المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب النَّفَقات مقدِّمة النفقات: جمع نفقة؛ كثمرة. قال ابن فارس: "النون والفاء والقاف - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٦

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب النَّفَقات مقدِّمة النفقات: جمع نفقة؛ كثمرة. قال ابن فارس: "النون والفاء والقاف

‌باب النَّفَقات

مقدِّمة

النفقات: جمع نفقة؛ كثمرة.

قال ابن فارس: "النون والفاء والقاف أصلان صحيحان، يدل أحدهما على انقطاع شيء وذهابه، والنفقة من هذا؛ لأنها تمضي لوجهها".

والنفقة: الدراهم ونحوها من الأموال.

وشرعًا: هي كفاية من يمونه: طعامًا، وكسوةً، ومسكنًا، وتوابعها. والنفقات أصناف:

- نفقة الزوجات.

- نفقة الأقارب.

- المماليك من رقيق وحيوان.

والنفقة ثابتة بالكتاب: قال تعالى: {يُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].

والسنة: لحديث: "ابدأ بمَن تعول"، وغيره.

وأجمع العلماء على وجوبها في الجملة؛ فتجب على الإنسان: نفقة نفسه، ونفقة زوجته، وبهائمه، مع اليسارِ، والإعسار.

ص: 33

وتجب عليه نفقة فروعه وأصوله، سواء أكانوا وارثين، أم محجوبين، وتجب عليه نفقة حواشيه، إذا كان يرثهم بفرض، أو تعصيبٍ.

والنفقة على الأصول، والفروع، والحواشي، المقصود بها: المواساة؛ ولهذا اشتُرِط لها شرطان:

أحدهما: غنى المنفِق بماله، أو كسبه.

الثاني: فقر المنفَق عليه

والنفقة مقيَّدة بالمعروف، ويختلف العرف باختلاف الأوقات، والبلدان، والأحوال؛ قال تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

قال شيخ الإسلام: "يدخل في هذا جميع الحقوق التي للمرأة عليه، وأن مردَّ ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم".

***

ص: 34

989 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبهَ امْرَأةُ أَبِي سُفْيَانَ على رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بنَيَّ، إلَاّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذلِكَ مِنْ جُنَاح؟ فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بنِيْكِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- شَحِيح: على وزن فعيل، من صيغ المبالغة، ومعناه: كثير الشح، والشحُّ هو البخل، من الحرص، فهو أخصُّ من البخل، والحرص هو شدة الرغبة في الشيء.

- جُنَاح: بضم الجيم المعجمة، هو الإثم.

- بالمعروف: يعني: العرف والعادة، وذلك يكون بحسب أحوال الناس، وعاداتهم، وما يتعارفونه بينهم في زمانهم، ومكانهم، ويُسْرهم، وعسرهم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

وجوب نفقة الزوجة والأولاد، وأنه يختص بها الأب، فلا تشاركه الأم فيها، ولا غيرها من الأقارب.

2 -

النفقة تقدَّر بحال الزوج، وحال المنفق؛ من حيث الغنى، والفقر، ووسط الحال.

3 -

أن النفقة تكون بالمعروف؛ ومعنى المعروف: العرف والعادة، وهذا

(1) البخاري (5364)، مسلم (1714).

ص: 35

يختلف باختلاف الزمان، والمكان، وأحوال الناس.

4 -

أن مَنْ وجبت عليه النفقة، فلم ينفق شحًّا، فإنه يؤخذ من ماله، ولو بغير علمه؛ لأنها نفقة واجبةٌ عليه.

5 -

ومنه أن المتولي على أمرٍ من الأمور يُرْجَع في تقديره إليه؛ لأنه مُؤْتَمَن، فله الولاية على ذلك.

