المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب السبق والرمي - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٦

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب السبق والرمي

‌باب السبق والرمي

مقدمة

السبق: مصدر سبق يسبق سبقًا، والسَّبَقُ بتحريك الباء: الجُعل الذي يسابق عليه.

وبسكون الباء: هو الفعل، أي: المجاراة بين حيوان ونحوه.

قال الشيخ تقي الدين: السباق بالخيل، والرمي بالنَّبل، ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: المغالبات ثلاثة أقسام:

الأول: يجوز بلا عوض، ولا يجوز بالعوض، وهذا هو الأصل، فدخل في هذه: المسابقة على الأقدام، والسفن، والمصارعة، ومعرفة الأشد فيما ليس فيه تهلكة.

الثاني: لا يجوز بعوض، ولا بغير عوض؛ وذلك كالشطرنج، والنرد، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو أدخلت في محرم.

الثالث: تجوز بعوض؛ وهي المسابقة، والمغالبة بين السهام، والإبل، والخيل.

وقال الأستاذ طبارة: الصلاة هي رياضة دينية إجبارية، لكل مسلم يؤديها خمس مرات، بلا إجهاد، ولا إرهاق، فتكون خير مقوم للبدن، ومنشط لأمعائه، ورياضة صالحة لعضلات جسمه ومفاصله، وإذا تأملنا حركات الصلاة وجدنا شبهًا بينها وبين النظام السويدي في

ص: 448

الرياضة، والنظام السويدي لا يزيد عمره عن مائة سنة، في حين أنَّ نظام الصلاة في الإسلام مضى عليه ألف وأربعمائة عام.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: اللعب بأنواع الرياضيات في وقت الصلاة المكتوبة لا يجوز بحال، وهو من المنكرات الواجب إنكارها، فإن لم تكن وقت صلاة، فلا نرى مانعًا يمنع جوازها.

وحكم الرياضة في الإسلام الجواز والاستحباب، ما كان منها بريئًا هادفًا إلى ما فيه التدريب على الجهاد، وتنشيط الأبدان، وتقوية الأرواح.

***

ص: 449

1144 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "سَابَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالخَيْلِ الَّتِي قَدْ ضُمِّرَتْ مِنَ الحَفْيَاءِ، وَكانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي لمْ تُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بنَي زُرَيْقٍ، وَكانَ ابْنُ عُمَرَ فِيْمَنْ سَابَقَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

زَادَ البُخَارِيُّ، قَالَ سُفْيَانُ:"مِنَ الحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاع خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةٌ، وَمِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بنَي زُرَيْقٍ مِيلٌ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ضُمِّرتْ: مبني للمجهول، فهي مضمومة الأول، مشددة الميم، فراء مفتوحة.

قال علماء اللغة: التضمير: أن يكثر له العلف، والماء مدة أربعين يومًا حتى يسمن، ثم يرده إلى القوت، ويجريه في الميدان، حتى تجف، وتدق، وتضمر.

- الحفياء: -بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، بعدها مثناة تحتية ممدودة، وقد تقصر-. قال السمهودي: الحفيا: بأدنى الغابة، شامي البركة، مغيض العين.

قال محرره: والغابة: وهي محل السباق من شمال المدينة، من وراء جبل أحد.

- أمدها: بفتح الهمزة، وفتح الميم، ثم دال مهملة؛ أي: غايتها.

(1) البخاري (420، 2868)، مسلم (1870).

ص: 450

- ثنية الوداع: الثنية: هي العقبة، وجمعها ثنايا، وقد اختلف العلماء في ثنية الوداع التي قرب المدينة: هل هي على طريق مكة، أو على طريق الشام؟

وقال الفيروزآبادي في "معالم طابة": ثنية الوداع، بفتح الواو من التوديع، وهي ثنية مشرفة يطؤها من يريد مكة، وقال أهل السير، والتاريخ، وأصحاب المسالك: إنَّها من جهة مكة، وأهل المدينة يظنونها من جهة الشام، وكأنهم اعتمدوا قول ابن القيم، فإنَّه قال: من جهة الشام ثنيات الوداع، ولا يطؤها القادم من مكة ألبتة، ووجه الجمع أنَّ كلتا الثنيتين تسمى: ثنية الوداع، والله أعلم.

