الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحبها دون غيره من البشر، وشوقي في أبياته لم يلتزم خطأ تاريخيا في ذكر الخلفاء وإنما اعتمد على الصفات المميزة لكل منهم في ذكره لهم مبتدئا بالفاروق عمر بن الخطاب العادل الذي لم يفقه أحد قبله في عدله ثم ينتقل إلى عمر بن عبد العزيز وخشوعه وتقواه وزهده، ثم الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلم كما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفه شوقي بالعلم الزاخر والأدب الذاخر والبطولة في الحرب وفي السلم ثم يعرج شوقي على عثمان بن عفان وماثره في حفظ القران وجمع آياته واستشهاده وهو منكب على كتاب الله فكان في هذا مأساتان في كيد الإسلام بتعبير شوقي لم يلتئما، (جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي) ثم يتحدث شوقي عن أبي بكر أول الخلفاء وبلائه في سبيل الإسلام التي تعد من جلائل الأعمال، وفي مقدمتها حرب الردة وانتصاره فيها بعد أن كاد الإسلام يضيع على أيدي فئة باغية وأيضا مواقفه الخطيرة كموقفه يوم أن قبض الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه واعلانه (أن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) .
فقد كان حقا في هذه اللحظة رجل الموقف الصعب ساعة أن فقد كبار الصحابة رشدهم وذهلوا من صدمة الخبر وهم ليسوا في ذلك كما يرى شوقي:
(فقد مات الحبيب فضل الصب عن رغم) .
11- المناجاة وعرض الحاجات:
-
لم يطرح كعب بن زهير في قصيدته التي القاها أمام الرسول صلى الله عليه وسلم حاجة من الحاجات اللهم إلا طلب العفو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبوله اعتذاره، وقد تناولنا بالشرح في الأبواب السابقة مقاصد قصيدة كعب بن زهير.
أما الإمام البوصيري فبعد أن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العفو عن كل ما أسلف في حياته من الذنوب فيقول:
خدمته بمديح استقيل به
…
ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم
وبعد أن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتوسل إليه بدأ في مناجاته وعرض حاجاته ابتداء بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من الوذ به
…
سواك عند حلول حادث العمم
ففي هذه المجموعة من الأبيات يناجي البوصيري الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بأن يكون شفيعه عند رب العرش العظيم. ويلاحظ أن حاجة البوصيري التي عبر عنها في هذه الأبيات أمر يخصه هو شخصيا وليس هناك من مأخذ في هذا على الإمام البوصيري، فالإنسان هو المسئول عن عمله وهو الذي يجازي به، وبعد مناجاة الرسول يخاطب الإمام البوصيري نفسه في لحظة لا شعورية هائما محاولا أن يزيل عنها اليأس والقنوط لأن رحمة الله قد وسعت كل شيء، وفي هذا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى ورجاء أن يغفر ذنبه مهما عظم ثم يستمر في التضرع إلى الله سبحانه وتعالى والرجاء أن يلطف به في الدنيا والاخرة وأن يصلي على رسوله دائما وأبدا فهو الشفيع له في خلقه.
ويختتم الإمام البوصيري قصيدته بأعذب مناجاة وأخلص رجاء يطلبه المحب العاشق لحبيبه ومعشوقه، والحبيب هنا هو المصطفى صلى الله عليه وسلم والمحب هو الإمام البوصيري، فيرجو الله أن يصلي على رسوله صلاة دائمة في كل الأوقات.
ويلاحظ أن البوصيري قد بدأ هذا الجزء الخاص بالمناجاة بتعبير (يا أكرم الخلق) ولكن نجد هذا الاستهلال في مراجع أخرى واردا بتعبير (يا أكرم الرسل) وان كنت أميل إلى التعبير الأول ففيه الشمولية التي يريدها البوصيري لتعظيم مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ورفع شأنه وتمهيد للاستعانة به والتوصل إلى الله سبحانه وتعالى.
أما الملاحظة الثانية فهي أن هناك أبيات قال البعض عنها أنها سقطت من البردة، ويؤكدون انتسابها للإمام البوصيري بعد أن روجعت النسخ المحفوظة في كثير من دور الكتاب وهذه الأبيات تبدأ بقوله: -
يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا
…
واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
وعددها خمسة أبيات يناجي الإمام البوصيري فيها ربه متوسلا إليه برسوله المصطفى أن يغفر للمسلمين قاطبة بفضل ما يتلونه من القران الكريم في بيوت الله وهذه الأبيات يرى البعض أنها ليست للإمام البوصيري وأن قصيدة البوصيري تنتهي عند الصلاة على الرسول في البيت الذي يقول فيه:
ما رنحت عذابات البان ريح صبا
…
واطرب العيسى حادي العيسى بالنغم
ولنا هنا رأي خاص هو أن هذه الأبيات هي للإمام البوصيري، ولكن قصيدته (البردة) تنتهي تماما كما قال معارضو هذا الرأي عند (واطرب العيس حادي العيس بالنغم) .