6 -

اختلف العلماء؛ هل أمر النبي صلى الله عليه وسلم هندًا حين سألته أن تأخذ من مال زوجها- هو حكمٌ، فيكون من باب الحكم على الغائب، أم أنها فتوى؟

قال العلماء: "إن هذه القصة مترددة بين كونها فتيا، وبين كونها حُكْمًا، وكونها فتيا أقرب؛ لأنه لم يطالبها ببينة، ولا استحلفها، وأبو سفيان في البلد لم يغب عنه، والحكم لا يكون إلَاّ بحضور الخصمين كليهما".

7 -

ومنه أن هذه الشكاية وأمثالها لا تعتبر من الغيبة المحرمة؛ لأنها رفعت أمرها إلى ولي الأمر، القادر على إنصافها، وإزالة مَظلمتها.

8 -

ومنه جواز مخاطبة المرأة الأجنبية للحاجة، وعند الأمن من الفتنة.

9 -

عموم الحديث يوجب نفقة الأولاد، وإن كانوا كبارًا، قال تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

10 -

وفيه دليلٌ على أن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له، فله أن يأخذه، ولو على سبيل الخُفْية، ويسمّيها العلماء "مسألة الظَّفَر"، وهي مسألة خلافية، أجازها الشافعي وأحمد، ومنعها أبو حنيفة ومالك، والراجح التفصيل؛ وذلك أنه إن كان سبب الحق واضحًا بيِّنًا، فله الأخذ؛ لانتفاء الشبهة فيه، وإن كان السبب خفيًّا، فلا يجوز؛ لئلا يتهم بالآخذ بالاعتداء على حق الغير.

***

ص: 36

990 -

وَعَنْ طَارقٍ المُحَارِبِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا المَدِيْنَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلى المِنْبَر، يَخْطُبُ النَّاسَ، وَيَقُولُ:"يَدُ المُعْطِي العُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ، فَأَدْنَاكَ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث: الحديث حسن.

وأصله في الصحيحين، فأوله من حديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اليد العليا خير من اليد السُّفْلى، وابدأ بمن تعول"، وأما آخره فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة:"أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أَبِرّ يا رسول الله؟ فقال: أمك، ثم قال: مَن؟ قال: أمك، ثم قال: من؟ قال: أمك، ثم قال: مَن؟ قال: أباك". قال بعضهم: "رواته كلهم ثقات، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الطبراني، وقد حسَّنه المنذري".

* مفردات الحديث:

- وابدأ: من: بدأت الشيء أبدؤه بدأً، بهمز لكل؛ أي: ابتدىء بالإنفاق على مَن يجب عليك نفقته.

- تَعُول: من: عاله عولاً: كفله، وقام به، والعيال: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد: عَيِّل، والجمع: عيال: ومنه الحديث: "الخلق عيال الله". والذين تعولهم هم مَن تُنْفِق عليهم.

- أمَّك وأباك: نصب بفعل مقدرة أي: الزمهم بالإنفاق عليهم.

(1) النسائي (5/ 61)، ابن حبان (810)، الدارقطني (3/ 44).

ص: 37

- أدناك فأدناك: أي: أقربك، فأقربك.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في الحديث بيان فضل المنفِق والمتصدق، وأن يده هي العليا حسًّا ومعنًى؛ فالمنفق يده عالية على يد الآخر في القبض، وهي عالية عليها في شرفها وفضلها، وإحسانها.

2 -

تجب البداءة بالنفقات الواجبة بالنفس، ثم الزوجة، ثم الفروع، ثم الأصول، ثم المماليك.

3 -

النفقة على النفس هي الأولى، ثم مَن تجب نفقتهم مع اليسار والإعسار؛ وهم الزوجة والمماليك، والبهائم، ثم مَن تجب نفقتهم، ولو لم يرثهم المنفِق من الأصول والفروع، ثم نفقة الحواشي، إذا كان المنفِق يرثهم بفرض، أو تعصيب.

4 -

الحديث فيه تقديم الأم، ثم الأب، ثم الإخوان، ثم الأقرب، فالأقرب على حسب درجاتهم في الإرث والقرب؛ قال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، فكل قريب له على قريبه حق، والحقوق متفاوتة.

