المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌7- الجهاد في سبيل الله: - ثلاثية البردة بردة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

[حسن حسين]

الفصل: ‌7- الجهاد في سبيل الله:

معه فيقول له بتعبير رقيق فيه الرجاء (لا تأخذني) ولا هنا الناهية، والغرض من النهي طلب العفو، ولو قال لا تأخذني كنهى حقيقي لوضع نفسه بمكان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه هنا يضع نفسه في مكان صغير وضعيف نسبة إلى مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يؤكد للرسول بعد ذلك براءته من أي ذنب عاقبه عليه.

ويبلغ كعب بن زهير في هذه الأبيات الثلاثة درجة عالية في دقته، فهو على الرغم من وصفه للناقة في واحد وعشرين بيتا لم يبلغ في دقة التعبير فيها ما بلغه في تلك الأبيات الثلاثة التي اختصت بطلب الأمان فهو مركزّ، دقيق التعبير، دقيق في اختيار اللفظ الموحي، الذي يدل دلالة ليس فيها صدق المعنى وصدق الاحساس فحسب، بل فيها الرهبة الشديدة تجاه الرسول وصدق الايمان الذي فاجأه برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم بسماته وبهيبته التي دخلت قلب كعب حتى أنه تقدم وطلب الأمان ولا ريب أن هذه الأبيات هي مناط قوله للقصيدة ككل، ففيها حاجة كعب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها طلبه للأمان الذي أعطاه إياه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل دقائق معدودة من إلقائه للقصيدة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وكان محور القصيدة وأساسها هو هذه الأبيات الثلاثة، وعلى أساسها بنى كعب كل قصيدته التي لم يقلها إلا رغبة في حسن الأثر عند الرسول صلى الله عليه وسلم فما كان من عادة العرب أن يمدحوا العظيم بأبيات قلائل، فما بالنا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو اخر الأنبياء والرسل، وقد جاءه فطحل من كبار شعراء العرب وكان قد وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبيات منحولة عليه يسبه فيها فماذا يفعل هذا الشاعر إلا أن يقف ويستعرض بلاغته وقدرته الشعرية في أبيات كثيرة، ولكنه عندما يعرض حاجته عند الرسول الكريم وهي طلب العفو عنه فهو بكل صدق وبكل عمق وبكل رغبة في الأمان يطلبها في ثلاثة أبيات فقط لتكون مركزة تركيزا شديدا.

‌7- الجهاد في سبيل الله:

في هذا الجزء كتب كل من الشعراء الثلاثة بقدر علمه وبقدر معايشته للإسلام، فمنهم من لم يدرك إلا غزوة أو بعض غزوات ككعب بن زهير، أما

ص: 157

الإمام البوصيري وأحمد شوقي فقد كتبا عن جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم. كل من وجهة نظره وبعلم كامل بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن من خلال معطيات عصره فنجد أن كعبا عندما يتكلم فانه- وكما سبق أن قلنا- يتكلم كلام حديث عهد بالاسلام ومع أنه كان حديث عهد في الاسلام إلا أنه قد سمع ورأى وأحس بقوة هذا الدين الجديد وببأس أصحابه وقدرتهم فهو يصف هذه القدرة بأنها قدرة من لا يقبل أن يطعن في ظهره، بل يقبل على الموت وهو يهلل فرحا به طمعا في شهادة لا ريب فيها وهذا في البيت الأخير من القصيدة، وقد سبق أن تكلمنا عن هذه الأبيات الخاصة بجهاد المسلمين في الجزء الخامس بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح المسلمين عند كعب، وننتقل من كعب إلى الإمام البوصيري وهو يتكلم عن جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مادح له ولكل مسلم من المسلمين الذين شاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الله وهو هنا ينظر إلى الجهاد نظرة أكثر عمقا وفهما لمعنى الجهاد في الإسلام، فليست الرهبة والغزو واستخدام السيف والرمح هي الجهاد في الاسلام، وإنما هو الجهاد مع المشركين أولا بمحاولة اقناعهم بالدين الاسلامي بالحجة والكلمة الطيبة ثم محاربة كل من يخرج على اطار الدين ولا يرضى بالجزية، وكأن الإمام البوصيري يريد أن يبينّ مرة أخرى موقف الناس من ظهور الرسالة المحمدية إذ يبتديء هذا الجزء من القصيدة بأن يصف فزع الناس وخاصة أعداء الرسول عند سماعهم بأن الله جل وعلا قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم للعرب رسولا، وهذا الخوف والفزع قد أدى إلى التصادم مع المؤمنين بالرسالة المحمدية وإيذائهم، ويستمر الإمام البوصيري في وصفه للجسارة وقوة المسلمين وفي عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده خلال اثنين وعشرين بيتا يذكر فيها مدى انتصارات المسلمين وكيف أنهم كالجبال لا يتعرض لهم عدو إلا هزموه وقهروه، ويصف المسلمين المحاربين بأن لهم علامة تميزهم مثل الورد فهم يتميزون عن غيرهم من الأشياء بالرائحة فتحسبهم كالأزهار، ويصفهم بأنهم من كثرة استمرارهم بالحرب على ظهور الخيل كأنهم قد نبتوا في ظهور خيلهم لا يريدون النزول بإرادتهم وليسوا مجبرين على ذلك ولكنهم يقتدون بقائدهم صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله الذي يصفه الشاعر بأنه

