الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح نهج البردة
يقول أمير الشعراء في مطلع قصيدته:
ريم على القاع بين البان والعلم
…
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم «1»
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا
…
يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم «2»
يبدأ شوقي قصيدته نهج البردة كما بدأ قبله كل من كعب بن زهير والإمام البوصيري بالغزل، واعتاده الشعراء القدامى، مقتفيا نهجهم باتخاذ الغزل مطلعا للقصيدة فتخيل محبوبته الظبى الجميل الذي يقف في أرض بين أشجار ألبان والجبل، وهذا الظبى استحوذ على مشاعره أكثر من منظر الغابة الخضراء الجميلة ومنظر الجبل، وهو هنا قد شغله جمال الظبى ولم يبهره منظر الغابة الخضراء والأغصان الملتفة والروابي أو الجبال، وأن هذا الجمال الذي بهره كما لو كان قد سفك دمه على الرغم من تحريم سفك الدماء خلال الأشهر الحرم.
ولعل جمال الغزال يبرز في عينيه اللتين يتعلق بهما من يراهما ولو كان أسدا في قسوته ووحشيته وجبروته، وهذا الأسد يسكن الأجم ويطلب النجدة والرحمة من هذا الظبى الرقيق الذي لا يثبت أمام جماله شيء.
ثم يقول:
لما رنا حدثتني النفس قائلة
…
يا ويج جنبك بالسهم المصيب رمى «3»
جحدتها وكتمت السهم في كبدي
…
جرح الأحبة عندي غير ذى الم «4»
(1) الرئم: الظبى الخالص البياض، القاع، الأرض السهلة المطمئنة، البان: ضرب من الشجر، العلم: الجبل، الأشهر الحرم:(أربعة) ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد مفرد وهو رجب، وكانت العرب لا تستحل فيها القتال.
(2)
الجؤذر: ولد البقرة الوحشية، الأجم: جمه أجمه وهي الشجر الكثيف الملتف وهو مسكن الأسد.
(3)
رنا: ادام النظر مع سكون الطرف، يا ويح: الشدة والمكروه.
(4)
جحدتها: الجحود هو الانكار مع العلم.
ويعبر شوقي عما أحسه عند رؤيته هذا الغزال وقد ثبت نظراته الرقيقة وصويها نحوه فحدثته نفسه بأن قلبه قد أصيب بسهم تلك النظرات ولا يستطيع إنسان أن يخرجه من كبده.
وقد اختار الشاعر عضوا يصعب على الطب معالجتها، ألا وهو الكبد، فكل عضو من جسم الإنسان يمكن معالجته ما عدا الكبد، فهو هنا يبين مدى الجرح الذي أصيب به، ولكن الشاعر كرجل كتم هذا الهوى وهذا الحب وأنكر وجوده تماما لاعتقاده أن أي الم يسببه المحبوب لا يمكن أن يؤثر في نفسه وقلبه على الرغم من لوعته ومعاناته حب هذه الأنثى التي تضارع الغزال جمالا وفتنة.
ويقول:
رزقت أسمح ما في الناس من خلق
…
إذا رزقت التماس العذر في الشيم «1»
يا لائمي في هواه والهوى قدر
…
لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم «2»
فيوضح صفات المحب المثالي إذ يذكر أن الإنسان الكريم سمح الخلق لا يعتبر كريما ولا سمحا إلا إذا كان قادرا على التماس الأعذار للناس وهذا هو الخلق الطيب عند العرب، ولذا يطلب ممن يلومه ويؤنبه على أنه قد أحب هذا الغزال أن يلتمس له العذر فلو مر بتجربته لما كان عاذلا.
وفي قول شوقي:
لقد انلتك اذنا غير واعية
…
ورب منصت والقلب في صمم «3»
يخاطب لائمه ويقول له: يا أيها اللائم أنني انصت إليك حقا، ولكن هل أنت متأكد من أنني أسمع لما تقوله أو أعيه؟ انى قد انلتك أذني ولكن قلبي بعيد عنك لا يسمعك ولا يعي لومك ولا عتبك لما هو فيه من الوجد والحب منذ رؤية هذا الظبى.
(1) الشيم: جمع شيمة وهي الخلق.
(2)
شفة الوجد: هزلة وانحل جسمه.
(3)
انتصت: سكت سكوت مستمع.
ويقول:
يا ناعس الطرف لاذقت الهوى أبدا
…
أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم «1»
وبهذا يعود شوقي إلى الحبيبة ويظهر بعض صفاتها الجمالية، فهي ناعسة الطرف، وسنانة العينينن، يدعو لها ألاتذوق الحب الذي يثقل كاهل المحب ويعذبه ويضنيه كما أضناه هو وأرقه، ويدعو لمحبوبته أن تنام هانئة قريرة العينين.
ويقول شوقي:
افديك إلفا ولا ألو الخيال فدى
…
أغراك بالبخل من أغراه بالكرم «2»
سرى فصادف جرحا داميا فأسا
…
ورب فضل على العشاق للحلم «3»
ويريد شوقي أن يؤكد لحبيبته أنه يستطيع أن يعطيها كل ما حاك بخياله من حب وشفقة ورحمة على الرغم من أن حبيبته تبخل عليه بأقل القليل، ويلجأ شوقي للمقابلات بين البخل والكرم وبين المنع واطلاق الخيال، وبين السهر والنوم، وبين الوعى والصمم لتأكيد المعنى المعبر عن حالته النفسية في حبه، وعن حال محبوبته بما فيها من تناقض بينه وبينها مسترجعا ما سمع من الام المحبين واهاتهم في العشق ورغبتهم الدائمة في وصل الحبيب، وشاعرنا لم ير هذا الحبيب إلا عن بعد، ولكنه يأمل أن يراه في الحلم، وربما تكشف له الاحلام عن حقيقة هذا المحبوب. ويقول:
من المؤانس بانا بالربى وقنا
…
اللاعبات بروحي السافحات دمى «4»
السافرات كأمثال البدور ضحى
…
يغرن شمس الضحى بالحلى والعصم «5»
(1) الناعس: الوسنان، الطرف: العين، والمضني: الذي أثقله المرض، ومضناك: الذي أضنيته مما لحقه من الوله عليك.
(2)
الألو: المنع والتقصير، اغراك: زينة له وحرضه عليه.
(3)
سرى: المشى في الليل، وأسا الجرح يأسوه: داواه.
(4)
الموانس: المتبختره، البان: ضرب من الشجر، القنا، جمع قناة وهي الرمح وسفح الدم: سفكه وأساله.
(5)
السافرات: سفرت المرأة أي كشفت عن وجهها، والحلي: ما تزين به المرأة من مصوغ المعادن، والعصم: القلائد.
القاتلات بأجفان بها سقم
…
وللمنية أسباب من السقم
فيرى الشاعر أن هناك من جمال المرأة ما يشبه شجرة ألبان في طولها وتمايلها كالرماح التي تسفح دم الرجل، وهنا يعرض أنماطا من النساء، اللعوب التي تعبث بمشاعر الرجل، والتي تتمكن فيه وتصيبه وتسفح دمه، وهؤلاء النسوة الكاشفات وجوههن يشبهن البدور في جمالهن حتى أن الشمس تغير منهن حينما يتحلين بالحلي والأحجار الكريمة والقلائد لانعكاس أشعة الشمس على هذه الحلي وما لها من لمعان وبريق فوق صدورهن؛ ويؤكد الشاعر أن حركة الجفن لهؤلاء النسوة لها تأثير يصل بالمرء إلى المنية ويطرح بعد ذلك حقيقة وحكمة فيقول: أن للموت أسبابا كثيرة، ويربط بين حركة الجفن والمؤثرات الاخرى التي تؤدي إلى الموت وربما كان الشاعر يقصد أن صورة انسدال الجفن وما بها من جمال تكون صورة جميلة قد تؤدي بالمرء إلى المنية لشدة وقع ذلك عليه، وهذا تأكيد لما سبق حينما شبههن بالبدر لجمالهن الذي يصرع من يتعرض لهن.
ويقول شوقي:
العاثرات بألباب الرجال وما
…
اقلن من عثرات الدل في الرسم «1»
المضرمات خدودا أسفرت وجلت
…
عن فتنة تسلم الأكباد للضرم «2»
الحاملات لواء الحسن مختلفا
…
اشكاله وهو فرد غير منقسم «3»
من كل بيضاء أو سمراء زينتنا
…
للعين وللحسن في ارام كالعصم «4»
برعن للبصر السامي ومن عجب
…
اذا اشرن اسرن الليث بالعنم «5»
وضعت خدي وقسمت الفؤاد ربي
…
يرتعن في كنس منه وفي أكم «6»
(1) العثرة: الزلة والسقطة، الدل: السكينة والوقار في الهيئة والمنظر، الرسم: حسن المشي.
(2)
الضرم: اشتعال النار.
(3)
اللواء: العلم وحمل لواء الحسن كناية عن نهاية الحسن فيه.
(4)
العصم: بياض اليدين.
(5)
برعن: يخفن: العنم: شجرة حجازية لها ثمرة حمراء تشبه بها البنان المخضوبة.
(6)
وضع الخد: كناية عن الخضوع والاستسلام، الكنس: مستقر الظباء في الشجر الأكم: جمع أكمة وهي الموضع يكون أشد ارتفاعا مما حوله.
إن الصورة المركبة التي يحاول الشاعر أبرازها من خلال الأبيات نستدل منها على أن مشية هؤلاء النسوة بما فيهن من حسن المنظر وجمال الخطوة ومهابة ووقار يلعب بقلوب الرجال وتطأ أقدامهن هذه القلوب دون أن يحاولن انقاذها، وهؤلاء النسوة عندما تحمر خدودهن خجلا فأنها تبدو كما لو كانت قد أشعلت فيها النار، ولعلها تشعل النار في أكباد الرجال وقلوبهم عندما يكشفن عن جمال وجوههن، فلا سلامة ولا أمان لقلب الرجل أمام هذا الجمال الذي يحملن لواءه، ولا حدود لهذا الجمال، فهو جمال متنوع في أشكاله، متعدد في ألوانه، وهو في نفس الوقت جمال كامل، وحسن مطلق، ولا يحدد الحسن بلون البشرة ولا تهمه إن كانت هذه الحسناء بيضاء أو سمراء أو غير ذلك، وإنما ما يهمه فيها هو الحسن الذي يشبهه بالقمة المرتفعة التي يعتصم بها الإنسان وكأنه يريد أن يجعل الحسن في حد ذاته نوعا من أنواع العصمة أي أن الذي يرى هذا الحسن يخشاه ويهابه، وليس هناك أي إنسان قادر على مواجهة المرأة باهرة الجمال، رائعة الحسن، فهذه النوعية من النساء الشهيرات بالجمال لا يحس بجمالهن إلا من يقدر الجمال، ومع ذلك فانهن إذا ابنّ جمالهن فإنهن يصر عن حتى من تحصن بالعصمة منهن، ويصف الشاعر الكف المخضبة بالحناء فهي بجمال خضابها تأسر الرجل باشارة من كفها ولا يأسرن الرجل فقط، بل انهن يأسرن الأسد بهذه الاشارة.
واستسلم الشاعر لهذا الحسن وخضع له حتى انه وضع خده وفؤاده وقلبه بساطا لهذه الظباء يرتعن في ذلك كيفما شئن ويلعبن في وديان قلبه ومرتفعاته وهو يؤكد خضوعه وضعفه أمام هذا الحسن البارع وهذا الجمال الرائع.
ويقول شوقي:
يا بنت ذى اللبد المحمى جانبه
…
القاك في الغاب أم القاك في الأطم «1»
ما كنت أعلم حتى عن مسكنه
…
ان المنى والمنايا مضرب الخيم «2»
(1) اللبد: جمع لبده وهي الشعر المتراكب بين كتفي الاسد، والغاب: جمع غابه وهي الشجر المتكاثف، الأطم: القصر.