5 -

يشترط لوجوب نفقة القريب من أصول، وفروع، وحواشٍ -غنى المنِفق وفقر المنفَق عليه، وفي الحواشي ما تقدم من إرث المنفِق منهم بفرض، أو تعصيب؛ قال تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233].

6 -

قال القاضي عياض: "الحديث فيه" أن الأم أحق من الأب بالبر؛ وهو مذهب جمهور العلماء".

* خلاف العلماء:

أجمع العلماء على وجوب نفقة الأقارب في الجملة، واختلفوا في مدار هذه النفقة:

فذهب الإمام مالك إلى: أنها لا تجب إلَاّ للأب والأم، دون الأجداد

ص: 38

والجدات كان علوْا، وتجب للفروع وإن نزلوا؛ سواء أكانوا من الوارثين، أم من غير الوارثين، حتى ذوي الأرحام منهم.

وذهب أبو حنيفة إلى: ثبوت النفقة للأصول، والفروع، والحواشي، ولكن رخَّص في وجوب الإنفاق على ذوي القرابة المحارم، بقطع النظر عن الميراث.

وذهب الإمام أحمد إلى: وجوب النفقة على الأصول والفروع، سواء أكانوا وارثين، أم غير وارثين، وفي الحواشي الذين يرثهم المنفق بفرض، أو تعصيب.

واستدل مالك على وجوب نفقة ولد الصلب-: بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

وعلى حق الأب والأم بقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83]. ومن الأحاديث: بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"، وغيرها من الأدلة.

واستدل الثلاثة على وجوب النفقة على عموم عمودي النسب-: بأن ولد الولد ولد، وأن الأجداد آباء وإن بعدوا؛ قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} [النساء: 11] يدخل فيهم ولد البنين، وقال تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وهو جدهم.

وفضلاً عن ذلك، فإن بينهما قرابة توجب النفقة، وردّ الشهادة، فيسري حكم وجوب النفقة.

أما القرابة من غير عمودي النسب: فدليل وجوب النفقة عليهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، وأنَّ الله تعالى ورسوله أمرا بصلة الرحم، ونَهَيا عن قطعها، وله أحكام من حيث ولاية النكاح، وغير ذلك

ص: 39

من الأحكام.

قال ابن القيم: "إن مذهب أحمد أوسع من مذهب أبي حنيفة، ومذهب أحمد هو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصول أحمد، ونصوصه، وقواعد الشرع، وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل".

قال الدكتور عبد العزيز عامر: "ومذهب أحمد هو أعدل المذاهب؛ بالنسبة لغير نفقة الأصول على فروعهم، والفروع على أصولهم؛ لأنه جعل مناطها الميراث، وهذا المعيار أولى إلى القبول، وأقرب إلى العدالة".

وأجمع العلماء في الجملة على عدم سقوط نفقة الزوجة بمضي الزمن؛ لأنها نفقة واجبة في حال الإعسار، واليسار؛ ولأنها معاوضة.

قال ابن المنذر: "هذه نفقة وجبت بالكتاب، والسنة، والإجماع".

واتفقوا أيضًا على: سقوط نفقة القريب بمضي الزمن، على اختلاف يسير بينهم في التفريعات، وحجتهم على سقوطها ما يأتي:

أولاً: أن نفقة الأقارب تجب باعتبار الحاجة، وهي صلةٌ محضةٌ، فلا يتأكد وجوبها إلَاّ بالقبض، أو ما يقوم مقامه، ومادام الأمر كذلك، فإذا مضت المدة، ولم تقبض، فإنه بمضيّ المدة يحصل الاستغناء عن هذه النفقة، بالنسبة للمدة الماضية؛ لأن الحاجة قد اندفعت بمضيّها، فلا يكون لهذه النفقة محل، ولا موجب، فتسقط.

ثانيًا: أن نفقة القريب مبنية على مجرد المواساة؛ لسد الخلة، وإحياء النفس، وهذا قد حصل فعلاً فيما مضى من المدة، بدون أن يدفع النفقة، فلا تبقى، وتسقط.

