الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القسامة
مقدِّمة
القسامة: بفتح القاف، وتخفيف السين المهملة، مصدر: أقسم إقسامًا وقسامةً، والقسامة اسم للقسم، وهو اليمين، أقيم مقام المصدر، فالقسامة هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة.
والقسامة شرعًا: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم.
وصورة القسامة: أن يوجد قتيل بجراح أو غيره، ولا يعرف قاتله، ولا تقوم البينة على مَنْ قتله، ويدَّعي أولياء المقتول على واحد معيِّن أنَّه قاتله، وتقوم القرينة، أو القرائن على صدق المدَّعي.
والقرائن كثيرة: منها العداوة بين القتيل والمدَّعى عليه، أو أن يوجد في دار المدَّعي عليه قتيلًا، أو يوجد أثاثه مع إنسان، أو نحو ذلك، حينئذٍ يحلف المدَّعي خمسين يمينًا أنَّ المدَّعى عليه هو القاتل، ويستحق دم المدعى عليه، فإن نكل عن الأيمان، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرىء، وإن نكل قضي عليه بالنكول.
والقسامة ثبتت مشروعيتها في السنة.
قال القاضي عياض: هي أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد.
وهذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وبها أخذ الأئمة.
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ القسامة مشروعة في القتيل إذا وُجد، ولم يُعلم قاتله، فتخصص بها الأدلة العامة.
وقد روي ابن عبد البر من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا: "البيِّنة على المدَّعي، واليمن على من أنكر، إِلَاّ في القسامة". قال الموفق: وهذه الزيادة يتعيَّن العمل بها؛ لأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة.
ونكتة مسألة القسامة: أنَّ اليمين تكون في جانب من قوي جانبه من المترافعين، والأصل في الدعاوى أنَّ جانب المدعى عليه المنكِر أقوى؛ لأنَّ الأصل براءة الذمة، لكن في القسامة لما كان مع المدَّعي اللوث، قال شيخ الإسلام: كل قرينة أيَّدت الدعوى على المدعى عليه، رُجِّحَت حينئذٍ دعوى المدَّعي، فصارت اليمين في جانبه، ولِعِظَمِ القَسامة، وخطر الدماء، لم يُكْتفَ بيمين واحدة، بل لابد من تكريرها خمسين مرَّة.
قال الإمام أحمد: أذهب إلى القسامة، إذا كان ثَمَّ سبب بيَّن.
وقال شيخ الإسلام: اللوث ما يغلب على الظن صحة الدعوى.
وقال العلامة ابن القيم: وهذا من أحسن الاستشهاد على ظاهر الأمارات المغلبة على الظن لصدق المدعي، فيجوز له أن يحلف بناء على ذلك، ويجب على الحاكم أن يحكم، فيثبت حق القصاص، أو الدية، مع علمه أنه لم يرد، ولم يشهد.
***
1034 -
وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ القَسَامَةَ علَى مَا كانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُود". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
القسامة شرعًا: هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم.
2 -
قال ابن قتيبة: أوَّل من قضى بالقسامة في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
فالإسلام يقر من الأقوال والأفعال ما حقق مصلحة، أو كانت راجحة على المفسدة.
3 -
الحديث يدل على إقرار القسامة على ما كانت عليه، وقد قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار، على ما سيأتي في حديث سهل بن أبي حثمة بعد هذا الحديث إن شاء الله تعالى.
4 -
بعضهم يرى: أنَّ القسامة جاءت على خلاف القياس؛ ذلك أنَّ البيِّنة تكون على المدَّعي، واليمين على من أنكر، والقسامة عكست الوضع، فصارت الأيمان مطلوبة من المدَّعي، أو المدعين.
5 -
وعند التأمل يظهر أنَّها على وفق القياس، وليست على خلافه، ذلك أنَّ الضابط أنَّ اليمين تكون في الجانب الأقوى من المتداعين، والقسامة لا تكون دعواها إلَاّ مع قرينة قوية، تدل على صحة الدعوى، وقوَّة اتِّهام المدعى عليه، وحينئذٍ صارت اليمين في حق المدعي؛ لأنَّ جانبهم قوي بالقرينة.
(1) مسلم (1670).
1035 -
عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه "عَنْ رِجَالٍ مِنْ كبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، خَرَجَا إِلَى خَيْبرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهْمْ، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ، فَأُخبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبلَ هُوَ، وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَبِّر كَبِّر، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ فِي ذلكَ كِتَابًا، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ: أَتَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ، قَالَ سَهْل: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مُحَيصَّة؛ بضم الميم، فحاء مهملة، فمثناة تحتية مشددة، فصاد مهملة.
- جهد: -بفتح الجيم، وسكون الهاء، آخره دال مهملة-: هو المشقة.
- حُوَيِّصَة: بضم الحاء المهملة، وفتح الواو، فمثناه تحتية مشددة، فصاد مهملة.
