الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح البردة
بدأ البوصيري قصيدته كغيره من الشعراء بمطلع غزلي جميل على عادة شعراء العرب، ملتزما العفة والاحتشام لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يقول:
أمن تذكر جيران بذى سلم
…
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «1»
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
…
وأومض البرق في الظلماء من أضم «2»
فما لعينك ان قلت اكففا همتا
…
وما لقلبك ان قلت استفق يهم «3»
فهو يتساءل في مطلع بردته المباركة عن أسباب انسياب دمعه- هل جرى هذا الدمع ممزوجا بدم من تذكر الديار والجيران بذي سلم؟ أم لوميض برق يضيء الظلماء، وهبوب ريح حبيبة من تلقاء كاظمة، حيث يقيم أحباؤه، وعندما يرى استنكار المخاطب لهذا القول يأخذه- بقوله- ان عينيك لا تطيعانك حينما تطلب منها الكف عن ذرف الدموع بل يزداد انهمار الدمع كما أن قلبك كلما طلبت منه أن يفيق من غرامه ازداد شوقا وهياما، فعينا الشاعر وقلبه في لهفة إلى الجيران وإلى تلك الحبيبة.
ويقول:
أيحسب الصب أن الحب منكتم
…
ما بين منسجم ومضطرم «4»
ليؤكد أن الحب لا يمكن كتمانه ويفضح العاشق بالعلامات التي تظهر عليه من سقم وتحول واضطراب.
(1) ذو سلم: جبل لطيء شرقي المدينة وقيل أن ذي سلم ليس جبل وإنما هو مكان بين مكة والمدينة قرب من قدير، جيران: جمع جار وهو الملاصق للإنسان والمراد بالجيران في البيت المحبوبون، مزجت: خلطت.
(2)
كاظمة: اسم موضع بالمدينة، أومض: لمع لمعانا خفيفا، الظلماء: الليلة المظلمة، اضم: اسم لجبل، وقيل اسم لواد بالقرب من المدينة المنورة.
(3)
همتا: سالتا بالدمع، استفق: أي أرجع إلى رشدك، يهم: حالة الجزم من يهم أي يتمادى في الهيام وهو جنون العشق.
(4)
الصب: العاشق، المنسجم: الدمع السائل، المضطرم: المراد به الفؤاد الملتهب شوقا.
ويمضي البوصيري قائلا:
لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل
…
ولا أرقت لذكر البان والعلم «1»
فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت
…
به عليك عدول الدمع والسقم «2»
وأثبت الوجد خطى عبرة وضني
…
مثل البهار على خديك والعنم «3»
نعم سرى طيف من أهوى فأرقنى
…
والحب يعترض اللذات بالألم «4»
فهو في تساؤله يقيم الدليل تلو الدليل على ثبوت الحب ولو لم يكن هذا الحب لما سكب دمعا على أي أثر من الاثار ولا أصيب بالسهاد ولا عرف الندم، ولولا الشوق والوله لما هطل الدمع لمجرد ذكر الأطلال والديار وما الشوق هنا إلى الديار ولكنه الشوق إلى من سكن الديار، وهذا اعتراف واضحح بالحب، فهو لم يعد في حالته الطبيعية، بل هو مصاب بالأرق لتذكره طيف محبوبته وتألمه الدائم والشهود العدول القائمون عليه أربعة: خفقان قلبه، وسكب دمعه، ونحول جسمه، وانعقاد لسانه، فلا يجد الصب مهربا من الاعتراف، وقد لاح له طيف حبيبته فأرقه ولم يذق للنوم طعما عله يراه حقا، ولكن ذلك لم يتحقق وهو يجد لذة في هذا الحب، ولكنها لذة ممزوجة بالألم، فالبوصيري محروم من قرب محبوبته كما كان كعب بن زهير محروما من قرب سعاده.
ويقول:
يالائمى في الهوى العذري معذرة
…
منى إليك ولو أنصفت لم تلم «5»
(1) ترق: حالة الجزم من تريق أي تسكب، الطلل: ما بقى من اثار الديار أرقت: أصابك السهد وعدم النوم، البان: شجر يسق ويطول في استواء مثل نبات الأثل، واحدته بأنه وهو شجر طيب الريح، ويتخذ منه دهن يعرف بدهن البان، العلم: الجبل والرمح.
(2)
شاهد عدل: أي شاهد مرضى يقنع به.
(3)
العبرة: البكاء وقيل العبرة الدمعة، الضنى: الضعف والهزال، البهار: البياض الذي يكون في لب الفرس، العنم: شجرة حجارزية لها ثمرة حمراء يشبه بها البنان المخضوب وقيل أن المراد من البهار في البيت ورد أصفر والمراد بالعنم ورد أحمر.
(4)
طيف: خيال، أرقني: اقض مضجعي وأضاع عني النوم.
(5)
الهوى العذرى: منسوب إلى قبيلة بنى عذره ويقصد الحب العفيف العفيف الذي يتعلق فيه صاحبه بجمال المحبوبة النفس والخلقي وشاع هذا النوع من الغزل في هذه القبيلة لأن نساءها كانوا في منتهى الجمال.
فيشرح الإمام البوصيري معاناته هذا الحب لمن يلومه، فإن حبه طاهر وعفيف، حب عذري، إذ عبر عن خوالج النفس، وأثر هذا الحب فيها دون أن يتعرض للصفات الحسية لمحبوبته، وشاع مثل هذا النوع من الغزل والتعبير عن الحب في قبيلة بني عذرة التي شاعت بين ظهرانيهم قصص الحب الخالدة.
ويقول:
عدتك حالى لا سرى بمستتر
…
عن الوشاة ولا دائي بمنحسم «1»
محضتنى النصح لكن لست أسمعه
…
أن المحب عن العذال في صمم «2»
فيبين أن النصح واللوم على ذلك الهوى العذري لا يجدي ولا يسمع لأنه في حالة غير حالته العادية، بل يمر بمرحلة لا شعورية خاصة وكل ما قدم له من نصح لا يدركه ولا يعيه لأن شعوره وأحاسيسه غائبة شاردة مع محبوبته بذي سلم.
ويقول:
انى اتهمت نصيح الشيب في عذل
…
والشيب أبعد في نصح عن التهم «3»
فان امارتى بالسوء ما اتعظت
…
من جهلها بنذير الشيب والهرم «4»
ولا أعدت من الفعل الجميل قرى
…
ضيف الم برأسى غير محتشم «5»
لو كنت أعلم أنى ما أوقره
…
كتمت سرا بدا لى منه بالكتم «6»
(1) عدتك حالي: جاوزتك حالي، فهي لا تضرك ولا تعنيك، وقد علمها غيرك المنسجم: المنقطع، الوشاة: جمع واش وهو من ينقل الحديث على سبيل الإفساد والوقيعة بين الناس.
(2)
العذال: جمع عاذل وهو اللائم.
(3)
الشيب: كبر السن.
(4)
أمارتي بالسوء: يقصد الشاعر نفسه، نذير الشيب: المراد الشعر الأبيض الذي ظهر في رأسه وجسمه، نذير الشيب، المراد كبر السن.
(5)
قرى الضيف: إكرامه: محتشم: مستح.
(6)
أوقره: احترمه، الكتم: بفتح الكاف والتاء نبات يؤخذ منه خضاب للشعر وقيل أن الكتم نبت يخضب به كالحناء.
فيوضح الإمام البوصيري أنه اتهم من قبل العذال بالشيب وكبر سنه، ويرد عليهم أن الشيب أبعد عما يلفق له من تلك التهم، فهو لا يأبه بالشيب الذي اشتعل في رأسه، ولكنه يخشى أن تشيب النفس وهى محملة من جهلها بالمعاصى وهو يملك القدرة على اخفاء هذا الشيب بالخضاب أو الحناء، ولكنه يعجز عن كتمان ما فعلته نفسه، فإن اخفيت هذه الأفعال عن البشر فإنه لا يستطيع أن يخفيها عن ربه سبحانه وتعالى:
ويقول البوصيري:
من لى برد جماح من غوايتها
…
كما يرد جماح الخيل باللجم «1»
فلا ترم بالمعاصى كسر شهوتها
…
ان الطعام يقوى شهوة النهم «2»
فيقرر بأن النفس أمارة بالسوء ولا بد أن يردها الإنسان عن غوايتها، ويشبه الإمام البوصيري النفس المنحرفة عن الطريق المستقيم بالحصان الذي يجمح بفارسه فإن لم يرده راكبه فقد يقتله ويقتل نفسه، والإسراف في المعاصى لا يقتل رغبة النفس، ولكنه يزيد ميلها وانغماسها فيها كما أن كثرة الطعام تزيد رغبة النهم فيه ويقول:
والنفس كالطفل أن تهمله شب على
…
حب الرضاع وان تفطمه ينفطم
فيخاطب المرء بأنه سيد حياته وأن ترك لنفسه الحبل على الغارب ادمنت المعاصي وأكثرت من الذنوب وأوردته نفسه مورد الهلاك، وهو إن زجرها امتنعت كالطفل إذا لم ينفطم ظل معلقا بثدى أمه- وهي حكمة بليغة يطرحها البوصيري للإنسانية جمعاء.
ثم يقول:
فاصرف هواها وحاذر أن توليه
…
ان الهوى ما تولى يصم أو يصم «3»
(1) من لي: أي من يكفل لي، الجماح: الشرود، غوايتها: ضلالها، اللجم: جمع لجام.
(2)
لا ترم: لا تقصد ولا تطلب، النهم: الشره كثير الأكل.
(3)
أن توليه: تجعله اليا عليك، يصم: حالة الجزم من يصمى مضارع اصمى أي يقتل، ويصم مضارع وصم أي شاب وعاب.
وراعها وهى في الأعمال سائمة
…
وان هى استحلت المرعى فلا تسم «1»
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
…
من حيث لم يدر ان السم في الدسم
والمراد من الهوى الذي يصم أو يصم هنا اللذة القاتلة وهي اللذة الدنيوية التي يقدم عليها الإنسان وتأمره النفس الإمارة بالجرى وراءها، ولكن ذلك يقضى عليه، ولذا يطالب المرء أن يخالف هذه النفس ويردها عن غيها وينصرف عما تقويه فيه وتزينه له من مغريات الدنيا، وقد يكون ذلك ابتلاء وتذكره له ليستغفر ربه ويرجع إليه فيعيش مطمئنا خالى البال بعيدا عن نزوات الشياطين.
ومن البيت الثامن والعشرين يبدأ البوصيري حديثه كعادة الشعراء العرب الأولين بالتشوق إلى الديار والجيران وعلى نحو ما فعله كعب في ميميته وبردته الأولى التي كانت نبراسا للشعراء من بعد.
ويستمر البوصيري في قصيدته قائلا:
واخش الدسائس من جوع ومن شبع
…
فرب مخمصة شر من التخم «2»
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت
…
من المحارم والزم حمية الندم «3»
وخالف النفس والشيطان واعصهما
…
وان هما محضاك النصح فاتهم «4»
ولا تطع منهما خصما ولا حكما
…
فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
فيوجه الإمام المجتمع إلى أخذ الحذر من مغبة الدسائس والفتن التي تحاك وهي لا تختلف بعضها عن بعض، ويستوى الأمر بين أن تملى الدسيسة على المرء
(1) سائمة: راعية أي متعاطية، فلا تسم: أي فلا تمكنها من الرعي وتسم من السموم وهو الرعي في العشب المباح.