أما الزوجة: فإن النفقة وجبت مقابل الاستمتاع بها، أو حبسها على عشرته؛ ولذا تجب مع اليسار والإعسار، وهي بذلك تَحْمِل معنى المعاوضة، وما دامت كذلك، فلا يؤثر فيها مضي الزمن.

ص: 40

أما اختلافهم:

فإن أبا حنيفة: يرى أن عدم سقوط نفقة الزوجة بمضي الزمن هو إذا حكم بوجوبها حاكم؛ لأنها تفسير دَيْنًا بحكم القاضي فلا تسقط، أما بدون حكمٍ فإنها تسقط بمضي الزمن؛ كنفقة القريب.

وذهب الشافعي إلى: أن نفقة القريب لا تسقط في حالات هي:

1 -

أن يأذن لأحد في الإنفاق على قريبه، فإذا أذن، وتم الإنفاق فعلاً، وجبت على الإذن، فلا تسقط.

2 -

أن تكون نفقة القريب بفرض حاكم شرعي، فحكم الحاكم يصيّر النفقة دَيْنًا في الذمة.

والمذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، متقاربة في هذا التفصيل.

قال شيخ الإسلام: "ما علمت أحدًا من العلماء قال: إن نفقة القريب تثبت في الذمة لما مضى من الزمان، إلَاّ إذا كان قد استدان عليه النفقة بإذن حاكم".

***

ص: 41

991 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَل إِلَاّ مَا يُطِيقُ". رَوَا مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- طعامه وكسوته: يجوز أن تكون الإضافة فيهما إلى المفعول، ويجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل، وعليه ظاهر حديث أبي ذر:"من جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الإسلام أجاز الرق في حالة ما إذا تقاتل المسلمون مع الكفار المعاندين، واتَّخذ المسلمون منهم أسرى، وغنموا منهم نساءهم وأطفالهم، فالنساء والذرية بمجرد السبي أرقاء، أما الأسرى فيخيَّر الإمام بين: الرق، والمَنّ، والفداء، والقتل، بحسب المصلحة العامة.

2 -

ما عدا ما ذكر من الطرق من اتخاذ الرقيق، فالإسلام لا يقره، ولا يعترف به، ويعتبر من استولى عليه بغير هذا الطريق ظلمًا واغتصابًا؛ لأنَّهم أحرار في حكم الإسلام، وقد جاء في الحديث القدسي:"أنا خصم من باع حرًّا، فأكل ثمنه".

3 -

الإسلام لما اتخذ الرقيق بهذه الطريق المشروعة أكرمه، فأوجب نفقته وكسوته ومسكنه على مولاه، كما نهى أن يكلف من العمل ما لا يطيق، بل يعطى ما لايشق عليه، وهو مجمع عليه.

(1) مسلم (1662).

ص: 42

4 -

لو ذهبنا نبيّن كيف عامل الإسلام الرقيق المعاملة الحسنة، لطال بنا البحث، ولكن سيأتي طرف منه في (باب العتق)، إن شاء الله تعالى.

5 -

الحديث دليلٌ على وجوب نفقة المملوك وكسوته، وقد جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم؛ فأطعموهم مما تأكلون، وألْبِسوهم مما تلبسون، ولا تكلِّفوهم ما يغالبهم؛ فإن كلفتموهم، فأَعينوهم".

***

ص: 43

992 -

وَعَنْ حَكِيمِ بنِ مُعَاوِيَةَ القُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيْهِ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: "أنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ

" الحَدِيثَ، وَتَقَدَّمَ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ بِرَقْمِ (883)(1).

993 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الحَجِّ بِطُولهِ، قَالَ فِي ذِكْرِ النِّسَاءِ:"وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2).

ــ

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

وجوب نفقة الزوجة وكسوتها على زوجها، قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

2 -

تقدم أنَّ نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار، وأنَّها لا تسقط بحال عند جمهور العلماء.

3 -

وفي الحديث رقم (992) دليل على مشروعية مساواة الرجل زوجته بنفسه؛ فلا يستأثر عليها بشيء، وإنما تكون النفقة لها بحسب حاله من الغنى والفقر والسلطة.

