المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الحَضَانَةِ مقدمة الحضانة: بفتح الحاء وكسرها، مصدر: حضنت الصبي حَضْنًا، بفتح - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٦

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الحَضَانَةِ مقدمة الحضانة: بفتح الحاء وكسرها، مصدر: حضنت الصبي حَضْنًا، بفتح

‌باب الحَضَانَةِ

مقدمة

الحضانة: بفتح الحاء وكسرها، مصدر: حضنت الصبي حَضْنًا، بفتح الحاء وحَضَانة: جعله في حِضْنه بكسر الحاء؛ فالحضانة: تحمُّل مؤنة المحضون وتربيته.

وهي مأخوذة من: الحِضْن وهو الجَنْبُ؛ لأنَّ المربي يضم الطفل إلى حضنه.

وشرعًا: حفظ من لا يستقل بأمره عما يضره، بتربيته وعمل ما يصلحه.

قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]؛ أي: جعله الله تعالى كافلاً لها، وملتزمًا بمصالحها، فكانت في حضانته، وتحت رعايته.

وجاء في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للأم:"أنت أحق به ما لم تَنْكِحي".

وقال أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- يخاطب والد الابن المحضون: "ريحها -أي: الأم- ومسها خير له من الشُّهد عندك".

وقال ابن عباس: "ريح الأم، وفراشها، وحِجْرها خير له من الأب، حتى يشب، ويختار لنفسه".

ص: 56

قال الوزير: "اتَّفقوا على أنَّ الحضانة للأم ما لم تتزوج".

واتَّفقوا: على أنَّها إذا تزوجت، ودخل بها زوجها -سقطت حضانتها، وأنَّها إذا طُلِّقَتْ بائنًا تعود حضانتها.

قال شيخ الإسلام: "الأم أصلح من الأب؛ لأنَّها أرفق بالصغير، وأعرف بتربيته، وحمله، وتنويمه، وأصبر عليه، وأرحم به، فهي أقدر، وأرحم، وأصبر في هذا الوضع، فتعينت في حق الطفل غير المميز في الشرع".

وقال أيضًا: "جنس النساء مقدَّم في الحضانة على جنس الرجال، كما قدمت الأم على الأب، فتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته علما أخواله -هو القياس الصحيح".

وقال أيضًا: "ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ الشارع ليس له نصٌّ عامٌّ في تقديم أحد الأبوين، ولا تخيير الأبوين.

والعلماء متَّفقون على أنَّه لا يتعيَّن أحدهما مطلقًا، إنما نقدمه إذا حصل به مصلحة الحضانة، واندفعت مفسدتها، وأما مع وجود فساد أحدهما، فالآخر أولى بلا ريب".

قال محرره: "والحق أنَّ الحضانة ولاية من الولايات، لا يليها إلَاّ الأصلح فيها، والصلاح يعود إلى القيام بشؤون المحضون.

فالشرع لا يقصد من تقديم أحد على أحد مجرد القرابة، وإنما يقدِّم مَن هو الأولى فيها، والأقدر عليها، والأصلح لها، وهذا مراد العلماء مهما اختلفت عبارتهم، وترتيبهم. والله أعلم".

***

ص: 57

1001 -

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما أَنَّ امْرَاةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأرَادَ انْ يَنْتزِعَهُ مِنَّي. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنْتِ أَحَقُّ بهِ مَا لَمْ تَنكِحِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، وأحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذَّهبي.

والحديث حسن فقط، ولم يصل إلى درجة الصحة؛ للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

* مفردات الحديث:

- وِعاء: بكسر الواو والمد، هو الظرف يَجْمع الشيء ويضمه.

- ثَدي: الثدي: هو نتوء في صدر الرجل والمرأة، وهو في المرأة مجتمع اللبن؛ كالضرع لذوات الظلف والخف، يذكَّر ويؤنَّث، جمعه: أثدٍ، وثُدي.

- سِقَاء: بكسر السين، بوزن كِساء، هو وعاء من جلد يكون للماء واللبن، جمعه: أَسْقِية.

(1) أحمد (2/ 182)، أبو داود (2276)، الحاكم (2/ 207).

ص: 58

- حِجري: بفتح الحاء وكسرها، يسمى به الثوب، والحضن، أما المصدر فبالفتح لا غير، والمراد هنا هو: حضن الإنسان.

