المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب حد السرقة - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٦

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب حد السرقة

‌باب حد السرقة

مقدمة

يقال: سرق يسرق سرقًا، فهو سارق، والشيء مسروق، وصاحبه مسروق منه.

والسرقة لغة: أخذ الشيء في خفاء وحيلة.

وشرعًا: هي أخذ مال محتَرم لغيره، من حرز مثله، لا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء.

فلا قطع على منتهبٍ، ولا مختلسٍ، ولا خائنٍ، ولا جاحد وديعة، ونحوها من الأمانات؛ لأنَّهم لا يدخلون في التَّعريف المذكور.

والأصل في قطع يد السارق: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

فمن القرآن:

قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38].

ومن السنة:

ما يأتي من الأحاديث.

وأجمع عليه العلماء؛ استنادًا إلى هذه النصوص.

وأما القياس:

فإنَّ القياس والحكمة تقتضي إقامة الحدود كلها، كما أمر الله تعالى،

ص: 262

حفظًا للأنفس، والأعراض، والأموال؛ ولذا نرى البلاد التي عملت بأحكام الله، ونفذت حدوده -استتب فيها الأمن، ولو كانت ضعيفة العدة.

ونرى الفوضى، وقتل الأنفس، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال في البلاد التي حكمت القوانين، ولو كانت قوية متمدنة، فمضت حياتها ما بين سلب ونهب.

***

ص: 263

1067 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ، إِلَاّ فِي رُبعُ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَلَفْظُ البُخَارِيِّ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبعُ دِيْنَارٍ فَصَاعِدًا".

وَفِي رِوَايَةٍ لأِحْمَد: "اقْطَعُوا فِي رُبعُ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أدْنَى مِنْ ذلِكَ"(1).

ــ

* درجة الحديث:

رواية أحمد -وإن ضعفها بعض العلماء- فإنَّها تقوى بحديث عائشة المتقدم في الصحيحين؛ فإنَّ معناهما واحد.

* مفردات الحديث:

- فصاعدًا: منصوب على الحال المؤكدة، يستعمل بالفاء، وثم، ولا يستعمل بالواو، ومعناه: ولو زاد.

- الدينار: هو المثقال من الذَّهب وزنه (4) غرامات وربع من الذهب الصافي.

(1) البخاري (6789)، مسلم (1684)، أحمد (6/ 80).

ص: 264

1068 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ، ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- مِجَن: -بكسر الميم، وفتح الجيم المعجمة، آخره نون مشددة- هو الترس، جمعه "مجَان"، وزان: دواب، مأخوذ من: الاجتنان، وهو الاستتار؛ لأنَّ المِجن يُتَّقى به ضرب السلاح في الحرب.

- الدرهم: وزن الدهم من الفضة هو (2.975) غرامًا.

(1) البخاري (6795)، مسلم (1686).

ص: 265

1069 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْه أَيْضًا (1).

ــ

* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة:

1 -

أمَّن الله عز وجل دماء الناس، وأعراضهم، وأموالهم بكل ما يكفل ردع المفسدين المعتدين، فكان أن جعل عقوبة السارق، الذي يأخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، قطع العضو الذي تناول به المال المسروق؛ ليكفر القطع ذنبه، وليرتدع هو وغيره عن الطرق الدنيئة، وينصرفوا إلى اكتساب المال من الطرق الشرعية الكريمة، فيكثر العمل، وتُستخرج الثمار، فيعمر الكون، وتعز النفوس.

2 -

ومن حكمته تعالى: أن جعل النصاب الذي تقطع فيه اليد ما يعادل ربع دينار من الذَّهب؛ حمايةً للأموال، وصيانةً للحياة، وليستتب الأمن، وتطمئن النفوس، وينشر الناس أموالهم للكسب، والاستثمار.

3 -

قطع يد السارق، والمراد بالسارق: الذي يأخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، وليس منه الغاصب، والمنتهب، والمختلس.

قال القاضي عياض رحمه الله: صان الله الأموال بإيجاب القطع للسارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة؛ كالاختلاس، والانتهاب، والغصب؛ لأنَّه قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمر، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف

(1) البخاري (6799)، مسلم (1687).

ص: 266

السرقة، فإنَّه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها أبلغ في الزجر عنها.

وقد أجمع المسلمون على قطع يد السارق في الجملة.

4 -

في الحديثين الأولين: أنَّ نصاب القطع ربع دينار من الذَّهب، أو ما قيمته ثلاثة دراهم من الفضة، ويأتي قريبًا مذاهب العلماء في بيان النصاب.

5 -

قال ابن دقيق العيد: القيمة، والثمن مختلفان في الحقيقة، فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه، لم تعتبر إلَاّ القيمة.

6 -

للعلماء شروط في قطع يد السارق، تقدم بعضها، وأهم الباقي:

(أ) أن يكون المسروق من حرز مثله، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان والحاكم، ومرجع الحرز العرف، فلا قطع في سرقة من غير حرز مثلها.