4 -

أما الحديث رقم (993): فيدل على أنَّ نفقة الزوجة إنما تكون بالمعروف،

(1) أحمد (4/ 447)، أبو داود (2142)، والنسائي في عشرة النساء (289)، وابن ماجه (1850).

(2)

مسلم (1218).

ص: 44

والمعروف معناه: العرف والعادة التي عليها الناس حسب زمانهم، ومكانهم، وحالهم.

قال شيخ الإسلام: "الصواب المقطوع به عند جمهور العلماء: أنَّ نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرةً بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلاد، والأزمنة، وحال الزوجين؛ قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقال صلى الله عليه وسلم: "خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

5 -

قال شارح الكتاب: قوله "المعروف" إعلام بأنَّه لا يجب إلَاّ ما تعورف عليه من إنفاق كلٍّ على قدر حاله؛ كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

قال ابن القيم: "وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم، وإنما تجب النفقة بالمعروف".

6 -

قال أصحابنا: "ونفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها -كالزوجة، وأما المبانة بفسخ النكاح، فليس لها شيء من ذلك".

قال الموفق: "بإجماع العلماء".

وقال ابن القيم: "المطلقة المبانة لا نفقة لها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الموافقة لكتاب الله تعالى، وهي مقتضى القياس، ومذهب أهل الحديث".

7 -

قال أصحابنا: "وإن اختلف الزوجان في أخذ نفقة فقولها؛ لأنَّ الأصل عدم ذلك".

وقال شيخ الإسلام: "القول قول من يشهد له العرف".

وقال ابن القيم: "قول أهل المدينة أنَّه لا يقبل قول امرأة أنَّ زوجها لم ينفق عليها ويكسوها فيما مضى، وهو الصواب، لتكذيب القرائن الظاهرة لها، وهذا القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه".

ص: 45

994 -

وَعَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالمَرْءِ إثْمًا أَن يُضَيعٍّ مَنْ يَقُوتُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: "أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ"(1).

ــ

* درجة الحديث:

رواية النسائي رواها أيضًا أبو داود (1692)، وفي سندها: وهب بن جابر.

قال الذهبي: "لا يكاد يعرف".

* مفردات الحديث:

- كفى بالمرء: "كفى" فعل ماض، والباء زائدة، و"المرء" مفعول "كفى"، محله النصب، ولكن جر بالباء الزائدة.

- إثمًا: منصوب على التمييز.

- أن يضيعِّ: "أن" مصدرية، وهي وما دخلت عليه في تأويل مصدر، هو فاعلُ "كفى".

- مَن يقوت: من: القوت، وجمعه: أقوات؛ وهو ما يقوم به بَدَنُ الإنسان من الطعام.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه: وجوب النفقة على من استرعاه الله شيئًا ذا روح وكبد رطبة، من زوجة، وأولاد، وأقارب، وأرقَّاء، وحيوان.

2 -

وفيه: تحريم منع أقوات هذه الرعية عنهم في غذائهم وطعامهم؛ فإنَّ الله تعالى قد ابتلاه واختبره بجعلهم تحت يده، وأجرى رزقهم على يديه.

(1) النسائي في عشرة النساء (294)، مسلم (996).

ص: 46

3 -

جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "عُذِّبَتِ امرأة في هرَّة حبَسَتْهَا حتى ماتَتْ جوعًا، فلا هي أطعمتها، ولا هيَ أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض".

فدلَّ على وجوب النفقة على الحيوان والمملوك؛ لأنَّ السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرَّة بلا إنفاق عليها، وحبسها عن طلب القوت، وإذا كان ثابتًا في الهرَّة التي لا تُمْلَك، فثُبُوته في الحيوانات التي تُملك أولى؛ وهذا مذهب جمهور العلماء.

4 -

ومن حديث صاحبة الهرة يعلم جواز اتخاذ طيور الزينة من النغري، والببغاء، ونحوهما في الأقفاص إذا كانت تُطْعَم وتسقى، ولا تعذب.

