، وعدته، وإرهابه.

2 -

أنَّ ما تغنمه السرايا المستقلة عن جيش من الكفار هو خاص لها، لا يشاركها المسلمون فيه، وإنما يؤخذ منه الخُمس الذي يصرف مصرف الفيء.

3 -

أنَّ الغنيمة وإن كثرت تكون بين غزاة السرية بقدر سهمانهم، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه.

4 -

إباحة تنفيل مقاتلة السرية زيادة على سهمانها، بما يراه الإمام؛ تقديرًا لجهادهم، وإخلاصهم، وتشجيعًا لهم، ولغيرهم على الجهاد.

5 -

أما الحديث رقم (1124): فيدل على صفة قسمة الغنيمة بين أفراد الجيش المجاهد، فيعطي الراجلَ سهمًا واحدًا، ويعطي الفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه؛ تقديرًا لبلائه، وعنَائه في الحرب، فإنَّ الخيل لها دور كبير في الجهاد من الكر والفر، والهجوم على الأعداء، قال تعالى:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} [العاديات]، وقال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].

(1) البخاري (3135)، مسلم (1750).

ص: 405

6 -

وأما الحديث رقم (1126): فيدل على جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش، فتغير على العدو، وتغنم منه، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم، تقديرًا لأعمالهم، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزاة، لكن إن كانت غارة السرية في ابتداء سفر الغزو، والمجاهدين، فتعطى ربع ما غنمت، وإن كانت غارة السرية بعد عودة المجاهدين، فتعطى ثلث ما غنمت.

7 -

ووجه زيادة أفراد السرية في حالة القفول على حالة البدء، أنَّها في حالة القفول قد فقدت السند الذي تتقوى به، والجيش الذي تأوي إليه، والفئة التي تنحاز إليها، بخلاف حال البدء، فإنَّ الجيش يسندها، ويقويها، ويؤمها، كما أنَّ الغزو في حالة القفول في حال شوق ورغبة إلى أهله ووطنه، ومتشوف لسرعة الأوبة، لهذا -والله أعلم- استحقت السرية زيادة التنفيل في حالة الرجعة.

8 -

وفي الحديث ما يدل على أنَّه صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد عن الثلث في التنفيل.

9 -

وصفة التنفيل: أنَّ السرية التي تنهض في جملة العسكر، إذا أوقعت بالعدو، فما غنموا في البداءة، كان لهم فيه الربع، وما غنموا في القفول، كان لهم فيه الثلث، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة الأرباع، أو في الثلثين.

10 -

أما الحديث رقم (1127): فيدل على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن ينفل كل من يبعثه من السرايا، بل إن التنفيل، أمر راجع إلى اجتهاد الأمير ورأيه، فإن رأى مصلحة في التنفيل وتزويد السرية على الجيش زادها، وإن رأى المصلحة في تَرْكِهِ تَرَكَهُ.

11 -

القاعدة أنَّ العبد إذا خيِّر بين شيئين فأكثر، فإن كان التخيير لمصلحته، فهو تخيير يرجع إلى شهوته واختياره، وإن كان لمصلحة الغير، فهو تخيير يلزمه فيه الاجتهاد، واختيار الأصلح، وتخيير الأمير هنا بين التنفيل، أو عدمه من النوع الأخير، الراجع إلى وجوب اختيار الأصلح.

ص: 406

1128 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كُنّاَ نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ وَالعِنَبَ، فَنأْكُلُهُ، وَلَا نَرْفَعَهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَلأَبِي دَاوُدَ: "فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الخُمُسُ". وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

1129 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: "أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَالحَاكِمُ (2).

ــ

* درجة الحديثين:

أما حديث ابن عمر: فرواية أبي داود صحيحة، فقد صححها كلٌّ من ابن حبَّان والبيهقي، وسكت عنها المنذري.

وأمَّا حديث عبد الله بن أبي أوفى: فصحيح.

قال في "التلخيص": رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقي، وقال هنا: صحَّحه ابن الجارود، والحاكم، وللحديث شواهد كثيرة من نوعه:

منها: ما رواه الطبراني من حديث عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: "لم يُخَمَّس الطعام يوم خيبر".

ومنها: ما رواه الطيالسي في مسنده بإسناد، صحيح، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قَال: أصبتُ جرابًا يوم خيبر من شحم، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحييت منه، فقال: هو لك.

(1) البخاري (3154)، أبو داود (2701)، ابن حبان (4805).

(2)

أبو داود (2704)، ابن الجارود (1072)، الحاكم (2/ 126).

ص: 407

1130 -

وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابتٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر، فَلَا يَرْكبُ دَابَّةً مِنْ فيْءِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال في "التلخيص": رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، وقال في "البلوغ": رجاله لا بأس بهم، وحسَّنه في "فتح الباري"، وللحديث ما يشهد له، ويقويه من تحريم الغلول من الغنيمة، كالحديث الذي أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكر، وعمر حرَّقوا متاع الغال، ومنعوه أسهمه".

* مفردات الحديث:

- الفَيء: أصله: الرجوع، يقال: فاء الظل: إذا رجع نحو المشرق، وسمي المال المأخوذ من الكفار بلا قتال: فيئًا؛ لأنَّه رجع من المشركين إلى المسلمين.

- أعجفَهَا: بفتح الهمزة، وسكون العين المهملة، أهزلها وأضعفها، والعجفاء: الهزيلة، جمعها عِجاف وعجف.

- أخْلقه: بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجمة، بمعنى: أبلاه.

(1) أبو داود (2159)، الدارمي (2/ 230).

ص: 408

* ما يؤخذ من الأحاديث:

1 -

الحديثان رقم (1128 و1129) يدلان على أنَّ لأفراد الجيش، أو السرية أخذ الأشياء المستهلكة من القوت، والفاكهة، وما يصلح القوت، وكذلك علف الدواب ونحو ذلك من الأشياء التي جرت العادة بالسماحة بها، وجواز الانتفاع بها، دون استئذان الأمير.

2 -

ويدل الحديثان أيضًا على أنَّ أخذ هذه الأشياء ليس من الغلول المحرَّم المنهي عنه.

3 -

أما الحديث رقم (1130): فيفيد تحريم أخذ الأشياء التي من أعيان الغنيمة، وما سيقسم بين الغانمين، ولو كان ذلك على وجه الاستعمال، ثم يرده إلى الغنيمة.

وذلك مثل أخذ دابة. من الغنيمة، أو من الفيء، فيستغلها، ثم يعيدها، أو يأخذ ثوبًا، أو فراشًا من الفيء، أو الغنيمة: فيستعمله، ثم يرده في الغنيمة، فهذا لا يجوز؛ لأنَّه من أنواع الغلول، فهو اغتصاب لمنافع مشتركة.

4 -

ولعلَّ إعجاف الدابة، وإهزالها، وإبلاء الثوب، وتمزيقه غير مراد، وإنما جاء الأسلوب هكذا؛ لتشويه الغال ما يستعمله من أعيان الغنيمة، أو الفيء بغير حق.

5 -

ولا تحصل البراءة من تبعتها في الدنيا والآخرة إلَاّ بردها في الغنيمة، فإن لم يمكن، صرَفَها في مصالح المسلمين.

قال شيخ الإسلام: وإن بقيت بيد تائب غصوب لا يعرف أربابها، صَرَفَها في مصالح المسلمين، وكذا حكم الرهون، والودائع، وسائر الأمانات.

***

ص: 409