(ب) وأن تنتفي الشبهة، فلا قطع من مال له فيه شركة؛ كسرقة الابن من أبيه، أو الأب من ابنه، والفقير من غلة على الفقراء، أو من مال في شركة.

(ج) وأن تثبت السرقة: إما بإقرار من السارق معتَبر، أو من شاهدين عدلين.

7 -

لهذا الحكم السامي، حكمته التشريعية العظمى. فالحدود كلها على وجه العموم رحمة ونعمة؛ فإنَّ في المجموعة البشرية أفرادًا تربَّت نفوسهم على حب الأذى، وإقلاق الناس، وإفزاعهم في أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأنه إذا لم يجعل لهؤلاء المجرمين رادع: من التأديب، والعقوبة، اضطربت الأحوال، وتقطعت السبل.

ومن رحمته تعالى، أن جعل عقوبات تناسب هذه الجرائم؛ ليرتدع

ص: 267

بها المجرم، وليكف عن الجرائم من يحاول غشيانها، ومن ذلك قطع يد السارق.

فهذا المعتدي الذي ترك ما أباح الله تعالى له، من المكاسب الشريفة، التي تعود عليه، وعلى مجتمعه بالصالح العام، فأقدم على أموال الناس بغير حق، وأفزعهم -وأخافهم- يناسبه في العقوبة أن تقطع يده؛ لأنَّها الآلة الوحيدة لعملية الإجرام، ولكنا مع الأسف ابتلينا بهذه الطوائف المتزندقة، التي عشقت القوانين الأوربية الآثمة، تلك القوانين التي لم تحجز المجرمين عن إفسادهم في الأرض، وإخافة الأبرياء في بيوتهم وسبلهم.

عشقوا تلك القوانين التي حاولت إصلاح المجرمين المفسدين بغير ما أنزل الله تعالى عليهم من العلاجات الشافية لهم، ولمن في قلبه مرض من أمثالهم، فلم تفلح، بل زادت عندهم الجرائم والمفاسد؛ لأنَّ عقابهم وعلاجهم السجن، مهما عظمت المعصية، وكبر الإجرام.

والسجن يلَذ لكثير من المفسدين العاطلين، الذين يجدون فيه الطعام والشراب، وفي خارجه الجوع والبطالة.

ولما كانت الحكومة السعودية، وفَّقها الله قائمة بتحكيم شرع الله تعالى -قلَّت عندها أعمال الإجرام، لاسيَّما سلب الأموال، بينما غيرها من الأمم تعج بالمنكرات، وعصابات المجرمين، وقطاع الطريق والمهاجمين، أعاد الله المسلمين إلى حظيرة دينهم، والعمل بما فيه من الخير والبركة.

ص: 268

* قرار المجمع الفقهي بشأن حكم زراعة عضو استؤصل في حد، أو قصاص: قرار رقم (58):

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.

إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار "مارس" 1995 م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص".

واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبمراعاة مقاصد الشريعة من تطبيق الحد في الزجر، والردع، والنكال، وإبقاء للمراد من العقوبة بدوام أثرها للعبرة والعظة، وقطع دابر الجريمة، ونظرًا إلى أنَّ إعادة العضو المقطوع تتطلب الفورية في عرف الطب الحديث، فلا يكون ذلك إلَاّ بتواطؤ، وإعداد طبي خاص، ينبىء عن التهاون في جدية إقامة الحد وفاعليته.

قرَّر:

1 -

لا يجوز شرعًا إعادة العضو المقطوع؛ تنفيذًا للحد؛ لأنَّ في بقاء أثر الحد تحقيقًا كاملاً للعقوبة المقررة شرعًا، ومنعًا للتعاون في استيفائها، وتفاديًا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر.

2 -

بما أنَّ القصاص قد شرع لإقامة العدل، وإنصاف المجنى عليه، وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار -فإنَّه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذًا للقصاص، إلَاّ في الحالات التالية:

ص: 269

(أ) أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.

(ب) أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه.

3 -

يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد، أو قصاص بسبب خطأ في الحكم، أو في التنفيذ. انتهى القرار.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في قدر النصاب الذي تقطع فيه يد السارق:

فذهب الظاهرية إلى: أنَّه في القليل والكثير؛ مستدلين بقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وهي مطلقة في سرقة القليل والكثير.

وبما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"

وذهب جمهور العلماء إلى: أنَّه لابد في القطع من نصاب السرقة، مستدلين بالأحاديث الصحيحة في تحديد النصاب.

وأجابوا عن أدلة الظاهرية: بأنَّ الآية مطلقة في جنس المسروق وقدره، والحديث بيان لها.

وأما حديث البيضة والحبل: فالمراد بذلك بيان سخف وضعف عقل السارق، وخساسته، ودناءته؛ فإنَّه يخاطر بقطع يده للأشياء الحقيرة التافهة.