- مسجد بني زُريق: بنو زريق بطن من الخزرج من الأنصار، وهو تصغير أزرق، ومحلتهم: قِبلة المسجد النبوي الشريف، داخل سور المدينة المنورة.

قال السمهودي: وقد أحدث في جهة قبلة المصلى مما يلي المغرب مسجدان بعد (850) ذراعًا، نبهت على ذلك؛ لئلا يتقادم العهد بها، فيظن أنَّ أحدهما مسجد بني زريق؛ لكون ذلك بالناحية المذكورة، والله أعلم.

- خمسة أميال: الميل: ألف وستمائة متر.

***

ص: 451

1145 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ، وَفَضَّلَ القُرَّحَ فِي الغَايَةِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال ابن عبد الهادي: إسناده صحيح.

وقال الشوكاني: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وصححه ابن حبان، وقد حسَّنه الترمذي.

* مفردات الحديث:

- سابق: من: المسابقة، وهي السبق الذي يشترك فيه اثنان، وباب المفاعلة يقتضي ذلك، وهذا اللفظ الذي جاء في الصحيحين.

أما الشيخ محمَّد أمين كتبي فقال: "سابق الخيل"، هكذا بالألف من باب فاعل. وفي نسخ "البلوغ"، و"سبل السلام"، والذي في النسخة الهندية، والمصرية:"سبَّق" بتشديد الباء، ومعناه: أعطى السبق للسابق.

- القُرَّح: -بضم القاف، وتشديد الراء، آخره حاء مهملة- جمع: قارح، وهي التي سقطت سنها، التي تلي الرباعية، ونبت مكانها نابها، وذلك إذا أتمت السنة الخامسة.

- فضَّل القُرح: يجعل غايتها أبعد؛ لقوتها وجلدها.

(1) أحمد (2/ 157)، أبو داود (2577)، ابن حبان (4669).

ص: 452

- الغاية: بالغين المعجمة، ثم ألف، بعده ياء مثناة تحتية، ثم تاء التأنيث، غاية كل شيء نهايته وآخره، وجمع الغاية: غاي وغايات، والغاية: مسافة المضمار من مبتدأ انطلاق المتسابقين إلى نهايته.

***

ص: 453

1146 -

وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "لَا سَبَقَ إِلَاّ فِي خُفٍّ، أوْ نَصْلٍ، أو حَافِرٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال ابن عبد الهادي: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وصحَّحه ابن القطان. اهـ.

وصححه ابن دقيق العيد، كما في التلخيص لابن حجر.

قال الشيخ الألباني: أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي، وقال الترمذي: حديث حسن، وإسناده صحيح، فرجاله كلهم ثقات، وللحديث طرق:

1 -

عن أبي هريرة أيضًا: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والنسائي، وفيه أبو الحكم، وهو مجهول.

2 -

عن أبي هريرة أيضًا: أخرجه أحمد، والنسائي، وفيه ابن لهيعة، وإسناد النسائي صحيح، فرجاله كلهم ثقات.

3 -

عن ابن عباس: أخرجه الطبراني، ورجاله موثوقون، وفيه الغروي ضعيف.

4 -

عن ابن عمر: أخرجه ابن عدي، وابن حبَّان، وفيه عاصم بن عمر ضعيف، فالحديث بهذه الطرق صحيح.

(1) أحمد (2/ 474)، أبو داود (2574)، الترمذي (1700)، النسائي (6/ 226)، ابن حبان (4671).

ص: 454

* مفردات الحديث:

- لا سبَقَ: السبق بفتح الباء: هو الجُعل، والعِوض الذي يوضع لذلك، فهو المنفي المنهي عنه، وأما بسكون الباء فهو مصدر: سبق يسبق سبْقًا.

- خُف: بضم الخاء، ثم فاء مشدَّدة، المراد بالخف: الإبل؛ لأنَّها ذوات الأخفاف.