(2)
الدسائس: هي الشبهة الخبيثة، مخمصة: جوع، التخم: جمع تخمة وهي امتلاء البطظن بالأكل وثقلة عليها.
(3)
المحارم: المحرمات، حمية الندم: الاحتماء بالندم والتوبة من الوقوع في المحارم، وأصل الحمية عن الشيء هي الامتناع عنه.
(4)
محضاك النصح: اخلصا لك النصح، فاتهم: أي فاتهمهما بالغش وقابلهما بسوء الظن لأن اخلاصهما من الأمور المستحيلة.
الخير والنعيم أو تجعله على طرف الفقر فيرفض المرء هذا وذاك ويخاطبه فيقول:
إذا كان رائدك هو الشيطان وقائدك هو النفس فلا تطع أيا منهما لأن النفس من جنود الشيطان، وأن الشيطان ذو كيد عظيم، والنفس وسيلة لتنفيذ كيده. وإن زين لك الشيطان أمرا وحفزتك النفس لفعل معصية ورسمت لك طريقا سهلا فلا بد أن تعود إلى عقلك ورشدك وتحكم إيمانك وترغب عن طريق الأمارين بالسوء وبذلك تنجو من بؤس الدنيا وتنال ثواب الاخرة، ويقول له: ثم اسكب دموع الندم على فعلة فعلتها وهي محرمة، واحتم بالتوبة، وأقلع عن تكرارها والوقوع فيها. ويتفق الإمام البوصيري مع ما هدف إليه كعب من معاناة وإن كانت معاناة كعب خاصة ومعاناة الإمام البوصيري عامة، ثم ينتقل الإمام البوصيري بعد ذلك ليعتذر إلى خير البرية فيقول:
استغفر الله من قول بلا عمل
…
لقد نسبت به نسلا لذى عقم «1»
امرتك الخير لكن ما ائتمرت به
…
وما استقمت فما قولى لك استقم
ولا تزودت قبل الموت نافلة
…
ولم أصل سوى فرض ولم أصم «2»
فيدعو المرء للاستغفار عما يعلنه من قول بلا عمل، ولم يكن له من هم سوى الحديث عن الناس وكشف أسرارهم، وينصحه بأن يتزود قبل فوات الأوان بحسنات قد تنفعه يوم القيامة، وليسأل نفسه ما إن كان قد أدخر لنفسه عملا صالحا يلقي به الله.
فهذه الأبيات مليئة بالحكمة والتوجيه والإرشاد إلى التمسك بمباديء وأهداف الإسلام والقيم الإنسانية. ويقول:
ظلمات سنة من أحيا الظلام إلى
…
ان اشتكت قدماه الضر من ورم
وشد من سغب احشاءه وطوى
…
تحت الحجارة كشحا مترف الادم «3»
(1) ذي عقم: العقيم من لا يولد له.
(2)
تزودت: اتخذت زادا، نافلة: النافلة العمل الصالح على سبيل التطوع.
(3)
السغب: الجوع، الكشح: هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف وهي أقصر الأضلاع واخرها وهي من لدن السرة إلى المتن، مترف: المنعم ويقصد به المكان الناعم من الجلد، والادم: الجلد.
وراودته الجبال الشم من ذهب
…
عن نفسه فأراها أيماشمم «1»
وأكدت زهدة فيها ضرورته
…
ان الضرورة لا تعدو على العصم «2»
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من
…
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل:(أديني ربي فأحسن تأديبي) ، محمد هو صفوة الباري وخير خلقه، مدحه ربه سبحانه وتعالى بقوله الحق «وأنك لعلى خلق عظيم» ، ونبى هذه صفاته وهذه أصول تربيته وهذا منطقه وهذا سلوكه، ألا يكون أسوة حسنة؟ فيا أيها المؤمنون الذين امنتم بمحمد، ويا أيها المنكرون الذين كابرتم وعاندتم وأنكرتم بعثته وراعتكم دعوته حتى لم تعودوا تبصرون أو تحكمون العقل لتعلموا أنه يدعو إلى الحق، وأنه الصادق الأمين، وأنه الصابر العابد، وأنه الجلد الثابت، وأنه الزاهد في عرض الدنيا، ولو تحولت له جبالها ذهبا. إنه يدعوكم لما يحييكم، ويبشركم بجنة عرضها السموات والأرض، وهو الشفيع يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو الذي اثر أن يكون مع المؤمنين فيعيش مثلهم ويحيا حياتهم ويتألم لالامهم، وكيف لا؟. وهو الذي أرسله ربه بشيرا ونذيرا وقائدا ملهما، وهكذا تظهر إنسانية الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولعل الإمام البوصيري هنا يتمثل بصبر الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قاطعته قريش، في صبره على ما هو فيه من مرض وعلة، ويدعو الله لأجل رسوله أن يحن عليه ويتفضل بشفائه، وهو زاهد عن هذه الدنيا وملذاتها، ولذته في التقرب إلى الله وفي التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) راودته: خادعتهخ، الشم: العالية الشامخة الجلد الشمم والاباء.
(2)
ضرورته: حاجته، العصم: يكسر العين وفتح الصاد جمع عصمة وهي الحفظ أي أن الحاجة والضرورة لا سبيل لهما على من عصمه الله وحفظة.
ويقول:
محمد سيد الكونين والثقلين
…
والفريقين من عرب ومن عجم «1»
نبينا الامر الناهي فلا أحد
…
أبر في قول لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
…
لكل هول من الأهوال مقتحم «2»
دعا الله فالمستمسكون به
…
مستمسكون بحبل غير منفصم «3»
فاق النبيين في خلق وفي خلق
…
ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس
…
غرفا من البحر أورشفا من الديم «4»
فمحمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق جميعا، سيد الأنس والجن، سيد العرب والعجم، له مكانته التي لا تدانيها مكانة لأحد، وهو حبيب الله المرجوة شفاعته لأمته، الشجاع الذي جاء للدعوة إلى الهدى وإلى التمسك بدين الله عز وجل، عظمه ربه وقدمه على سائر الأنبياء.
ويمضي فيقول:
وواقفون لديه عند حدهم
…
من نقطة العلم أو من شكلة الحكم «5»
فهو الذي تم معناه وصورته
…
ثم اصطفاه حبيبا باريء النسم «6»
منزه عن شريك في محاسنه
…
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
دع ما ادعته النصاري في نبيهم
…
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم «7»
(1) الثقلان: الأنس والجن.
(2)
مقتحم: بفتح الحاء، مهجوم عليه ومتورط فيه.
(3)
منفصم: منقطع.
(4)
رشفا: مصا بالشفتين، الديم: بكسر الدال وفتح الحاء جمع ديمه وهي مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق، ومعنى هذا أن ما جاء به الأنبياء السابقون صلوات الله عليهم من الهدى إذا قيس إلى هدى محمد صلى الله عليه وسلم كان كغرفة من بحر أو رشفة من مطر.
(5)
الحكم: جمع حكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها.
(6)
النسم: الأرواح جمع نسمه وهي الروح أو الإنسان.
(7)
احتكم: تصرف في المدح كما تشاء.
ليؤكد الإمام البصيري أن كل الناس يقفون أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرتبة أقل من مرتبة الند والشريك، يطلبون من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جزا من علمه أو قبسا من حكمته لعلمهم أنه هو الذي خلقه الله في تمام المعنى والفعل والشكل والجسم وهو الذي قد اختاره خالق الخلق حبيبا له، وأن حسنه اكتسب من اختيار الله سبحانه وتعالى حسنا فوق حسن البشر لأن أساس الحسن في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هبة ربانية، ويذكر أن ما ادعته النصاري في سيدنا عيسى عليه السلام من الوهية هي دعوة كاذبة لا يقبلها ذو الفطرة السليمة ولا يرضاها الإسلام، وإذا تركنا هذه الدعوة الباطلة فإننا نستطيع كمسلمين أن نحكم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منحه الله الحسن عقلا والحسن معنى والحسن صورة وجسما.
ويقول:
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
…
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له
…
حد فيعرب عنه ناطق بفم
لو ناسبت قدره آياته عظاما
…
احيا اسمه حين يدعى دارس الرمم «1»
وهنا يوجه الشاعر خطابه إلى كل مسلم فيقول: قل عن الرسول ما شئت وانسب إليه ما استطعت أن تنسب من الشرف والفخار والحلم والعلم والشجاعة والكرم والأمانة ولكل هذه الصفات العظيمة والأخلاق الحميدة لا يصل إلى مكانته أحد، وإن قدر الرسول صلى الله عليه وسلم غاية العظمة، فهو عربي من نسل سيدنا إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام، فجمع الشرف والنسب، وأنه لعظمة مكانته لو ذكر اسمه لأحيا ذكره الجثث الها مدة وقامت من سباتها وكأنها دعيت إلى الحياة يوم القيامة.
(1) الدارس: البالي، الرمم: جمع رمة وهي أجساد الموتى.
ثم يقول:
لم يمتحنا بما تعى العقول به
…
حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم «1»
أعيا الورى فهم فليس يرى في الق
…
رب والبعد فيه غير منفحم «2»
كالشمس تظهر للعينين من بعد
…
صغيرة وتكل الطرف من أمم «3»
ويريد الإمام البوصيري بهذا أن يؤكد وضوح الرسالة النبوية فيقول أنها رسالة سمحة واضحة ليس فيها ما يحير العقول ولا ازدواج يجعل الناس ترتاب ولا كهانة تجعلهم يتوهون في أسرار كالنحل القديمة.
وشبه الرسالة المحمدية بالشمس في نجليها واضحة تبدو صغيرة على البعد ولكنها أن اقتربت منها تكل طرفك ولا تستطيع النظر إليها والإحاطة بها وكذلك معنى هذه الرسالة فعلى الرغم من وضوحها الشديد فإنه يحتاج إلى فهم ومعاناه من يريد الوصول والوقوف على الحقيقة الواضحة الكاملة.
ويقول البوصيري:
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته
…
قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر
…
وانه خير خلق الله كلهم
وكل اى أتى الرسل الكرام بها
…
فانما اتصلت من نوره بهم «4»
فانه شمس فضل هم كواكبها
…
يظهرن أنوارها للناس في الظلم «5»
فيطلب الإمام الشاعر إظهار حقيقة كانت خافية على الناس فعندما بعث محمد عليه الصلاة والسلام ولم يدرك قومه مكانة هذه الرسالة ولم يكن الرسول
(1) نرتب: حالة الجزم من نرتاب أي نشك، نهم: فضل بفتح النون وكسر الهاء من وهم يهم إذا أخطأ وسها.
(2)
أعى: أتعب وأعجز، منفحم: مغلوب بالحجة وقبل أن المنفحم هو الساكت عجزا في المناظرة.
(3)
تكلل: تتعب، من أمم: من قرب.
(4)
مبلغ العلم: غايته.
(5)
اي: جمع اية أي معجزة.
الكريم صلى الله عليه وسلم إلا بشرا رسولا اصطفاه ربه من بينهم، فهو خيرهم ليهداهم إلى الخير وينشر على يديه نور الإسلام وعلى أيدي صحابته يعم الافاق ويبدد ظلمات الجهالة والكفر.