فهذا التعبير نوع من أنواع البلاغة، فيه التنفير والتبشيع، وتصوير عمل المعاصي بالصورة المكروهة المستقبحة.

ثم اختلف الجمهور في تحديد قدر النصاب الذي يقطع فيه، على أقوال كثيرة نذكر منها القوي:

فذهب مالك، وأحمد، وإسحاق، إلى: أنَّ النصاب ربع دينار، أو

ص: 270

ثلاثة دراهم، أو عرض تبلغ قيمة أحدهما.

وذهب الشافعي إلى: أنَّ النصاب ربع دينار ذهبًا، أو ما قيمته ربع من الفضة، أو العروض، وبه قال كثير من العلماء، منهم عائشة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والليث، وأبو ثور.

وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري إلى-: أنَّ النصاب عشرة دراهم مضروبة، أو ما يعادلها من ذهب، أو عروض.

استدل الإمام أحمد، ومالك بما رواه أحمد ومسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقطع يد السارق، إلَاّ في ربع دينار، فصاعدًا".

وكان ربع الدينار يومئذٍ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا، [رواه أحمد عن ابن عمر].

وكما في حديث الباب عن ابن عمر، أنَّه صلى الله عليه وسلم:"قطع في مِجَن، قيمته ثلاثة دراهم ".

واستدل الشافعي والجمهور بالحديث السابق: "لا قطع إلَاّ في ربع دينار فصاعدًا"، فإنَّه جعل الذَّهب أصلاً يرجع إليه في النصاب.

ولا ينافي حديث ابن عمر، فإنَّ قيمة الدراهم الثلاثة في ذلك الوقت ربع دينار؛ لأنَّ صرف الدينار اثنا عشر درهمًا.

واستدل أبو حنيفة وأتباعه: بما ثبت في الصحيحين من أنَّه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن، وقد اختلف في قيمة هذه المجن، ومما جاء فيها ما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس:"أنَّه كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم".

وهذه الرواية وإن خالفت ما في الصحيحين من أنَّ قيمته ثلاثة دراهم -فالواجب الاحتياط فيما يستباح به قطع العضو المحرَّم، فيجب الأخذ به، وهو الأكثر.

ص: 271

وما أخرجه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع إلَاّ في عشرة دراهم"، وضعف العلماء هذا الحديث، وله طريق حسَّنها ابن حجر.

واختلف العلماء في حقيقة اليد التي تقطع على أقوال:

وأصحها ما ذهب إليه الجمهور، بل نقل فيه الإجماع، من أنَّها التي تبتدىء من الكوع، فالآية الكريمة ذكرت قطع اليد، واليد عند الإطلاق هي الكف فقط، ومع هذا، فقد بيَّنتها السنة؛ فإنَ الله تعالى قال:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، والنَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على كفَّيه فقط.

ثم إنَّ الجمهور ذهبوا إلى أنَّ أوَّل ما يقطع اليد اليمنى، وبه قرأ ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما"، فإن سرقَ ثانيًا، قطعت الرِجل اليسر، ثم إن سرق، قطعت اليد اليسرى، ثم إن سرق، فالرِجل اليمنى، هذا عند الجمهور، وذكروا أدلتهم في المطولات.

وفي الحديث دليل على جواز لعن العصاة غير المعينين؛ لأنَّه لعن جنس صاحب المعصية، لا له بعينه، وقد جاءت النصوص بذلك، كما قال تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود].

***

ص: 272

1070 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيْفُ تَرَكوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا"(1).

1071 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ قَطْعُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (2).

ــ

* درجة الحديث (1071):

الحديث صحيح.

أخرجه أبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن حبان والدارقطني، والبيهقي، كلهم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر به.

(1) البخاري (6788)، مسلم (1688).

(2)

أحمد (3/ 380)، أبو داود (4391)، الترمذي (1448)، النسائي (8/ 88)، ابن ماجه (2591)، ابن حبان (1502).

ص: 273

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

لكن أعله الإمام أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائي؛ بأنَّ ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، وتابعه سفيان الثوري عند النسائي لكن قال: لم يسمعه سفيان من أبي الزبير، وتابعه أيضًا المغيرة بن مسلم عند النسائي وغيره، فصحَّ بذلك الحديث.

* مفردات الحديث:

- خائن: ضد "الأمين"، فهو الذي يخون ما جعل عليه أمينًا؛ كأن يخون في وديعة أو عارية، أو نحوهما، فيدعي ضياع ما اؤتمن عليه، أو تلفه، وهو، كاذب.

- مُخْتلس: اسم فاعل من: اختلس الشيء، إذا اختطفه، فالاختلاس نوع من الخطف؛ ذلك أنَّه يستخفي في ابتداء اختلاس الشي، ثم يمر به بانتهاء أمره.