- نصْل: بفتح النون، وسكون الصاد المهملة، آخره لام، المراد به: السهم.

- حافر: المراد بالحافر: الخيل؛ لأنَّها من ذوات الحافر، وكلها من إقامة المضاف مقام المضاف إليه.

* فائدة:

قال ابن بطال في "غريب المهذب": الخف للإبل، والحافر للفرس، والبغل، والحمار، والظِّلْف لسائر البهائم، والمِخْلب للطير، والظفر للإنسان.

* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة:

1 -

المغالبات، والمراهنات، والمخاطرات ممنوعة كلها، لاسيَّما إذا كانت بِعِوض؛ لأنَّها من أنواع الميسر الذي قال تعالى فيه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة].

2 -

الميسر هو القمار، ويدخل فيه كل المغالبات على عوض، ذلك القمار الذي يفضي إلى العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله بما يسبب لأصحابه من الغفلة، والذهول، وتعلق القلب بالكسب والخسارة.

فهو يجلب أرباحًا كبيرة بلا تعب، ولا عناء، ولا جهد، ولا كدّ، أو يسبب خسارة عظمى، وإفلاسًا، وبسبب هذا -أي: التقلب المفاجيء- يصبح الإنسان غنيًّا كبيرًا، أو يمسي فقيرًا مُدقِعًا، فمن أجل مفاسده الكبيرة، حرَّمه الله.

ص: 455

3 -

فالشرع أجاز من هذه المغالبات ما أعان على الجهاد في سبيل الله، فإنَّه أجاز السباق على الخيل، والإبل، كما أجاز الرمي والمناضلة؛ لأنَّ هذا كله مما يعين تعلمه، والمهارة فيه على الجهاد في سبيل الله، ونصر دينه.

4 -

الحديث رقم (1144): يدل على جواز المسابقة على الخيل؛ لأنَّ الخيل في ذلك الزمن هي العُدة التي يقاتل عليها أعداء الإسلام.

قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

5 -

ومن نظام المسابقة عليها أنَّ كل نوع من الخيل يتسابق أفراده بعضه مع بعض، فالخيل المُضمرة تتسابق وحدها، والخيل التي لم تُضمر تتسابق وحدها؛ ليحصل الفوز بين واحد، وآخر بنفس الجودة والقوة، فلا يعزى السبب إلى شيء آخر خارج عن موضوع المنافسة.

6 -

الفرق بين المضمرة، وغير المضمرة: أنَّ المضمر أخف، وأسرع في الجري، وأمتع في طول الحضر، بخلاف غير المضيرة، فهي بطيئة الجري.

7 -

الخيل المضمرة: هي التي دقت، ولطفت بطونها، ونشف الماء من لحمها، وأعدت للسباق، أو القتال؛ وذلك بأن تعلف حتى تسمن، ثم بعد السمن تعطى من العلف قليلاً جدًا، حتى يذهب ماؤها ورهالها، وتخفف حتى يكون فيها بقية السمن، وفيه الخف، والضمر من الترهيل.

أما غير المضمرة: فقد علفت حتى سمنت، وبقيت في زيادة الأكل، فلا تزال في بدانتها، وانتفاخها.

8 -

ليأخذ السباق دوره الحقيقي، فإنَّه جعل لكل نوع من الخيل غايته، ومداه الذي يناسبه، ويليق به، فالخيل المضمرة غايتها من الحفياء إلى ثنية الوداع، وقدر هذه المسافة خمسة أميال، أو ستة.

وأما التي لم تضمر فأمدها، وغايتها من الثنية إلى مسجد بني زريق،

ص: 456

وغاية هذه المسافة، وأمدها ميل واحد.

9 -

أما الحديث رقم (1145): فإنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وفضَّل القُرَّح، وهي ما كمل سنها خمس سنين؛ لأنَّها أمتع، وأقوى على الجري، والسباق.

10 -

القتال وسلاحه وعُدته تطور الآن عن حالته السابقة تطورًا بعيد المدى، وأصبحت العلوم العسكرية، والفنون الحربية تتلقى الآن في المدارس والكليات المنوعة، وميادين التدريب، وأصبحت الحرب بمعرفة استعمال أسلحته من الرشاشات، والمدافع والصواريخ، والطائرات الحربية المقاتلة، والدبابات، والمدرعات، والغواصات، وما أشبه ذلك.