(2)
المنايا: المنية وهي الموت.
من أنبت الغصن من صمصامة ذكر؟
…
وأخرج الريم من ضرغامه قرم «1»
فنستدل من قول الشاعر على أنه اكتشف أن محبوبته الحسناء بنت لأحد العظماء، وبين حيرته تجاه هذا الرجل العظيم إذ كيف يستطيع أن يقابل (هذه المحبوبة في السر حيث الأغصان الملتفة والظلام هربا من بطش أبيها، أم أنه سيستطيع أن يلقاها في النور حيث البيوت والقصور، ويؤكد أن معرفته بمكانة أبيها قد وضحت وأن أمانيه في الحياة واستمرار حبه هذه الفتاة أصبح ذلك مقرونا بخوفه من الموت، فقد اجتمعت أمانيه ومنيتّه في مكان واحد وهو منزل أبيها، ويعود الشاعر ليضرب الأخماس في الأسداس متسائلا: كيف يخرج من ظهر هذا الفحل الضخم القاسي الشرس هذه النبتة الصغيرة الرقيقة وهذه الزهرة الناعمة العطرة؟! .. كيف يخرج من حيوان شرس مفترس هذا الغزال الرقيق الناعم الأبيض..؟!
ويقول:
بيني وبينك من سمر القنا حجب
…
ومثلها عفة عذرية العصم «2»
لم أغش مضناك إلا في غضون كرى
…
مضناك أبعد للمشتاق من أرم «3»
فيؤكد شوقي مرة أخرى فقده الأمل في الوصال بينه وبين.. المحبوبة وهناك عائقان:
الأول؛ والدها ذو الحسب والنسب والمكانة، والاخر عفتها وعذريتها اللتان تعصمانها من حبه ومن وصله، ويؤكد أنه لا يستطيع الوصول إليها ووصالها إلا في الأحلام، فوصال محبوبته حلم من الأحلام، وأسطورة من الأساطير بعيدة عن الواقع كما تبعد عنه مدينة ارم ذات العماد التي ورد ذكرها في القران الكريم.
(1) الصمصامة: السيف، والضرغامة: الأسد، والقرم: شديد الشهوة إلى اللحم.
(2)
العفة العذرية: نسبة لقبيلة بني عدرة اشتهر شبابها بالعشق والعفاف، والعصم: جمع عصمة وهي المنع والحفظ.
(3)
اغشى مضناك: المنزل الذي عنى به أهله، الكرى: النوم، ارم: هي ارم ذات العماد التي ورد ذكرها في القران الكريم.
ويقول:
يا نفس دنياك تخفى كل مبكية
…
وان بدا لك منها حسن مبتسم «1»
قضى بتقواك فاها كلما ضحكت
…
كما يفيض اذى الرقشاء بالثرم «2»
ويريد الشاعر بهذا أن ينصح نفسه بأن لا تغتر بمباهج الدنيا وابتسامتها، فقد تخفى في الغيب ما يبكي ويحزن فمثلها في ذلك مثل الحية الرقطاء، لها لون جميل ولكنها تخفي في فمها السم، والابتسام لا يأتي إلا من الفم، والسم لا يأتي إلا من الفم كذلك، فوضع شوقي ابتسام الدنيا الزائف نظيرا لسم الحية القاتل.
ثم يقول:
مخطوبة منذ كان الناس خاطبة
…
من أول الدهر لم ترمل ولم تئم «3»
يفني الزمان ويبقى من اساءتها
…
جرح بادم يبكي منه في الادم «4»
فهذه الدنيا في نظر الشاعر كانت مطلوبة منذ بدء الخليقة، فالإنسان دائما يسعى إليها، فهي جذابة مغرية لبني البشر فيتكالبون عليها كما يتكالب الخطباء لخطبة امرأة جميلة لا تترمل أبدا وأنها تحمل من الماسي ما لا يفني بمر الزمان، كما حدث عن كيدها لادم عليه السلام.
ويقول الشاعر:
لا تحلفني بجناها أو جنايتها
…
الموت بالزهر مثل الموت بالفحم «5»
كم نائم لا يراها وهي ساهرة
…
لولا الأماني والأحلام لم تنم «6»
(1) المبتسم: الابتسام ويجوز أن يراد به الموضع الثغر.
(2)
الرقشاء: من الحيات المنقط بالسواد والبياض، وأذى الرقشاء: سمها، والثرم كسر السن من أصلها.
(3)
لم ترمل: إذا مات عنها زوجها وامنت المرأة من زوجها تئيم، والأيم: التي لا زوج لها سواء أكانت بكرا أم كان لها زوج فقدته.
(4)
الادم: الجلد يقول مع أن حالها وحال الناس ما ذكرنا فإن اساءتها ما تنتهي حتى ادم عليه السلام لا ينسى كيدها إلى اخر الزمان.
(5)
الجنى: ما يجتنى من الشجرة ويقطف من ثمارها.
(6)
نائم: يريد به المغتر بالدنيا الغافل عن مصائبها وغيرها.
ولعله يريد أن يقول للنفس لا تبتهجي بثمار هذه الدنيا أو جنايتها فإن الموت واحد وأن تعددت أسبابه، فهناك الكثيرون من هؤلاء الناس الغافلين عن حقيقة الحياة يأملون ويمنّون أنفسهم بالأماني والأحلام ويقضون كل حياتهم في تحقيق هذه الأماني والأحلام غافلين عن المصائب والنكبات التي قد تحل بهم فجأة.
وكذلك يقول:
طورا نمدك في نعمى وعافية
…
وتارة في قرار البؤس والوصم «1»
كم ضللتك ومن تحجب بصيرته
…
ان يلق صابا يرد أو علقما يسم «2»
يا ويلتاه لنفس راعها ودها
…
مسودة الصحف في مبيضة اللمم «3»
فيبين أن هذه الدنيا منذ بداية هذا الكون تعطي وتأخذ، تفرح وتبكي، فبقدر ما تعطيك من نعم وخير وعافية، بقدر ما تأخذ منك وتصيبك بالالام والمرض والفقر والذل، فهي لا تدوم لأحد، ودوام الحال من المحال، ويقول الشاعر أن هذه الدنيا كثيرا ما تضلل الإنسان وتحجب عنه حقيقة الحياة فيهيم في دنياه بلا بصيرة، وتجعله لا يفرق بين الحلو والمرثم يتحسر للنفس التي تقضي حياتها في اللهو واللعب وارتكاب المعاصي والذنوب مسودة صفحة الحساب حتى يدركه المشيب، ويؤكد الشاعر أن الدنيا تقود النفس في ملذاتها وحتى تنغمس في معاصيها فلا تترك فرصة لكي يراجع نفسه، ولكي ينقذ نفسه من التهلكة بعد أن أدرك الحقيقة المرة. ويستمر شوقي في أبياته:
ركضتها في مربع المعصيات وما
…
اخذت من حمية الطاعات للتخم «4»
هامت على أثر اللذات تطلبها
…
والنفس ان يدعها داعي الصبا تهم «5»
(1) الوصم: الالم والمرض.
(2)
الصاب: شجر مر، والعلقم: الحنظل، يسم من سأم أي رعى يرعى.
(3)
دها: أي دهاها، اللمم: جمع لمه وهي الشعر يجاوز شحمة الأذن. مسودة الصحف: كناية عن العمل الشيء، ومبيضة اللمم: الشيب.
(4)
ركضتها: أصل الركض: تحريك الرجل ويقال ركضت الفرس يرجى ليعدو، حمية الطاعات: لمن يتعفف عن مساورة المعاصي، التخم: جمع تخمة قيل هي فساد الطعام في المعدة.
(5)
هامت: ذهبت ترعى، داعي الصبا: اللهو والشباب.
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
…
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية
…
والنفس من شرها في مرتع وخم «1»
تطغى إذا مكنت من لذة وهوى
…
طغى الجياد إذا عضت على الشكم «2»
وفيها يبين أن النفس هذه أصبحت تهيم على أثر هذه الملذات الدنيوية في لهفة بلا هدف. فطبيعة النفس البشرية أنها تنجرف إلى اللهو وتندفع نحو الملذات البراقة دون تفكير (فالنفس أمارة بالسوء)، ويميل الشاعر خلال هذه الأبيات إلى الارشاد والتوجيه فيقول: ان صلاح الأمر من صلاح الأخلاق، ولكي تستقيم النفس يجب أن تقوم بالأخلاق، وفي ذلك يتأثر الشاعر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
ويؤكد الشاعر أن الجزاء من جنس العمل، فالنفس التي تتخذ من الخير طريقا تجني ثمارا طيبة، والنفس التي تعتاد على فعل الشر فلن تجني إلا ما زرعته وهنا يتضح تأثرّ الشاعر بقول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ صدق الله العظيم.
ويوضح الشاعر أن النفس إذا ما تركت على هواها، فإنها تغرق في الملذات واللهو وتسقط في الخطيئة، وشبهها في ذلك بالجياد إذا ما عضت على اللجم.
فيدعو الشاعر الإنسان أن يتحكم في نفسه ويراقبها دائما ويحاسبها.
ثم يقول:
ان جل ذنبي عن الغفران لي أمل
…
في الله يجعلني في خير معتصم «3»
القى رجائي اذا عز المجير على
…
مفرج الكرب في الدارين والغمم «4»
اذا خفضت جناح الذل أسأله
…
عز الشفاعة لم أسأل سوى امم «5»
(1) المرتع: من رتعت الماشية: أكلت ما شاءت، والوخم: الرديء الوبيء.
(2)
الشكم: جمع شكيمة وهي الحديدة المعترضة في لجام الفرس.
(3)
عصمة: حفظه مما يوبقه ويهلكه، والمعتصم: الموضع منها أو بمعنى المصدر أي الاعتصام.
(4)
الغمم: جمع غمة وهي الهم والحزن.
(5)
الأمم: اليسير، خفض جناح الذل، التواضع والانكسار.
وهنا يتضرع شوقي إلى الله سبحانه وتعالى ويتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: إذا كان ذنبي عظيما لا يغتفر يوم الحساب يوم لا نجاة إلا من يعصم ربي فألقى رجائي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شفيعنا في الدنيا والاخرة صاحب الشفاعة، فالله هو مفرج الكرب في الدنيا والاخرة وهو مفرج الهموم والأحزان وعندما أتضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله الشفاعة يوم تعز هذه الشفاعة فإنى لم أسأل سواه، فهو صاحب الشفاعة العظمى التي جعلها الله له وخصه بها دون غيره من الأنبياء.
ويقول:
وان تقدم ذو تقوى بصالحة
…
قدمت بين يديه عبرة الندم «1»
لزمت باب أمير الأنبياء ومن
…
يمسك بمفتاح باب الله يغتنم «2»
فكل أفضل واحسان وعارفة
…
ما بين مستلم منه وملتزم «3»
ويريد أن يقول:
إذا تقدم الأتقياء بصالح الأعمال، تقدمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموع الندم على ما ارتكبت من الخطايا والذنوب في الدنيا، ومن يتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يضل ولن يضيع أبدا ويفوز في الدنيا والاخرة لأن من يلتزم بمبادئ الرسول في تحريم الحرام واحلال الحلال والتمسك بدستور الله عز وجل في أرضه وعمل بما أنزله في الكتاب السماوية فإنه يفوز ويغتنم بلقاء رسول الله يوم القيامة.
ويتعمق شوقي بعد ذلك في توضيح فضل الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صاحب الفضل والبر والاحسان والمعروف، وأن المؤمن من يأخذ عنه هذه الأخلاق الحميدة ويلتزم بها.