- مُنتهِب: المنتهب اسم فاعل من: انتهب الشيء، إذا استلبه، فهو الذي يأخذ المال على وجه العلانية، والمكابرة قهرًا.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

كانت امرأة من بني مخزوم تستعير المتاع من الناس احتيالاً؛ ثم تجحده، فاستعارت مرة حليًّا، فجحدته، فوُجِد عندها، وبلغ أمرها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فعزم على تنفيذ حد الله بقطع يدها، وكانت ذات شرف، ومن أسرة عريقة في قريش، فاهتمت قريش بها، وبهذا الحكم الذي سينفذ فيها، وتشاوروا فيمن يجعلونه واسطة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليكلمه في خلاصها، فلم يروا أولى من أسامة بن زيد؛ فإنَّه المقرَّب المحبوب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكلَّمه أسامة؛ فغضب منه صلى الله عليه وسلم، وقال له منكرًا عليه: "أتشفع

ص: 274

في حد من حدود الله؟! " ثم قام خطيبًا في الناس؛ ليبين لهم خطورة مثل هذه الشفاعة، التي تعطل بها حدود الله، ولأنَّ الموضوع يهم الكثير منهم، فأخبرهم أنَّ سبب هلاك من قبلهم في دينهم، وفي دنياهم أنَّهم يقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء، ويتركون الأقوياء والأغنياء، فتعم فيهم الفوضى، وينتشر الشر والفساد، فيحق عليه غضب الله، وعقابه.

ثم أقسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق- المصدوق لو وقع هذا الفعل من سيدة نساء العالمين: ابنته فاطمة، وقد أعاذها الله من ذلك- لنفَّذ فيها حكم الله تعالى.

2 -

تحريم الشفاعة في الحدود، والإنكار على الشافع، وذلك بعد أن تبلغ الحاكم.

قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان، وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى.

قلتُ: في تقييد ذلك بـ"قبل بلوغها الحاكم" ليس مأخوذًا من هذا الحديث الذي معنا، وإنما من نصوص أخر، مثل ما أخرجه أصحاب السنن، وأحمد عن صفوان بن أمية؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما أمر بقطع يد الذي سرق رداءه، فشفع فيه، فقال:"هلَاّ كان لك قبل أن تأتيني به؟ ".

وأما قبل بلوغ الحاكم، فهل يرفعه أو يتركه؟

الأولى أن ينظر في ذلك إلى ما يترتب على ذلك من المصالح أو المفاسد، فإن كان ليس من أهل الشر والأذى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقيلوا ذوي الهيئات زلَاّتهم".

فإن كان يترتَّب عليه شيء من المفاسد، فالأحسن عدم رفعه، وإن

ص: 275

كان في تركه مفسدة، وهو من أهل الأذى، ونحو ذلك من دواعي الرفع -فالأولى رفعه.

3 -

أنَّ جاحد العارية حكمه حكم السارق، فيقطع، ويأتي الخلاف فيه.

4 -

وجوب العدل والمساواة بين الناس؛ سواء منهم الغني أو الفقير، والشريف، أو الوضيع في الأحكام والحدود، وفيما هم مشتركون فيه.

5 -

أنَّ إقامة الحدود على الضعفاء، وتعطيلها في حق الأقوياء، سبب الهلاك والدمار، والشقاوة في الدارين.

6 -

مشروعية القَسم في الأمور الهامة؛ لتأكيدها وتأييدها.

7 -

جواز المبالغة في الكلام، والتشبيه والتمثيل لتوضيح الحق، وتبيينه، وتأكيده.

8 -

منقبة كبرى لأسامة؛ إذ لم يروا أولى منه للشفاعة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت الحادثة في فتح مكة.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في جاحد العارية، هل يقطع، أو لا؟

فذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي- إلى: أنَّه لا يقطع، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه الخرقي، وأبو الخطاب، وابن قدامة، وصاحب "الشرح الكبير"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا قطع على خائن".

وأجابوا عن حديث الباب: بأنَّها ذكرت بجحد العارية للتعريف، لا لأنَّها قطعت من أجله، وقد قطعت لأجل السرقة، ولذا وردت لفظة "السرقة" في الحديث.

وأجابوا بغير ذلك، ولكنها أجوبة غير ناهضة.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنَّه يقطع، وهي المذهب.

ص: 276

قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألتُ أبي، فقلت له: تذهب إلى هذا الحديث؟ فقال: لا أعلم شيئًا يدفعه.

وبهذا القول قال إسحاق، والظاهرية، واستدلوا بهذا الحديث الذي جاء في قصة المخزومية، وجعلوا حديث:"لا قطع على خائن" مخصصًا بغير خائن العارية، والمعنى الموجود في السارق موجود مثله في جاحد العارية، بل الأخير أعظم، فهو مستثنى.

* فائدة:

أجمع العلماء على: أنَّ الغاصب، والمختلس، والمنتهب لا يقطعون، وليس ذلك لأنَّهم غير مجرمين أو مفسدين، فهم مفسدون معتدون، يجب تعزيرهم بما يردعهم.