5 -

سئل الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ عن جواز قتل الحيوانات التي لا يستفاد منها رحمة بها؛ لئلا تتعرَّض للأذية، وإراحتها من الأضرار التي قد تتعرَّض لها. فقال رحمه الله:"نخبركم بأنَّ قتل هذه الحيوانات المذكورة لا يحل شرعًا؛ لما صرَّح به الفقهاء، قال في الإقناع وشرحه: والواجب القيام بما يلزم لها من علف وغيره".

***

ص: 47

995 -

وَعنْ جَابِرٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ فِي الحَامِلِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ: "لَا نَفَقَةَ لَهَا". أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. لَكِنْ قَالَ:"المَحْفُوظُ وَقْفُهُ (1) ". وَثَبَتَ نَفْيُ النَّفَقَةِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الزوجة إذا توفي عنها زوجها فلا نفقة، ولا سكنى لها من تَرِكَة زوجها، ولو كانت حاملاً.

قال في الروض المربع: "لأنَّ المَال انتقل عن الزوج إلى الورثة، ولا حقَّ لها على الورثة، فإن كانت حاملاً، فالنفقة لها من حصة الحمل من التركة، إن كانت له تركة، وإن لم يكن له تركة، فنفقتها على وارث الجنين الموسر، وإلى هذا ذهبت الشافعية، والحنابلة، وغيرهم.

وقالوا: لأنَّ الأصل براءة الذمة من النفقة، وأما وجوب التربص أربعة أشهر وعشرًا، فلا يوجب النفقة".

2 -

هذا الحكم يكون عند المشاحة، وإلَاّ فالمصاهرة والقرابة تدعو المؤمنين إلى التسامح في مثل هذه الأمور.

والله تبارك وتعالا يقول: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، وقال تعالى في الوصية بزوجة المتوفى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240].

(1) البيهقي (7/ 431).

(2)

مسلم (1480).

ص: 48

996 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَيَبْدأُ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، تَقُولُ المَرْأةُ: أَطْعِمْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وإسْنَادُهُ حَسَنٌ (1).

997 -

وَعَنْ سَعِيدٍ بنِ المُسَيَّبِ -فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ- قَالَ: "يُفَرَّقُ بينهُمَا". أَخْرَجَهُ سَعيِدُ بنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ (2).

ــ

* درجة الحديثين:

حديث أبي هريرة: رواه الدارقطني، من حديث حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

قال الحافظ: إسناده حسن، لكن قوله:"تقُولُ المرأة: أطعمني، أو طلقني" -موقوف على أبي هريرة، ورفعه خطأ؛ كما بينت ذلك رواية البخاري (5355).

وأما حديث سعيد بن المسيب: فحديث مرسل صحيح.

قال المؤلف: هذا مرسل قوي؛ فمراسيل سعيد بن المسيب معمول بها؛ لما عرف من أنَّه لا يرسل إلَاّ عن ثقة، قال الشافعي: والذي يشبه أن يكون قول سعيد: "سُنة": سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) الدراقطني (3/ 297).

(2)

سعيد بن منصور (2/ 55).

ص: 49

988 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه "أَنَّهُ كَتَبَ إلى أُمَرَاءِ الأَجْنادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عنْ نِسَائِهِمْ: أَن يأْخُذُوهُم بِأَنْ يُنْفِقُوا، أوْ يُطَلِّقُوا، فَإنْ طَلَّقُوا، بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَما حَبَسُوا". أَخرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث إسناده حسن.

قال في "التلخيص": رواه الشافعي، عن مسلم بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، ورواه ابن المنذر من طريق عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر به، وذكره أبو حاتم عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله به".

قال المؤلف: "أخرجه الشافعي، والبيهقي بإسنادٍ حسن".

وقال ابن المنذر: "ثبت ذلك عن عمر، ولذا احتج به أحمد".

* مفردات الحديث:

- أُمراء: أي: قُواد الجيش.