ويقول:
أكرم بخلق نبى زانه خلق
…
بالحسن مشتمل بالبشر مبتسم «1»
كالزهر في ترف والبدر في شرف
…
والبحر في كرم والدهر في همم «2»
كأنه، وهو فرد من جلالته
…
في عسكر حين تلقاه وفي حشم «3»
ليؤكد أن كل ما جاء به الأنبياء من معجزات سابقة كانت قبسا من نوره الموجود منذ الأزل، ولما أصبح النور محمدا وتجسد في كيانه عليه الصلاة والسلام زانه الله بالخلق العظيم. ويشبهه الشاعر بالزهرة في نعومتها والبدر في نوره والبحر في عطائه، ويصف جلال الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه حين تلقاه منفردا فإنك تخشع أمام هيبته وجلاله وتغض النظر مهابة، فهو وإن كان فردا من أفراد البشر إلا أنك تراه عظيما يحيط به عسكره وحشمه وحاشيته.
وكذلك يقول:
كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف
…
من معدنى منطلق منه ومبتسم
لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه
…
طوبى لمنتشق منه وملتثم «4»
ولعله هنا يستعير من الطبيعة ما يستعين به في تعبيره عن أفكاره، فهو يستعير من البحر جوهره الثمين ليصف بذلك محاسن الرسول الكريم عليه
(1) مشتمل: ملفوف أي أن الحسن حاطة من كل ناحية، مبتسم: معلم أي أن بشره وطلافقة وجهة من علاماته المميزة وقيل أن متسم متصف.
(2)
ترف: أي رقة وقيل أن الترف هو النعمة والمترف هو المنعم، شرف: علو.
(3)
جلالته: عظم قدره، حشم: خدم.
(4)
الطيب: كل ذي رائحة عطرة، يعدل: يساوي، طوبي: من الطيب قلبوا الياء وواوا لضمة ما قبلها والمراد منها الحسنى والسعادة والجنة. منشق: شام، ملتثم: مقبل، أي أن السعادة لمن يشمه ويقبله.
الصلاة والسلام فهو يشبهه بلؤلؤة داخل صدفتها يحيط به الجلال من ناحيتين:
ناحية الدين والمنطق، وناحية البشاشة وحسن الاستقبال، ثم يواصل الشاعر مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الممات فيقول أنه دفن في أكرم وأعطر تربة ضمت جسده الطاهر، فهذه التربة المباركة والتي تنبعث منها رائحة الطيب تفوق رائحتها كل العطور، وبالسعادة من يتنسمها ويشمها ويالهناءة من يقبل هذه التربة الطاهرة «1» .
ومهد الإمام البوصيري لتقديم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر الصفات الحميدة الدالة على مكانة وعظمة الموصوف، فجمع بين الصبر والأمانة والوفاء والكرم والخلق والاستقامة والجمال والقوة والهيبة والجلالة والعلم والسيادة إلى الزهد والاقتناع والفضل والحلم والشرف قبل أن يقدم لنا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الإمام البوصيري:
ابان مولده عن طيب عنصره
…
يا طيب مبتدأ منه ومختتم «2»
يوم تفرس فيه الفرس أنهم
…
قد انذروا بحلول البؤس والنقم «3»
وبات ايوان كسرى وهو منصدع
…
كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم «4»
والنار خامدة الانفاس من أسف
…
عليه والنهر ساهي العين من سدم «5»
وساء ساوة أن غاضت بحيرتها
…
ورد واردها بالغيظ حين ظمى «6»
كأن بالنار ما بالماء من بلل
…
حزنا وبالماء ما بالنار من ضرم «7»
(1) هذا شرع غير جائز ولكنه لحبه للرسول صلى الله عليه وسلم كتبها.
(2)
عنصره: أصله يعنى ما أطيب بدايته ونهايته.
(3)
تفرس: ترسم وتعرف بالظن الصائب، البؤس: العذاب والخوف.
(4)
الأيوان: بيت مستطيل، كسرى: ملك الفرس، منصدع: متشق، ملتئم: مجتمع.
(5)
ساهي العين: ساكنها، سدم: هم أو غيظ مع الأحزان.
(6)
ساوة: بلد من بلاد الفرس بين الرى وهمذان، غاضت: جف ماؤها وأردها: الاتى إليها ليستقي، ظمى: عطش.
(7)
ضرم: التهاب.
ثم يتناول ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام ذاكرا أن المعجزات التي حدثت في هذا اليوم هي دلالات قاطعة على أنه مختار ومصطفى من السماء، ويذكر هذه المعجزات وأهمها ما حدث في فارس، فقد تصدع أيوان كسرى وخدمت نار المجوس، وجفت بحيرة ساوة مما أصاب الناس بالخوف والهلع لهذا الحدث العظيم، إنه مشهد درامى ينقله لنا الإمام البوصيري، فيه تفرقت جماعة كسرى، وجفت عيون الماء وأصيبوا بالظمأ، ووقع القوم في حيرة من أمرهم.
ويطرح بعد ذلك صورة طريفة لنار المجوس وبحيرة ساوة، فقد بدت النار المطفأة كأنما أصابها وابل من البلل فخبت وكأن البحيرة قد أصابتها نار هائلة فتبخر ماؤها وجفت.
ويقول:
والجن تهتف والأنوار ساطعة
…
والحق يظهر من معنى ومن كلم
عموا وصموا فاعلان البشائر لم
…
تسمع وبارقة الانذار لم تشم «1»
من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم
…
بأن دينهم المعوج لم يقم
وبعد ما عاينوا في الأفق من شهب
…
منقضة وفق ما في الأرض من صنم «2»
والمراد حين علمت الجن بمولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من خلال العلامات التي ظهرت، هتفت واستبشرت وقد سطعت أنوار السماء ابتهاجا باقتراب ظهور الحق على لسان الرسول القادم الذي سيظهر المعنى والكلمة لدين الحق من خلال القران الكريم، لكن الكافرين أصابهم العمى والصمم.
وعلى الرغم من البشارة والمعجزات التي صاحبت مولد الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الكافرين أدعوا الغافلة فلم يسمعوا هذا النداء ولم يروا هذا النور لعلمهم أن فيه نهايتهم، وعلى الرغم من إخبار هؤلاء الكفار من قبل الكهان والرهبان بأن كل
(1) لم تشم: لم تر ولم تنظر.
(2)
وفق: أي الموافق أو المماثل والمقصود من هذه الكلمة الموافقة في سقوطها لسقوط الأصنام في الأرض.
النحل والملل والأديان التي سبقت ظهور هذا الرسول قد شجبت إلا أنهم أصروا على غيهم وظلوا في ضلالهم وجهلهم وعلى الرغم من علمهم بأن أديانهم بها أعوجاج إلا أنهم ظلوا على استكبارهم وتماديهم في الباطل.
ويؤكد الإمام البوصيري جحودهم، فإنه يذكر أنهم ظلوا على غيهم على الرغم مما شاهده في الأفق من شهب تهوى من السماء منقضة كالصاعقة لتدمر أصنامهم وهياكلهم.
ويستمر فيقول:
حتى غدا عن طريق الوحى منهزم
…
من الشياطين يقفو أثر منهزم
كأنهم هربا أبطال أبرهة
…
أو عسكر بالحصى من راحتيه رمى «1»
نبذا به بعدد تسبيح ببطنهما
…
نبذا لمسبح من أحشاء ملتقم «2»
فيؤكد الإمام البوصيري أنه بمجرد نزول الوحي بدأت شياطين البشر وشياطين الجن في الانهزام الواحد أثر الاخر، فكلما حاولوا إيذاء الرسول وإيذاء من آمنوا به أنزل الله بهم الهزيمة فباتوا على كفرهم ملومين، وهذا هو أبو جهل (الحكم بن هشام) يحاول التحريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر القوم باختيار شاب قوي من كل قبيلة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ظل يسبح بحمد الله يؤمر بالخروج إليهم وإلقاء التراب براحتيه الكريمتين في وجوههم فيصيبهم العمى فلا يشعرون بخروجه ولا يتمكنون من قتله وإيذائه وهو هنا يشبه إنهزام الكافرين من شياطين الجن والأنس بأنهم كجيش أبرهة الذي
(1) أبرهة: كان ملكا لليمن من قبل نجاشي الحبشة قبل البعثة، أراد هدم الكعبة فأهلكة الله وجيشه بطير ألقت عليهم حجارة وقصته مذكورة في القران الكريم.
(2)
نبذا به: أي رميا به أي بالحصا، المسبح: المراد به يونس عليها السلام إذ قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فنبذه الحوت الذي كان قد التقمه من أحشائه، والمعنى أن معجزة محمد أو ايته هي نجاته- صلى الله عليه وسلم من قومه إذ بيتوا قتله وذلك برميهم بالحصى بعد تسبيحها في راحتيه وحجب الله له عن أبصارهم لاية نجاة يونس عليه السلام بنبذ الحوت إياه عند تسبيحه في بطنه.
سلط الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، ويشبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه وهو في داره كأنه سيدنا يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت يسبح باسم الله حتى نبذه الحوت على شاطيء الأمان.
ويقول كذلك:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة
…
تمشى إليه على ساق بلا قدم
كأنما سطرت سطرا لما كتبت
…
فروعها من بديع الخط في اللقم «1»
مثل الغمامة أني سار سائرة
…
تقيه حر وطيس للهجير حمى «2»
اقسمت بالقمر المنشق أن له
…
من قلبه نسمة مبرورة القسم «3»
ويقطع الإمام البوصيري الشك ياليقين ليقول للجاحدين بالأمس. امن من كانوا على دين النصاري، فهذا الراهب بحيرا يرى غمامة تظلل النبي دون غيره، ثم تأكد من الطعام الذي قدمه له بأنه النبي الذي جاء يبحث عنه في هذه الصحراء، فيقول لأبي طالب: أرجع بابن أخيك فإن له شأنا، هذا الراهب وقع في قلبه الإيمان قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
ويختار الإمام البوصيري إيمان الأعرابي أمام أدلة مادية، فعندما جاءه أعرابي وطلب منه إظهار نبوته أمر الأشجار أن تأتي إليه، ثم أمرها أن تعود كما كانت وبهذا الأمر خطت وسطرت الأشجار سطورا على الأرض. مؤكدة معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فامن الإعرابي بعينه بما لم يؤمن به بقلبه.
(1) اللقم: وسط الطريق.
(2)
الوطيس: التنور أي المخبر والمراد به لازمه وهو الحرارة، الهجير هو المهاجرة وهي وسط النهار أيام القيظ.
(3)
وإنشقاق القمر اية ومعجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام حينما سأله كفار مكة عن أية، فأراهم إنشقاق القمر فلقتين، كل فلق فوق جبل، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: اشهدوا، فقالوا: قد سحر محمد أعيننا فأبعثوا إلى أهل الأفاق لسؤالهم: هل رأوا مثل ما رأينا؟ فأخبر أهل الافاق أنهم رأوه منشقا، فقال الكفار: هذا سحر (البرده المباركة ص 152) .
ويشير الإمام البوصيري إلى فزع حليمه السعدية حينما أخبرها أبنها بما فعله الملكان بصدر النبي محمد عليه الصلاة والسلام وهما طفلان صغيران يمرحان فقط طرد خطر الشيطان منه.
ويقول:
وما حوى الغار من خير ومن كرم
…
وكل طرف من الكفار عنه عمى
فالصدق في الغار والصديق لم يرما
…
وهم يقولون ما بالغار من إرم «1»
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
…
خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله اغنت عن مضاعفة
…
من الدروع وعن عال من الأطم «2»
في هذه الأبيات يحكى الإمام البوصيري قصة مطاردة الكفار لرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه (أبى بكر الصديق) رضى الله عنه- وكيف أنهما بعد دخولهما الغار وبأمر من الله تعالى نسج العنكبوت نسيجا كثيفا، واستقرت الحمامة وباضت عند مدخل الغار مما جعل الكفار لا يبصرون من بداخله، ويتوهمون بأنه خال لم يدخله أحد منذ أمد بعيد، ويؤكد البوصيري أن هذه المعجزة هي وقاية من الله للصاحبين المهاجرين، وهي خير من أقوى الحصون وأشد الدروع.