(1) العبرة: الدمع.
(2)
أمير الأنبياء: هو محمد صلى الله عليه وسلم ولزوم بابه كناية عن الالتجاء إلى كرمه وعدم الانحراف عن التوسل به في قضاء الطلبات.
(3)
العرافة: المعروف.
ويقول:
علقت من مدحه حبلا أعز به
…
في يوم لا عز بالانساب واللحم «1»
يزرى قريضي زهيرا حين أمدحه
…
ولا يقاس إلى جودى لدى هرم «2»
فقد أراد الشاعر أن يؤكد بأنه حين مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بمدحه هذا أن يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم علاقة وطيدة تعزه يوم لا عز ولا كرامة إلا بشفاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في هذا اليوم الذي لا يشفع فيه حسب ولا نسب ولا مال ولا سلطان، والكل سواسية أمام الحق لا يتمايزون بأعمالهم الصالحة ويؤكد شوقي أن مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة التي يعتز بها المؤمن يوم القيامة.
ويعتبر شوقي أن مدحه للرسول الكريم يقلل من قيمة شعر زهير بن أبي سلمى حينما مدح هرم بن سنان وأجزل هرم له العطاء «3» .
وقد شبه شوقي الشفاعة بالحوض الذي يروى العطشى يوم القيامة.
ويقول أمير الشعراء في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم:
محمد صفوة البارى ورحمته
…
وبغية الله من خلق ومن نسم «4»
وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة
…
متى الورود وجبريل الأمين ظمى «5»
(1) اللحم: جمع لحمة وهي القرابة.
(2)
يزرى: يعيب، والقريض: الشعر، وزهير: هو زهير بن أبي سلمى كان سيدا غنيا في الجاهلية معروفا بالحلم والحكمة شاعرا فحلا، وهرم: هو هرم بن سنان بن أبي حارثة المري.
(3)
يقول زهير يمدح هرم بن سنان:
أن الخليط أجد البين، فانفرقا
…
وعلق القلب من أسماء ما علقا
وفارقتك برهن لا فكاك لا له
…
يوم الوداع فأمس الرهن قد غلقا
قد جعل المبتغون الخير في هرم
…
والسائلون إلى أبوابه طرقا
ان تلق يوما على علاته، هرما
…
تلق السماحة منه والندى خلقه
(ديوان زهير بن أبي سلمى)
(4)
النسم: جمع نسمة وهي النفس أو هي الانسان.
(5)
وجبريل الأمين ظمى: الملائكة لا تظمأ فلعل مراده بالظمأ هنا لازمة وهو الطلب أي للناس بمعنى أن حاله تقتضي ذلك اشفاقا على حالهم لما يرهقهم من شدة الظما وحرج الموقف.
سناؤه وسناء الشمس طالعة
…
فالجرم في فلك والضوء في علم «1»
قد أخطأ النجم ما نالت أبوته
…
من سؤدد باذخ في مظهر سنم «2»
نمو اليه فزادوا في الورى شرفا
…
ورب أصل لفرع في الفخار نمى «3»
حواه في سبحات الطهر قبلهم
…
نوران قاما مقام الصلب والرحم «4»
فقد اختار الله جل شأنه محمدا رسولا لتبليغ اخر رسالة سماوية، ويكفي المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع كل الفضائل، فهو الرحمة المهداة من الله عز وجل إلى الناس أجمعين، وهذى هي إرادة الله في اختيار محمد صلى الله عليه وسلم وتكريمه بين كل الرسل والأنبياء والناس أجمعين.
ويحاول شوقي أن يجعل من الرحمة مرادفا للماء فيصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الحوض، وصاحب الكلمة في الماء يوم لا يملك إنسان أن يتحكم في العطش والري حتى الرسل وحتى جبريل الأمين، سر الوحي، فلا أحد يعرف من سيرويه، وعمن سيحجب الماء؟ ويصف شوقي الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في رفعته ونوره يماثل الشمس في علوها ونورها حتى أنه يرفعه عن الأفلاك والأجرام وحتى أن النجم قد أخطأ في تقدير مكانته وارتفاعه وشرفه، فهناك من هو أرفع منه مقاما وسيادة ورفعة ونورا ألا وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن هذه النجوم والكواكب نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بصفاتها التي تفخر بها كالعلو والضياء، فالأصل هنا ينتمي للفرع على غير العادة.
ويقول:
لما راه بحير قال نعرفه
…
بما حفظنا من الأسماء والسيم «5»
(1) سناؤه: رفعته وسناه، العلم: العالم.
(2)
السؤدد: السيادة والباذخ: العالي، والسنم (ككتف) : المرتفع، وأبويه: أي ذو وأبوته والأبوة المعنى مأخوذ من الأب كالأخوة والبنوة.
(3)
نموا: نسبوا.
(4)
السبحات: موضع السجود، وسبحات وجه الله: أنواره.
(5)
السيم: العلامة: وبحيرا: الراهب النصراني المشهور.
سائل حراء والروح القدس هل علما
…
مصون سر عن الادراك منكتم «1»
وهنا يعرض لنا شوقي ملامح النبوة المبكرة التي ظهرت على الرسول (ص) من خلال المواقف التي تعرض لها في صغره ويبدأ بذكر موقف بحير الراهب النصراني الذي تعرف على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أثناء رحلته من مكة إلى الشام من خلال علمه بسمات وصفات النبي والرسول القادم والخاتم، ثم يؤكد أن معرفة سر النبوة مستحيل في ذلك الوقت، ولا أحد يدري إلا إذا استطاع أن يسأل جدران الغار الصماء والتي كانت تحفظ سر النبوة كشاهد عيان عليها أو أن يسأل جبريل عليه السلام فهو الذي أمر بابلاغ هذه النبوة، وفي كلتا الحالتين يكون الأمر مستحيلا والسؤال محالا.
ويقول:
كم جيئة وذهابا شرفت بهما
…
بطحاء مكة في الاصباح والغسم «2»
ووحشة لابن عبد الله بينهما
…
اشهى من الانس بالاحباب والحشم «3»
يسامر الوحى فيها قبل مهبطه
…
ومن يبشر بسيمي الخير يبتسم «4»
لما دعا الصحب يستسقون من ظما
…
فاضت يداه من التسنيم بالسنم «5»
وهكذا يتحدث شوقي عن الطريق المشرف الذي شرفه الرسول جيئة وذهابا بين داره وبين غار حراء في كل صباح ومساء، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد تفرغ للذهاب صباحا ومساء إلى الغار ليعتكف ويتقرب إلى الله ويتعبد هناك على دين إبراهيم الخليل وهذه الجيئة والذهاب قد كانت تأخذ منه جهده ووقته كله وهي
(1) حراء: جبل بمكة في غار كان يتعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة روح القدس: جبريل عليه السلام، مصون: وصف مؤكد للسر المصون لأن السر لا يكون إلا كذلك وينكير (سر) للتعظيم.
(2)
البطحاء: المسيل الواسع فيه دقاق الحصى، القسم. الاساء وظلمة الليل.
(3)
ابن عبد الله: هو النبي صلى الله عليه وسلم، الحشم: الخدم الخاصون بمولاهم الوحشة: الخلوة والهم.
(4)
مهبطه: هبوطه.
(5)
التسنيم: ماء بالجنة يجري فوق العرف، وسنم الاناء تسنيما: ملأت.
أشهى إليه من مخالطة الأهل والأصدقاء، ولعلنا ندرك معنى اخر قد يكون أكثر صوابا، إنه بين ذهابه وجيئته هذه كان يجلس في بيته أيضا وحيدا معتكفا يتفكر ويتعبد وكانت أشهى وأحب إلى نفسه، وفي أثناء هذه الخلوة كان عليه الصلاة والسلام يناجي ربه طالبا الخير، وقد اتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخير فهو الصادق الأمين بين قومه ولعل هذا في حد ذاته خير.
ويتحدث شوقي بعد ذلك عن معجزات الرسول والدلائل التي تؤكد أنه المختار والمصطفى والمبعوث رحمة من عند الله تعالى فيذكر الشاعر واقعة سقاية الصحابة من كف رسول الله عليه الصلاة والسلام عند ما ضرب بها الأرض ففاضت الماء وسقت كل الصحابة وكل الحيوانات التي كانت معهم وفاضت عن حاجتهم.
ويقول الشاعر:
وظللته فصارت تستظل به
…
غمامة جذبتها خيرة الديم «1»
محبة لرسول الله اشربها
…
قعائد الدير والرهبان في القمم «2»
ان الشمائل ان رقت يكاد بها
…
يغرى الجماد ويغرى كل ذى نسم
وبذلك يؤكد الشاعر فضل الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته بوصفه السحابة التي ظللته وهو في طريقه من مكة متجها إلى الشام في رحلته مع عمه أبي طالب وبأن خير الأمطار تجمعت في هذه الغمامة وأنها لم تكن تظلل الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما كانت تستظل بوجوده الشريف، ويستمر شوقي في وصف هذه الواقعة فيقول أن بحيرا الراهب الجالس في ديره بين الرهبان الصادقي الإيمان قد رقت شمائلهم وأحسوا بأن الرسول الخاتم قد ظهر وأظلهم.
(1) الديم: جمع ديمة وهي المطر الدائم.
(2)
القعائد: قعيدة وقعائد الدير ملازموه من متنسكة النصاري والقمم جمع قمة وهي أعلى الرأس والمراد بها أعالي الجبل.
ويقول:
ونودى اقرأ تعالى الله قائلها
…
لم تتصل قبل من قيلت له بفم
هناك اذن للرحمن فامتلأت
…
اسماع مكة من قدسية النغم «1»
فلا تسل عن قريش كيف حيرتها
…
وكيف نفرتها في السهل والعلم «2»
تساءلوا عن عظيم قد ألم بهم
…
رمى المشايخ والولدان باللمم «3»
يا جاهلين على الهادي ودعوته
…
هل تجهلون مكان الصادق العلم «4»
لقبتموه أمين القوم في صغر
…
وما الأمين على قول بمتهم
فاق البدور وفاق الأنبياء فكم
…
بالخلق والخلق من حسن ومن عظم
وهنا يعرض الشاعر موضوع بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ويصف قول جبريل الأمين حينما أمر الرسول: (اقرأ) .. ويصف الشاعر قوله (اقرأ) بأنها أمر منزّل من الله تعالى على سيد الخلق بواسطة جبريل الأمين، وكأن صوت الله هو الذي وصلها بذاته، فلم تتصل هذه الكلمة بفم بشر قبل ذلك بمثل هذه الحلاوة وهذه الطلاوة، ويستمر الشاعر في الوصف فيصف خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة ورفعه للاذان هناك حتى امتلأت أسماع أهل مكة بهذه النغم المقدس ألا وهو دعوة الرسول إلى التوحيد والإيمان وترك عبادة الأصنام. ويتعرض الشاعر لأثر الحدث العظيم الذي أصاب أهل مكة بهذه الدعوة التي جاءتهم عبر رجل منهم مشهور بينهم يتسم بالصدق والأمانة ولكن هذه الدعوة اختلفوا في استقبالها وتقبلها، فاختلفت الاراء بين مؤيد ومعارض، وهنا يتدخل الشاعر ويصف المعارضين للرسول الكريم بالجهل والتجاهل لأيام خلت قبل هذه الدعوة كانوا وقتها جميعا يعترفون بأنه الصادق الأمين، وهل يمكن لمن لقيتموه بالأمين في صغائر أمورهم
(1) اذن للرحمن: دعا إلى الله، من قدسية النغم: المطهر المنزه عن تطريب الغناء.
