المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شرح القصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول … متيم اثرها لم - ثلاثية البردة بردة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

[حسن حسين]

الفصل: ‌ ‌شرح القصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول … متيم اثرها لم

‌شرح القصيدة

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم اثرها لم يفد مكبول «1»

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

الا اغن غضيص الطرف مكحول «2»

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكي قصر منها ولا طول «3»

تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت

كأنه منهل بالراح معلول «4»

بهذه الأبيات يبدأ كعب بن زهير قصيدته، يبدؤها بالشكوى من ابتعاد محبوبته التي تيمت قلبه وأسرت لبه وقيدته بقيود حبها والمته بفراقها فهو كأسير لديها على الرغم من بعدها عنه وهو أسير لفرط جمال المحبوبة إذ يصفها بأنهال ظبية صغيرة مكحولة العينين بكحل رباني، ناعسة الأجفان، ذات صوت ناعم رقيق جميل كأنه غنة الطبي، فهي في نظر الشاعر أنثى رقيقة جميلة، ثم يصفها وهي مقبلة، إنها ضامرة البطن، دقيقة الخصر، متحركة، وإذا كانت مدبرة فهي عجزاء ذات كفل مما يوصف به النساء الحسناوات في هذا العهد، ثم أنها لا تظهر للرائي ذات طول مفرط ولا ذات قصر مغيب، ويعود لوجهها مرة أخرى، ويركز على الفم، وهنا تتأكد لنا نظرته الحسية، فهي إذا ابتسمت تظهر أسنانها اللامعة البيضاء، وإذا اقتربنا من هذا الفم أحسسنا تجاهه بالعطش، فكأنه كأس من الخمر المعتقة التي أضيفت إلى نكهتها الروائح الجميلة، فلا بد أن نشرب من هذا الكأس ونعيد الشراب حتى الثمالة.

(1) بانت: فارقت فراقا بعيدا. سعاد: اسم امرأة، متبول: اسقمه الحب وأضناه، متيم: ذليل مستعبد، لم يفد: لم يخلص من الأسر، مكبول: مقيد.

(2)

الأغن: الظبى الصغير الذي في صوته غنه، غضيض الطرف: فاترة، ومكحول: من الكحل ويعني سواد يعلو جفون العين.

(3)

هيفاء: ضمور البطن ودقة الخاصرة، ومقبلة: حال، عجزاء: كبيرة الردف لا يشتكى قصر: لا يشتكى الرائي عند رؤيتها قصر فيها.

(4)

تجلو: تصقل وتكشف، والعوارض: جمع عارضة أو عارض وهي الأسنان، الظلم: ماء الأسنان وبريقها، والمنهل: المسقى، وبالراح: متعلق بمنهل، والراح الخمر، معلول: الشرب الثاني.

ص: 29

وبهذه الافتتاحية يقصد شاعرنا أن يظهر رغبته في الحياة فيتذكر الأشياء الجميلة في حياته السابقة على إهدار دمه، فما أن أهدر دمه حتى فارقته تلك السعادة المتمثلة في الصديقة ذات الخصال الجميلة والصفات البديعة، ذات الجسد الممشوق والفم المرسوم المعطر ذى الرضاب الشهي الذي يعتبره الشاعر أكثر سكرا من الخمر المعتقة، ويبدو في ذلك مدى أثر قرار الرسول صلى الله عليه وسلم على حياة هذا الشاعر، ومدى الحرمان الذي أصابه من جراء فراقه هذه الحبيبة نظرا لعدم قدرة الشاعر على الاستقرار هربا من اهدار دمه.