ونمضي مع البوصيري في قصيدته حتى نصل إلى أبياته التالية:
ما سامنى الدهر ضيما واستجرت به
…
الا ونلت جوارا لم يضم «3»
ولا التمست غنى الدارين من يده
…
الا استلمت الندى من خير مستلم «4»
لا تنكر الوحى من رؤياه ان له
…
قلبا اذا نامت العينان لم ينم «5»
وذاك حين بلوغ من نبوته
…
فليس ينكر فيه حال محتلم «6»
(1) لم يرما: لم يبرحا ولم يزولا عنه من رام المكان إذا زال عنه وفارقه. أرم: على وزن كتف العلم والاثر والمقصود من كلمة رام في البيت المقيم.
(2)
الأطم: بضم الهمزة والطاء بمعنى الحصن وجمعها اطام.
(3)
سامني: كلمنى وحملني، ضيما: ظلما وقهرا، جوارا: أمانا وعهدا بالحماية.
(4)
الندى: العطاء، مستلم: مكان الاستلام أي من خير مصدر للجود.
(5)
رؤياه: حلمه.
(6)
محتلم: الحالم الذي يرى الحلم في النوم فحلم النبي كما يقول وحي لا ينكد.
ويريد أن يقول: عندما استجير بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من وقوع الضرر والظلم علىّ من الدهر، أجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى جواري بروحه وحكمته وبسنته لينير لي الطريق ويرفع عني الظلم، فهو صاحب الفضل على كل من يحبه، وعند التماسي الغني في الدنيا أو في الاخرة تتأكد لي عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سلمني ما التمسته، ثم يؤكد أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا حق ولا يستطيع الشيطان أن يظهر بصورته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله:
تبارك الله ما وحى بمكتسب
…
ولا نبي على غيب بمهتم «1»
كم أبرأت أوصايا باللمس راحته
…
واطلقت اربا من ريقة اللمم «2»
وأحيت السنة الشهباء دعوته
…
حتى حكت غراة في الأعصر الدهم «3»
بعارض جاد أو خلت البطاح بها
…
سيب من اليم أو سيل من العرم «4»
وفي ذلك يؤكد الإمام البوصيري أن الوحي لا يهبط على إنسان لعمل يقوم به أو بالنسب والحسب، وإنما هو قدر مقدر.
ويظهر الشاعر قدرات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على ابراء المرضى وقضاء الحاجات ورفع الكرب عن المكروبين والمأزومين، وأن السنة الطاهرة البيضاء عم بياضها الناصع كل العصور التاريخية السابقة على الرسالة حيث انتشر الظلم والفساد، فقد كانت عصورا مظلمة سوداء، أصبحت بظهور السنة المحمدية وكأنما هي أرض مجدبة قد أرسل الله عليها سحبا ممطرة فغدت خضراء مزدهرة
(1) بمكتسب: أي لا ينال بعمل من الإنسان، بمتهم: يظنون به الكذب.
(2)
أبرأت: شفيت، وصبا: مريضا، أربا: المحتاج أو الكلف بالمعاصي، ريقه: القيد، اللمم: الخطايا، وقيل أن اللمم هو الجنون.
(3)
السنة الشهباء: المجدبة، غرة: بياضا، الدهم: جمع أدهم وهو الأسود.
(4)
بعارض: بسحاب ممطر، أو خلت: أي إلى أن خلت، البطاح: الأرض المنبسطة وقيل البطاح جمع أبطح وهو ميل الماء والمقصود من أو خلت: إلى أن توهمت. السيب: الجرى، اليم: البحر، العرم: الوادي وقيل أن سيل المطر الشديد فإذا أضيفت للعرم كان معنى سيل العرم.
صالحة للحياة والأمن والاستقرار، وأن سنته المكرمة باقية أبد الدهر، فإنها نتاج دعوته للعالمين، وقد أضاءت حياتهم وأخذت بأيديهم إلى نور المعرفة وسماحة الإيمان.
ويقول:
دعنى ووصفى ايات له ظهرت
…
ظهور نار القرى ليلا على علم
فالدر يزداد حسنا وهو منتظم
…
وليس ينقص قدرا غير منتظم
فما تطاول امال المديح إلى
…
ما فيه من كرم الاخلاق والشيم «1»
ايات حق من الرحمن محدثة
…
قديمة صفة الموصوف بالقدم «2»
فيتبين أن القران الكريم عندما نزلت آياته هدى للناس ورحمة كانت ظاهرة وواضحة جلية ولا مجال لانكارها تماما كالنار التي يشاهدها الساري ليلا.
والقران الكريم في مجمله دستور منظم للحياة الإنسانية وللبشرية، ويحوي الكثير من القيم والمباديء السامية التي تهدف إلى إصلاح الأمم وكل اية من آياته تعتبر معجزة تفوق إدراك الإنسان، وهذه الايات نظمت بوحي من الله فأصبحت كالعقد المنتظم الذي يزين صدور المؤمنين.
فيؤكد الإمام البوصيري أن ايات القران الكريم عندما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت نورا يهدي التائهين في الحياة وللحياري في دروب الكفر وحانات العصيان مثلها كالنار التي كان يوقدها كرام العرب على قمم الجبال ليهتدي بها كل ضال في متاهات الصحراء، وخلاصة القول أن الإمام البوصيري يقول:
إن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانت كالنور يضيء الحياة بعد الظلام ويأخذ بأيدي التائهين إلى بر الأمان وأن المرء ليقف أمامه عاجزا عن مدحه لما فيه من حكم وبيان وهدى للنفس فتسمو به إلى أعلى مرتبة من مراتب الإيمان وأن ايات
(1) فما تطاول: فما امتداد أي كيف يمتد بالمادح أمله إلى وصف اي القران وما فيها من الحكم الرائعة وأصل جملة تطاول إلى كذا أي طلب الوصول إليه.
(2)
محدثة: أنزلها الله حديثا.
القران الكريم قديمة لأنها من كلام الله عز وجل وكانت مدونة في اللوح المحفوظ ثم نزلت متفرقة على النبي عليه الصلاة والسلام ليرشد الناس إلى حقيقة الإيمان بالله عز وجل.
ويقول الشاعر الإمام:
لم تقترن بزمان وهى تخبرنا
…
عن المعاد وعن عاد وعن ارم «1»
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
…
من النبيين إذ جاءت ولم تدم
محكمات فما تبقين من شبه
…
لذى شقاق وما تبغين من حكم «2»
ما حوربت قط الا عاد من حرب
…
اعدى الاعادى اليها ملقى السلم «3»
ردت بلاغتها دعوى معرضها
…
رد الغيور يد الجاني عن الحرم «4»
فحينما حدثنا القران عن عاد وثمود وارم ذات العماد كان يطوف بنا في دهاليز التاريخ القديم ويقص علينا أحسن القصص ويثبت لنا أنه ايات حق من الرحمن وحجة لنبيه على المنكرين، وأن هذا القران لم يقترن بزمن محدد، وإنما هو شامل لكل عصر ووقت ومعجزة القرون وستظل باقية حتى قيام الساعة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) . ألم ييأس الذين كفروا من التحدي لهذه المعجزة والإرادة النافذة؟ هل نسوا أنهم كسائر الخلق لا يصمدون للتحدي ولا يقدرون عليه؟
ألم يفكروا بأن كلام الله وكتابه ووحيه إلى نبيه أشرف الرسل وخاتمهم؟
مادام الأمر كذلك فهذا الكتاب لم ينزل ليحدث العرب عما في زمن النبي فحسب وإلا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أرسل لأهل الجزيرة فقط كغيره من الأنبياء وإنما هو قد أرسل للناس كافة ولن يأتي رسول بعده فهو وهذا الكتاب اخر تعليمات من
(1) ارم: هو والد عاد الأولى أو الأخيرة.
(2)
محكمات: أي يحتكم إليها في المنازعات وذلك بنص القران، بتغين: تطلبين. الحكم: القاضى.
(3)
الحرب: بفتح الراء اشتداد الغضب.
(4)
معارضها: الذي يحاول الاتيان بمثلها، الحرم: بضم الحاء والراء معناه هنا ما يحميه الرجل ويقاتل دون جمع حريم وهو أهل الرجل أي زوجته وأولاده.
الله إلى البشر ومن امن به وبالكتاب نجا وظفر ومن لم يؤمن كبا وكفر وخسر.
ويقول:
لها معان كموج البحر في مدد
…
وفوق جوهره في الحسن والقيم «1»
فما تعد ولا تحصى عجائبها
…
ولا تسام على الإكثار بالسأم «2»
قرت بها عين قاريها فقلت له
…
لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم «3»
ان تتلها خيفة من حرنا ولظى
…
اطفأت نار لظى من وردها الشبم «4»
كأنها الحوض تبيض الوجوه به
…
من العصاة وقد جاؤه كالحمم «5»
فيوضح الإمام البوصيري أن معاني هذا القران كالبحر الواسع الذي لا تستطيع إدراكه حيث أن هذا القران كثير العطاء لا ينتهي مدده، وأن هذه الايات بها من العجائب والحكم والمواعظ ما لا يخضع لعد أو حصر ولا يسأم المؤمن من كثرة تلاوتها، فالمؤمن الذي يقرأ هذه الايات يجد المتعة النفسية في ظلالها والقران الكريم نور الله في أرضه ومن أعتاد تلاوته وقراءته شعر بالصفاء النفسي والوجداني، وهذه هي قمة السعادة الروحية التي يحرص المؤمن على التمسك بها لأن تلاوة القران تقي المؤمن نار جهنم، ويؤكد الإمام البوصيري أن الإنسان العاصي مهما عمل من ذنوب وتمسك بعد ذلك بالقران وتلاوته وبحفظه وتفسيره وتطهر به وسار عليه فإنه يتطهر من هذه الذنوب وينير قلبه ووجهه.
ويقول الشاعر الإمام:
وكالصراط وكالميزان معدله
…
فالقسط من غيرها في الناس لم يقم «6»
لا تعجبن لحسود راح ينكرها
…
تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم «7»
(1) المدد: من البحر أو الموج، ارتفاعه وامتداده إلى البر.
(2)
لا تسام بالسام: يعني لا تقابل بالمل إذا اكتثرت تلاوتها أي يوليها السامع الضجر والملل.
(3)
قرت: برزت سرورا وانقطع بكاؤها، حبل الله: كتابه الذي فيه دينه، فاعتصم: فاحتم به.
(4)
لظى: اسم لجهنم، البم: البارد.
(5)
الحمم: جمع حمة وهي الفحم وكل ما احترق من النار.
(6)
معدله: استواء واستقامة.