وأصبح رجال الحرب، والدفاع برتبهم، ومؤهلاتهم وتخصصاتهم وحماية الأوطان، وإعطاء الرتب الرفيعة، لمن قام بعمل بطولي، أو تقدم في ميدان علمي عسكري مشروع؛ لتنشيط وتشجيع البارزين، والمتفوقين في هذه الميادين، كما أنَّ إجراء المنافسة، والتسابق في التفوق في الميادين الحربية هو من الأمور المحبوبة المشروعة؛ لأنَّها يعز بها الإسلام، ويرد به كيد أعداء الإسلام والمسلمين، ويحمي الوطن والمواطنين من الأعداء، والطامعين، والمعتدين.

11 -

أما الحديث رقم (1146): فهو يدل على ما قلنا من أنَّ المراهنة والمخاطرة لا تجوز إلَاّ في ثلاثة أشياء هي:

1 -

الخف: والمراد بها: الإبل.

2 -

النصل: هو الرمي بالنشاب ونحوه.

3 -

حافر: والمراد بها: الخيل.

12 -

وتقدم أنَّ هذه الأمور هي أداة القتال، والجهاد في سبيل الله في ذلك الزمن، وأنَّ ما ظهر من الأسلحة المتطورة، وآلات القتال، ومراكبه

ص: 457

الحديثة، فإنَّها داخلة في هذا النص، نظرًا إلى أنَّ العبرة عموم المعنى، لا خصوص اللفظ.

13 -

قال ابن القيم: السبق: عقد مستقل بنفسه، له أحكام يختص بها، ويتميَّز بها عن الإجارة، والجعالة، والنذور، والفداء، ونحوها، وليس من باب الجعالة، ولا الإجارة، ومن أدخله في أحد هذين البابين تناقض.

إلَاّ أن يقصد الباذل تمرين من يسبقه، كولده، والمعلم للمتعلم، فهذا هو الجعالة المعروفة، والغالب فيها مسابقة النظراء بعضهم لبعض.

14 -

قال شيخ الإسلام: السباق بالخيل، والرمي بالنبل، ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّه مما يعين على الجهاد في سبيل الله، فالسبق والصراع ونحوهما طاعة، إذا قصد به نصرة الإسلام، وأخذ العوض عليه أخذ بالحق.

15 -

وقال: يجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة، بلا مضرة، وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كالتجارة، وأما سائر ما يتلهى به من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: اللعب بأنواع الرياضيات في وقت الصلاة، أو ما يقارب وقتها لا يجوز بحال، وهو من المنكرات، وحكمه حكم ما يلهي عن ذكر الله، وعن الصلاة.

فإن لم تكن وقت صلاة، ولا قرب المساجد، فلا نرى مانعًا يمنع جوازها، فحكم الرياضة في الإسلام الاستحباب؛ لما كان بريئًا منها، هادفًا إلى ما فيه التدريب على الجهاد، وتنشيط الأبدان.

16 -

وقال الأستاذ طبارة: الصلاة رياضة فى ينية بغير إجهاد، ولا إرهاق، فهي خير مقوٍّ لبدن الإنسان، ومنشط لأمعائه وعضلات جسمه، ومفاصله.

ص: 458

وإذا قارنَّا بين حركات الصلاة، وبين ما جاء به نسج السويدي، نرى أنَّ حركة الجسم أثناء الصلاة أحكم، وأصلح لكل سن، وجنس.

* قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع: "الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران":

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ، الموافق 21 أكتوبر 1987م، قد نظر في موضوع الملاكمة والمصارعة من حيث عدهما رياضة بدنية جائزة، وكذلك في مصارعة الثيران المعتادة في بعض البلاد الأجنبية، هل تجوز في حكم الإسلام أو لا تجوز؟

وبعد المداولة في هذا الشأن من مختلف جوانبه، والنتائج التي تسفر عنها هذه الأنواع التي نسبت إلى الرياضة، وأصبحت تعرضها برامج البث التلفازي في البلاد الإسلامية وغيرها.