- الأَجْنَاد: جمع جند، وهم الجيش.

- ما حبسوا: "ما" هنا مصدرية ظرفية؛ بمعنى: مدة حبسهم.

* ما يؤخذ من الأحاديث:

1 -

الحديث رقم (996) يدل على فضل الصدقة وفضل التصدق، وأنَّ يد المعطي هي العليا على يد الآخذ حسًّا ومعنًى.

ويدل على خيرية هذه اليد، وصاحبها؛ وذلك بما أنفق من ماله، وبذل

(1) الشافعي (2/ 65)، البيهقي (7/ 469).

ص: 50

من إحسانه.

2 -

ويدل على أنَّ الواجب على المُنفِق أن يبدأ بنفقات من يعول، فلا يذهب ليتصدق على البعيدين، ويترك الأقربين، ممن يعولهم وينفق عليهم.

3 -

ويدل على أنَّ نفقة الزوجة هي أوجب نفقة تجب عليه بعد النفقة على نفس؛ ذلك أنَّ الزوجة حبيسة عنده؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "هنَّ عَوان عندكم"؛ أي: أسيرات.

4 -

ويدل على أنَّ الذي يعسر بنفقة زوجته، عليه أن يفارقها بطلاق أو خلع أو فسخ، وذلك راجع إلى رغبتها وطلبها.

قال في "الروض المربع": وإذا أعسر الزوج بنفقة القوت، أو أعسر بالكسوة، أو ببعض النفقة والكسوة أو السكن، فلها فسخ النكاح من زوجها المعسر".

5 -

ويؤيد هذا: أثر سعيد بن المسيب رقم (997) في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله؛ بأنه يفرق بينهما، كما يؤيد أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقم (998) من كتابته إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم؛ أن يأخذوهم بأن ينفِقوا، أو يطلِّقوا، فإن طلَّقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا.

فهذان الأثران يدلان على أنَّ المرأة إذا أعسر زوجها بالنفقة، فلها أن تفسخ نكاحها منه.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء: هل للمرأة فسخ نكاحها إذا أعسر زوجها بالنفقة، أم لا؟

ذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، إلى: أنَّه يفرق بينهما بطلبها، ويروى عن: عمر، وعلي، وأبي هريرة، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة الرأي، وحماد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق، وأبي عبيد.

ص: 51

والدليل على ذلك: قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وليس الإمساك مع عدم النفقة إمساكًا بمعروف.

قال ابن المنذر: "ثبت أنَّ عمر كتب إلى أفراد الأجناد أن ينفقوا أو يطلقوا؛ فمتا ثبت إعساره بالنفقة، فللمرأة الفسخ من غير إنظار".

وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى: أنَّه لا يثبت لها فسخ النكاح مع الإعسار بالنفقة، وإنما يؤمر بالاستدانة، وتؤمر المرأة بالصبر، والنفقة تبقى فى ذمة الزوج، ولا فسخ.

وذهب إلى هذا القول عطاء، والزهري، وابن شبرمة، وصاحبا أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الصحيح الرواية الأخرى عن أحمد؛ أنَّ المرأة لا تملك الفسخ لعسرة زوجها؛ لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]، فلم يجعل لزوجة المعسِر الفسخ، وأيضًا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم جواز الفسخ لإعساره، والله أعلم".

***

ص: 52

999 -

وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي دِيْنارٌ؟ قَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلى وَلَدِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلَى أهْلِكَ". قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلَى خَادمِكَ". قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْتَ أَعْلَمُ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وأَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلى الوَلَدِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال في "التلخيص": رواه الشافعي، وأحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم من حديث أبي هريرة. وقَالَ الحَاكِمُ: إِنَّه على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وصححه ابن حبان".

قال ابن حزم: "اختلف ابن القطان، والثوري؛ فقدَّم ابن القطان الزوجة على الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة".

قال الحافظ: "جاء في صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الأهل على الولد من غير تردد، فيمكن أن يرجح به إحدى الروايتين".