(7)
الحاذق: الماهر العارف.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
…
وينكر الفم طعم الماء من سقم
أن ايات القران الكريم وهو دستور سماوي يحقق العدل في الدنيا، ومن لم يحكم به فلا يعدل أبدا، فالعدل من غير القران لا يقوم، وإن هذا القران الكريم مهما أنكره الجاهلون فهم يؤمنون بصدق وحق بما جاء به في قرارة نفوسهم، ولكن مصالحهم الدنيوية تجعلهم يحقدون على هذه الايات وينكرون حقيقتها، ولكن لا مجال للإنكار، فلا أحد يستطيع إنكار حقيقة القران ومعجزاته وآياته حتى الأعمى الذي لا يرى الأشياء المحسوسة فإنه يرى نور هذه الايات، وترشده عن طريق العقل والقلب، ومن لم يرها فهو ليس بأعمى، ولكنه جاحد لحقيقة هذه المعجزة الإلهية. ويقول مخاطبا رسول الله مادحا:
يا خير من يمم العافون ساحته
…
سعيا وفوق متون الأنيق الرسم «1»
ومن هو الاية الكبرى لمعتبر
…
ومن هو النعمة العظمى لمغتنم «2»
سريت من حرم ليلا إلى حرم
…
كما سرى الدر في داج من الظلم «3»
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة
…
من قاب توسين لم تدرك ولم ترم
وقدمتك جميع الأنبياء بها
…
والرسل تقديم مخدوم على خدم
وأنت تخترق السبع الطباق بهم
…
في موكب كنت فيه صاحب العلم «4»
حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق
…
من الدنو ولا مرقى لمنتسم «5»
خفضت كل مقام بالإضافة إذ
…
نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
(1) يمم: قصد، العافون: طلاب الفضل والرزق، ساحته: ناحيته، متون: جمع متن وهو الظهر، الأنيق: جمع ناقة وفي هذا الجمع قلب مكاني إذا أصلها أنيق فلما حدث فيها القلب صارت الأنيق، الرسم بضم الراء مشدودة والسين: جمع رسوم بفتح الراء وهي التي تؤثر إخفاقا في الأرض من شدة الوطء أو أن الرسم التي ترسم أي تعملها.
(2)
لم ترم: لم يرمها أحد لعزتها عليه، وقاب قوسين: أي مقدار القوس أي مسافة البعد بين طرفيه.
(3)
سريت: سرت ليلا، الحرم: المكان الذي لا يحل انتهاكه، والحرمات في البيت هما الحرم المكي وحرم المسجد الأقصى.
(4)
الطباق: المطابقة.
(5)
شأوا: غاية، المستبق: المسابق المباري، مرقى: مصدر ميمى بمعنى الرقي مكانا للرقي.
فها هو البوصيري يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير إنسان ظهر على وجه الأرض، وخير إنسان سعى إليه الناس مشيا على الأقدام أو ركوبا على ظهور النياق.
ثم يتحدث عن معجزة أخرى من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم بعد القران فيتعرض لذكر الإسراء والمعراج، وتدور أبيات القصيدة حول ليلة الإسراء والمعراج وكيف بدأت رحلته من مكة إلى المسجد الأقصى، ومن المسجد الأقصى إلى السموات العلا ثم الوصول إلى سدرة المنتهى، ولقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بربه وفرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته ثم العودة إلى مكة والتحدث بما رأى خلال هذه الرحلة التي لم تستغرق سوى ليلة واحدة مع ما قدم من وصف دقيق وصحيح في وضوح وتفصيل أذهل عقول المشركين وحير أفكارهم، والمقصود بالتفصيل أنه بين عظمة هذه المعجزة وهي نعمة نالها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولم ينلها قبله بشر ولن ينالها من بعده إنسان، فقد اسرى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس في فلسطين وكأنه في عصرنا هذا يركب طائرة أو صاروخا أسرع من الصوت ثم يعرج به إلى السموات العلا حيث لم يحدث هذا من قبل لأي إنسان حتى في الأساطير، وليس هذا فقط وإنما يصعد إلى سدرة المنتهى، ويكون أقرب إلى العرش العظيم، وهي غاية لم يدركها ولن تخطر على قلب بشر، ويصور رحلة الرسول عليه الصلاة والسلام تصويرا صوفيا تجلى من خلاله وجده وشوقه فيقول:
بأن جميع الأنبياء والرسل بكافة طبقاتهم قد قدموك يا رسول الله عليهم وأنت تقودهم مخترقا السموات السبع قائدا لهم في موكب لا يمكن وصفه حتى إذا وصل كل نبي عند موضع رتبته وصلت أنت إلى مكانة لم يدع إليها سابق لك ولن يدعى إليها لا حق بك حتى إنك وأنت على رأسهم أصبحت المفرد العلم.
ويقول البوصيري:
كيما تفوز بوصل أي مستتر
…
عن العيون وسر أي مكتتم «1»
فحزت كل فخار غير مشترك
…
وحزت كل مقام غير مزدحم «2»
وجل مقدار ما وليت من رتب
…
وعز إدراك ما أوليت من نعم «3»
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا
…
من العناية وكنا غير منهدم «4»
لما دعا الله داعينا لطاعته
…
بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم «5»
ليؤكد أن ما حدث، حدث بأمر من الله كي يميز الرسول صلى الله عليه وسلم عن كافة الأنبياء والرسل بميزة الصلة والقرب من الذات الالهية وبهذا فقد وصل النبي الكريم إلى أعلى مرتبة من مراتب الفخر، وتعدي كل مقام بلا مزاحمة من أحد فما أكثر ما أعطاك الله يا محمد من نعم تفوق الخيال والحصر، وكل ما سبق يؤكد لنا نحن المسلمين بأن الله قد أعطانا البشرى والخير والفرحة فكنا خير أمة أخرجت للناس، فنحن أكرم الأمم لأننا نتبع أكرم الرسل، إنه الرسول العظيم الكريم المكرم الذي حاز كل فضل وكل فخر، فطوبي لأمة الإسلام، وطوبي للتابعين، فإنا معشر المسلمين لنا من عناية الله حصانة وحجابة.
ثم يمضي الشاعر الإمام البوصيري فيصف جهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
راعت قلوب العدا أنباء بعثته
…
كنبأة أجفلت غفلا من الغنم
مازال يلقاهم في كل معترك
…
حتى حكوا بالقنا لحما على وضم
ودوا الفرار فكادوا يغتبطون به
…
اشلاء شالت مع العقبان والرخم
تمضى الليالى ولا يدرون عدتها
…
ما لم تكن من ليالى الأشهر الحرم
(1) غير مزدحم: لا يزاحمك فيه أحد.
(2)
أوليت: أعطيت ومنحت.
(3)
كنبأة: كصوت، أجفلت: شردت، غفلا: مهلة.
(4)
معترك: ميدان قتال، حكوا: اشبهوا، بالقنا: بالرماح أي بطعنها، الوضم: قطعة الخشب التي يقطع القصاب أي الجزار عليها اللحم.
(5)
يغطبون: يتمنون مثل حال غيرهم، اشلاء: جمع شلو وهو العضو من الجثة. شالت: ارتفعت، العقبان: جمع عقاب وهو طائر من الجوارح، الرخم: جمع رخمة وهي طائر أبقع يشبه النسر.
فقد فزعت قلوب المشركين والكفار وغيرهم بنبأ ظهور البعثة المحمدية وشبه الإمام البوصيري هؤلاء المشركين والكفار بقطعان من الغنم تفرقت خوفا وفزعا من ذلك النبأ الغريب على اذانهم والموقظ لجاهليتهم فوقفوا ضد هذا النبأ محاربين له مقاومين لكلمته، ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم صاحب هذا النبأ لم يتركهم وإنما حاربهم بالكلمة والسيف والرمح ولم يتركهم حتى أنهم ودوا الفرار من أمامه من شدة وطأة هذه الحرب، ويشبه فلولهم كأنها جثث ممزقة هامت عليها العقبان وجوارح الطير وكتب عليهم الضياع والقلق والاستعداد الدائم للحرب وانهم لا يدرون من أيامهم إلا أيام الأشهر الحرم التي اتفق العرب على عدم حمل السلاح والقتال فيها ولا يدرون عدتها.
ثم يقول:
كأنما الدين ضيف حل ساحتهم
…
بكل قرم إلى لحم العدا قرم «1»
يجر بحر خميس فوق سابحة
…
يرمى بموج من الأبطال ملتطم «2»
من كل منتدب لله محتسب
…
يسطو بمستأصل للكفر مصطلم «3»
حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم
…
من بعد غربتها موصولة الرحم «4»
فقد اجتمع جند المسلمين وزجوا بأنفسهم للدفاع عن هذا الدين مجيبين لدعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم راجين أن ينالوا ثواب الدنيا والاخرة، إما النصر أو الشهادة، فكلاهما له أجر، يصولون ويجولون في المعركة بخطة عسكرية محكمة، ويدافعون بثبات عن هذه الدعوة، ويقطعون دابر الكفر من جذوره لكي يبنوا بعد ذلك دولة إسلامية تتخذ كتاب الله وسنة نبيه دستورها، لا فرق
(1) القرم: بفتح القاف وسكون الراء بمعنى السيد أو الشجاع والقرم بفتح القاف وكسر الراء بمعنى المشتهى وقيل هي شدة الشهوة إلى اللحم.
(2)
خميس: جيش، وبحر خميس يعني جيس كالبحر في تموجه وزخرته، سابحة، النيل: العائمة.
(3)
منتدب: مجيب، محتسب: مدخر أجر عمله، يسطو، يصول ويثب، بمستأصل: يعني بسيف قاطع للأصل أي مبيد، مصطلم: قاطع للشيء من أصله.
(4)
الرحم: القرابة.
بين أفرادها في الحق والواجب، فقد ظهرت دولة المسلمين بعد أن كانت غريبة لا أثر لها.
ويقول الشاعر الإمام:
مكفولة أبدا منهم بخير أب
…
وخير بعل فلم تيتم ولم تئم «1»
هم الجبال فسل عنهم مصادمهم
…
ماذا رأى منهم في كل مصطدم «2»
وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا
…
فصول حتف لهم أدهى من الوخم «3»
المصدرى البيض حمرا بعد ما وردت
…
من العدا كل مسود من اللمم «4»
ويستطرد الإمام البوصيري فيقول: إن المسلمين يحرصون على الحفاظ على هذا الدين الجديد، كما يصونون المحارم، ويراعون مصلحة أبناء الشهداء كأبنائهم ويدافعون عن هذه الدعوة الإسلامية في كل زمان ومكان، وأن هؤلاء الرجال في دفاعهم عن الدعوه الإسلامية كالجبال التي تصد الرياح العاتية التي تمنع الجيوش المهاجمة ضد هذه الدعوة والدليل على ذلك ما أظهره المسلمون من بلاء حسن ضد المشركين في موقعة حنين وبدر وأحد، ويستدل على هذا برسم صورة لسيوف المسلمين وهي تنهش أجساد الأعداء بحيث أصبحت هذه السيوف حمرا بدمائهم.
ويقول:
والكاتبين بسمر الخط ما تركت
…
أقلامهم حرف جسم غير منعجم «5»
(1) لم تيتم: لم تصر يتيمة، لم تئم: لم تصر إيما أي فاقدة بعلمها أو صلى تئم من التايم وهي فقدان الزوج.
(2)
مصطدم: مكان الاصطدام أي ملتقى الجيش.
(3)
حنين وبدر وأحد: أسماء أماكن وقعت فيها بين المسلمين والمشركين وقائع مشهورة، فصول: قطع من الأخبار، حتف: هلاك، أدهى: أشد بلاء، الوخم: داء كالباسور وقيل الوخم: الوباء.
(4)
البيض: السيوف، إصدارها: جذبها من أجساد الأعداء، العدا: الأعداء.