ولما جاء في السنن من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع".

وإنما لم يُقطعوا أيضًا، لما قدمنا في أول الباب عن القاضي عياض، ولِحكم أخَر لا يعملها إلَاّ الذي شرع للناس ما يصلح حالهم.

***

ص: 277

1072 -

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثَرٍ". رَوَاهُ المَذْكُورُونَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا التِّرْمذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه أحمد وأبو داود، والنسائي، ومالك، والشافعي، وابن أبي شيبة من طرق عن يحيى بن سعيد عن محمَّد بن يحيى بن حبَّان عن رافع بن خديج به، ورجال إسناده ثقات.

قال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول. وصححه التِّرمذي، وابن حبَّان.

* مفردات الحديث:

- المذكورون: هم: أحمد، وأصحاب السنن الأربع.

- ثَمرَ: واحده: "ثمرة"؛ مما كان معلقًا في النَّخل قبل أن يجذ.

- كثر: -بفتح الكاف، والثاء المثلثة-: هو جمار النخل، وهو شحمه الذي في وسطه، قاله في "النهاية".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدم أنَّ من شروط قطع يد السارق هو أن تكون السرقة من حرز، فإن سرق من غير حرز، فلا قطع على السارق، وتقدم أنَّ الحرز مرجعه إلى العرف،

(1) أحمد (3/ 463)، أبو داود (4388)، الترمذي (1449)، النسائي (8/ 88)، ابن ماجه (2593)، ابن حبان (1505).

ص: 278

وهو يختلف باختلاف الأموال، والبلدان، وقوة السلطان، وضعفه؛ لأنَّ ما لم يثبت بالشرع اعتباره، رجع فيه إلى العرف.

2 -

قال في "الروض المربع وغيره": ومن سرق شيئًا من غير حرزا ثمرًا كان، أو كثرًا، أو غيرهما -ضمنه بعوضه مرَّتين، ولا قطع لفوات شرطه، وهو الحرز.

3 -

وهذه المسألة من مفردات الإمام أحمد عن الأئمة الثلاثة.

قال في شرح المفردات: من سرق ثمرًا من رؤوس شجر، والماشية في المراعي- لم يقطع، ولو كان عليه حائط وحافظ، ويضمن عوضه مرَّتين؛ لحديث رافع بن خديج، والصحيح من المذهب أنَّ غير الشجر والماشية إذا سرقه من غير حرز، فلا يضمن عوضه إلَاّ مرَّة واحدة؛ لأنَّ التضعيف فيها على خلاف القياس، فلا يتجاوز به محل النص.

4 -

وقال أكثر الفقهاء: الواجب عوضه مرَّة واحدة في الجميع، وهو مذهب الأئمة الثلاثة.

وأجابوا عن الحديث: بأنَّه منسوخ، وهي دعوى لا دليل عليها.

قال الوزير: أجمعوا على أنَّه يسقط القطع عن سارق التمر المعلق على روؤس النخل، إذا لم يكن محرزًا، وكذا الكَثَر.

***

ص: 279

1073 -

وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلِصٍّ، قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ معَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ؟ قَالَ: بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطعَ، وَجِيءَ بِه، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُ اللهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ثَلَاثًا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).

وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ:"اذْهَبُوا بِهِ، فَاقْطعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوه". وَأَخْرَجَهُ البَزَّارُ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بإِسْنَادِهِ (2).

ــ

* درجة الحديث:

حديث أبي أمية حسن. وقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والطحاوي، والبيهقي من طريق أبي المنذر عن أبي أمية المخزومية.

قال ابن حجر: رجاله ثقات.

وأما حديث أبي هريرة: فرواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي موصولاً، وصحَّحه ابن القطان، ورجَّح ابن خزيمة، وابن المديني، وغير واحد إرساله

(1) أحمد (5/ 293)، أبو داود (4380)، النسائي (8/ 67).

(2)

الحاكم (4/ 381)، البزار (1560).

ص: 280

عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان.

* مفردات الحديث:

- لِص: -بكسر اللام، وتشديد الصاد المهملة-: هو السارق، جمعه:"لصوص ولصصة".

- ما إِخَالك سرقْت: بكسر الهمزة، هو المشهور، من خال: بمعنى: ظنَّ، أراد بذلك: تلقينه الرجوع عن الاعتراف.

- اقطعوا: معناه: اقطعوا يده.

- احسِمُوه: يقال: حسَمه حسمًا من باب ضرب، فانحسم بمعنى قطعه، فانقطع، والحسم هو: كيه بعد القطع؛ لئلا يسيل دمه، وينزف.

والحسم عند الفقهاء والأطباء القدامى هو أن يغمس موضع القطع من مفصل الذراع في زيت مغلي؛ لتنسد أفواه العروق، فيقف النزيف.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه دليل على أنَّ المعترِف بالسرقة إذا لم توجد معه، فإنَّه يشرع تلقينه الرجوع عن اعترافه؛ ليكون شبهة في درء حد السرقة عنه.