ودليلنا هذا البيت الذي يقول فيه البوصيري: -
(ما رنحت عذابات البان ريح صبا.. الخ) وتكون هذه الأبيات الأخيرة مجرد دعاء خالص يختتم به الامام الوصيري صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم دون القصد أن تكون ملحقة ببردته.
أما أحمد شوقي فقد تناول هذا الموضوع كما تناوله الامام البوصيري فهو يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به ويتضرع إليه وألقى حاجته ورجاءه بين يديه.
وفعل ذلك في الجزء الذي أشرنا إليه سابقا والخاص بالضراعة والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم فعله مرة ثانية في نهاية القصيدة ولكنه وان كان قد عرض حاجة شخصية في الجزء السابق الذي قال فيه:
ان جل ذنبي عن الغفران لي أمل
…
في الله يجعلني في خير معتصم
ففي الجزء الأخير يطلب شوقي بعد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وال بيته الكرام يطلب من الله سبحانه وتعالى مستعينا بالنبي صلى الله عليه وسلم الهداية واللطف بالمسلمين قاطبة وذلك ابتداء من قوله:
يا رب هبت شعوب من مينتها
…
واستيقظت أمم من رقدة العدم
إلى قوله:
يا رب أحسنت بدأ المسلمين به
…
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
فشوقي يطلب للمسلمين اللطف من الله عز وجل لأجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ويطلب اللطف بهم لما هم فيه من ضعف وتشتت وتفرق واستبداد وخضوع لشعوب قامت من موات في غفلة المسلمين، وهنا نجد شوقي يتألم لما ال اليه حال المسلمين فبعد أن كانوا السادة في هذه المعمورة، أصبحوا وقت ان كتب شوقي هذه القصيدة- مستعمرين أذلاء تحكمهم شعوب وأمم كانت تخضع لهم من قبل فتغير الحال وأصبح المسلمون هم المحكومين، فشوقي يتحدث بكل مرارة وأ لم عما حل بالمسلمين وهو الوضع الذي ما زال قائما حتى الان وان تغيرت بعض الملامح وذلك وضع لم يألفه كعب ولا الإمام البوصيري، ومن هنا جاءت كلمات شوقي ومعانيه تنبض بالألم والحسرة، ومن هنا كان دعاؤه حارا وابتهاله إلى الله سبحانه وتعالى أن يغير هذا الوضع وأن يلطف بالمسلمين بفضل رسوله الكريم فقال:
(ولا تزد قومه خسفا ولا تسم) ثم يختتم رجاءه إلى الله سبحانه وتعالى أن يتم فضله على المسلمين وأن يجعل خاتمتهم حسنة كما كانت بدايتهم حسنة، ويلاحظ هنا تميزّ شوقي عن الإمام البوصيري عندما عرض حاجة أمة بأسرها أصابها الضعف والوهن عند المقارنة بالأمم الاخرى، والضعف نابع من داخلها:
ولعل شوقي يقصد في أبياته الأخيرة التي يدعو فيها ربه أن يضع الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه المسلم، الصورة التي لو تحققت في المسلمين الحاليين لعادوا للوضع الذي كانوا عليه في عهد الرسول الأعظم وصحابته الأبرار، فشوقي هنا يدعو الله سبحانه وتعالى ويسأله اللطف بالمسلمين والإحسان إليهم وينبه في نفس الوقت المسلمين إلى أن الله لن يغير حالهم إلا إذا هم غيروا ما بأنفسهم، وجاء هذا المعنى ضمنا عندما أشار إلى صفات الرسول وأخلاقه، وقيمه ومثله، وأخلاق صحابته ومن سار على نهجه، ولعل حرارة دعاء شوقي المتأججة كانت تعبيرا عن الوضع الخطير الذي صار إليه حال المسلمين في عهده الذي عاشه وقت تامر أعداء الإسلام من كل الجهات من الداخل والخارج والذي وصل إلى حد احتلالهم والسيطرة عليهم ونشر مثلهم وقيمهم الخاصة بين المسلمين وهو الحال
الذي لم يعشه الامام البوصيري. وكل ما كان في عصر البوصيري هو صراع داخلي بين المسلمين، فلم تكن القضية المطروحة صراع أمة مسلمة ضد أمة غير مسلمة وإنما صراع بين انخراطهم في الحياة ولذاتها وبين عودتهم إلى الطريق القويم ولذلك كان دعاء البوصيري للمسلمين في الأبيات المتممة للبردة أن يغفر لهم الذنوب بفضل القران الكريم ويفضل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
اذن فشمولية دعاء شوقي للمسلمين أفرادا وأمة جاء تعبيرا عن الحال الذي شهده شوقي وعاشه من ضيعة الأمة الإسلامية وتفككها وخضوعها وسيطرة أمم غير مسلمة بل معادية للإسلام عليها، وكان في دعائه ثورة مسلم معتز كل الاعتزاز بإسلامه كما يجب أن يكون الاسلام وصورته الحقة مجسدة في الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وعلى صحابته الأبرار.