(5)
الخط: من معاينة مرفأ السفن وكانت تباع فيه الرماح وسميت لذلك الرماح الخطية والمراد بسمر الخط الرماح السمراء، حرف الجسم: طرفه وأي ناحية فيه، منعجم: منقوط الدم وقوله ما تركت أقلامهم حرف جسم غير منعجم: أي لم تترك أسنة رماحهم طرف جسم من أجسام الكفار غير نوال عجمته.
شاكى السلاح لهم سيما تميزهم
…
والورد يمتاز بالسيما من السلم «1»
تهدى إليك رياح النصر نشرهم
…
فتحسب الزهر في الاكمام كل كمى «2»
كأنهم في ظهور الخيل نبئت ربا
…
من شدة الحزم لا من شدة الحزم «3»
طارت قلوب العدا من بأسهم فرقا
…
فما تفرق بين البهم والبهم «4»
فيستطرد الإمام البوصيري ليصف فرسان المسلمين بأن رماحهم كانت تصل إلى أجسام الأعداء ولا تترك لهم جزا إلا وبه طعنة رمح أو ضربة سيف، وهذه الأسلحة التي كانت عند المسلمين تمتاز بقوة فتكها وإن الرياح كانت تنقل أخبار نصرهم وتحمل معها رائحة عطرة ندرك من خلالها حلاوة النصر.
ويشبه المسلمين في حزمهم وثباتهم وثقتهم بأنفسهم وهم على ظهور خيلهم كأنهم نبات ضارب بقوة في أرض قوية، وهذا النبات مرده إلى الثقة بالنفس والعقيدة التى اندفعوا للدفاع عنها وليس مردة قوة ربط الحزام وإمساكهم اللجام وعند لقائهم بالأعداء انخلعت قلوب هؤلاء الأعداء من شدة بأسهم وتفرقوا في كل مكان يستوى في ذلك منهم الجبان والشجاع كالماشية حينما تجفل من الخوف.
ثم يقول الشاعر الإمام: -
ومن تكن برسول الله نصرته
…
ان تلقه الأسد في اجامها تجم «5»
ولن ترى من ولى غير منتصر
…
به ولا من عدو غير منقصم «6»
(6) شاكو السلاح: ذو وشوكة واحدة في أسلحتهم، سيما: علامة، السلم: شجر له شوك يشبه شجر الورد وقيل شجر يدبغ به، تميزهم: تعينهم عن غيرهم لهم سيما تميزهم، لهم علامة تميزهم عن غيرهم.
(1)
نشرهم: رائحتهم، الأكمام: جمع كم بكسر الكاف: وهو غطاء الزهر، الكي: الشجاع ولا بس الة القتال.
(2)
ربا: جمع ربوة وهي الأرض المرتفعة، الحزم: بفتح الحاء وسكون الزاي ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة، الحزم: بضم الحاء والزاي: جمع حزام وهو ما يشد بمسرج الفرس أو ما يشد به الوسط.
(3)
بأسهم: شددتهم، فرقا: خوفا، البهم: بفتح الباء وسكون الهاء وهي السخلة البهم بضم الباء وفتح الهاء جمع بهمة وهو الشجاع الذي يستبهم مأثاة على أقرانه أي تخفي عليهم مقاتله.
(4)
اجامها: غياباتها، تجم: تسكت غما وكمدا.
(5)
منقصم: منكسر.
احل امته في حرز ملته
…
كالليث حل مع الأشبال في أجم «1»
كم جدلت كلمات الله من جدل
…
فيه وكم خصم البرهان من خصم «2»
كفاك بالعلم في الأمى معجزة
…
في الجاهلية والتأديب في اليتم
ثم يقول الإمام البوصيري: من يستنصر بالله ورسوله لا يقف في طريقه أحد حتى الأسود في عرينها لا تتحرك لمواجهته، ولن نجد أحد منصورا إلا إذا كان مستمدا نصره من رسول الله، ولن نجد عدوا له منكسرا مهزوما، فالرسول يحمي أمته في حصنه المنيع ألا وهو الإسلام، كالأسد يحمي أشباله في غابته، وكثيرا ما جاء المنافقون والمجادلون بالبراهين والأدلة على أنهم على حق، ولكن كلمة الله هي العليا نصرة لرسوله والإسلام، فكانت براهينهم وأدلتهم كالهباء المنثور، ومجادلتهم كانت عظيمة، وتكفيهم معجزتك يا رسول الله إنك أمي لا تعرف القراءة والكتابة، ولكنك كنت عالما بما أوحى الله إليك، ومع إنك يتيم فقد شهد لك الجميع بأدبك وحميد أخلاقك ولا غرو فقد رباك الله على عينه فأحسن تربيتك.
ثم يتوسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
خدمته بمديح استقبل به
…
ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم «3»
إذ قلدانى ما تخشى عواقبه
…
كأننى بها هدى من النعم «4»
اطعمت في الصبا في الحالتين وما
…
حصلت الا على الاثام والندم «5»
(1) حرز: حصن، الليث: الأسد، الأشبال: جمع شبل وهو ولد الأسد، أجم: جمع أجمه وهي الغابة.
(2)
جدل: صراع الجدالة: الأرض، جدلت: رمت في الأرض، جدل: بكسر الدال هو كثير الجدل وبفتح الدال الخصام والخصام بفتح الصاد غلب في الخصام، خصم بكسر الصاد مخاصم أو شديد الخصومة.
(3)
استقيل: أطلب الإقالة أي العفو، الخدم: جمع خدمة وهي المهنة والعمل للناس.
(4)
قلداني: فرضاني والمراد هنا الزماني، النعم: الإبل والشاء، الهدى: ما يهدي به إلى الحرم من النعم ليذبح.
(5)
غي: ضلال، الصبا: الشباب، الإثام: الذنوب.
فياخسارة نفس في تجارتها
…
لم تشتر الدين بالدنيا ولم تسم «1»
ومن يبع اجلا منه بعاجله
…
يبن له الغبن في بيع وفي سلم «2»
فيوضح الإمام البوصيري أن مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس إلا محاولة لطلب الشفاعة منه عن ذنوب ارتكبها في أيامه الماضية سواء في شعره أو في عمله الدنيوى لقد أوردنه الشعر والعمل مورد التهلكة، وساقاه إلى ما تخشى عواقبه كأنه هدى يساق ليذبح ويقول، وبالشعر والعمل السيء ما جنيت إلا الذنوب والندم، فيتوجع ويبكي بما قدم في أيامه السابقة إذ فضل الدنيا على الدين وكانت هذه هي الخسارة الكبرى.
ويصل البوصيري إلى الخلاصة الحكيمة التي انتهى إليها فكره ووجدانه وهي أن من يبيع اخرته بملذات دنياه فهو الخاسر في الدنيا والاخرة.
إذ يقول:
ان ات ذنبا فما عهدى بمنتقض
…
من النبي ولا حبلى بمنصرم «3»
فإن لى ذمة منه بتسميتى
…
محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم «4»
ان لم يكن في معادى اخذا بيدى
…
فضلا والا فقل يازلة القدم «5»
حاشاه أن يحرم الراجى مكارمه
…
أو يرجى الجار منه غير محترم «6»
فيتوجه البوصيري مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم معتذرا متوسلا به فيقول: إن كنت قد اذنبت فما ذلك من كفر أو نكث عهد أو جحود أو قطع لأسباب الوصال لأن
(1) سم البائع السلعة: عرضها للبيع، وسامها المشترى: طلبها للشراء.
(2)
الغبن: الخديعة في البيع والشراء، السلم: نوع من البيع يؤجل فيه تسليم المبيع أو هو البيع المؤجل الدفع.
(3)
بمنتقض: بمنكوث أي محلول، منصرم: منقطع.
(4)
ذمة: عهدا والذمم العهود.
(5)
في معادي: العودة إلى دار الجزاء يوم القيامة، الأخذ باليد: الخلاص من الشدة، فضلا: تبرعا، تطوعا. الزلة: العثرة والسقطة وزلة القدم هي الوقوع في الشدة وتعذر الخلاص منها.
(6)
حاشاه: إنزه صلى الله عليه وسلم ، يحرم: يمنع، الراجي: من الرجاء أي الأمل في الحصول على الشيء، المكارم: جمع مكرمة وهي الفضل والخير والمراد هنا الشفاعة، الجار: المستجير.
لي به انتسابا، إن اسمي محمد فأنا على العهد بإيماني وبأسمي، والرسول أو فى الخلق بالعهود، فإذا لم يأخذ بيدي رسول الله ولم يكن شفيعى في اخرتى بفضله وكرمه أكون من الخاسرين.
ثم يقول الشاعر الإمام:
ومنذ الزمت أفكارى مدائحه
…
وجدته لخلاصى خير ملتزم «1»
ولن يفوت الغنى منه يد تربت
…
ان الحيا ينبت كالأزهار في الأكم «2»
ولم ارد زهرة الدنيا التي اقتطفت
…
يدا زهير بما اثنى على هرم «3»
ويريد منذ أن تحرك عشقى لرسول الله ومنذ أن هز وجداني حب الرسول ومنذ أن هامت روحى حول رحابه وتعلق قلبي به وبالملة السمحاء تحرك يراعي فأوقفت شعرى على مدحه والقيت عليه أحمال ذنوبي ورجوته للشفاعة، ووجدت فيه المتكفل بخلاصي من هذه الاثام والذنوب وبخلاصي من نفسي الاثمة- عندما فعلت ذلك هاجرا حياة الصبا وشطحات النفس ووسوسة الشيطان ووجدت من سنته خير شفيع وناصح، وعافت النفس عرض الدنيا ورجوت ثواب الاخرة، لا كما فعل اخرون مثل زهير بن أبي سلمى عندما مدح هرم بن سنان.
ويقول مناجيا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا أكرم الخلق مالى من الوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم «4»
ولن يضيق رسول الله جاهك بى
…
إذا الكريم تجلى باسم منتقم «5»
(1) ملتزم: متكفل، مدائح: جمع مديح وهو الثناء الحسن.
(2)
تربت اليد: اشتد فقرتها وكأنها ألتصقت بالتراب، الحيا: المطر، الأكم: جمع أكمه وهي الربوة أي المرتفع من الأرض.
(3)
زهير: هو زهير بن أبي سلمى الشاعر المعروف، أثنى: من الثناء وهو المدح أي مدح.
(4)
الوذ به: احتمى به والجأ إليه، حلول: وقوع وحدوث، الحادث العمم: الهول الشامل، يقصد يوم القيامة، لأن العمم هو العام الشامل للجميع.
(5)
الكريم: المتجاوز عن الذنوب وهو المولى عز وجل، تحلي: أتصف، المنتقم: المعاقب.
فان من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم «1»
فيناجي البوصيري رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدّ مناقبه، إنه أكرم خلق الله عند الله، لقد اختصه بشفاعته يوم القيامة دون الأنبياء فيكون ملاذا لجميع المؤمنين والاملين في شفاعته يوم الحساب فالرسول صلى الله عليه وسلم لن يضيق بي يوم القيامة حين استنجد بشفاعته لذنوب ارتكبتها في الدنيا عندما يحاسب الله عباده يوم العرض عليه، ومن كرم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يشمل المؤمنين برعايته وشفاعته ففي الدنيا كل خير وإصلاح وسنته الشريفه خير سبيل، وفي الاخرة هو الشفيع للمؤمنين فهو واحده الذي يعلم علم اللوح والقلم بما أنزله الله سبحانه وتعالى من قران هدى به البشر والأمم. ثم يقول:
يا نفس لا تقنطى من زلة عظمت
…
ان الكبائر في الغفران كاللمم «2»
لعل رحمة ربى حين يقسمها
…
تأتى على حسب العصيان في القسم «3»
يا رب واجعل رجائى غير منعكس
…
لديك واجعل حسابى غير منخرم «4»
والطف بعبدك في الدارين ان له
…
صبرا متى تدعه الأهوال ينهزم «5»
فيؤمل الإمام البوصيري نفسه مخاطبا إياها ألا تيأس من كثرة الذنوب التي ارتكبها لأن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد التائب مهما عظمت ذنوبه وأن هذه الذنوب لا تعظم على الله في غفرانه وأن الله سبحانه وتعالى يشمل من يشاء برحمته.