2 -

النبي صلى الله عليه وسلم لقَّن السارق الرجوع عن اعترافه بقوله: "ما إخالك سرقت"، لكن السارق أصرَّ، على الاعتراف، بعد أن أعاد تلقين الرجوع عليه مرَّتين أو ثلاثًا، فلما أصرَّ لم يبق إلَاّ تنفيذ حكم الله فيه، فأمر به فقُطِعت يده.

3 -

فيه دليل على أنَّ السارق المقر على نفسه، إذا لقن الرجوع عن إقراره، وأصرَّ عليه، فلم يرجع -أنه يقام عليه الحد فتقطع يده.

4 -

قال في "الروض المربع وحاشيته": ولا يقطع إلَاّ بإقرار مرَّتين بالسرقة، ولا يرجع عن إقراره حتى يقطع.

قال الموفق: هذا قول أكثر الفقهاء؛ لأنَّه إنما ثبت بالاعتراف، فقُبِل رجوعه.

ص: 281

5 -

وقال أيضًا: ولا بأس بتلقينه الإنكار؛ ليرجع عن إقراره.

قال الموفق: هذا قول عامة الفقهاء.

وأجمعوا على: أنَّه إذا بلغ الإمام، لم تجز الشفاعة فيه؛ لما تقدم.

6 -

تلقينه الإنكار، والرجوع وقبول ذلك منه، ما لم تثبت سرقته بشاهدين عدلين.

قال في "شرح الإقناع": بخلاف ما لو ثبت القطع ببينة شهدت على فعله، فإنَّ إنكاره لا يقبل منه، بل يقطع.

7 -

إذا أقيم على السارق حد السرقة، فينبغي تذكيره بالتوبة والاستغفار، ليجمع الله تعالى في محو ذنبه بين إقامة الحد، والاستغفارة بالقلب واللسان، كما ينبغي أن يدعو له بالتوبة معاونةً له على نفسه، والشيطان.

8 -

ينبغي حسم مكان القطع بمادة توقف نزيف الدم، فإنَّه لو استمرَّ معه النزيف لهلك، وليس المراد إهلاكه، وإنما المراد إقامة الحد، وتطهيره.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء: هل من شروط القطع مطالبة المسروق منه السارقَ بماله؟

مذهب الأئمة الثلاثة: أنَّه يشترط، ونصره ابن قدامة في "المغني".

وذهب الإمام مالك إلى: أنَّه لا يشترط، وهو رواية عن أحمد، اختارها الشيخ تقي الدين؛ لعموم الآية:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة].

وإذا وجد المسروق مع المتَّهم، فقال ابن القيم: لم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون بالقطع، وهذه قرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنَّهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال مع اللص نص صريح، ولا يتطرق إليه شبهة.

ص: 282

وما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله هو ما دلَّ عليه حديث الباب، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما لقَّن الذي أقرَّ، ولم يوجد معه متاع، وإنما هو مجرَّد اعتراف محتمل للصدق والكذب.

***

ص: 283

1074 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَغْرَمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَبيَّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث منقطع.

قال المصنف: رواه النسائي، وبيَّن أنَّه منقطع؛ لأنَّه من حديث المسور ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور لم يدرك جده عبد الرحمن، ورواه أبو حاتم، وقال: هو منكر.

ورواه البيهقي، وذكر له علَّة أخرى.

* مفردات الحديث:

- لا يغرم: بفتح الياء، وسكون الغين، وفتح الراء، من: غَرِم يغْرم، وهو تضمينه قيمة ما سرق إن لم توجد عينه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

السارق عليه حقَّان: حق خاص: وهو عين المسروق إن كان موجودًا، أو مثله أو قيمته إن كان تالفًا.

والحق العام: هو حق الله تعالى، وهو قطع يده، متى توفرت شروط القطع، أو تعزيره إن لم تكمل شروط قطع يده.

2 -

فإذا كان عين المسروق باقيًا، فقد اتَّفق الأئمة الأربعة وغيرهم على وجوب رده إلى صاحبه، ولا يكفي إقامة الحق العام عن رده.

(1) النسائي (8/ 92).

ص: 284

3 -

وأما إذا كان تالفًا، فقد اختلفوا في وجوب ردِّه:

فذهب أبو حنيفة إلى: أنَّ السارق لا يغرمه؛ عملاً بهذا الحديث، والحديث ظاهر الدلالة على هذا، ولكن ليس بالقوي، وقد خالف عمومات هي أصح منه.

وذهب مالك إلى: وجوب رده من السارق الموسر، وعدم رده إن كان السارق معسرًا، ويكفي قطع يده.