(2)
فلا تسل: يعني أن الأمر واضح غني عن السؤال يقال عند ظهور الأمر ووضوحه لا تسأل، العلم: الجبل.
(3)
الم: نزل، واللمم (محركة) : الجنون.
(4)
العلم: الظاهر والمشتهر، والجاهلون على الهادي: المتعنتون.
أن يتهموه ويكون كاذبا في أمر جليل كهذه الدعوة الربانية الخالصة؟! ويتدخل الشاعر مرة أخرى ليصف مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم مادحا أياه بالعلو في مكانته، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد فاق وتخطى مكانة البدور والكواكب والشموس، وتقدم على سائر الأنبياء والرسل باختيار الله له كخاتم لهم ورسالته اخر الرسالات، فقد وهبه الله عظمة الخالق وعظمة الخلق، وهو لهذه الصفات التي لم يتصف بها بشر قبله خير الناس وأحسنهم وأفضلهم عند الخالق وعند الخلق.
ويقول:
جاء النبيون بالايات فانصرمت
…
وجئتنا بحكم غير منصرم «1»
آياته كلما طال المدى جدد
…
يزينهن جلال العتق والقدم «2»
يكاد في لفظه منه مشرفة
…
يوصيك بالحق والتقوى وبالرحم
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة
…
حديثك الشهد عند الذائق الفهم
حليت من عطل جيد البيان به
…
في كل منتشر في حسن منتظم «3»
بكل قول كريم أنت قائله
…
تحيى القلوب وتحيى ميت الهمم «4»
فيسترسل شوقي في المقارنة بين النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وما أعطاه الله من معجزات وايات بينات وبين من سبقه من الرسل والأنبياء فيذكر من سبقوه على الرغم من حبنا وتقديرنا لهم وإيماننا بهم وبما أنزل الله عليهم من ايات إلا أن هذه الايات قد انتهت بسبب تحريف البشر لها، لكن ايات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهي كتاب الله الذي وعد الله بحفظه قال سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ صدق الله العظيم، إن هذه الايات مهما طال عليها المدى ومر الزمن وتغيرت العادات والتقاليد من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر
(1) انصرمت: انقطعت، منصرم: منقطع، الحكيم: القران.
(2)
جدد: جمع جديد كسرور وسرير.
(3)
عطل: يقال عطلت المرأة عطلا إذا لم يكن علها حلي.
(4)
مهج: جمع مهجة وهي دم القلب.
ومن بلد إلى بلد فهي جديدة دائما ملائمة في أحكامها وشرائعها لكل عصر ولكل أوان، وعلى الرغم من هذه الجدة فهي جليلة عتيقة قديمة قدم الكون وأن أحكامها تشمل الرحمة والتقوى، وما من مكرمة لبني البشر إلا وهي مذكورة بين دفتي هذا الكتاب العظيم، ويخرج الشاعر من الحديث عن القران إلى السنة النبوية المشرفة فيصف صاحبها عليه الصلاة والسلام بأنه أفصح من نطق اللغة العربية على الرغم من أنه كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة ومع ذلك فإن لحديثه وقعا عذبا في أذن المستمع الفاهم، ويصف هذا الحديث مرة أخرى بأنه الدرر التي زينت هذه اللغة فأعطاها طعما جديدا وحلاوة جديدة في شعرها وفي نثرها فما من شاعر أو ناثر إلا وقد استمد من بيان القران الكريم وأساليب الحديث الشريف، استمد معظم تشبيهاته وخيالاته وتراكيبه اللغوية، حتى أن كل كلمة أو حديث نطق به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يحيى القلوب الميتة ويحيى الهمم الميتة.
ويقول:
سرت بشائر الهادى ومولده في
…
الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
تخطفت مهج الطاغين من عرب
…
وطيرت أنفس الباغين من عجم
ريعت لها شرف الأيوان فانصدعت
…
من صدمة الحق لا من صدمة القدم «1»
فيتحدث شوقي عن يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وما حدث من اشارات ومواقف في الشرق والغرب فيقول لقد انتشرت البشائر بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرق والغرب كما يسري النور في الظلام فيبدده، فهذه الأنوار قد أفزعت قلوب الطغاة من العرب، وأقلقت نفوس الباغين من غير العرب، واهتز لها سلطان الأكاسرة، فهوى الايوان وسقطت الشرفات «2» .
(1) ريعت: ذعرت وخافت، وشرف جمع شرفة وهي ما يوضع على القصور ونحوها، والقدم: جمع قدوم.
(2)
مولد الرسول في مكة: ابن مارينه كان مسيحيا ينتقل بين فارس ومضارب الاعراب فساعد عملية تصدع الايوان وخمود النار وجفاف بحيرة سواه، ويبدو أنه كان على صلة بالرهبان فأخبر بذلك، فهذا دليل على ربط بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول شوقي:
اتيت والناس فوضى لا تمر بهم
…
إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جورا مسخرة
…
لكل طاغية في الخلق محتكم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته
…
وقيصر الروم من كبر أصم عم
يعذبان عباد الله في شبه
…
ويذبحان كما ضحيت بالغنم
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم
…
كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم «1»
وهو هنا يتوجه بحديثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: لقد جاء مولدك يا رسول الله والناس حياتهم فوضى، وعقائدهم فوضى، تراهم دائما هائمين أمام الأصنام، ومن يراهم يحسبهم أصناما لا يكاد يفرق بين الصنم الحقيقي، والصنم البشري، وقد أتيت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأرض مليئة بالظلم يسخرها الطغاة لمصالحهم الشخصية، ويتحكمون في خلق الله الضعفاء.
فهذا كسرى في الشرق يتحكم في شعبه بالغي والعدوان، وهذا قيصر الروم في الغرب يتحكم في شعبه بالكبر والظلم، وهو عن الحق أعمى أصم، فهما يعذبان الرعايا من عباد الله بلا تهمة أو جرم، إنما يأخذان بالشبهات، ويعملان فيهم بالذبح كما تذبح الأغنام عند الأضحية. والناس كذلك يظلم القوي منهم الضعيف، ويفترسه كالأسد الذي يفتك بولد الغنم الصغير الضعيف، أو كالحوت يلتقم صغار السمك.
ويقول كذلك:
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكة
…
والرسل في المسجد الأقصى على قدم «2»
لما خطرت به التفوا بسيدهم
…
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر
…
ومن يفز بحبيب الله يأتمم «3»
(1) البهم: جمع بهمة وهي ولد الضأن والمعاز، والبلم، صغار السمك.
(2)
المسجد الأقصى: بيت المقدس، على قدم: القائمون محتشدون.
(3)
ذو خطر: ذى قدرة منزلية، ويأتمم أي يأتم.
فيتحدث خلال هذه الأبيات عن مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس بفلسطين حيث يجد الملائكة وكل الرسل ينتظرونه قائمين مرحبين مستبشرين برؤية خاتم النبوة ويصف دخول الرسول صلى الله عليه وسلم ساحة المسجد حيث التف حوله كل من كان حاضرا في هذه الليلة التفاف المرؤوسين حول الرئيس أو القوم بسيدهم والنجوم بالبدر أو الجند حول الراية، ويتقدمهم صلى الله عليه وسلم ليأمهم في الصلاة ويصلي وراءه كل الأنبياء والملائكة، ويؤكد شوقي في هذه الأبيات أن كل من يؤمه الرسول فهو فائز في الدنيا والاخرة.
ويقول:
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم
…
على منورة درية اللجم «1»
ركوبة لك من عز ومن شرف
…
لا في الجياد ولا في الأينق الرسم «2»
مشيئة الخالق الباري وصنعته
…
وقدرة الله فوق الشك والتهم
وهنا يتحول شوقي في حديثه إلى المعراج حيث بدأ من المسجد الأقصى صعودا إلى السموات العلا ويصف رحلته على البراق، الدابة التي أوجدها الله لتكون وسيلة لنقل الرسول صلى الله عليه وسلم خلال رحلته إلى السماوات ولكونها من خلق الله المكرمين فهي دابة قدسية منورة ذات لجام من الأحجار الكريمة والدرر وجعلها ركوبة لسيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كنوع من التشريف والتكريم وليس لها نظير لا بين الجياد ولا بين النوق العربية السريعة فهي معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى لتكريم محمد عليه الصلاة والسلام ولوضعه في المكانة اللائقة به كخاتم للأنبياء والمرسلين.
ويمضي في حديثه عن المعراج فيقول:
حتى بلغت سماء لا يطار لها
…
على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل كل نبي عند رتبته
…
ويا محمد هذا العرش فاستلم
(1) بهم: أي بملابسه، منورة اللجم: البراق.
(2)
من: في قوله (من عز ومن شرف) للتعليل وأي لأجل عزك وشرفك، الأنيق: الرسم: النوق الشديدة الوطء لقوتها كأنها ترسم في الأرض بمشيها اثار الظاهرة والرسم واحدها رسوم، والجياد: جمع جواد وهو الفرس الرائغ اللبين الجودة.
ليصل بنا السماء السابعة حيث لم يصل إليها أي إنسان ولا أي نبي من قبل لا على الأقدام ولا بمعجزة من المعجزات وعندما وصل الرسول الكريم إلى السماء السابعة دوى صوت يأمر جميع الأنبياء الوقوف كل في موقعه وعند درجته من السماء ويؤذن لسيدنا محمد بالاقتراب من العرش فهذا هو موقعه في القمة والصدارة من الأنبياء.
ويقول:
خططت للدين والدنيا علومهما
…
يا قاريء اللوح بل يالامس القلم «1»
أحطت بينهما بالسر وانكشفت
…
لك الخزائن من علم ومن حكم «2»
وضاعف القرب ما قلدت من منن
…
بلا عدد وما طوقت من نعم «3»
فيتحدث شوقي عن مدى تعلم الرسول صلى الله عليه وسلم واستفادته من علوم الدين والدنيا ليلة الاسراء والمعراج ويقول ابن عباس رضى الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (علمني ربي ليلة الإسراء علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه وعلم خيرني فيه وعلم أمرني بتبليغه) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بهذه العلوم التي أحاط بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ اللوح المحفوظ وكاد أن يلامس القلم الذي يكتب به هذا اللوح قد أحاط بالأسرار وبكل ما في خزائن الدنيا والسماوات من علوم ومن حكم ومن أوامر ونواه.
ويقول:
سل عصبة الشرك حول الغار سائمة
…
لولا مطاردة المختار لم تسم «4»
(1) خطط للدين والدنيا: كناية عن تعليمها للناس وبثها فيهم وقراءة اللوح ولمس القلم كناية عن اطلاع الله له على ما أطلعه عليه من الغيوب.
(2)
وانكشفت لك الخزائن: عن ابن عباس رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: علمني ربي ليلة الإسراء علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه وعلم خيرني فيه وعلم أمرني بتبليغه.
(3)
القرب: قربه من الله تعالى.
(4)
عصبة الشرك: أي عصبة أهل الشرك الذين ذهبوا يطلبونه صلى الله عليه وسلم يوم هجرته، والغار كالثقب بجبل أسفل مكه، سائمه: راعية.
هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا
…
همس التسابيح والقران من أمم «1»
وهل تمثل نسيج العنكبوت لهم
…
كالغابات والحائمات والزغب كالرخم «2»
وبهذا يتعرض لحادثة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة وكيف خرج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع صديقه أبي بكر الصديق، ولا ختفائهما في الغار، ومطاردة كفار مكة لهما ووقوفهم على باب الغار وقد أمر الله العنكبوت أن ينسج بيته على مدخل الغار وأن تضع الحمامة بيضها في عش قد بنته في طرفة عين، وعلى الرغم من رقة نسيج العنكبوت وفزع الحمائم عند اقتراب أي انسان إلا أن المشركين لم يستطيعوا أن يروا نور الرسول صلى الله عليه وسلم ينبعث من الغار، فقد أعمى الله أبصارهم ولم يسمعوا قراءة القران أو التسابيح والدعوات التي كان الرسول وصاحبه الكريم الصديق يتلوانها، وعلى الرغم من قرب الكفار منهم فقد أصم الله اذانهم.