* مفردات الحديث:

- السائل: أراد بسؤاله الصدقة بالدنانير، فحمله صلى الله عليه وسلم على ما هو أهم وأولى، وهو الإنفاق، جريًا على أسلوبه الحكيم.

- أنت أعلم: أي: بحال من يستحق الصدقة؛ فتحرَّ في ذلك، واجتهد.

(1) الشافعي (2/ 63)، أبو داود (1691)، النسائي (5/ 62)، الحاكم (1/ 415).

ص: 53

1000 -

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: "أُمَّكَ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ": قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أبَاكَ، ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِيُّ، وَحسَّنَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

رواه أبو داود والترمذي والبخاري في "الأدب المفرد" والحاكم والبيهقي وقال الترمذي: "حديث حسن" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذَّهبي.

وله شاهد من حديث المقدام، أخرجه البيهقي بإسناد حسن.

* مفردات الحديث:

- أبرّ: يقال: برّ والديه يبرّهما برًّا: أحسن إليهما، ووصلهما.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحديثان فيهما دليل على وجوب النفقة على القريب من أصول وفروع، وعلى وجوب النفقة على الزوجة، وعلى وجوب النفقة على الخادم والمملوك.

2 -

وفي الحديثين دليل على أنَّه إذا كان عنده من النفقة ما يكفيه، ويكفي مَن يمونه، فعليه أن ينفق على الجميع على حسب حاله، وأما إذا لم يكن عنده ما يكفي الجميع، فليبدأ بالأهم.

3 -

أول شيء يبدأ به: النفس، ثم الزوجة؛ لأنَّ نفقتها معاوَضة.

4 -

بعد الزوجة المملوك؛ لأنَّ نفقته كالزوجة تجب مع اليسار والإعسار، فيؤمر

(1) أبو داود (5139)، الترمذي (1897).

ص: 54

بالنفقة عليه، أو بيعه.

5 -

ثم تأتي الأم؛ لأنَّ مشقتها في الأولاد أعظم من الأب؛ من الحمل، والولادة، والرضاعة، والحضانة، وغير ذلك من شؤون الأطفال، وإصلاحهم، ثم يأتي بعدها الأب؛ لأبوته، وعظم حقه.

6 -

ثم تأتي نفقة الأقارب، فيقدم منهم الأهم على حسب الميراث، هذا عند قصر النفقة، وعدم كفايتها؛ كصاحب الدينار في هذا الحديث، أما مع الغنى فيقوم بكفاية الجميع، ويحتسب المنفِق أجر النفقة من الله تعالى؛ ليحصل له خير الدنيا والآخرة، فالدنيا بالزيادة، والنماء، والمحبة، والمودة، والدعاء، وفي الآخرة الثواب العظيم، والأجر الجزيل، وهذا مشروط به الإخلاصُ لوجه الله، والبعد عن المَنّ، وعن الرياء.

7 -

وفي الحديث تقديم الأم بالبر على الأب، ومن باب أولى على غيره؛ ذلك أنَّها عانت من متاعب الجنين، ثم الطفل ما لا يعانيه غيرها.

8 -

وفي الحديثين دليل على أنَّ النفقة على النفس، وعلى الأقارب -إحسان، وبرٌّ، متعدٍّ نفعه وخيره إلى الغير، وأنَّها مع الاحتساب تدخل في العبادات الجليلة، والقُرَب العظيمة.

فقد جاء في الصحيحين، من حديث أبي مسعود البدري، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أنفق الرَّجل على أهله نفقة يحتسبها، فهي له صدقة".

وجاء في الصحيحين -أيضًا- من حديث أم سلمة قالت: قلتُ: يا رسول الله، هل لي في بني أبي سلمة أجر إن أنفق عليهم، ولست بتاركتهم، إنَّما هم بني؟ فقال:"نعم، لك أجر ما أنفقت عليهم".

والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

والمدار على النية الصالحة، والقصد الحسن الذي تنقلب به العادة عبادة يثاب عليها صاحبها، والله المستعان.

ص: 55