- حِوَاء: بكسر الحاء المهملة، بزنة كِساء: اسم المكان الذي يحوي الشيء؛ أي: يضمه ويجمعه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديث على أنَّ الأم أحق بحضانة الطفل من الأب، ما دام في طور الحضانة، ما لم تتزوج؛ وهذا حكم مجمع عليه بين العلماء.

2 -

ويدل على أنَّ الأم إذا تزوَّجت، ودخل بها الزوج الثاني، سقطت حضانتها، لأنَّها أصبحت مشغولة عن الولد بمعاشرة زوجها، فهو أحق من غيره بالتفرغ له؛ وهو مجمَع عليه.

3 -

هذا التفصيل من الشارع الحكيم راعى فيه حق الطفل، وحق الزوج الجديد، فالأم قبل الزول متفرغة للطفل، وإصلاح شؤونه، فحقه عليها باقٍ، أما بعد الزواج فإنَّها ستهمل أحد الحقين: إما حق زوجها، وهو آكدهما، وإما أن تعنى بزوجها، فتهمل الطفل الذي يحتاج إلى العناية الدائمة.

4 -

تقديمُ الأم على الأب في الحضانة -ما دامت متفرغة- في غاية الحكمة والمصلحة، ذلك أنَّ معرفة الأم، وخبرتها، وصبرها على الأطفال -شيء لا يلحقه أحد من أقارب الطفل، الذين أولاهم الأب.

5 -

مِن لُطْف الله تعالى بخلقه عنايته بالمستضعفين منهم، ممن ليس لهم حول، ولا طول، فهو يوصي بهم، ويُعنى بهم العناية التي تعوضهم الأمر الذي لم يصلوا إليه من العناية بأنفسهم، وهم في حالة الضعف.

6 -

ما ذكرته المرأة المشتكية من مبررات تقديمها في الحضانة هو الذي أهَّلها، لأن تكون أحق بحضانة الطفل من أبيه، فبطنها وعاؤه حينما كان جنينًا،

ص: 59

وثديها سقاؤه بعد أن وُلِد، وحِجْرها هو المكان اللين الوثير الذي يحويه، وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم المرأة على ما وصفته من نفسها؛ لاستحقاقها الحضانة.

قال ابن القيم في "الهدي": وفي هذا دليل على اعتبار المعاني، والعِلل في الأحكام، وإناطتها بها، وأنَّ ذلك أمر مستقر في الفطرة السليمة".

وقال الشوكاني: "في الحديث دليل على أنَّ الأم أولى بالولد من الأب، ما لم يحصل مانع من ذلك، كالنكاح، وحكا ابن المنذر الإجماع عليه".

فوائد:

الأولى: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الصحيح أنَّه إذا رضي الزوج بحضانة ولد الزوج الأول أن الحضانة لا تسقط، فهي باقية؛ وهذا قياس المذهب في جميع الحقوق".

الثانية: قال شيخ الإسلام: "إذا أخذت الأم الولد على أن تنفق عليه، ولا ترجع على أبيه بما أنفقته مدة الحضانة، ثم أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل، فللأب أن يأخذ الولد منها".

قال في شرح الإقناع: "ومن أسقط حقه من الحضانة، سقط لإعراضه عنه، وله العود في حقه متى شاء؛ لأنَّه يتجدد بتجدد الزمان؛ كالنفقة".

الثالثة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الصحيح الذي ذكره الفقهاء فيما إذا كان يحقق مصلحة الطفل، فإن لم يحقق كان الواجب اتباع مصلحة الطفل، ويدل على هذا أنَّ الباب كله مقصود به القيام بمصالح المحضون، ودفع المضار عنه، فمن تحققت فيه فهو أولى من غيره، وإن كان أبعد ممن لا يقوم بواجب الحضانة".

***

ص: 60

1002 -

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ امرْاةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ زَوْجِي يُرِيْدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي، وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أبِي عِنبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا غُلَامُ هَذَا أبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ"، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه الشافعي، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان من طرق عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد عن هلال بن أبي ميمونة عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة به. وتابعه ابن جريج فقال: أخبرني زياد عن هلال بن أسامة؛ أنَّ أبا ميمونة قال، وساق الحديث، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي ميمونة وصحَّحه ابن القطان قال الحاكم:"صحيح الإسناد"، ووافقه الذَّهبي وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح، وإسناده صحيح رجاله ثقات.