ويقول:
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم
…
كباطل من جلال الحق منهزم «3»
لولا يد الله بالجارين ما سلما
…
وعينه حول ركن الدين لم يقم «4»
تواريا بجناح الله واستترا
…
ومن يضم جناح الله لا يضم «5»
يبين شوقي هنا كيف ارتد الكفار على أعقابهم خائبين يجرون أذيال الفشل وكأن الملائكة والأنس المسلمين يلعنونهم لباطلهم ولما أضمروه من شر لرسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يمثل جلال الحق وقوته، ونرى شوقي يؤكد أن الله عز وعلا هو الذي حمى هذين الصاحبين المهاجرين من عصبة الشرك، وحمايته لهما
(1) من امم: من قرب.
(2)
الغار: الشجر الكثير المتكاثف، والحائمات الزغب: الحمام، الرخم: جمع رخمه وهي طائر على شكل النسر.
(3)
فأدبروا: شبه أدبارهم ونكوصهم على أعقابهم خائبين يدمغ الباطر وادحاضه.
(4)
الجاران: الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضى الله عنه، يد: النعمة عينه: عناية.
(5)
جناح الله: لطفه وستره، ويضم: يضمه.
لتم كشف مكانهما ولما وصلا إلى المدينة، ولكن حكمة الله هي التي سترتهما، وجناح الله هو الذي حماهما وضمهما، ومن يستظلون بجناح الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ويقول:
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي
…
وكيف لا يتسامى بالرسول سمى «1»
المادحون وأرباب الهوى تبع
…
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم «2»
مديحه فيك حب خالص وهوى
…
وصادق الحب يملى صادق الكلم «3»
الله يشهد أني لا أعارضه
…
من ذا يعارض صوب العارض العرم «4»
وانما أنا بعض الغابطين ومن
…
يغبط وليك لا يذمم ولا يلم «5»
هذا مقام من الرحمن مقتبس
…
ترمى مهابته سحبان بالبكم
فلا ينسى أمير الشعراء أحمد شوقي هنا أن يفخر بأنه تسمى باسم الرسول صلى الله عليه وسلم أحمد، ويؤكد أن تسميته باسم الرسول صلى الله عليه وسلم هو غني وجاه وعلو في المقام لمجرد أن يتصف بصفة الحمد ويتبع هذا الثناء بقوله بأن كافة المادحين والمحبين لرسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم هم توابع للمادح الأول والمحب الأول صاحب البردة العظيمة الامام البوصيري، فقد كان مديحه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نوعا من التدين الخالص الصادق، والحب لهذه المباديء السامية وهذه الصفات الكريمة التي بعث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وحب الامام البوصيري صادق وعميق لأن ما عبر
(1) أحمد: من أسمائه صلى الله عليه وسلم أحمد وقد سمى الشاعر به تيمنا باسم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ، ويتسامى: يتعالى.
(2)
تبع: أخبر أي ذو وتبع أي مقتدرون به، والقدم: التقدم والمنزلة، صاحب البرده: الإمام البوصيري.
(3)
مديحه: حب أي ناشيء من الحب أو ذو حب أي حال عليه.
(4)
الصوب: الانصباب، ومجيء السماء بالمطر، العارض: السحاب المعترض في الأفق والعرم: يريد المطر الشديد.
(5)
الغابط: الذي يتمنى مثل ما للغير وليس هذا القدر بمذموم يذم. البكم: الخرس وسحبان: هو سحبان وائل من بني بأهله كان يضرب بفصاحته المثل.
به عن حبّه الرسول اكتسب عظمة ورقيا من ذلك الصدق في الحب، فأن الحب الصادق يعطي المعنى الصادق في الكلمة الصادقة ويتواضع شوقي تجاه هذا الشاعر العظيم ويقر حالفا بالله بأنه لم يقصد بكتابته (نهج البرده) أن يعارضه، وإنما هو يعرف أن هذ الشاعر لا يمكن أن يضاهي، فالإمام البوصيري في نظر شوقي كالسيل الممطر، والسحاب المعترض في الأفق، فهل يستطيع شوقي بتواضعه أن يكون على نفس المستوى الفني؟! وهو يقر مرة أخرى أنه لا قبل له بهذا الشاعر الكبير وإنما يتمنى أن يكون إلى جواره طالبا من الله أن يحتسب شعره مديحا إلى جوار مدح الإمام البوصيري لخير البشر، ويقول شوقي: أن تعرضه لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم يصيبه بالبكم وكأنما هو أبكم أمام فصاحة سحبان الذي يضرب بفصاحته المثل وكأنما يريد شوقي أن يبين وقوفه أمام البردة للإمام البوصيري وفي ذهنه القول الشهير (أين الثرى من الثريا) وهذا نوع هو التواضع المطلوب في شاعر كبير ليكون المثل الأعلى للأجيال المقبلة في قول الشعر.
ويمضي شوقي فيقول:
البدر دونك في حسن وفي شرف
…
والبحر دونك في خير وفي كرم
شم الجبال إذا طاولتها انخفضت
…
والأنجم الزهر ما واسمتها تسم «1»
والليث دونك بائسا عند وثبته
…
إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمي «2»
فيعلن أن البدر والبحر والجبال والنجوم والاساد، بل كل هذه الأشياء الحسية الموجودة ما هي إلا صغائر إذا قورنت بالرسول صلى الله عليه وسلم البدر في الحسن والبحر في عطائه وخيره وكرمه، والجبال في علوها ورفعتها، والأنجم الزهر في لمعانها وازدهارها، والأسد في الشجاعة وقوة البأس على الأعداء، كل ذلك لا يساوي القليل إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1) تسم: يقال: واسمه في الحسن فوسمه، قلبه فيه، انخفاض الجبل كناية عن ظهورها قصيرة بالنسبة لارتفاع قدره صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه.
(2)
الكمى: لا بس السلاح.
ويقول:
تهفو إليك وان أدميت حبتها
…
في الحرب أفئدة الأبطال وإلبهم «1»
محبة الله ألقاها وهيبته
…
على ابن امنة في كل مصطدم «2»
كأن وجهك تحت النقع بدر دجى
…
يضيء ملتثما أو غير ملتثم «3»
بدر تطلع في بدر فغرته
…
كغرة النصر تجلو داجي الظلم «4»
ذكرت باليتم في القران مكرمة
…
وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم «5»
وبذلك يستمر شوقي في وصف شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنه مع شجاعته وقوة بأسه في الحرب تميل إليه قلوب الأبطال والشجعان فلا يخافون مما قد يصيب قلوبهم من جراء هذا الاندفاع في الزود عنه وذلك للمحبة التي وضعها الله في قلوب المسلمين الشجعان نحو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وينتقل شوقي بعد ذلك إلى وصف وجه الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول: أنه يضيء في غبار المعركة كما يضيء البدر في الظلام ووجهه عليه الصلاة والسلام كان في موقعة بدرا كالقمر ضوؤه ضوء النصر الذي يبدد ظلام الشرك والكفر، فضياؤه كان نورا وضاء للمسلمين يلوح ببشائر النصر، ثم يتحدث عن يتم الرسول صلى الله عليه وسلم فيشير إلى قول الله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى صدق الله العظيم.
(1) تهفو: هفا الظبي في المشي يهفوا وهفوانا: اسرع وخف فيه المراد هنا شدة ميل القلوب له وانجذابها إليه صلى الله عليه وسلم، حبة القلب تعني سويداؤه والبهم: جمع بهمه وهو الشجاع.
(2)
مصطدم: المصدم أي الاصطدام أو الموضع أي موضع الاصطدام وهو ميدان الحرب.
(3)
النقع: غبار الحرب.
(4)
بدر: موضع بين الحرمين الشريفين وفيه كانت الغزوة المشهورة التي دمغ الله فيها الشرك وأعز الإسلام.
(5)
اليتم في الناس: فقدان الأب وهو في الأشياء التفرد وعدم وجود نظائر لها واللؤلؤة اليتيمة التي لا نظير لها في العقد، ذكرت باليتم في القران يشير إلى قوله تعالى:(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) وحرك التاء اتباعا لحركة العين قبلها في قوله (الثتم) ولا يخفي ما فيه من حسن التعليل.
ويعلق على ذلك بأن هذا اليتم كان شيئا نبيلا ودلائل عظيمة ومصدر تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم فهو بذلك متفرد كاللؤلؤ كان وحيدا كلما كان ذا قيمة لا نظير لها.
ويقول:
الله قسم بين الناس رزقهم
…
وأنت خيرات في الأرزاق والقسم «1»
ان قلت في الأمر: لا، أو قلت فيه: نعم
…
فخيره عند الله في لا منك أو نعم
ولعله يقصد من خلال هذه الأبيات إلى أن الله سبحانه وتعالى قد خير الرسول صلى الله عليه وسلم في الرزق وفي هذا يتفرد بين البشر، فالرزق مقسوم بين الناس ولا خيرة لهم في ذلك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيره الله في الرزق ولعل شوقي يشير بذلك إلى الحديث الشريف مما رواه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(عرض على ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا ربي، ولكن أشبع يوما فأحمد الله وأجوع يوما فأذكر الله) صدق رسول الله.
ثم يقول:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
…
وأنت أحييت أجيالا من الرمم
والجهل موت، فأن أوتيت معجزة
…
فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم «2»
فنراه تحدث عن مكانة الرسول بين الأنبياء، فإذا كان عيسى عليه السلام بأمر الله قد أحيا الموتى، فأن الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام قد أحيا أجيالا وأمما. أحياها وخلصها من الجهل، ويؤكد شوقي أن المعجزتين، أحياء الإنسان من الموت أو إحياؤه من الجهل والضلال تستويان، فمعجزة عيسى عليه السلام، ومعجزة محمد عليه الصلاة والسلام تستويان في أنهما أحياء للبشر، ولكن يفضل معجزة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأنه أحيا أمما وليس بضع أفراد.
(1) خيرات في الأرزاق: روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: عرض على ربي أن يجعل بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما.
(2)
والجهل موت: كالترشيح للاستعارة في البيت السابق وهو تشبيه بليغ خطاب لغير معين، والرجم: القبر.
ويقول:
قالوا غزوت، ورسل الله ما بعثو
…
لقتل نفس ولا جاؤا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
…
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب
…
تكفل السيف بالجهال والعمم «1»
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
…
ذرعا وان تلقه بالشر ينحسم
سل المسيحية الغراء كم شربت
…
بالصاب من شهوات الظالم الغلم «2»
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها
…
في كل حين قتالا ساطع الحدم «3»
لولا حماة لها هبوا لنصرتها
…
بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم «4»
لولا مكان لعيسى عند مرسله
…
وحرمة وجبت للروج في القدم «5»
اسمر البدن الطهر الشريف على
…
لوحين لم يمش مؤذيه ولم يجم «6»
جل المسيح وذاق الصلب شانئة
…
ان العقاب بقدر الذنب والجرم «7»
اخو النبي وروح الله في نزل
…
فوق السماء ودون العرش محترم «8»
(1) العمم: اسم جمم للعمامة.
(2)
الغلم: الهائج الثائر.
(3)
الحدم: (بالتحريك) شدة احتراق النار.
(4)
الرحم: الرقة والمغفرة والتعطف.