وبعد الاطلاع على الدراسات التي قدمت في هذا الشأن بتكليف من مجلس المجمع في دورته السابقة من قِبل الأطباء ذوي الاختصاص، وبعد الاطلاع على الإحصائيات التي قدمها بعضهم عما حدث فعلاً في بلاد العالم نتيجة لممارسة الملاكمة، وما يشاهد في التلفزة من بعض مآسي المصارعة الحرة، قرَّر مجلس المجمع ما يلي:

أولاً: الملاكمة: يرى المجلس بالإجماع أنَّ الملاكمة المذكورة، التي أصبحت تُمارس فعلاً في حلبات الرياضة، والمسابقة في بلادنا اليوم، هي ممارسة محرَّمة في الشريعة الإسلامية؛ لأنَّها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من

ص: 459

المتغالبين للآخر إيذاءً بالغًا في جسمه، قد يصل به إلى العمى، أو التلف الحاد، أو المزمن في المخ، أو إلى الكسور البلغية، أو إلى الموت، دون مسؤولية على الضارب، مع فرح الجمهور المؤيد للمنتصِر، والابتهاج بما حصل للآخر من الأذى.

وهو عمل محرم، مرفوض كليًّا وجزئيًّا في حكم الإسلام؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا ضرر ، ولا ضرار".

وعلى ذلك، فقد نص فقهاء الشريعة على أنَّ من أباح دمه لآخر، فقال له:"اقتلني" أنه لا يجوز له قتله، ولو فعل كان مسؤولاً، ومستحقًا للعقاب.

وبناءً على ذلك، يقرر المجمع أنَّ هذه الملاكمة لا يجوز أن تسمى رياضة بدنية، ولا تجوز ممارستها؛ لأنَّ مفهوم الرياضة يقوم على أساس التمرين، دون إيذاء أو ضرر، ويجب أن تحذف من برامج الرياضة المحلية، ومن المشاركات فيها في المباريات العالمية، كما يقرر المجلس عدم جواز عرضها في البرامج التلفازية، كيلا تتعلَّم الناشئة هذا العلم السيء، وتحاول تقليده.

المصارعة الحرة: وأما المصارعة الحرة التي يستبيح فيها كل من المتصارعين إيذاء الآخر، والإضرار به، فإنَّ المجلس يرى فيها عملاً مشابهًا تمام المشابهة للملاكمة المذكورة، وإن اختلفت الصورة؛ لأنَّ جميع المحاذير الشرعية التي أشير إليها في الملاكمة موجودة في المصارعة، التي تجري على طريقة المبارزة، وتأخذ حكمها في التحريم.

وأما الأنواع الأخرى من المصارعة التي تمارس لمحض الرياضة البدنية، ولا يستباح فيها الإيذاء، فإنَّها جائزة شرعًا، ولا يرى المجلس مانعًا منها.

ص: 460

ثالثًا: مصارعة الثيران: وأما مصارعة الثيران المعتادة في بعض بلاد العالم، والتي تؤدي إلى قتل الثور ببراعة استخدام الإنسان المدرَّب للسلاح، فهي أيضًا محرَّمة شرعًا في حكمِ الإسلام؛ لأنَّها تؤدي إلى قتل الحيوان تعذيبًا، بما يغرس في جسمه من سهام، وكثيرًا ما تؤدي هذه المصارعة إلى أن يقتل الثورُ مصارِعَه.

وهذه المصارعة عمل وحشي، يأباه الشرع الإسلامي الذي يقول رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"دخلت امرأة النار في هرَّة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".

فإذا كان هذا الحبس للهرة يوجب دخول النار يوم القيامة، فكيف بحال من يعذب الثور بالسلاح حتى الموت؟!

رابعًا: التحريش بين الحيوانات: ويقرر المجمع أيضًا تحريم ما يقع في بعض البلاد من التحريش بين الحيوانات؛ كالجمال، والكباش، والديكة، وغيرها، حتى يقتل، أو يؤذي بعضها بعضًا.

وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربِّ العالمين.

***

ص: 461

1147 -

وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أنْ يَسْبِقَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ". رَوَاهُ أَحمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

وللأئمة في هذا الحديث كلام كثير، قال ابن معين: هذا باطل، وقد غلَّط الشافعي من رواه عن سعيد عن أبي هريرة، وهذا هو الحديث الذي أنكره المزى، وابن القيم، وغيرهما، وسيأتي وجه بطلانه إن شاء الله في الكلام على فقه الحديث.

* مفردات الحديث:

- قِمَار: بكسر القاف، وفتح الميم، بعدها ألف، آخره راء، والقمار هو: الميسر، ويشمل جميع المغالبات، والمخاطرة بالمال، غير ما استثني من ذلك، والقِمار الآن تطورات وسائله وآلاته، فهم يُجرُونَهُ بالنقود، والأشياء الثمينة على لعب الحظ والمهارة، وتُعد أوراق اليانصيب نوعًا من القمار.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال في "الدليل وشرحه": تصح المسابقة إذا كان فيها جُعل بشروط خمسة:

أحدها: تعيين المركوبين، لا الراكبين.

الثاني: اتحاد المركوبين، فلا يصح بين عربي، وهجين.

الثالث: تحديد المسافة، والغاية بما جرت به العادة.

(1) أحمد (2/ 505)، أبو داود (2579).

ص: 462

الرابع: العلم بالعوض؛ لأنَّه مال في عقد، فوجب العلم به كسائر العقود.

الخامس: الخروج من شُبه القمار؛ وذلك بأن يكون العوض من واحد، فإن أخرج كل واحد من المتسابقين شيئًا لم يجز، إلَاّ بمحلل لا يخرج شيئًا.

2 -

أما ابن القيم: فقال عن الشرط الخامس في كتابه "الفروسية":

إنَّ هذا الشرط ليس صحيحًا شرعًا، فما علمت أحدًا من الصحابة اشترط المحلل، وأما لفظ:"من أدخل فرسًا بين فرسين" فليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام سعيد بن المسيب، وجوازه بغير محلل هو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح، وعلى فرض صحة الخبر، فإن لفظه يدل على أنه إذا سبق اثنان، وجاء ثالث دخل معهما، فإن كان تحقق من نفسه سبقهما كان قمارًا؛ لأنَّه دخل على بصيرة ليأكل مالهما، كان دخل معهما وهو لا يتحقق أن يكون سبقًا، بل يرجو ما يرجوانه، ويخاف ما يخافانه، كأحدهما، لم يكن أكلُ سبَقهِما قمارًا.

3 -

فإن كان المال من الإمام، أو ممن لم يدخل في السباق، أو من أحد المتسابقين دون الآخر، فهو جائز بذله، وأخذه لمن حاز السبق، إن كان المال من المتسابقين كليهما، ففيه الخلاف السابق، والراجح جوازه بلا محلل.

4 -

وقال الدكتور عمر الأشقر: وكلام ابن القيم حق؛ لأنَّ الحديث الذي احتج به لهذا الاشتراط غير صحيح، ولأنَّ إخراج كل واحد من المتسابقين جُعلاً مساويًا لجعل صاحبه أولى بالعدل.

قُلت: والحديث ضعَّفه الألباني في "إرواء الغليل".

5 -

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح جواز المسابقة على الخيل، والإبل، والسهام بعوض، ولو كان المتسابقان كل منهما مخرجًا العوض، ولأنَّه لا يشترط المحلل، وتعليلهم لأجل أن يخرج عن شبه القمار تعليل فيه

ص: 463

نظر، فإنَّه لا يشترط أن يخرج عن شبه القمار، بل هو قمار جائز.

6 -

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى:- المغالبات بالنسبة لأخذ العوض ثلاثة أقسام:

الأول: يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، وهذا هو الأصل والأغلب، فدخل في هذه المسابقة على الأقدام، والسفن، والمصارعة، ومعرفة الأشد في غير ما فيه تهلكة.

الثاني: لا يجوز بعوض، ولا بغير عوض؛ وذلك كالشطرنج، والنرد، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو دخلت في محرم، والحكمة منها ظاهرة.