* مفردات الحديث:

- بئر: بكسر الباء والهمز، يؤنث، ويجوز إبدال الهمزة ياءً، وله جمعا قلة: آبار على وزن أفعال، والثاني: أبْؤُر مثل أفلس؛ وهي القليب، مطوية أو غير مطوية.

- أبي عِنَبَة: بكسر العين، وفتح النون، ثم باء موحدة مفتوحة، ثم تاء التأنيث المربوطة -واحدة: العنب.

(1) أحمد (2/ 246)، أبو داود (2277)، الترمذي (1357)، النسائي (6/ 185)، ابن ماجه (2351).

ص: 61

1003 -

وَعنْ رَافِع بْنِ سِنَانٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَاتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَقعَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأُمَّ نَاحِيَةً، والأَبَ نَاحيَةً، وَأقْعَدَ الصَّبِيَّ بَيْنَهُمَا، فَمَالَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ اهْدِهِ"، فَمَالَ إِلَى أبِيهِ، فَأَخَذَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُادَ، والنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال في "التلخيص": "رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، من حديث رافع بن سنان، وفي سنده اختلافٌ كثير، وألفاظٌ مختلفة".

قال ابن المنذر: "لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال".

وقد صححه الحاكم، وابن القطان من رواية عبد الحميد بن جعفر، ورواته ثقات.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

تقدم أنَّ العلماء أجمعوا على أنَّ الحضانة للأم ما لم تتزوَّج، فهي مقدمة على الأب؛ لما لَها من حسن الرعاية بالطفل، والصيانة، والخِبرة، والصبر، والاحتمال.

2 -

إذا بلغ الطفل سن التمييز، وصار يستغني بنفسه في كثير من الأمور -فحينئذٍ يستوي حق الأم والأب في حضانته؛ فيخير بين أبيه وأمه، فأيُهما ذهب إليه أخذه.

(1) أبو داود (2244)، النسائي (6/ 185)، الحاكم (2/ 206).

ص: 62

3 -

للعلماء خلاف في أصل التخيير، وفي سن التخيير، سيأتي إن شاء الله تعالى.

4 -

أما الحديث رقم (1003): فيفيد جواز التخيير، ولو كان أحد الأبوين كافرًا، والصبي مسلمًا، أو محكومًا بإسلإمه، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.

5 -

أنَّ الصبِيَّ المميز له إرادة معتبرة باختيار أحد أبويه دون الآخر، لكن قال ابن القيم:"التخيير لا يكون إلَاّ إذا حصلت به مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب، وأغير منه، قدِّمت عليه، ولا التفات إلى اختيار الصبي في هلذه الحالة؛ فإنَّه ضعيف العقل، يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك، فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له منهما، ولا تحتمل الشريعة غير هذا".

* خلاف العلماء:

الصبي قبل سن التمييز عند أمه بإجماع العلماء، ما لم تتزوج، فإذا بلغ سن التمييز، واستقلَّ ببعض شئونه -فقد اختلف في حاله:

فذهب بعضهم إلى: أنَّ الصبيَّ يخير بين أبويه، فيذهب مع من يختار منهما؛ وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما.

وذهبت الحنفية إلى: عدم التخيير، وقالوا:"إذا استغنى الطفل بنفسه، فالأب أولى بالصبي، والأم أولى بالأنثى، ولا تخيير في ذلك".

وذهب مالك إلى: عدم التخيير أيضًا، إلَاّ أنَّه قال:"الأم أحق بالولد؛ ذكرًا كان أو أنثى"، واستدل الإمام مالك بقوله:"أنتِ أحق به ما لم تنكحي".

وأجاب المخيِّرون بأنَّ؛ الحديث عام في الزمان، وحديث التخيير يخصصه، أو يقيده؛ وهو جمع بين الدليلين، ولكن يقيَّد هذا التخيير أو عدمه بكلام ابن القيم السابق؛ فإنَّ الحضانة ولاية يقصد بها تربية الطفل، والقيام بمصالحه، ولعلَّ كلام ابن القيم هو مراد كل من أطلق من العلماء؛ فإنَّهم

ص: 63

-رحمهم الله تعالى- لم يقصدوا من الحضانة، إلَاّ بيان مصالح الطفل، ومن الأولى القيام بشؤونه وأحواله في هذه السن المبكرة من عمره.