(1) البخاري (7192)، مسلم (1669).
- كَبِّر كَبِّر: بلفظ الأمر فيهما، والثاني تأكيد للأول، وللمبالغة، ومعناه: قدِّم الأسن في الكلام.
- يَدُوا: أي: تُؤدي لكم يهود الدية.
- يأذنوا بحرب: يقال: آذنه -بالمد- بالحرب يؤذنه: أعلمه بها، والمراد: ينذروا بالحرب والشر، ويراد بذلك: تهديدهم.
- أتحلِفُون: الهمزة فيه للاستفهام، على سبيل الاستخبار.
- رَكَضَتْنِي: ضربتني برجلها، فالركض الأصل هو: الضرب بالرِّجْل، ومنه قوله تعالى:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42].
- ناقة: الأنثى من الإبل، جمعها: ناق ونوق وأنوق.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث أصل في "مسألة القسامة"، وصفتها: أن يوجد قتيل بجراح، اْو غيره، ولا يعرف قاتله، ولا تقوم البينة على مَنْ قتله، ويدَّعي أولياء المقتول على واحد بقتله، وتقوم القرائن على صدق المدَّعي: إما بعداوة بين القتيل والمدَّعى عليه، أو أن يوجد في داره قتيلًا، أو يوجد أثاثه مع إنسان، ونحو ذلك من القرائن، فيحلف المدَّعي خمسين يمينًا، ويستحق دم الذي يزعم أنَّه القاتل.
قال في "فتح الباري": اتَّفقوا على أنَّها لا تجب لمجرد دعوى الأولياء، حتى تقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها.
فإن نكل، حلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا، وبرىء، وإن نكل قضي عليه بالنكول.
2 -
المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لابد في صحة دعوى المدَّعي من قرينة العداوة بين المقتول والمدعى عليه؛ وهو ما يسمى بـ"اللوث"، فإن لم يكن ثَمَّ عداوة، فلا قسامة.
والرواية الثانية عنه: صحة الدعوى، وتوجه التهمة بما يغلب على الظن من القرائن، كأن يوجد القتيل في دار إنسان، أو يرى أثاثه عنده، أو توجد شهادة لا تثبت القتل، كشهادة الصبيان، ونحو ذلك من القرائن.
واختار هذه الرواية: ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال في "الإنصاف": وهو الصواب، وهو مذهب الإمام الشافعي.
3 -
دعوى القسامة خالفت سائر الدعاوى بأمور:
الأول: أنَّ اليمين توجهت على المدَّعي، وبقية الدعاوى البينة على المدَّعي، واليمين على المدعى عليه "المُنكر".
الثاني: أنَّه يبدأ بأيمان المدعي، أو المدعِين، إن كانوا أكثر من واحد.
الثالث: تكرير اليمين، وفي سائر الدعاوى يمين واحدة، وتشابه القسامة:"مسألة اللعان"، وتقدمت في بابها.
4 -
إذا وجد قتيل، لا يعلم قاتله، ووجدت القرائن على قاتله -حَلَف أولياء المقتول خمسين يمينًا على صحة دعواهم، فيستحقون دم المدَّعى عليه، إذا كان القتل عمدًا محضًا؛ روي عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب مالك وأحمد، وأبي ثور، وابن المنذر، وهو المذهب القديم للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"يُقْسِم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته".
ولمسلم في صحيحه: "ويُسلم إليكم"، وفي لفظ:"تستحقون دم صاحبكم"؛ ولأنه حجة قوية، يثبت بها العمد، فيجب بها القتل، كالبينة.
أما المشهور من مذهب الشافعي: فلا يستحقون إلَاّ الدية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إمَّا أنْ يدُوا صاحبكم، وإما أن يُؤْذنوا بحرب".
وإن كان القتل غير عمد، وثبت القتل على المتَّهم، فعليه الدية.
5 -
إذا نكل المدعون عن اليمين، أو كانوا من غير أهل الأيمان (النساء والصبيان) -توجهت الأيمان على المتَّهمين في القتل، فيحلفون خمسين
يمينًا؛ أنَّهم لم يقتلوه، وأنَّهم لا يعلمون قاتله، فإذا حلفوا برئوا، وإن نكلوا، أدينوا بثبوت الدعوى عليهم، فتجب الدية.
6 -
إذا نكل أولياء المقتول عن الأيمان، وحلف المدَّعى عليهم، فحينئذٍ تكون دية القتيل من بيت المال، حتى لا يضيع دمه، ومثله المقتول في زحام حج، أو مسجد، أو حفل، أو وجد مقتولًا، ولا يعلم قاتله، ولا تدل القرائن على قاتل؛ كل هؤلاء ونحوهم تكون دياتهم من خزينة الدولة.