الثالث: تجوز بعوض، وهي المسابقة، والمغالبة بين السهام، والإبل، والخيل؛ لصريح الحديث المبيح.

***

ص: 464

1148 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقْرَأُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ

} الآية، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِن القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ". رَواهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أعِدُوا: أمر من: الإعداد، وهو تهيئة الشيء للمستقبل.

- ما استطعتم: عام يشمل جميع إمكانات الإنسان حسب الظروف، والأوضاع.

- رباط الخيل: بكسر الراء، هو في الأصل: حبسها، واقتناؤها، ثم سمي الإقامة في ثغور البلاد، وحدودها: رباطًا.

- ألا إنَّ القوة الرمي: يعني: أنَّ الآية الكريمة تشير إلى أنَّ القوَّة هي في الرمي؛ لأنَّه أنكى، وأبعد عن خطر العدو، وكان الرمي وقت نزول الآية الكريمة هو بالسهام، ولكن الآية بإعجازها أطلقت القوة؛ لتكون قوَّة كل زمان ومكان، وكذلك الحديث الشريف جاء إعجازه العلمي بإطلاق الرمي، الذي يشتمل الرمي بأنواعه، وأن يفسر بكل رمي يتجدد، وبأي سلاح.

- ألا: بفتح الهمزة، وتخفيف "لا"، وهي أداة تنبيه، واستفتاح، وطلب برفق.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

في هذه الآية الكريمة يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يقوموا بالجهاد في

(1) مسلم (1917).

ص: 465

سبيل الله تعالى، وأن يستعدوا له بكل ما يقدرون عليه من أسباب القوة في وجه أعداء الإسلام، والقوة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكانت الآية مطلقة التفسير في كل زمان بما يناسبها.

2 -

قال الشيخ محمد رشيد رضا: أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الاستعداد للحرب التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ النفس، ورعاية العدل، والفضيلة، بإعداد جميع أسباب القوة لها، بقدر الاستطاعة.

ومن المعلوم بالبداهة أنَّ إعداد المستطاع من القوة يختلف باختلاف درجات الاستطاعة، في كل زمان ومكان بحسبه.

3 -

وقال الأستاذ سيد قطب: إنَّه لابد للإسلام من قوة في حقل الدعوة أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها.

إنَّ الإسلام ليس نظامًا لاهوتيًّا، يتحقق بمجرد استقراره عقيدةً في القلوب، وتنظيمًا للشعائر، ثم تنتهي مهمته، إنَّ الإسلام منهج عملي واقعي للحياة، يواجه مناهج أخر، تقوم عليها سلطات، وتقف وراءها قوى مادية، فلا مفر للإسلام لإقرار منهجه الرباني من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخر، وتقاوم المنهج الرباني، فينبغي للمسلم ألا يستشعر الخجل حينما يعلن هذه الحقيقة الكبيرة.

إنَّ الإسلام حينما ينطلق في الأرض إنما ينطلق لاعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده، وتحطيم ألوهية العبيد، وألا ينطلق بمنهج من صنع البشر، ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس لاسترقاق العبيد، ولا لاستغلال الأسواق، والخامات الرأسمالية، ولا لفرض مذهب

ص: 466

من صنع بشر جاهل قاصر؛ كالشيوعية، وما إليها من المذاهب البشرية، وإنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم، الحكيم، الخبير، البصير.

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون، الذين يقفون بالدين موقف الدفاع، وهم يتمتمون، ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي، والجهاد الإسلامي.

4 -

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: إنَّ كل ما يقدر عليه المسلمون من القوَّة العقلية، والبدنية، والعلمية داخل في ذلك كله.

فيدخل في هذه القوَّة أنواع الأسلحة من المدافع، والرشاشات، والطائرات المقاتلة، والمدرعات، والدبابات، وجميع آلات القتال المناسبة لوقتها، كما يدخل فيها الرأي الحكيم، والسياسية الرشيدة، التي بها يتقدم المسلمون، ويدركون مطلوبهم، ويندفع بها عنهم شر أعدائهم.