واختلفوا في أحقية غير المسلم بحضانة المسلم:

فذهب الحنفية إلى: أنَّ الذمية أحق بحضانة ولدها المسلم، ما لم يعقل دينًا، وعللوا ذلك: بأنَّ الحضانة مبنية على الشفقة، والأم مسلمة، أو ذمية أتم شفقة على طفلها من غيره، ولا يرفع هذه الشفقة اختلافها معه في الدين.

أما إذا عقل الصغير الأديان، فإنه يُنزَع منها؛ لاحتمال حدوث الضرر.

وذهب المالكية أيضًا إلى: أنَّ اتحاد الدين بين الحاضن والمحضون، ليس بشرط في الحاضنة، فلا ينزع من حاضنته الذمية، ولو خيف أن تطعمه لم خنزير، أو تسقيه الخمر، ومع الخوف من هذا، فإنَّ الحاضنة تُضَم إلىا أناس من المسلمين، أو إلى مسلم يراقبها في الولد، لنجمع بين المصلحتين: حضانة الأم الشفيقة، ومراقبة دينه.

واستدلوا على هذا بحديث الباب؛ فإنَّ أم الطفل لم تُسلم.

وذهب الشافعية، والحنابلة، رواية قوية للإمام مالك إلى: أنَّ اختلاف الدين مانع من الحضانة، فلا حضانة لكافر على مسلم، قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء].

واستدلوا بحديث الباب؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا للصبي بالهداية، فمال إلى أبيه المسلم، وهذا يفيد أنَّ كونه مع الكافر خلاف هدي الله تعالى.

وعلَّلوا لذلك: بأنَّ الغرض من الحضانة هي تربيته، ودفع الضرر عنه، وأنَّ أعظم تربيةٍ هي المحافظة على دينه، وأهم دفاع عنه هو إبعاد الكفر عنه.

وإذا كان في حضانة الكافر، فإنَّه يفتنه عن دينه، ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر، وتربيته عليه، وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما تثبت لحفظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه، وهلاك دينه.

ص: 64

* فوائد:

الأولى: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالرجل راعٍ في بيته، ومسؤل عن رعيته"

وحضانة الطفل لم تشرع إلَاّ من أجل تربيته الطفل، وحفظه عما يضره، وأعظم ضرر يلحقه هو ذهاب دينه وخلقه، وإذا كان المحققون من العلماء لم يجعلوا للأم الشفيقة حظًّا من الحضانة إذا كانت كافرة، وإذا جعل بعضهم لها حظًّا، فهي تحت المراقبة؛ إذا علمتَ هذا علمت كيف تساهل المسلمون بأطفالهم، حينما جعلوهم في حضانة الشغالات، اللاتي يجلبونهنَّ من خارج البلاد، بعضهنَّ غير مسلمات، والمسلمات منهن إنَّما هو إسلام بالاسم، فينشأ هؤلاء الأطفال الأبرياء، الذي يَقْبلون كل ما يلقى عليهم، ويحتذون بكل ما يفعل أمامهم، وأعظم من ذلك الذين يدخلون أطفالهم في دور الحضانة، ورياض الأطفال، التي يشرف عليها نصارى أو ملاحدة، إنَّهم بهذا يجنون على أطفالهم جناية كبرى، وإنَّ الله تعالى سيسألهم عن هذا الإهمال، وهذا التفريط في أولادهم.

الثانية: قال الشيخ تقي الدين: "كل من قدمناه في الحضانة من الأبوين، إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها، أو اندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فسادها مع أحدهما، فالآخر أولا بها بلا ريب".

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "والصحيح في مسألة الحضانة أنَّ الترتيب الذي ذكره الفقهاء فيها، إذا كان يحقق مصلحة الطفل، فإن لم يحققها، كان الواجب اتباع مصلحة الطفل، ويدل على هذا الباب كله مقصود القيام بمصالح المحضون، ودفع مضاره ممن تحققت فيه، فهو أولى من غيره، وإن

ص: 65

كان أبعد ممن لا يقوم بالواجب".

الثالثة: الحضانة للمقيم من الأبوين، فإذا كان الأب في بلد، والأم في بلد، فالحضانة تكون للأب، خشية أن يضيع نسب الطفل ببُعده عن والده.