7 -
أنَّ اليمين تكون في جانب الأقوى من المتخاصِمَيْن.
ففي دعوى القسامة توجهت الأيمان على أولياء المقتول أولًا؛ لأنَّ جانبهم تقوَّى بالقرائن الدالة على صحة دعواهم في قتل صاحبهم، والقرائن إذا قويت، فإنَّها من البينات الواضحة، فإن نكلوا عن الأيمان، دلَّ نكولهم على قوة جانب المدعى عليهم، فيحلفون، ويبرؤون من التُّهمة.
8 -
استحباب تقديم الأكبر سنًّا في الأمور؛ لما له من شرف السن، وكثرة العبادة، وممارسة الأمور، وكترة الخبرة.
9 -
جواز الوكالة في المطالبة بالحدود.
10 -
فإن قيل: كيف عرض النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على الرجال الثلاثة، والوارث منهم هو عبد الرحمن خاصة، واليمين لا توجه إلَاّ عليه، ولا تؤخذ إلَاّ منه؟
فالجواب: أنَّه صلى الله عليه وسلم لما سمع كلام الجميع في صورة القتل، وكيفية ما جرى فيه، صار لا لبْس أنَّ حقيقة الدعوى مختصة بالوارث، وأنَّ اليمين متوجهة إليه خاصة، دون صاحبيه، وإنما وجه صورة الكلام إليهم لاهتمامهم جميعًا بالقضية.
11 -
وفي الحديث: فضيلة السن عند التساوي في الفضائل، والمواهب في الأمور، مثل: الإمامة، وولاية النكاح، وغير ذلك؛ لمزيد خبرته، وفضل سابقته.
12 -
واشترط الفقهاء لصحة القسامة عشرة شروط:
أحدها: اللوث -وهو على المذهب-: العداوة الظاهرة، نحو ما بين الأنصار وأهل خيبر، والرواية الأخرى: صحة دعوى القسامة، وتوجه التهمة بكل ما يغلب على الظن من القرائن، واختار هذه الرواية ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال في "الإنصاف": وهو الصواب، وهو مذهب الشافعي.
الثاني: أن يكون المدعى عليه القتل مكلفًا؛ لتصح الدعوى عليه، فإنَّها لا تصح على غير المكلف.
الثالث: إمكان القتل من المدعى عليه، فإذا لم يمكن لنحو زمانة، لم تصح؛ كبقية الدعاوى التي يكذبها الحس.
الرابع: وصف القتل في الدعوى؛ كأن يقول: جرحه بسيفه في محل كذا من بدنه.
الخامس: اتفاق جميع الورثة على الدعوى للقتل، فلا يكفي عدم تكذيب بعضهم بعضًا، إذ الساكت لا ينسب إليه حكم.
السادس: طلب جميع الورثة، فلا يكفي طلب بعضهم؛ لعدم انفرداه بالحق.
السابع: اتفاق جميع الورثة على القتل، فإن أنكر بعض الورثة القتل، فلا قسامة.
الثامن: اتفاق جميع الورثة على عين القاتل، فلو قال بعضهم: قتله زيد، وقال بعضهم: قتله بكر، فلا قسامة.
التاسع: أن يكون في الورثة ذكور مكلفون؛ لأنَّ القسامة يثبت بها قتل العمد، فلم تسمع من النساء، ولا يقدم بيمينه بعضهم، ولا عدم تكليفه، أو نكوله عن اليمين.
العاشر: أن تكون الدعوى على واحد، لا اثنين فأكثر، فلو قال ورثة القتيل: قتله هذا مع آخر، فلا قسامة.
ولا يشترط أن تكون القسامة بقتل عمد؛ لأنَّها حجة شرعية، فوجب أن يكتب بها الخطأ، كالعمد.
وإذا تمت بشروطها العشرة، أُقيد بها.
ويبدأ فيها بأيمان ذكور عصبة القتيل الوارثين، ومتى حلفوا، فالحق الواجب بالقتل لجميع الورثة، وإن نكلوا، حلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا، وبرىء إن رضوا أيمانه، وإن نكل المدعى عليه، لزمته الدية، وإن نكل الورثة عن الأيمان، ولم يقبلوا يمين المدعى عليه، فدى الإمام القتيل.
* قرار مجلس هيئة كبار العلماء بشأن القسامة:
قرار رقم (41) وتاريخ 13/ 4/ 1396 هـ جاء فيه:
بعد استماع المجلس ما أعدَّ من أقوال أهل العلم، وتداول الرأي -قرَّر المجلس بالأكثرية أنَّ الذي يحلف من الورثة هم الذكور العقلاء، ولو واحدًا؛ سواء كانوا عصبة، أو لا؛ لِما في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة، ولأنَّها يمين في دعوى حق، فلا تشرع في حق غير المتداعين؛ كسائر الأيمان، وبالله التوفيق.
هيئة كبار العلماء
***