(5)
المكان: المكان بمعنى القرب وارتفاع المنزلة لأن الله تعالى منزة عن المكان والجهة ووجبت: تثبتت له من القدم لأن الله تعالى علم الأشياء وأرداها أزلا فصارت واجبة بمعنى أنها لم تتخلف أبدا والخبرا محذوف في قوله (مكان) و (حرمة) أي ثابتان.
(6)
لسمر: جواب الشرط في البيت السابق، الطهر: الطاهر من أدران المعاصي ووصفت بالمصدر مبالغة، واللوحان: الصليب الذي أعد له صلى الله عليه وسلم والمراد بالتسمير: الصلب، لم يجب: لم يفزع.
(7)
جل المسيح: تنزه عما رماه به اليهود من كاذب التهم وباطل الأقاويل وعما زعموا من أنهم صلبوه وقتلوه (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)، وشائنة: مبغضة، وحرك الراء في قوله والحرم اتباعا لحركة الجيم قبلها.
(8)
أخو النبي: أي في الرسالة روح الله أي روح منه قال تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) صدق الله العظيم وسمى روحا لا حيائه الموتى بإذن الله ولأنه نفخة من جبريل قال تعالى: (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) . صدق الله العظيم. ونسبة النفخ إلى الله تعالى مجاز، من: في الاية للابتداء، فوق السماء: أي الدنيا، محترم صفة.
فيتعرض شوقي لقول الكفار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخطأ عندما غزا وحارب، والرسل والأنبياء لم يبعثوا للقتل وسفك الدماء، ويعلق شوقي على قولهم هذا بأنه جهل وكذب وفلسفة فارغة، فإن الرسول لم يقم بالسيف ويحارب الكفار إلا بعد أن نشر الدعوة وعرضها في الرسائل الثلاثة الشهيرة (رسالة كسرى، ورسالة قيصر، ورسالة المقوقس) وعندما جاء للرسول رد هؤلاء الملوك برفض الدعوة تأكد من جهلهم فاضطر لاستخدام السيف ضد كل من يوصف بالجهل، وضد العوام من الناس، فإنهم أشرار بطبيعتهم ولا يمكن مخاطبة هؤلاء الأشرار بالموعظة الحسنة فكلما خاطبتهم وجدت فيهم ضيق أفقهم وضعف فهمهم ولا بد لك من أن تحسم هذا الموقف بالسيف، ونضرب مثلا على هذا بالمسيحية السمحاء الأولى كم حوربت على أيدي هؤلاء الجهال الظالمين فكانوا يطاردون معتنقيها بالإيذاء والقتل والحرق في كل حين ولولا أن قبض الله لها رجالا نصروها بالسيف، لما استطاعت أن تنتشر بالسماحة والرفق والرحمة ولولا أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام له مكانة عزيزة عند ربه رفعه إلى السماء دون أن يمسه اليهود أو يصلبوه على لوحي الصليب، لقد رفع الله المسيح قبل الصلب والإيذاء، وعاقب الواشي بأن جعله يصلب مكان عيسى، وأن العقاب لا بد أن يكون من جنس العمل وبقدر الذنب الذي قام به هذا الرجل (يهوذا الأسخر بوطي) في حق المسيح عليه السلام، ويستطرد شوقي في وصفه بأنه أخو النبي عليه الصلاة والسلام في النبوة ويخصه بأنه روح الله قد نزل في جسد المسيح ولكنه دون العرش.
ويقول:
علمتهم كل شيء يجهلون به
…
حتى القتال وما فيه من الذمم
«1»
دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم
…
والحرب اس نظام الكون والأمم
(1) الذمم: جمع ذمة وهي العهد والأمان والحق.
لولاه لم نر للدولات في زمن
…
ما طال من عمد أوفر من دعم «1»
تلك الشواهد تترى كل اونة
…
في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم «2»
فيسترسل شوقي في مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: انه علم المسلمين كل شيء في حياتهم، حتى فنون الحرب والقتل وبخاصة ما فيه من العهود والحقوق وأصول الأمانة وحفظ الذمة للأسرى والمحافظة على جثث القتلى وعدم التمثيل بها، فقد دعا الرسول المسلمين للجهاد ونادى أن يكون فيه فخرهم وعزهم وعلوهم وان هذه الحرب هي الأساس الذي يا بنى عليه الكون وتقوم الأمم.
والأسس والنظم التي تقوم من خلالها الدول مهما طال عليها الزمن أو ثبت حدودها، وهذه الشواهد والاثار تتوالى في كل زمن من الأزمان الحاضرة أو الأزمان الغابرة.
ويقول الشاعر كذلك:
بالأمس مالت عروش واعتلت سرر
…
لولا القذائف لم تسلم ولم تصم «3»
ويؤكد أن هذه التغييرات بين نظام واخر وبين ملك واخر ما كانت لتتم لولا الحرب.
(1) عمد: جمع عمود، وقر: ثبت، دعم: جمع دعامة وهي عماد البيت وهي هنا كناية عما يستقيم به نظام الممالك ويرتفع شأن الأمم.
(2)
الغر: جمع أغر ذي الغرة وهي بياض في الجبهة، الأعصر الغر: التي ساد فيهم الظلم ما زالت الغلبة للقوة ولا زالت معتمد الدول ومستند الأمم في رفع عماد الملك وتثبيت دعامة الحكم، استوت في ذلك الأزمان السالفة إلى يظنونها أزمان تأخر وتقهقر والأيام الحاضرة التي يزعمونها أيام تقدم وتنور.
(3)
اعتلت: علت.
ويقول:
أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة
…
ولم نعد سوى حالات منقصم «1»
مهما دعيت إلى الهيجاء قمت لها
…
ترمى بأسد ويرمى الله بالرجم «2»
على لوائك منهم كل منتقم
…
لله مستقتل في الله معتزم «3»
وهنا ينتقل شوقي من خلال هذه الأبيات من عصر النبوة إلى عصرنا الحالي ويطرح مقارنة بين حال المسلمين وهم في انشقاق وفرقة وبين الجحافل الصليبية التي تعد العدة للانقضاض على المسلمين، وعلى الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل فلم يسكت على الضيم ولم يدع إلى حرب أحس فيها أنه مظلوم إلا وقد قام في مقدمة المسلمين للقتال، وقد منحه الله إيمانا ومنح المسلمين في عهده ثقة بالله ونصرة لله وانتقاما لدين الله، وكأن شوقي يقول للمسلمين اتخذوا من الرسول عبرة وعظة تتواحدوا في ملاقاة عدوكم من يهود ونصارى.
ويقول:
مسبح للقاء الله مضطرم
…
شوقا على سابح كالبرق مضطرم «4»
لو صادف الدهر يبغي نقله فرمى
…
بعزمه في رحال الدهر لم يرم «5»
بيض مفاليل من فعل الحروب بهم
…
من أسيف الله لا الهندية الخذم «6»
(1) قاصمة: كاسرة، ومنقصم: منكسر.
(2)
الهيجاء: الحرب، الرجم: النجوم التي يرمي بها.
(3)
على لوائك: أي منضو تحت لوائك استعارة العلو للتحية استعارة تمليحية.
(4)
الاضطرام: توقد النار وتأججها، سابح: جواد.
(5)
يبغى: يريد وشبه العزم بأسهم بجامع المضاء والنفوذ في كل وشبه الدهر بذى رحال بجامع التحول في كل وحذف المشبه به ورمز إليه بلازمه وهو الرحال على طريق الاستعارة المكنية، لم يرم: لم ينتقل ولم يتحول.
(6)
مفاليل: الفل الثلم في السيف، الهندية نسبة إلى الهند وكانت مشتهرة بصنع السيوف، والخذم: جمع خذم ككتف السيف القاطع، بيض: أي سيوف بيض. مفاليل: ترشيح للتشبيه بالسيوف.
فيشير شوقي إلى أن هؤلاء المقاتلين من المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقاتلون وهم يسبحون باسم الله رغبة في لقائه ورغبة في الشهادة كوسيلة لبلوغهم الجنة التي أعدت للشهداء والمتقين وكأن كلا منهم يركب مركبة سريعة لكي يصل إلى هذه الغاية النبيلة وهي الشهادة.
ويصف شوقي هؤلاء المقاتلين العظماء بأنهم سيوف الله قد تثلمت من كثرة القتال وينفي عنهم الصفات الجمالية للسيف (كهندية الخذم) ، ولكن يؤكد وصفها (بالبيض) لشهرة هذه السيوف لازهاق أرواح الأعداء وأفنائهم.
كم في التراب إذا فتشت عن رجل
…
من مات بالعهد أو مات بالقسم «1»
لولا مواهب في بعض الأنام لما
…
تفاوت الناس في الأقدار والقيم
ليبين أنه جراء هذه الغزوات وهذه الحروب الإسلامية التي قادها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده قد مات كثير من الرجال الذين وهبوا أنفسهم لنصرة دين الله واستشهدوا في سبيله فما أكثر هؤلاء الذين ماتوا في سبيل حفظهم لعهداهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد أن لكل إنسان قدرته ودرجته في التقوى، وقدرته على الالتزام بمباديء الإسلام والعمل بها وبما عاهد عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك لما اختلف قدر كل إنسان ومكانته وقيمته عند نيل الجزاء مما يشير إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:(لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) ، والتقوى هنا هي التقرب إلى الله بالعمل الصالح وليس أكثر من الاستشهاد في سبيل الله عمل صالح.
ويقول:
شريعة لك فجرت العقول بها
…
عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها
…
كالحلي للسيف أو كالوشى للعلم «2»
(1) بالعهد: أي احتفاظا بمات وعد الله ورسوله عليه من نصرته للرسول صلى الله عليه وسلم ، من: تفضيل الحال الرجل أو تفصيل لمعنى كم.
(2)
الوشى: النقش.
إن الله قد وهبك يا رسول الله الشريعة السمحة في القران الكريم وفي أحاديثك النبوية الشريفة التي لم تنطقها عن الهوى وإنما هي وحي يوحى، هذه الشريعة وهذه القوانين المنزلة قد فجرت في نفوس المؤمنين وفي نفوس كافة الناس طاقات العقل البشرى التي جاءت بتعاليم عديدة وبذلت جهود لشرح هذه التعاليم والقوانين الإلهية، ولمحاولة للتعرف على تفاصيلها ودقائقها وتبسيط ما غمض على العامة منها ودحض معارضيها واسقاط حججهم وادعااتهم، وهذه الشريعة تدور في أساسها حول واحدانية الله سبحانه وتعالى، فواحدانية الله هي جوهر الكون وأساس العبادة، ويشبه الشاعر هذه الواحدانية بأجمل ما في السيف وهو المقبض المزين بالجواهر، وتشبيهه لهذه الجواهر بمقبض السيف ما هو إلا دلالة على قوة هذا الأساس ومتانته، كما أن تشبيهه لهذه الجواهر وهي الواحدانية بأنها نقش مرسوم على راية عالية ليرمز بذلك للقوة والتفرد في المكانة العليا، ويقول:
غراء حامت عليها أنفس ونهى
…
ومن يجد سلسلا من حكمة يحم «1»
نور السبيل يساس العاملون بها
…
تكفلت بشباب الدهر والهرم «2»
يجري الزمان وأحكام الزمان على
…
حكم لها نافذ في الخلق مرتسم
لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت
…
مشت ممالكه في نورها التمم «3»
وعلمت أمة بالفقر نازلة
…
رعى القباصر بعد الشاء والنعم
وهنا يحاول أن يبين مدى ظمأ الناس وتعطشهم لهذه الواحدانية منذ القدم فقد ظل الناس يحومون حولها، وتهفو إليها عقولهم، وتهين على عواطفهم ولا
(1) حامت: عطفت ومالت، نهي: جمع نهية وهي العقل، والسلسل: الماء العذب.