قال ابن القيم: "لكن لو أراد الأب الإضرار، فاحتال على إسقاط حضانة الأم، فسافر، ليتبعه الولد، فهذه حيلة مناقضة لما قصده الشارع، فلا يجوز هذا التحايل على التفريق بينها وبين ولدها، تفريقًا تعز معه رؤيته، ولقاؤه، ويعز عليها الصبر عنه وفقده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من فرَّق بين والدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة".

قال في "المبدع": وهو مراد الأصحاب".

وقال في "الإنصاف": سورة المضارة لا شكَّ فيها، وأنه لا يوافق على ذلك".

***

ص: 66

1004 -

وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ:"الخَالَةُ بِمَنزِلَةِ الأُمِّ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).

وَأَخْرَجَهُ أَحمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: "وَالجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا، فَإِنَّ الخَالَةَ وَالِدَةٌ"(2).

ــ

* مفردات الحديث:

- فإنَّ الخالة والدة: أي: بمنزلة الوالدة بالحنو والشفقة، وهذه الخالة هي: أسماء بنت عُميس، والبنت المذكورة اسمها: عمارة، وقيل: أمامة، وتكنى أم الفضل.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدم أنَّ إجماع العلماء تقديم الأم في حضانة الطفل، فإذا فُقدت الأم، فإنَّ الخالة بمنزلة الأم؛ لأنَّها تحسُّ نحو أولاد أختها قريبًا مما تحسه الأم، فعاطفة الأمومة موجودة في الخالة، وتشعر بأنَّ البر والإحسان بأولاد أختها هو بر بأختها، فيزداد عطفها ورعايتها، وهذا شيء معهود ومعلوم.

2 -

يدل الحديث على أنَّ الأم إذا ماتت، أو فقدت أهلية الحضانة -فالخالة تحل محلها؛ فتكون هي المستحقة للحضانة، وتكون مقدَّمة على الأب فيها.

3 -

وتمام هذا الحديث: أنَّ علي بن أبي طالب، وأخاه جعفرًا، وزيد بن حارثة -اختصموا في حضانة بنت حمزة بن عبدالمطلب؛ أيهم يكفلها؟

(1) البخاري (2699).

(2)

أحمد (770).

ص: 67

فقال علي: هي ابنة عمي، وقال زيد: بنت أخي بالمؤاخاة الإسلامية، وقال جعفر: هي ابنة عمي، وخالتها تحتي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال:"الخالة بمنزلة الأم"، فأخذها جعفر.

4 -

وفيه أنَّ العصبة من الرجال لهم أصل في الحضانة، ما لم يوجد من هو أحق منهم؛ حيث أقرَّ صلى الله عليه وسلم كلاًّ من علي، وجعفر على دعواه.

5 -

أنَّ الأم مقدمة في الحضانة على كل أحد؛ فإنَّه لم يعطها الخالة في هذه القصة، إلَاّ لأنَّها بمنزلة الأم.

6 -

أنَّ الخالة تلي الأم في الحضانة، فهي بمنزلتها في الحنو والشفقة.

7 -

أنَّ الأصل في الحضانة هو طلب الشفقة والرحمة لهذا العاجز القاصر، وهذا من رحمة الله تعالى، ورأفته بالعاجزين والضعفاء؛ إذ هيَّأ لهم القلوب الرحيمة.

8 -

أنَّ الأم لا تَسْقُطُ حضانتها إذا رضي زوجها بقيامها بها؛ لأنَّها لم تسقط عنها إلَاّ لأجل التفرغ لحقوق الزوج، فإذا رضي بقيامها بالحضانة، فهي باقية على حقها.

وبهذا يحصل التوفيق بين قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالحضانة لزوجة جعفر، وهي في عصمته، وبين قوله للمرأة المطلقة:"أنتِ أَحق به ما لم تنكحي". [رواه أحمد وأبو داود]، كما أنَّ قُرب الزوج أو بعده عن المحضونة الأنثى له دخل في الموضوع، وهذا اختيار ابن القيم، والمشهور في مذهب الإمام أحمد، والله أعلم.

* فوائد:

الأولى: قال فقهاء الحنابلة: "إذا أتمت البنت سبع سنين، صارت حضانتها لأبيها، حتى يتسلمها زوجها؛ لأنَّه أحفظ لها، فإن كان الأب عاجزًا عن حفظها، أو يهملها لاشتغاله عنها، أو قلَّة دينه، والأم قائمة بحفظها قدِّمت".