وذهب الشافعي وأحمد: إلى أنَّه يجتمع على السارق الحقان مطلقًا؛ سواء كان موسرًا أو معسرًا، فالقطع هو الحق العام، فإن كان موسرًا، فيغرمه في ماله، وإن كان معسرًا فبذمته، كبقية الديون والمتلَفَات؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت، حتى تؤديه".

وَقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرىء مسلم، إلَاّ بطيبة من نفسه".

ولأنَّه اجتمع في السرقة حقَّان: حق الله تعالى، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبة، ولأنَّه قد قام الإجماع أنَّه إذا كان موجودًا بعينه أُخِذَ مِنْهُ، فيكون إذا لم يوجد في ضمانه قياسًا على سائر الأموال الواجبة.

***

ص: 285

1075 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّمْرِ المُعَلَّقِ، فَقَال:"مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الغَرَامَةُ، والعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيءٍ مِنْهُ بَعْدَ أنْ يُؤْوِيَهُ الجَرِينُ، فَبلَغ ثَمَنَ المِجَنِّ، فَعَلَيْهِ القَطْعُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صححه الحاكم، وحسَّنه الترمذي.

ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

* مفردات الحديث:

- خُبنَة: بضم الخاء، وسكون الباء، قال في "النهاية": الخبنة: معطف الإزار، وطرف الثوب، أي: لا يأخذ منه في ثوبه شيئًا.

- فعليه الغرامة: وذلك بأن يغرم المسروق لصاحبه، إما يرده بعينه إليه، أو يرد بدله غرامة عليه.

- العقوبة: الحد بالقطع إن تمت شروطه، أو التعزير إن تخلَّف بعضها.

- الجَرِين: -بفتح الجيم، فراء مكسورة، ثم ياء، آخره نون-: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، ويخلص، ويصفى فيه الحب من تبنه، وقشره.

(1) أبو داود (4390)، النسائي (8/ 85)، الحاكم (4/ 380).

ص: 286

- المِجَن: -بكسر الميم-: هو الترس، وهو آلة من حديد تجعل في الحرب؛ وقايةً للرأس من ضرب السلاح.

* ما يؤخذ من الحديث:

هذا الحديث الشريف فيه تفصيل لحكم أخذ التمر من مال الغير، هذا التفصيل يوافق ما صحَّت به الآثار، وهو:

الحالة الأولى: أن يمر الإنسان بالتمر على رؤوس النخل، أو الثمر في الشجرة، أو الماشية واللبن في ضروعها، فيأكل، أو يشرب حاجته، من غير أن يحمل معه شيئًا؛ لأنَّ أصحاب البساتين، وأصحاب الماشية جرت عادتهم بالسماحة والرضا بمثل هذا، والإذن العرفي، كالإذن اللفظي.

الحالة الثانية: أن يأخذ من التمر على رؤوس النخل، ومن الثمر في شجره، ويذهب به، فهذا أخذ من مال الغير بدون إذنه، ولا رضاه، فعليه الغرامة بالمثل، أو القيمة، وعليه التعزير بما يراه الحاكم بدون قطع؛ لأنَّه لم يأخذ مالاً من حرزه.

الحالة الثالثة: أن يأخذ من الطعام المودعَ في الجرِين والبيدر، ويكون ما أخذه قدر نصاب حد السرقة، فهذا نصاب من حرزه، فعليه الحد بقطع يده.

ويعضده: ما رواه أحمد، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"وما أخذ من أجرانه، ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجَن".

***

ص: 287

1076 -

وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ -لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ-: هَلَاّ كانَ ذلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟! " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَالحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال الألباني: الحديث له طرق:

الأولى: عن حميد ابن أخي صفوان عن صفوان، أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم، والبيهقي.

الثانية: عن عكرمة عن صفوان أخرجه النسائي، ورجال إسناده ثقات.

الثالثة: عن طاوس عن صفوان بن أمية، أخرجه النسائي، والدارقطني، والحاكم، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي، وهو كما قالا، فرجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين.

الرابعة: عن طارق بن مرتفع عن صفوان بن أمية، أخرجه أحمد، والنسائي، ورجاله ثقات رجال الصحيحين، غير طارق.

الخامسة: عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، أخرجه أحمد.

وهذا مرسل قوي يشهد للموصولات قبله، وجملة القول: أنَّ الحديث صحيح الإسناد من بعض طرقه، وهو صحيح قطعًا لمجموعها.

(1) أحمد (6/ 466)، أبو داود (4394)، النسائي (8/ 69)، ابن ماجه (2595)، ابن الجارود (828)، الحاكم (4/ 380)، ولم يروه الترمذي.

ص: 288

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قصة الحديث: أنَّ صفوان بن أمية كان نائمًا؛ إذ جاء إنسان، فأخذ رداءه من تحت رأسه، فأتى صفوان بالسارق للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقال صفوان: إني أعفو وأتجاوز، فقال:"فهلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟! ".

2 -

أنَّ فراش النائم تحته أو معه أثناء نومه هو في حرز، يقطع فيه يد السارق.