(1) الجود: الكرم، الدنيا: خير الدنيا والمقصود نعمة الإسلام، ضرتها: معناها في أصل اللغة عدوتها والمقصود هنا الاخرة وخيرها بنعيم الجنة أو تكرم رسوا الله صلى الله عليه وسلم علينا بالشفاعة يوم القيامة وكل هذا من فضله وكرمه.
(2)
القنوط: اليأس، الزله: الذنب الكبير، عظمت: كبرت، الكبائر: جمع كبيرة الذنوب العظيمة، الغفران: المغفرة، اللمم: الذنوب الصغيرة.
(3)
حسب: بفتح الاسين مقدار، القسم: بكسر القاف وفتح السين جمع قسمة وهي ما يقسمه الله تعالى لخلقه أي يعطيهم نصيبهم.
(4)
الرجاء: الأمل، منعكس: مقلوب وراجع ومخالف للظن، لديك: عندك، حسابي: المراد هنا الاعتقاد، منخرم: منقوض، منقطع.
(5)
الطف: أرفق، الدارين: الدنيا والاخرة، الهول: الأمر الكبير المشقة، الانهزام: الهرب.
ويدعو الله ألايرد عليه رجاءه وأمله وأن يجعل حسابه غير منقوص من الرحمة وأن يشمله بلطفه عند المحن لأن صبره لا يقوى على مجابهة الشدائد.
ويقول الشاعر الإمام: -
وأذن لسحب صلاة منك دائمة
…
على النبي بمنهل ومنسجم «1»
ما رنحت عذابات البان ريح صبا
…
وأطرب العيس حادى العيس بالغنم «2»
ويرجو الإمام البوصيري من الله عز وجل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة مستمرة كالمطر رقيقة ومنسجمة وكأن هذه الصلوات الطيبات التي يرسلها الله على النبي رقيقة كرقة غصن البان أو كأنغام صوت حادي الإبل يردد أنغامه لتطرب به الإبل وتستمر في مسيرتها حيث المقصد.
وقد ورد بيتان ذكر بعض الشراح بأنهما تذييل للقصيدة يقول فيها الشاعر:
ثم الرضا عن أبى بكر وعن عمر
…
وعن على وعن عثمان ذى الكرم «3»
والال والصحب ثم التبابعين فهم
…
أهل التقى والنقى والحلم والكرم «4»
كما وردت عدة أبيات أخرى نسبت إلى الإمام البوصيري وإلى البردة ذكرت في بعض الكتاب ولم تذكر في بعض الاخر، وقد أورد المحقق والناقد فتحي عثمان في طبعة دار المعرفة لعام 1973 م أن هذه الابيات وردت خارج البردة، وهذه الابيات تضم مديحا ودعاء لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين.
(1) إذن: بمعنى الإباحة والسماح، سحب: جمع سحاب وهو الغيم والمقصود هنا الكثرة.
(2)
رنحت: أمالت وهزت، هذبات: جمع عذبه وهي الغصن، البان: نوع من الشجر لطيف الأغصان طيب الرائحة، الصبا: الريح الشرقية، الأطراب: أحداث الطرب أي السرور العيس: جمع الأعيس للذكر وعيساء للأنثى وهي كرائم الإبل التي تتميز باللون الأبيض الذي يخالطة شقرة أو ظلمة، الحداء: بضم الحاء هو الغناء، حادي العيس: قائدها الذي يسوقها ويغني لها لتسير في نشاط، النغم: جمع نغمه وهي التطريب في الغناء.
(3)
الرضا: في أصل اللغة الاختيار وأيضا عكس الاسخط وهو الغضب.
(4)
الال: أهل بيت النبوة رضوان الله عليهم، الصحب: الصحابة، التقى: خشية الله تعالى النقي: النقاء الخلو من العيوب والخلو من الخطايا، الحلم: سعة الخلق ضد الغضب.
فيقول:
يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا
…
واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم «1»
واغفر الهى لكل المسلمين بما
…
يتلوه في المسجد الأقصى وفي الحرم «2»
بجاه من بيته في طيبة حرم
…
واسمه قسم من أعظم القسم «3»
وهذه بردة المختار قد ختمت
…
والحمد لله في بدء وفي ختم «4»
أبياتها قد أتت ستين مع مائة
…
فرج بها كربنا يا واسع الكرم «5»
وإني أرى أن هذه الأبيات قالها الأمام البوصيرى ليؤكد أن البردة تضم مائة وستين بيتا وهذه الأبيات الخمسة تعتبر خاتمة وتذييلا ليحدد به عدد أبيات البرده من ناحية ولتكون هذه الأبيات الخمسة السهلة في البنى والمعنى تتمة لدعاء المسلمين.
(1) بلغ: من البلاغ أي الوصول، مقاصدنا: أهدافنا ومرادن، أغفر: أصل الغفر هو الستر أي أستر وأصفح.
(2)
المسجد الأقصى: بيت المقدس، الحرم: الكعبة المشرفة.
(3)
جاه: قدر ومنزلة وعزة من الوجاهة وهي رفعة القدر وعظم المرتبة، طيبة: المدينة المنورة ومن أسمائها المحببة المحبوبة، يثرب، الناحية، المباركة.
(4)
المختار: هو سيدنا المصطفى، ختمت: انتهت، الحمد: الشكر.
(5)
ستين مع مائه: مائه وستون، فرج: الفرج هو الخلوص من الشدة، الكرب: الهم.
رقم الإيداع بدار الكتاب القطرية 419 لسنة 1987 م
الفصل الثالث أمير الشعراء ونهج البردة
أمير الشعراء ونهج البردة ولد أحمد شوقي في حي من أحياء القاهرة يسمى (الحنفي) في اكتوبر عام 1870 «1» من أسرة اختلط فيها الدم العربي بدماء أخرى.
ويقال أن جدته كانت وصيفة في قصر الخديوي اسماعيل دخلت بحفيدها حين كان في الثالثة من عمره على الخديوي، فنظر إليه فوجد بصره مشدودا إلى السماء فيطلب بدره من الذهب رماها عند قدمي الطفل، فتحولت عين الطفل إليها وأخذ يلعب بها.
فقال الخديو لجدته: افعلي ذلك معه حتى يتعود، فأجابت إجابتها المشهورة (هذا دواء لا يخرج إلا من صيد ليتك) فقال: تعالي به إلى متى شئت حتى أنثر الذهب تحت قدميه، وقد عاش أحمد شوقي معها في جو مترف فنشأ نشأة ارستقراطية.
دخل شوقي وهو في الرابعة من عمره (كتاب الشيخ صالح) وكانت الدراسة فيه تعتمد على التلقين والحفظ، ثم انتقل إلى مدرسة المبتديان الابتدائية فوجد أن الوسط التعليمي فيها مما يروقه، فانتعشت نفسه، ومال إلى الدرس والتطلع إلى المعرفة، فواصل التحصيل ثم انتقل إلى التجهيزية، وهناك تفوق تفوقا عظيما فكان ترتيبه الثاني على المدرسة كلها.
وينتهي شوقي من دراسته الثانوية في سن مبكرة (1885) ثم ينتهي من دراسة الحقوق والترجمة عن الفرنسية (1889) وكان في أثناء دراسته للحقوق يتلقى نوعا اخر من الدراسة الأدبية إذ تتلمذ على يد الشيخ/ حسين المرصفي وقرأ معه كتاب (الكشكول) لبهاء الدين العاملي، وشعر البهاء زهير، وكذلك اتصل بالشيخ حفني ناصف ولم يكد ينل إجازة مدرسة الترجمة حتى دعاه الخديوي توفيق وهنأه ووعده بالحاقه بالعمل في القصر، وظل شوقي ينتظر تحقيق هذا الوعد إلى
(1) كانت مصر تحت حكم الخديوي إسماعيل.
أن صدر قرار بإيفاده في بعثة دراسية إلى فرنسا ليدرس الحقوق، واختار له جامعتي مونبلييه وباريس ليلتحق بهما على التوالي، ونصحه بألا يغافل عن دراسة الأدب الفرنسي إلى جانب دراسته للحقوق، ولعل (توفيقا) كان يهدف من ذلك أن يصقل شوقي موهبته الشعرية ليصبح فيما بعد شاعر القصر (وأحاطت بالشاعر مظاهر العناية والرعاية ذلك أن الخديوي قد كتب إلى مدير البعثة المصرية في فرنسا يأمره بالاهتمام بأمر شوقي) ، وكانت باريس تعج أثناء إقامة شوقي بالمذاهب الأدبية والفنية المختلفة، فضلا عن النشاط المسرحي العريض، فجذب ذلك (شوقي) الذي خضع على وجه الخصوص لشعر شعراء ثلاثة هم:
(فيكتور هيجو، والفريد دي موسيه ولا مرتين) .
وبعد أن نال شوقي إجازة الحقوق عاد إلى وطنه فألحق بالديوان الخديوي حيث ظل موضع رعاية الخديوي عباس الثاني ونشأت بين حاكم مصر والشاعر علاقة ود وثيقة تمثلت في إيفاد شوقي في بعض مهامه السياسية، ويحب الخديوي شاعره، ويختار له زوجة، هي أبنة رجل ثري كريم، فتتحسن أحواله، وتقبل عليه الدنيا، ويظل الشاعر متعلقا بولي نعمته.
وفي عام 1914 «1» نفى الشاعر إلى اسبانيا ومكث في منفاه خمس سنوات.
وحين أعلنت الهدنة إثر الحرب العالمية الأولى، أصبح من حقه أن يتجول في أسبانيا حسبما يريد، فتنقل بين مدنها الكبيرة، وشاهد اثار مجد العرب والعروبة في جنتهم المفقودة، وحاز لنفسه ثقافة تاريخية عميقة بفضل ما قرأ من تاريخ العرب في الأندلس، وأخذ يتعمق في دراسة الشعر الأندلسي واستيقظت روح الشاعر بعد سبات عميق وامتد بصره إلى أعماق تاريخ العرب.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، تلكأت الحكومة المصرية بوحي من الإنكليز في استدعاء الشاعر من منفاه، وما أن بلغ القاهرة حتى خرج الشعب المصري عن بكرة أبيه يستقبله ويحتفي به، ولقد حمله على الأعناق والدموع تنهمر من العيون إذ اعتبره شعبه بطلا من أبطاله، لا يهادن الاستعمار ولا يتواطأ مع
(1) الذي خلع فيه الخديوي.