(2)
نور السبيل: إنها يهتدى بها إلى غاية النجاح والفلاح في الدنيا والفوز السعادة في الاخرة شباب الدهر والهرم: كناية عن أوله واخره أو حالة إقباله وإدباره وتكلفها بشباب الدهر.. إلخ، أي تكلفها بما يعلى أهلها ويصلح من شأنهم على كل حال من الأحوال بلا تغيير في أحكامها ولا تبديل لنصوصها.
(3)
التمم: التام.
يستطيعون إليها نفاذا إلا بظهورك يا رسول الله، ويمنحك الله جل وعلا معجزة القران الكريم وكأن هذه الشريعة الغراء نبع ماء طال من حوله الظمأ، فما أن راوه وما أن ظهرت هذه الرسالة، حتى اندفع هؤلاء العطشى للارتواء من هذا الماء العذب الزلال، وهذه الشريعة الغراء المتمثلة كما سبق أن قلنا في القران الكريم وفي السنة النبوية كالنور الذي يضيء الطريق أمام الناس لكي يهتدوا إلى السبيل الأصح والأقوم في سبيل الحياة الكريمة الطيبة، وأن هذه الشريعة هي النبراس للإنسان يهديها في معركة ترويض الغرائز وتحويل الطباع الهمجية، والنفوس الشريرة إلى الطريق المستقيم بما فيها من تشريع وبما فيها من قصص وعبر من الأمم السابقة يضرب الله بها المثل للناس أجمعين، فمن شاء فإنه يهديه إلى الصراط المستقيم، وهذه الشريعة قد رسمت- من خلال منهاج إلهي لا يأتيه الخطأ من أمامه ولا من خلفه- ما يحدث في الكون، وبينت تفاصيل ما يجري في المستقبل. ومن يتمسك بهذه الشريعة الغراء وبهذا القانون المحكم المنزل من السماء لابد أن يحكم العالم وينشر الخير والحب والتقوى على وجه الأرض، والدليل على ذلك أن دولة الإسلام الأولى منذ أيام حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى رابع الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد اتسعت وسيطرت على كافة الممالك القديمة وطهرت بنور هذه الشريعة أدران النحل التي كانت منتشرة في تلك الممالك، ورفعت الظلم عن كافة الناس وسوت بينهم أمام الدولة وأحكام الله، وكان التشريع قد نزل على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الناس سواسية كأسنان المشط، وقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ صدق الله العظيم.
هذه الشريعة الغراء قد تمثلتها هذه الدولة الصغيرة البسيطة التي كانت لسنوات عديدة مجموعة من القبائل المتناحرة الكافرة، فصارت بهذه الشريعة أمة من المجاهدين الذين يضحون بأرواحهم، ليس في سبيل المال ولا في سبيل المجد، وإنما في سبيل نشر هذه الشريعة الحقة، والدين السمح؛ حتى أنها
عندما غزت وقهرت دولة الروم ودولة الفرس لم تطمع في ثراء هاتين الدولتين، ولكنها طمعت في نشر هذه الدعوى السمحاء بين أفرادهما.
ويقول:
كم شيد المصلحون العاملون بها
…
في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا
…
من الأمور وما شيدوا من الحزم «1»
سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم
…
وانهلوا الناس من سلسالها الشم «2»
ساروا عليها هداة الناس فهي بهم
…
إلى الفلاح طريق واضح العظم «3»
لا يهدم الدهر ركنا شاد عدلهم
…
وحائط البغي أن تلمسه ينهدم
ليؤكد شاعرنا تأكيدا واضحا أن الأمة الإسلامية استمرت في هذه الفتوحات وهذا التوسع، فهي متمسكة بهذه الشريعة الغراء فوصل ملكها وحكمها إلى الهند والسند وأوربا وأفريقيا، وسيطر المسلمون بأفكارهم قبل سلاحهم، وبشريعتهم التي هي شريعة الله على عقول أهالي وسكان هذه المناطق التي فتحوها وصاروا أئمة وقادة وعلماء وقضاة علموا سكان العالم التدين والتحضر والتقدم على هدى الإسلام وتعاليمه حتى ظهر من هذه الأمم التي سيطرت عليها أفكارهم وشريعة الله علماء مثل: الخوارزمي من خوارزم، وابن خالدون من المغرب، وابن سينا من روسيا، والبخاري من بخاري.. وغيرهم من علماء وفلاسفة وشعراء المسلمين، وبهذه الفتوحات السريعة التي سيطروا بها على هؤلاء الأقوام حولوا كل الدنيا المعروفة ان ذاك إلى دولة التوحيد تحكم في ضوء شريعة الله، وكأنهم قد أعطوا الظمأى إلى واحدانية الله قداسة وطهارة هذا الدين
(1) الحزم: جمع حزام.
(2)
سرعان: اسم فعل يستعمل خبرا وخبرا فيه معنى التعجب يقال: سرعان ما فعل كذا أي ما أسرعه، والنهل: أول الشرب تقول أنهلت الإبل إذا اشربت من أول الورد، والسلسال: الماء العذب، والشم: البارد.
(3)
ساروا عليها: أخذوا بها وجروا على أحكامها، هداة الناس: أي حالة كونهم هادين للناس، فهي: أي بسبب قيامهم بها ونشرهم لها.
الإسلامي وجعلوهم يشربون ويروون الظمأ الذي طال بهم مداه.
ويقول شوقي:
نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا
…
على عميم من الرضوان مقتسم
دع عنك روما وأثينا وما حوتا
…
كل اليواقيت في بغداد والتوم «1»
وخل كسرى وايوانا يدل به
…
هوى على اثر النيران والأيم «2»
واترك رعسيس، ان الملك مظهره
…
في نهضة العدل لا في نهضة الهرم «3»
دار الشرائع روما كلما ذكرت
…
دار السلام لها القت يد السلم «4»
ما ضارعتها بيانا عند ملتأم
…
ولا حكمتها قضاء عند مختصم «5»
ونراه يطرح في هذه الأبيات مقارنة بين شريعة الله سبحانه وتعالى التي أنزلها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبين الشرائع والقوانين الوضعية فيتعرض للحضارة الرومانية وما سبقتها من حضارة اليونانيين (الأغريق) ويعرض لها قائلا: إذا قارنا بين الحضارتين وبين الحضارة الاسلامية لوجدناها أنها الكفة الراجحة وهي الذهب بين سائر المعادن، كما أنها الياقوت والفضة الخالصة بين الأحجار الكريمة، وإذا ما تعرضنا للفرس وزعيمهم كسرى، نجد أن الشاعر يصفه بأنه كان يتيه فخرا ودلالا على زعماء العالمين بهذا البناء القوى الذي يسمى (الأيوان) والذي نراه بمجرد البشارة بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ينصدع ويهتز وتتهدم أركانه، بل يشب فيه الحريق ويلطخه الدخان، وفي العودة إلى الماضى نجد أن الشاعر يختار
(1) روما: هي المدينة المعروفة الان بهذا الاسم قاعدة لمملكة إيطاليا، أثينا: قاعدة مملكة اليونان الان، وبغداد: قاعدة الخلافة الإسلامية في دولة بني العباس، التوم: جمع تومه وهي الحبة الفضة تعمل على شكل الدرة.
(2)
كسرى: لقب لكل من يلي ملك فارس، والنيران: لعله يريد بها نيران فارس التي خبت ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك أيام كسرى أنور شروان، الإيم: الدخان.
(3)
الهرم: الأهرام في مصر كثيرة وأشهرها أهرامات الجيزة الثلاثة الفراعنة ملوك مصر وأكبرها أشهرها وأعجبها حتى إذا ذكر لفظ الهرم صرف إليه، رمسيس: أسم بعض الفراعنة.
(4)
دار السلام: بغداد، والسلم: التسليم.
(5)
ملتأم: مجتمع، مختصم: المصدر أي اختصام.
الحضارة الفرعونية ويؤكد أن قيمة الحضارة ليست في أهرامات ومقابر لتظل قائمة على مدى الأزمان، ولكن الحضارة هي إقامة العدل.
ثم يعود مرة أخرى إلى الحضارة الرومانية ويتناول جانب التشريع ويقارن بين هذه التشريعات الرومانية وبين شريعة الله ويقول الشاعر: هناك تشريعات مكتوبة ومتناقضة عند الرومان، وهنا في الشريعة الإسلامية لا نجد إلا العدل والقسطاس يحكم به بين كافة البشر لا فرق بين حاكم ومحكوم، وسيد أو مسود، ولا غنى وفقير، فكلهم أمام الشريعة سواء.
ومن هنا كان عدل الله في شريعتنا بينما نرى التشريع الروماني يحاسب السادة بكيل، والعبيد بكيل اخر.
ويعرج الشاعر في المقارنة نحو لغة القانون الروماني ولغة القران الكريم وهو مصدر الشريعة الإسلامية فيؤكد أنه لا وجه للمقارنة بين الكتاب السماوي الكريم وبين الألفاظ والتراكيب الساذجة والركيكة والضعيفة التي صيغ بها التشريع الروماني.
ويقول:
ولا احتوت في طراز من قياصرها
…
على رشيد ومأمون ومعتصم «1»
من الذين إذا سارت كتائبهم
…
تصرفوا بحدود الأرض والتخم «2»
ويجلسون إلى علم ومعرفة
…
فلا يدانون في عقل ولا فهم
يطأطيء العلماء الهام أن نبسوا
…
من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
ويمطرون فما بالأرض من محل
…
ولا بمن بات فوق الأرض من عدم «3»
(1) الطراز: علم الثوب والجيد من كلشيء، ولا احتوت على رشيد
…
إلخ أي على أمثالهم في الفضل والعدل والحزم، رشيد: هو هارون الرشيد، مأمون هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد ولى الخلافة يوم وفاة أخية المأمون.
(2)
الكتائب: جمع كتيبه وهي الجيش، والتخم: كعنق جمع تخوم وهو الفواصل بين الأرض من المعالم والحدود.
(3)
المحل: الجذب، العدم: فقدان المال.
ويستمر شوقي في المقارنة، فهو بعد أن قارن بين الحضارة الإسلامية وحضارات الأقدمين وبين الشرائع الإسلامية والتشريعات الاخرى، ينحو ناحية المقارنة بين الرجال الذين قاموا على هذه الحضارات ويضرب مثلا بقياصرة الروم رمزا لكل الملوك السابقين فراعين أو أكاسرة، مقارنا أياهم بخلفاء بني العباس الذين عاصروا بعضهم، وهل يمكن أن نقارن من خلال حب التملك وشهوة الظلم واذلال الرجال، وبين ما تميز به الخلفاء: الرشيد والمأمون والمعتصم وهم الذين كانوا يحجون عاما ويحاربون ويجاهدون في سبيل الله عاما اخر دفاعا عن حدود الله وثغور المسلمين في أرجاء المعمورة؟، هل نستطيع أن نقارن بين الظلم المتجسد في تصرفات هؤلاء القياصرة وبين نشر العدل عند هؤلاء الخلفاء ونقارن بين جهل أولئك القياصرة والأكاسرة وبين علم هؤلاء الخلفاء الذين كانوا إذا جلسوا إلى مجلس العلم كانوا يطأطئون الرؤوس احتراما وتقديرا للعلم والعلماء وهم فيما هم فيه من هيبة الحكم وقوة السلطان؟!، وكان هؤلاء الخلفاء في كرمهم كالمطر يمطرون خيرا فإن هم أصابوا أرضا جدباء قاحلة تخضر وتجود بالخير وتشيع فيها الراحة والسكينة، وإذا قورن هؤلاء الخلفاء بأولئك القياصرة، فلا غرو أن الشاعر يفضل هؤلاء الخلفاء العظماء، ويضعهم في مرتبة سامية بينما يضع أولئك القياصرة بين الأشحاء والبخلاء.