3 -

أنَّ الرداء وما يساويه من مال هو نصاب تقطع فيه يد السارق.

4 -

أنَّ الشفاعة في السارق، أو إسقاط حده فيها بعد أن تبلغ ولي الأمر -لا تُسقط الحد، بل يجب تنفيذه.

5 -

أنَّ الشفاعة والستر على السارق قبل أن تبلغ الإمام جائزة، ومسقطة للحد.

6 -

اختلفت الروايات -هل كان صفوان بن أمية نائمًا لما سُرق رداؤه؟

فقيل: هو مضطجع بالبطحاء، وقيل: في المسجد الحرام، وقيل: في مسجد المدينة.

7 -

صفوان بن أمية الجحمي من أشراف قريش، أسلم بعد فتح مكة بأيام، وشهد حُنَينًا، وهو على كفره، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالاً جزيلاً، فهو من المؤلفة قلوبهم، ولما أسلم حسن إسلامه، وأقام بمكة؛ لأنَّ الهجرة من مكة انتهت بفتحها، ولم يزل شريفًا مطاعًا فيها، حتى مات سنة اثنتين وأربعين، رضي الله عنه.

8 -

قال شيخ الإسلام: المتَّهم في السرقة، وقاطع الطريق، ونحو ذلك ثلاثة أصناف:

الأول: معروف بالدِّين والورع، وليس من أهل التُّهم، فهذا يُخلَّى سبيله.

الثانى: مجهول الحال، فهذا يحبس، حتى يكشف أمره وحاله، والأصل في ذلك ما رواه أبو داود:"أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ في تُهْمَة"، وقَد نصَّ على ذلك الأئمة.

ص: 289

الثالث: معروف بالفجور، فهذا لوث في التُّهمة، فيمتحن بالضرب حتى يقر بالجناية؛ قاله طائفة من العلماء.

9 -

وقال الشيخ: لا يشترط في القطع مطالبة المسروق منه بماله، وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز.

وقال ابن القيم: لم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون إذا وجد المال المسروق مع المتَّهم، فإنَّ هذه القرينة أقوى من البيِّنة والإقرار، فإنَّهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نصٌّ صريحٌ، لا يتطرق إليه شبهة.

***

ص: 290

1077 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّما سَرَقَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيةَ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ كذلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الخَامِسَةَ، فَقَال: اقْتُلُوه". أَخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَاسْتَنْكَرَهُ، (1) وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حَاطِبٍ نَحْوَهُ، (2) وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ القَتْلَ فِي الخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ.

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

قال في "التلخيص": رواه الدارقطني، وفيه محمَّد بن يزيد بن سنان، قال الدارقطني: ضعيف.

ورواه أبو داود، والنسائي بغير هذا السياق، وفي إسناده مصعب بن ثابت.

قال النسائي: ليس بالقوي، وهذا الحديث منكر، ولا أعلم فيه حديثًا صحيحًا.

قال ابن عبد البر: حديث القتل منكر لا أصل له، وقال الشافعي: منسوخ لا خلاف فيه.

(1) أبو داود (4415)، النسائي (8/ 90).

(2)

النسائي (8/ 89).

ص: 291

وأما حديث ابن حاطب فقال الذَّهبي في "التلخيص"(4/ 382): منكر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث ضعَّفه أئمة الحديث، فقد استنكره النسائي، وقال: لا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا، وقال أبوعبد الله: حديث القتل لا أصل له.

وعلى فرض صلاحية الحديث، فقد قال الإمام الشافعي: إنَّه منسوخ.

وقال في "النجم الوهَّاج": ناسخه حديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلَاّ بإحدى ثلاث

".

2 -

قال الخطابي في "معالم السنن": هذا في بعض إسناده مقال، وقد عارضه حديث: "لا يحل دم مسلم إلَاّ بإحدى ثلاث

"، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أحلَّ دم السارق، وإن تكررت منه السرقة، مرَّةً بعد أخرى، إلَاّ أنَّه قد يُخَرَّج على مذاهب بعض الفقهاء، وهو أن يكون من المفسدين في الأرض، فيكون للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين، ويبلغ به ما رأى من العقوبة، وإن زاد على مقدار الحد وجاوزه، وإن رأى القتل قتل، ويُعْزى هذا الرأي إلى مالك.

وهذا الحديث يؤيد هذا الرأي.

ويحتمل: أن يكون هذا رجلاً مشهورًا بالفساد، ومعلومًا بالشر، وأنَّه سيعود إلى سوء فعله، ولا ينتهي عنه حتى يقضى عليه.

ويحتمل: أن يكون ما فعله -إن صحَّ الحديث- إنَّما فعله بِوحي من الله سبحانه، واطلاعه على ما سيكون، فيكون معنى الحديث خاصَّا، به والله أعلم" اهـ.

هذا كلام الخطابي، رحمه الله تعالى.

***

ص: 292