5 -

وقال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أقسم تعالى بالخيل، فقال:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} [العاديات]، وقد جاء في سنن أبي داود، والنسائي من حديث أبي وهب الحتيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها، وأعجازها".

وجاء في الصحيحين من حديث جرير قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بأصبعه، ويقول:"الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة".

6 -

قال محمَّد رشيد: عظم الشارع أمر الخيل، وأمر بإكرامها.

7 -

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أمر الله بالاستعداد بالمراكب عند القتال؛ فقال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وكانت هي الموجودة في ذلك الزمن، ففيها إرهاب الأعداء، والحُكم

ص: 467

يدور مع علته، فإذا كان شيء موجودًا أكثر إرهابًا منها في القتال، فإنَّ النكاية فيها أشد، وكانت مأمورًا بها، والسَّعي في تحصيلها، حتى إذا لم توجد إلَاّ بتعلم الصنعة وجب ذلك؛ لأنَّ ما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب.

8 -

وقال سيد قطب: ويخص "رباط الخيل"؛ لأنَّه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة، ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك العين مما سيجد مع الزمن، لخاطبهم بمجهولات محيرة، والمهم هو عموم التوجيه.

9 -

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنَّ القوة الرمي، ألا إنَّ القوَّة الرَّمي"، فهذا التأكيد تفسير منه صلى الله عليه وسلم بأنَّ القوَّة المذكورة في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] هي الرمي، قال الله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

10 -

وأما الأحاديث: فقد روى أصحاب السنن من حديث عقبة بن عامر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة، صانعه الذي يحتسب في صنعه الخير، والذي يجوز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله، وقال: ارموا واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا".

وروى الخمسة من حديث عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن رمى بسهم في سبيل الله، فهو عدلُ محررةٍ" والمحررة: الرقبة المعتقة.

وروى الإِمام مسلم عن عقبة بن عامر قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علِم الرمي ثم تركه، فليس منَّا".

11 -

قال القرطبي: ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب،

ص: 468

والنكاية في العدو، وأقربها تناولاً للأرواح، خصَّها الرسول صلى الله عليه وسلم بالذكر لها، والتنبيه عليها.

12 -

وقال محمَّد رشيد: إنَّ رمي العدو عن بُعد بما يقتله، أسلم من مصاولته على القُرب بسيف أو رمح، أو حربة، وإطلاق الرمي يشمل كل ما يرمى به العدو، من سهم، أو قذيفة منجنيق، أو طيارة، أو مدفع، أو غير ذلك، وإن لم يكن هذا معروفًا في عصره صلى الله عليه وسلم، فإنَّ اللفظ يشمله، والمراد منه يقتضيه، وما يدرينا لعلَّ الله أجرى الرمي على لسان رسوله مطلقًا ليدل على العموم؛ لأنَّه في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه، ومن قواعد الأصول: أنَّ العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب.

فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والدبابات، والطيارات، والمناطيد، وإنشاء المراكب الحديثة بأنواعها، ومنها الغواصات، وتجب عليهم تعلم الفنون، والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء، أو غيرها من قوى الحرب بدليل:"ما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب".

13 -

ثم قال السيد رشيد رضا: نعلم أنَّ الإِسلام دين رحمة، قد منع من التعذيب بالنار، كما يفعل الظالمون، والجبارون من الملوك بأعدائهم، كأصحاب الأخدود.

ولكن من الجهل والغباوة أن نعدَّ حرب الأسلحة النارية للأعداء لنحاربهم بها من هذا القبيل بأن يقال: إنَّ ديننا دين رحمة بهم يأمرنا أن نتحمل قتالهم إيانا بهذه المدافع، وألا نقاتلهم بها رحمة بهم، أفلا يكون من العدل أن نعاملهم بمثل ما يقاتلوننا به، وهم ليسوا أهلاً للعدل في حال الحرب.

ص: 469

قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى]، وقال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، والله أعلم.

انتهى الجزء السادس

ويليه الجزء السابع

وأوله (كتاب الأطعمة)

ص: 470