ويقول:
خلائف الله جلو عن موازنة
…
فلا تقيس أملاك الورى بهم «1»
من في البرية كالفاروق معدله
…
وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم «2»
وكالامام إذا ما فض مزدحما
…
بمدمع في ماقى القوم مزدحم «3»
الزاخر العذب في علم وفي أدب
…
والناصر الندب في حرب وفي سلم «4»
(1) خلائف الله: هذا قول مستأنف عام لجميع الخلفاء المتقدمين والمتأخرين.
(2)
المعدلة: العدل.
(3)
الإمام: هو الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهح، وماقى العيون: أطرافها مما يلي الأنوف وهي مجارى الدمع.
(4)
الندب: يقال رجل ندب أي خفيف الحاجة سريع طريف يجيب.
أو كابن عفان والقران في يده
…
يحنو عليه كما تحنو على الفطم «1»
ويجمع الاى ترتيبا وينظمها
…
عقدا يجيد الليالي غير منفصم
جرحان في كبد الاسلام ما التأما
…
جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي «2»
وما بلاء أبي بكر بمتهم
…
بعد الجلائل في الافعال والخدم
بالحزم والعزم حاط الدين في محن
…
اضلت الحلم من كهل ومحتلم «3»
يريد شوقي أن يجعل مكانة مرموقة لهذه الفئة المؤمنة لا يرتقي إليها أحد من هؤلاء الملوك، ومن ثم يشير شوقي إلى الفارق بين الملوك والقياصرة وبين هذه الفئة المؤمنة، ويتساءل مستنكرا ومتعجبا: هل هناك في هذه الدنيا من يقيم العدل كالخليفة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز في التواضع والخشوع لله سبحانه وتعالى أو كالإمام علي بن أبي طالب في تضحيته ليلة هجرة الرسول وفدائه بنفسه حينما عزم الكفار قتل الرسول في تلك الليلة، ثم يعدد الشاعر الصفات الحميدة في الإمام علي كرم الله وجهه من غزارة العلم، وأن عليا رضى الله عنه كان خفيفا في كره وفره في الحرب بشوشا مع الناس، وما كان يزهو على الناس، ولم يكن بخيلا بما لديه من علم ومعرفة لصلة الرحم بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم له ويبين شوقي في قصيدته مكانة الخليفة عثمان بن عفان حينما أمر بنسخ القران وشبهه بالأم التي تحنو على طفلها من شدة حرصه على العناية بكلام الله (القران الكريم) .
ويعود الشاعر أحمد شوقي ليطرح من خلال بردته لمحات من التاريخ الإسلامي ولما واجهته هذه الفئة المؤمنة من قتل وتعذيب على أيدي الكفار، كما
(1) ابن عفان: هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه، الفطم: جمع فطيم وهو الصبي المفصول عن الرضاع.
(2)
وجرح بالكتاب دمي: أي وجرح دمي به الكتاب وقلب للمبالغة وذلك أن قتلة عثمان رضى الله عنه دخلوا عليه الدار وخبطوه بالسيوف وهو صائم والمصحف في حجره وهو يقرأ فيه فوقع المصحف من يده وسال الدم عليه.
(3)
حاط الدين في محطن: يشير إلى حرب الرده بعد وفاة النبي وانتصاره على المرتدي.
يطرح مأساة ذات شقين، وهي مقتل واستشهاد عثمان بن عفان رضى الله عنه وأرضاه عندما طعنه قاتله، فهذا أول جرح من جروح الإسلام أن يغتال مسلم خليفة رسول الله، والشق الثاني من هذه المأساة هو نزيف الدم الذي سال من جسد عثمان بن عفان على أوراق المصحف الذي كان بين يديه يقرأ فيه، جرحان لن يلتئما.
وتعود بنا بذاكرة الشاعر إلى دور أبي بكر الصديق رضى الله عنه وانتصاره على المرتدين في حروب الردة، وكذلك دوره في الفتوحات الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وخدماته الجليلة في نشر الإسلام، وعلى الرغم من ذلك لم يسلم من الاتهامات التي وجهت إلى خليفة رسول الله لأنه كان شديد الحرص في الحفاظ على دين الإسلام والدفاع عنه في أوقات المحن العصبية التي اشعل نيرانها كثيرون من أدعياء الإسلام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر حزما وعزما لا يلين في مواجهتها واخمادها.
ويقول شوقي:
واحدن بالراشد الفاروق عن رشد
…
في الموت وهو يقين غير منبهم «1»
يجادل القوم مستلا مهنده
…
في أعظم الرسل قدرا، كيف لم يدم
لا تعذلوه إذا طاف الذهول به
…
مات الحبيب فظل الصب عن رغم «2»
(1) واحدن بالراشد الفاروق: يقول ما ظنك بتلك المحن التي تنحرف بعمر رضى الله عنه عن الرشد وله ما تعلم من كمال الرشد ووقور العقل وصدق اليقين وتذهله عن إدراك أمر من أظهر البديهات لديه: هو أن يدرك الموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
لا تعذلوه: وذلك أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الناس: مات رسول الله أسرع عمر إلى سيفه وتوعد من يقول ذلك وقال: إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم فلما حضر أبو بكر وأخبر الخبر كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها ثم خرج إلى الناس وقال: إلا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
فيذكرنا بموقف عمر بن الخطاب عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أذهلته المفاجأة فلم يصدق وقتها أن يموت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الرسالة ويؤدي الأمانة عن الله سبحانه وتعالى فيتصور عمر بن الخطاب أن الرسول كائن اخر غير البشر وأنه مدعوم من الذات الإلهية وأنه لن يموت حتى وقف له صاحبه وصديق الرسول وصديقه أبو بكر الصديق يتصدى لغلو صديقه عمر بن الخطاب بقولته الشهيرة:
«من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» ..
فيفيق عمر بن الخطاب، وهنا يتدخل شوقي ملتمسا العذر لهذا الرجل الذي أحب الله ورسوله حبا ملك عليه عقله فاهتز عندما سمع نبأ موت الرسول صلى الله عليه وسلم وظل كذلك حتى أعاده إلى رشده سماع مقولة أول الخلفاء الراشدين أبي بكر بن أبي قحافة رضوان الله عليه.
يا رب صل وسلم ما أردت على
…
نزيل عرشك خير الرسل كلهم
محيى الليالي صلاة لا يقطعها
…
إلا بدمع من الاشفاق منسجم
مسبحا لك جنح الليل محتملا
…
ضرا من السهل أو ضرا من الورم
رضية نفسه لا تشتكي سأما
…
وما مع الحب ان اخلصت من سأم
وصل ربي على ال له نخب
…
جعلت فيهم لواء البيت والحرم «1»
بيض الوجوه ووجه الدهر ذو حلك
…
شم الأنوف وأنف الحادثات حمى «2»
وهنا يصل شوقي في قصيدته (نهج البردة) إلى النهاية بالصلاة والسلام على رسول صلى الله عليه وسلم فيسأل الله أن يصلي ويسلم على رسوله خير البشر وخير الرسل واخر الأنبياء والمرسلين والذي استدعاه سبحانه وتعالى في رحلتي الاسراء والمعراج إلى
(1) للنخب: جمع نخبه وهو الرجل المختار.
(2)
الحلك: (محركة) شدة السواد، والشمم في الأنف: ارتفاع القصبة وحسنها وهو هنا كناية عن الحمية وشرف النفس، وأنف الحادثات حمى: كناية عن اشتداد الخطب واستفحال الأمر.
السماء السابعة حيث سدرة المنتهى وحيث جنة المأوى والعرش العظيم حيث رأى ايات ربه الكبرى.
ويدعو شوقي ربه جل وعلا بالصلاة والسلام على رسوله، ويبين شوقي أنه يظل يحيى الليالي مستيقظا بين الصلاة والصلاة يبكي اشفاقا على أمته ويطلب لها المغفرة والعفو عن زلاتها، ويسبح لله طوال الليال وهو جالس أو متكئ، ويصف شوقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناعة النفس ورضاها، فلا سأم هناك ولا ملل ولا شكوى ولا تعب، فمع حبه لله تعالى تهون كل هذه المتاعب، ثم يواصل شوقي الدعاء بالصلاة على ال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهم خلاصة الناس أجمعين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى من هؤلاء الذين اختارهم الله من قديم لحماية البيت العتيق وحمل لوائه، فهم مكرمون عند الله منذ القدم وحتى إذا ما أسود وجه الدهر وهم ذو كرامة وعزة ومهما اشتد عليهم كربهم وبلاؤهم وكذلك يقول:
واهد خير صلاة منك أربعة
…
في الصحب صحبتهم مرعية الحرم
الراكبين إذا نادى النبي بهم
…
ما هال من جلل واشتد من عمم
الصابرين ونفس الأرض واجفة
…
الضاحكين إلى الأخطار والقمم
ليمضي شوقي في الدعاء بالصلاة على الخلفاء الراشدين الأربعة وهم:
(أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضى الله عنهم أجمعين) ويطلب لهم الرحمة من الله، فهم أصحاب رسول الله المرعية صداقتهم وصحبتهم، فالصديق له مالصديقه من حرمة، وبخاصة إذا كانت هذه الصداقة صداقة في الله سبحانه وتعالى وهم الذين لبوا نداء الرسول في الحرب أو في السلم ويقدمون المشورة والنصح في أمور الدنيا التي لم ينزل بها تشريع، وما لهم إلا تنفيذ تشريع الإسلام بقوة. فما أن نزل هذا التشريع فيهم إلا وكانوا المؤيدين والمعضدين والمساعدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر شريعة الله ودعوته، وهم الذين واجهوا معه الشدائد وظلوا صابرين كاظمين الغيظ، عافين عن الكفار حتى أذن الله لهم
ورسوله بمحاربتهم، وكانوا يمضون إلى هذه الحرب مستبشرين، فلم تكن الحرب بالنسبة لهم إلا نصرا يعز به المسلمون أو شهادة تدخلهم في رضوان الله وجنته.
ويقول:
يا رب هبت شعوب من منيتها
…
واستيقظت أمم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك أنت مالكه
…
تدويل من نعم فيه ومن نقم
رأى قضاؤك فينا رأى حكمته
…
أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
ولعله هنا يتقدم كشاعر وكرجل مسلم تهمه مصلحة المسلمين بالدعاء إلى الله الذي لا إله إلا هو، مالك الملك، يدبر الأمر في الكون ويسير أحوال الخير والشر بين الممالك، لا راد لقضائه مهماحم قضاؤه وإن كان قاسيا على مشاعرنا، فهو رحيم بنا لا ندرك ببشريتنا عمق الحكمة الإلهية العميقة التي أرادها سبحانه.
وأخيرا يقول أمير الشعراء.
فالطف لأجل رسول العالمين بنا
…
ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
يا رب أحسنت بدء المسلمين به
…
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
ليختتم شوقي قصيدته بدعاء فيه التوسل والرجاء، فيدعو الله اللطيف، ويرجوه أن يلطف بالمسلمين، ويتشفع عند الله لهم برسول الله وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويكرر الدعاء ليؤكد أن الله قد أحسن إلى المسلمين فاختار من بينهم وبعث فيهم الرسول بهذه الرسالة ويطلب من الله أن يتمم هذه الرسالة وهذا الفضل وأن يمنح المسلمين حسن الختام كما منحهم من قبل حسن البداية، اللهم أحسن ختامنا كما أحسنت بدأنا يا أرحم الراحمين.
الفصل الرابع موازنة بين الأغراض الشعرية للقصائد الثلاث