ص: 68

الثانية: قال الشيخ تقي الدين: "إذا قدر أنَّ الأب تزوَّج بضرَّة، وتركها عند هذه الضرَّة لا تعمل لمصلحتها، بل ربما تؤذيها وتقصر في مصالحها، وأمها تعمل لمصلحتها ولا تؤذيها -فالحضانة للأم قطعًا؛ نظرًا لمصلحة المحضون؛ إذ هو المقصود من الحضانة".

الثالثة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "المشهور من المذهب: أنَّ حضانة البنت بعد تمام سبع سنين لأبيها، والرواية الثانية: أنَّها لأمها.

وهذان القولان مع قيام كل منهما بما يجب ويلزم، فأما إذا أهمل أحدهما ما يجب عليه، فإنَّ ولايته تسقط، ويتعيَّن الآخر".

***

ص: 69

1005 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ، بِطَعامهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُناَوِلْهُ لُقمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- خَادِمُه: من يقوم بحاجته، جمعه: خَدَمٌ، وخُدَّام، والمرأة خادمة.

- لُقْمَة: بضم اللام، بعدها قاف مثناة ساكنة، واحدة اللُّقَم، واللقم: هي ما يهيئه الإنسان من الطعام للالتقام.

(1) البخاري (5460)، مسلم (1663).

ص: 70

1006 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هرَّةٍ، سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتِ النَّارَ فِيهَا، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأُكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- في هرَّة: "في" للسببيَّة؛ أي: لأجل هرَّة.

- هرَّة: هي الأنثى من القطط، والذكر: هر، جمعه: هرر.

- سَجَنتَهَا: حبستها، وربطتها.

- خشَاش: بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها -ثم شينين معجمتين، بينهما ألف، واحدها: خَشَاشة؛ وهي حشرات الأرض، وهوامها.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

من هدي الإسلام المساواة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والخامل والشريف؛ فلا طبقية ولا عنصرية، وإنما المؤمنون إخوة.

2 -

لذا فإنَّ الإسلام يحث على الصفات والأعمال، التي تدعم هذه المعاني السامية؛ ليصبح المجتمع الإسلامي أمة واحدة، أما الأعمال والمواهب فكل ميسَّر لما خُلقَ له، وصاحب العمل البسيط إذا أداه، فهو كصاحب العمل الكبير، فكل منهما يكمل الآخر.

3 -

الأفضل لصاحب البيت أن يؤاكل خدمه، ومماليكه، وضيوفه الصغار، ولا يترفَّع، ولا يتكبَّر عن مؤاكلتهم ومؤانستهم، وأن يكون ذلك باحتشام.

(1) البخاري (3482)، مسلم (2242).

ص: 71

4 -

يدل الحديث على جواز اقتناء الحيوان الأليف؛ كالقط؛ لأكل حشرات الأرض، وخشاشها واقتناصها.

5 -

ومثله اقتناء الطيور كالببغاء والنغري في الأقفاص، إذا أطعمت وسقيت، ولم ينلها أذًى؛ فإنَّ اقتناءها جائز.

6 -

فيه الإثم العظيم على مقتني الحيوان، وحابسه بلا طعام، ولا شراب؛ حتى يموت، أو يتعذَّب عنده من الجوع والعطش، وأنَّه سببب دخول النار، فهو من كبائر الذنوب.

7 -

وفيه جواز اقتناء الهر ونحوه؛ لأكل خشاش البيت من الصراصير، والفئران، والهوام؛ ونحو ذلك.

8 -

وإذا كان هذا الوعيد في البهائم، فكيف يكون الإثم بالإنسان المعصوم؛ ممن ولَاّهم الله إيَّاهم: من زوجةٍ، وولدٍ، وخادمٍ، وغيرهم؟!

9 -

قال في "الروض": ويجب على صاحب البهائم علفها وسقيها وما يصلحها، وألَاّ يحملها ما تعجز عنه، فإن عجز عن نفقتها، أجبر على بيعها، أو إجارتها، أو ذبحها إن أكلت؛ لأنَّ بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم لها".

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: "صرَّح العلماء بأنَّ صاحب البهيمة يلزمه إطعامها، ولو عطبت، فإن عجز ألزم بيعها، أو إجارتها، أو ذبحها، إن كانت مما يؤكل لحمه، ولا يجوز قتلها؛ لإراحتها من مرض ونحوه".

***

ص: 72