الأعداء على حكام وطنه ولا على أبناء شعبه، ويلتفت شوقي إلى وطنه ويزجى إليه كل ما في نفسه من الحب والود فيقول: -
يا وطني لقيتك بعد يأس
…
كأني قد لقيت بك الشبابا
وكل مسافر سيؤوب يوما
…
إذا رزق السلامة والإيابا
أدير إليك قبل البيت وجهي
…
إذا فهت الشهادة والمثابا
ولا ينسى في فيض العاطفة الجياشة أن يذكر شباب مصر وقد خفوا لاستقباله ذلك الاستقبال الرائع، تقديرا له فيقول: -
وحيا الله فتيانا سماحا
…
كسوا عطف من فخر ثيابا
ملائكة إذا أحبّوك يوما
…
أحبك كل من تلقى وهابا
وإن حملتك أيديهم بحورا
…
بلغت على أكفهم السحابا
وعاد شوقي إلى وطنه فوجد أرضه مخضبة بدماء الشهداء وكل شيء فيه يتحول ويتغير، فظل ملتصقا بالشعب يعيش حياته الجديدة.
فجعل بيته منتدى الأدباء والشعراء وكبار رجال عصره وقد زاره عام (1926)(طاغور) شاعر الهند الكبير.
وفي عام 1927 اختير عضوا في مجلس الشيوخ المصري وانتهز محبوه وأصدقاؤه المناسبة فأقاموا حفل تكريم استحال إلى مهرجان قومي عربي عظيم اشتركت فيها وفود الدول العربية وقد أعلن فيه تتويج أحمد شوقي أميرا للشعر العربي وأعلن حافظ إبراهيم باسمه وباسم شعراء العرب مبايعتهم له بإمارة الشعر في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
بلابل وادي النيل بالمشرق أسجعى
…
بشعر أمير الدولتين ورجّعى
أعيدي على الاسماع ما غردت به
…
براعة شوقي في ابتداء ومطلع
إلى أن يقول: -
أمير القوافي قد اتيت مبايعا
…
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
لقد حقق شوقي مجدا أدبيا بصلاته بالشعوب العربية يشاركها أفراحها واتراحها وأصبح أمل الشباب فيها، وصار شعره يردد في كل مكان، وظل متربعا
على عرش إمارة الشعر العربي بقية حياته.
وكان شوقي يتمتاع برؤية حضارية لافتة للنظر ومثيرة للبحث والتقصي، فإنه واسع الاطلاع، وملم إلماما واعيا بتاريخ مختلف الأمم ولا سيما تلك التي يتصل تاريخها اتصالا مباشرا بتاريخنا العربي والإسلامي، ومن الطبيعي أن ينحاز شوقي في أغلب أشعاره إلى حضارة أمته العربية إزاء مواجهة الحضارات الاخرى، واحتفى بالتراث الكلاسيكي اليوناني والروماني، كما احتفى بتراث أمته العربي والإسلامي.
وقد ألم شوقي بشيء من فكر أرسطو السياسي وربما اطلع على نظام الاثينيين وإلا فكيف نفسر قول شوقي في الهمزية النبوية مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: -
داء الجماعة من ارسطاليس لم
…
يوصف له- حتى أتيت- دواء
فرسمت بعدك للعباد حكومة
…
لا سوقة فيها ولا امراء
فالشاعر يقول أن أفكار أرسطو السياسية لم تحل مشكلة الحكم حتى تفاقمت على مر العصور وحتى جاءت الرسالة النبوية ورسمت للناس حكما لا سوقة فيه ولا أمراء أي أن الحكومة الإسلامية هي الحل لكل مشاكل السياسة، ومن المدهش حقا أن شوقي يبدي الماما عميقا ببعض دقائق الفكر الأغريقي، ففي ثنايا حديثه عن الديانة الإسلامية السمحة الغراء يقول في الهمزية أيضا ما يثير الانتباه ويلفت النظر:
بنيت على التوحيد وهي حقيقة
…
نادى بها سقراط والقدماء
وليس غريبا أن يعرف شوقي قصة سقراط (469- 399 ق م) الذي حوكم بعد أن الصقت به تهمة افساد الشباب والاعتقاد في الهة غريبة غير تلك الالهة التقليدية التي كان يؤمن بها أهل زمانه في أثينا، إن قصة سقراط هذه مشهورة ولا شك أن شوقي قد عرفها.
وتأثر شوقي بشعراء عرب قدامى كثيرين منهم ابن زيدون الذي نجد التقارب عظيما بينه وبين شوقي، ويظهر هذا التقارب في نونية شوقي التي عارض
فيها نونية ابن زيدون:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
…
نشجى لواديك أو نأسى لوادينا
ويلاحظ أن نونية ابن زيدون كلها لوعة وحرقة وشكوى من البين والأعداء والزمن معاتبا ولاده.
أما شوقي فاستهل قصيدته بمناجاة طائر حزين يرسل شجواه بوادي الطلح وكأنه يعبر عن حزنه ولوعته مسترسلا في مناجاته رغم أحزانه وفراقه لوطنه.
ووقف خاشعا أمام المتنبي وشعره وأشاد بكثير من الشعراء مثل: أبي فراس وأبي العلاء، وأبي العتاهية، والعباس بن الأحنف، والبهاء زهير، والبحتري.
وقد عارض شوقي طائفة من فحول شعراء العرب ومنهم البوصيري في قصيدته المشهورة (البردة النبوية) فقد عارضه شوقي بقصيدته (نهج البردة) ، وقد جاراه شوقي مستلهما نفس العناصر الفكرية التي صورها من حيث الغزل الصوفي وبيان حبه للرسول صلى الله عليه وسلم ثم تحذيره النفس من غرور الدنيا.
وتتسع دائرة الثقافة والابداع عند شوقي حيث تعامل مع التراث القديم بنظرة شاملة تواحد ما بين الشرق والغرب وما بين المحافظة والتجديد في ان واحد، وقرأ شوقي الأدب الانجليزي وتأثر بمسرحيات شكسبير، كما يظهر من خلال مسرحيته (مصرع كليوباترا) ، كما تأثر بالثقافة الأوربية واختلف إلى مسارح الغرب ورأى أمام عينيه حركات التجديد الشعرية وقد أخذ بحركات التجديد التي سادت في مطلع القرن العشرين وقرأ أشعار المجددين وحاول أن يسير على إثرهم كما فعل في الأدب العربي ورأى في الأفق الغربي عالما اخر لا بد من الإفادة منه، فأخذ يقلد خرافات لا فونتين وغيره، ويعتبر شوقي رائدا للمسرح الشعري في العالم العربي إذ إنه أول من كتب المسرحية الشعرية مسرحية (مجنون ليلى) ثم ست مسرحيات أخرى.
ولمعرفة شوقي على الصعيد الثقافي نجد أنه قد عاصر مرحلتين مهمتين في تاريخنا الأدبي هما مرحلة الأحياء ومرحلة التجديد.
في المرحلة الأولى: مرحلة إحياء التراث القديم فقد حاول تطوير فنه داخل الشكل القديم وبخاصة في المقدمة الغزلية أو الخمرية أو المدح متأثرا بسلفه العظيم محمود سامي البارودي في شعر الوصف ثم شعر الوجدان والشعر الوطني.
أما في المرحلة الثانية: التي عاصرها شوقي فهي معاصرته لمدرسة التجديد الرومانسية التي تنسق رؤيتها الأدبية مع الفلسفة الاجتماعية والفكرية للطبقة المثقفة الجديدة التي استمدت ثقافتها من أوربا فما الفن- في مفهومها- إلا تعبير عن الذات سواء أكان هذا التعبير تغنيا بالامال الفردية أو بكاء عليها أو هروبا من ضغوط المجتمع إلى رحابة الطبيعية، وهذه المدرسة دخلت عالم الشعر بثقافة جديدة تستمد جذورها من الأدب الأوربي ويفهم جديد مغاير لماهية الشعر القديم ووظيفته.
وننتهي من هذا كله إلى أن شوقي عاصر مدرستين أدبيتين، وأنه لم ينتم لمدرسة معينة منهما فلا هو كلاسيكي ولا رومانسي، ولكنه استطاع أن يعبر الحدود، ويحطم القيود، وشخص ببصره في كل شيء فاستطاع أن يكتب في كافة أغراض الشعر قديمه وحديثه، بل أضاف إلى استخدامات الشعر استخدام المسرح الشعري من مأساة وملهاة.
وكان شوقي بقصائده الإسلامية حربا على أعداء الإسلام، التي أشاد بالإسلام فيها ومجده، وأثبت بها إيمانه العميق بقدسية وجلال هذا الدين الحنيف، فقد كان رحمه الله قارئا للقران الكريم والأحاديث النبوية، وكان عميق الإيمان، لم يذكر اسم الله مجردا قط بل كان يتبعه بقوله: سبحانه وتعالى ولم يذكر اسم النبي إلا وقال صلى الله عليه وسلم، وإذا رأى جنازة مارة أمامه وقف خاشعا معظما لها، رافعا سبابته بالتشهد، طالبا الرحمة داعيا بحسن المقام في الاخرة. وكان سمحا ضحوكا خفيف الروح، يحب الخلوة إلى نفسه، وكان يكره الموت أو التحدث عنه، متواضعا، لم يتعال على إنسان مهما صغر شأنه، وفي أيامه الأخيرة وبالتحديد في السنتين الأخيرتين من عمره تغيرت عادات شوقي، فامتنع عن كل
ما يغضب الله واقتصر في حياته على القراءة في كتب الدين الإسلامي فقها وتشريعا وسنة وجعل لكل حركة من حركاته بداية، هي اسم الله، وقد أصيب في أثناء ذلك بمرض عضال ألح عليه واحتار الطب في الداء فما كان من شوقي إلا أن اقتدى بصاحب البردة الإمام البوصيري حينما تشفع بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرئه الله من مرضه فشفاه، تشفع شوقي بالرسول خاشعا ممتثلا طالبا الشفاء والصحة فشفاه الله. وكانت لهذه الحادثة أثرها على شوقي فعاش بقية حياته يعيش عيشة الخاشعين المقدسين لله التابعين باحسان لماثر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وقد برزت هذه الصفات الإسلامية من خلال مشاعره وأحاسيسه المرهفة في أشعاره الأخيرة التي غلب عليها طابع التدين والاقتراب من الإسلام والبعد عن كل ما نهى عنه الدين الحنيف، وبرزت أشعاره خالصة صادقة نابعة من وجدانه الذي تجدد بعمق إيمانه واتفقت عواطفه مع عواطف إخوانه المسلمين في أنحاء البلاد الإسلامية فكان معبرا عن عواطفهم الدينية محلقا في الافاق البعيدة باحثا ببصيرته في ملكوت الله سبحانه وتعالى فيصيبه الذهول من روعة وقدرة الخالق القادر على ما أبدع فتتصدع نفسه أكبارا ورهبة، وتنهمر دموعه خشوعا وتقديسا وتكريما لرب العالمين فيخر ساجدا وتنهمر أشعاره كما تنهمر دموعه راجيا عفو الله ومغفرته ما جناه في أيام شبابه وظل هكذا في خشوع وتبتل ودعاء لرب العالمين إلى ليلة الثالث عشر من أكتوبر عام 1932، وفي تمام الساعة الثانية صباحا حين فارقت الروح الجسد، وتمزقت أوتار قيثارة الشرق وانهارت قمة من القمم الشعر والأدب العربي في العصر الحديث؛ مات شوقي وارتفع النواح والنشيج في العالم العربي والإسلامي، ورثاه كافة الشعراء حتى شاعر الهند العظيم (رابندنات طاغور) ، وشاعر باكستان العظيم (محمد إقبال) ، وأفل النجم الأدبي الذي خرج من حارات مصر بعد حياة حافلة بالصراع الوطني والديني وبعد اثرائه المكتبة العربية بديوان عظيم ومسر حيات شعرية عظيمة.