الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موازنة بين الأغراض الشعرية للقصائد الثلاث
1- في الغزل:
كل القصائد العربية الكلاسيكية تنهج بالشكل منهجا واحدا، هذا المنهج هو أن تبدأ القصيدة بغرض ثابت يلتزم به الشعراء مهما يكن الغرض الرئيسي للقصيدة مدحا أو هجاء أو نسيبا أو فخرا أو رثاء وغيرها من هذه الأغراض الأساسية، وهذا الغرض الذي يبدأون به قصائدهم إما أن يكون غزلا في محبوب، أو بكاء على طلل أحبة قد تركوه إلى موطن اخر، ونستشهد على هذا بقول كثير غزة في قصيدته الشهيرة:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا
…
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وقول طرفة بن العبد في معلقته:
لخولة اطلال ببرقة ثمهد
…
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وجميل بثينه:
لقد أدرنت قلبي وكان معمما
…
بثينة صدعا يوم طار رداؤها
إذا خطرت من ذكر بثينة خطرة
…
عصتني شئون العين فانهل ماؤها
وعروه بن الورد:
تحن إلى سلمى بحر بلادها
…
وأنت عليها بالملا كنت أقدرا
وغيرهم كثيرون وهذا يدل على أن بناء القصيدة العربية الكلاسيكية تستلزم في البداية استهلالا يشد قارئها أو سامعها إلى موضوعها، وليس هناك أفضل من الغزل أو البكاء على الاطلال موضوعا يشد القارئ أو السامع العربي، ومن هنا جاءت ضرورة البدء بالغزل عند كعب بن زهير، وقد اقتدى به كل من الإمام
البوصيري وأحمد شوقي في قصيدتيهما البردة، ونهج البردة، ونعرض هنا نماذج من الغزل التي جاء بها كل منهم في قصيدته.
ونبدأ بكعب بن زهير في قصيدته (بانت سعاد) فهو يبدؤها بالتشبيب بسعاد، فيصفها وصفا حسيا يبدأ من الوجه مرورا بسائر أعضاء والأنوثة ومظاهرها، ثم ينتقل إلى أسلوب هذه المحبوبة في الدلائل والأعراض والاقبال إذ هي لا تعطيه قرارا بالوصل ولذا فهو حائر تجاه عواطفها. هي مقبلة عليه أم مدبرة عنه وفي كلا الأمرين هو فاقد الأمل في وصالها إذ لا يستطيع أن يظهر بين العرب وقد أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، ومن هنا نستطيع أن نقول أن الغزل الذي بدأ به كعب غزل حسي مبني على المادة والأغراض المادية التي يبحث عنها كل رجل يميل إلى تحقيق رغباته الحسية وهو بعيد تمام البعد عن المواقف العذرية، على عكس الإمام البوصيري الذي لم يبدأ قصيدته بالغزل الحسي المكشوف الذي تطرق له كعب وإنما بنوع من الغزل المحتشم الذي يركز فيه على الصفات الروحية والعاطفية في محبوبته وليس على صفاتها الحسية. فهو يذكر عينيها، لم تمتنعا عن البكاء من شدة الحب، وإن الوجد قد أضناها وأن طيفها لا يفارقه ويطلب من العاذل أو اللائم في هواها إلا يعذله لأن حبها قد ملك نفسه.
ويستمر الإمام البوصيري في تمهيداته العاطفية، بلا تحديد لهذه المحبوبة من هي؟ وما شكلها؟ وما ملامحها؟ .. ولا يبين ولا يظهر من هذه الصفات شيئا، فلا يهمه من هذه الصفات إلا الدموع والبكاء واللائم العاذل، ولكنه يؤكد أن حبه عذري عفيف لا دخل للعلاقة الحسية فيه على عكس ما تعرض له كعب بن زهير.
أما أحمد شوقي فقد نهج منهجا متوسطا بين الشاعرين، فهو بين الحسية والعذرية، لا يظهر من هي المحبوبة، ولكنه تعرض تعرضا يسيرا لشكلها، فهي ناعسة الطرف، وهي كشمس الضحى، وهي متحلية بالحلي، وهي ساحرة، فهي حمراء الخد، فاتنة، وهو يصفها بأنها ذات حسب ونسب، فأبوها كالأسد في الغاب كناية عن مكانته. وشوقي هنا يتعرض لمحبوبته تعرضا حسيا
بسيطا يمزجه بوصف عذري يصفها به، فيقول: أنها أسمح الناس خلقا، وأنها تجعله يسهر الليل ظنا، وأن في قلبه جرح دام منها، ويطلب من لائمه في الهوى ألا يعذله ولا يلومه، فهو لم يجرب المعاناة مثله.
وبالقراءة المتأنية للغرض من الغزل عند الشعراء الثلاثة نجد أن شوقي قد اتخذ مكانا وسطا بين الشاعرين الكبيرين السابقين له، فهو لم يسرف في التعرض للجوانب الحسية مثل كعب، فلم يذكر الأرادف أو الخصور وغيرها من المفاتن الجسدية للأنثى وكذلك.
عندما تعرض للجوانب النفسية والوجدانية التي تعرض لها الأمام البوصيري كان بلا استغراق كامل في الوجد، وقد اتخذ شوقي أسلوبا يبين من خلاله تكامل حبه، فهو لا يحب مجهولا كما أحب البوصيري، ولا يحب محسوسا كما أحب كعب، وإنما يحب امرأة لا يبغي أن يعرض بها، فلم يذكر اسمها، وهو لا يحب وهما أو سرابا كالإمام البوصيري، وإنما يضع لنا صفات خاصة بها واستعارات عن مكانتها ومكانة عائلتها، كما نجد أن شوقي كان أنجح الثلاثة في هذا المضار، فقد أحب المرأد جسدا وروحا، بينما أحب كعب فيها الجسد والإمام البوصيري قد أحب الروح، ونجد كذلك أن هذا الفتى العربي الذي قال قصيدته في لحظة اسلامه كان متشبعا بسلوك الجاهلية بما فيه من مجون وعدم اهتمام بالأعراض وعدم تقديره للحب العذري، أما الإمام البوصيري فهو ابن مجتمعه الذي صار المذهب الغالب فيه هو المذهب الصوفي بكل أشكاله الروحية المفرطة في الخيالات البعيدة عن الحس وهو في نفس الوقت ابن لحظته التي كتب فيها القصيدة إذ هو مصاب (بفالج) لا يتحرك من فراشه، ثم يحلم هذا المصاب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلم صادق يسمع فيه قصيدته فيتعفف أن يذكر فيها ما يجرح حياءه أمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أما شوقي فهو ابن مجتمعه وابن ثقافته الإسلامية وغير الإسلامية فهو دارس لتاريخ العرب ولا شعارهم ومتأثر بشعر المتنبي وأبي نواس وغيرهما من شعراء العصر العباسي وهو دارس للاداب الأوروبية، وهو ابن مجتمع راق، فهو ربيب