ص: 158

إذا رأته الأسد تسكت غما وخوفا وكمدا، ويستمر في أبياته المشيدة بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبجنوده المسلمين حتى ينتهي إلى أن الرسول الكريم لا يفارق جنوده فهو كالأسد مع أشباله يربيهم ويعلمهم ولا يفارقهم في السراء والضراء ثم ينهي الإمام البوصيري حديثه نهاية خاصة فيشير إلى هذا العلم الحربي والرسول الأمي وهذا التأدب باداب المعارك والحرب، وهو الطفل اليتيم الذي تربى في حجر جده وعمه، ونرى أن الإمام البوصيري على الرغم من حبه الزائد المفترض في كل مسلم كريم لم يكن موفقا في هذا الجزء توفيقه في الأجزاء الاخرى من قصيدته البردة أو أنه لم يوفق في رأينا لبعد المسافة بين ألفاظ عصره وألفاظ عصرنا، وان ايقاع القصيدة في هذا الجزء إيقاع بسيط لا يتناسب مع الغرض الفني وهو الجهاد، والجهاد يعني الحرب بسرعتها وكرها وفرها، أين هذا الشعر في غرض مشابه من شعر امرؤ القيس حين يقول:

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السبيل من علل

أين هذا الايقاع السريع في قصيدة البوصيري، الايقاع ذو الكلمات ذات النسق الصوتي لوقع الأقدادم والكر والفر في الحرب فكأننا نحضرها. ومن أقوى أبيات هذا الجزء عند الامام البوصيري هو البيت الذي يقول فيه:

وسل حنينا، وسل بدار، وسل أحدا

فصول حتفا لهم أدهى من الوخم

ولكننا نرى أن الإيقاع عند الامام البوصيري إيقاع بطيء بل شديد البطء ولا يعبر بأي حال عن لغرض المنوط بهذا الجزء- والذي سبق أن ذكرناه- أنه يجب على الشاعر في هذا الغرض وهو وصف الجهاد والمعارك أن يكون سريع الايقاع تعبر الألفاظ تعبيرا دقيقا عن التوتر والقسوة والقوة والسرعة ولكن من أين يأتي الامام البوصيري بهذا الاحساس النفسي وهو على ما عليه من درس وتفكير وشوق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وزهد عن ملذات الحياة بل والوصول إلى حالة من حالات التصوف والوجد المعروف عن المتصوفة مما لا يعطيه الفرصة أن يكون صادقا في وصف الجهاد إلا من منظور فلسفي أو نظري وهذا ما استطاع الإمام البوصيري أن يكتبه في هذا الغرض وان كنا لا نشك في رغبة الامام أن يكتب أجود الكلم

ص: 159

في وصف جهاد الرسول إلا أننا كشهود عدل نقول: أنه لم يوفق التوفيق كله من حيث الايقاع العام لهذا الجزء، ونصل في النهاية إلى نهج البردة لأحمد شوقي فنجد أنه اتخذ منهجا دراميا بالنسبة لهذا الجانب بالذات فهو يقيم حوارا بين أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام، وبينه كشاعر فيتصور أنهم يقرعون الرسول عليه الصلاة والسلام (لا قدر الله) فيقولون له:

كيف تغزو وأنت كما تقول رسول من السماء، ونحن نعرف أن الرسول يجيء إلى الأرض لنشر المباديء لا لسفك الدم، فيرد عليهم الشاعر المسلم أحمد شوقي قائلا بتقريع أقوى وأقسى ويصفهم قائلا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.

جهل وتضليل أحلام وسفسطة

فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

ثم يستطرد محايدا ويصف كيف أن الرسول لم يعمل السيف إلا في الجهلاء والعوام فالسيف هو المنقذ والا ضاق العقل وامتنع الفهم واغلقت القلوب، ويؤكد شوقي أن الشر لا يقابل إلا بالشر ويؤكد في مقارنة بين ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما كان من سيدنا عيسى مع اليهود والرومان ومحاولة صلبة ولولا مكانته عند الله لما نجا من هذا المصير ثم يؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم المسلمين كل شيء كانوا يجهلونه حتى القتال مع أنه مكروه لدينا كمسلمين، ثم يبين كيف دعا الرسول للجهاد، ويبين الأسباب التي أدت إلى هذه الدعوة، فالحرب أساس لنظام الكون، ثم ينهي أبياته بقوله:

ان ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم مجاهدا قد قلب موازين عصره وموازين أيامنا هذه، وهنا ينتقل شوقي إلى المعاصرة لينبهنا إلى أن أشياع المسيحية وأتباعها. وقد هرب من تصوير المعارك وان كان قد كتب عنها في جزء اخر سنورده فيما بعد ولكنه شرح الجهاد من وجهة نظر الدبلوماسية الموجودة في عصره، فهو يقرع الحجة بالحجة، ويناقش أصول الجهاد، وهل هناك خطأ في قيام المسلمين به أم لا، ويقارن بين ذلك وبين موقف ظهور المسيحية ثم يخلص إلى نتيجة أخيرة هي أنه لولا الجهاد الذي قام به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما تواحد الصف، وقد قال تعالى (وأعدوا لهم ما

ص: 160