ويقول:

شجت بذى شيم من ماء محنية

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «1»

تنفي الرياح القذى عنه وأترفه من

صوب سارية بيض يعاليل «2»

فيالها خلة لو أنها صدقت

بوعدها أولو أن النصح مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها

فجع وولع واخلاف وتبديل «3»

فيستمر الشاعر في وصف رضاب سعاد، بل ويركز على وصف فراق هذا الرضاب فكأنه ماء بارد زلال تعرض للرياح الشمالية حتى صار أشد بردا من كل ماء، وقد أتى هذا الماء من منعطف الوادي بعد أن مر على البطاح التي فيها دقائق الحصى فصار نقيا صافيا باردا وهي صفة من أطيب صفات الماء، الذي يعتبر في الصحراء أغلى وأشهى وأمتاع ما يتمناه البدوي الظاميء وكأنه يقول: ان رضابها الحياة لأن الماء هو أصل الحياة، ومع ندرته في البادية صار أصل الحياة النادرة،

(1) شجت: مزجت حتى انكشرت سورتها، ذو شيم: ماء شديد البرد، المحنية: منعطف الوادي، الأبطح: المسيل الواسع الذي فيه دقات الحصى، أضحى: أخذ في وقت الضحى قبل أن يشتد حر الشمس مشمول، الذي ضربته ريح الشمال حتى برد.

(2)

القذى: ما يقع في الماء من تبين أو عود أو غيره مما يشوبه ويكدره، أفرطه: سبق إليه وملأه، الصوب: المطر، الغادية: السحابة تمطر غدوة، اليماليل: الحباب الذي يعلو وجه الماء. الخلة: الصديقة.

(3)

سيط: أي خلط بلحمها ودمها الصفات المذكورة بالبيت، الفجع: الإصابة بالمكروه كالهجر، الولع: الكذب، أخلاف: خلف الوعد.

ص: 30

ووصف الشاعر لهذا الماء الذي يعتبر رمزا لرضاب معشوقته أو حبيبته من واقع البيئة، فالرياح تمر على هذا الماء فتبعد عنه القذى والأقذار وما يشوبه من شوائب كأعواد الأشجار وحبات الرمل، ويؤكد مرة أخرى أن هذا الماء البارد الصافي ليس فقط بهذه الصفة ولكنه ذو نكهة وطعم أقرب ما يكون إلى الخمر وبخاصة إذا أمطرت السحب السارية التي تأتي ليلا فتملأ هذا الماء بالحباب والفقاقيع وكأنه كأس من الخمر المعتقة.

ويتداخل الجانب النفسي مع الحسي لدى الشاعر إذ إن هذا الرضاب في نظره لا يشرب للرّيّ فقط، وإنما هو ينفعل في أثناء شربه، ثم يمجد الشاعر صديقته فيقول إنها صديقة جميلة كريمة، ولو أنها صدقت في وعدها وقبلت النصح، لما اشتاق إليها، بل إنها كلما نصحت لم تقبل النصح ولو أنها قبلت هذا النصح لكانت في أكمل الصفات، وأتم الخصال، وأحسن الأحوال، ولكن الشاعر يعتبر أن هذه المرأة المعشوقة قد اختلط دمها بلحمها مما يؤلم ويفجع العاشق، فهي مصرة على الهجر والكذب والاخلال بالوعد وكأن هذه الصفات التي تبعده عنها تقربه منها، فالوصل لا يأتي إلا بالهجر والولع والرغبة في إدراك شيء ليس في متناول اليد.

ثم يقول:

فما تدوم على حال تكون بها

كما تلون في أثوابها الغول «1»

وما تمسك بالعهد الذي زعمت

إلا كما يمسك الماء الغرابيل «2»

فلا يغرنك ما منت وما وعدت

أن الأماني والأحلام تضليل «3»

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا

وما مواعيدها إلا الأباطيل «4»

(1) فما تدوم: فما تقوم، الغول: الساحرة الجن.

(2)

وما: ولا، تمسك:(مضارع حذف إحدى تأيه) يشبه تمسكها بالعهد بأمساك الغرابيل للماء مبالغة في النقض.

(3)

ما منت: ما منتك إياه.

(4)

كانت: صارت، عرقوب: رجل اشتهر عند العرب باختلاف الوعد والأباطيل: جمل باطل على غير قياس.

ص: 31

فيصف الشاعر سعاد بأنها امرأة ذات مزاج متقلب، فهي تارة محبة مقبلة وتارة كارهة مدبرة، تارة تبدي رغبة الوصال، وطورا تبدي رغبة الهجران، أنها لا تدوم على حال، فتتلون بشتى الألوان حتى لا يعرف عاشقها حقيقة مشاعرها النفسية تجاهه؛ هل هي تحبه؟ هل هي تكرهه؟ هل تذكره؟ أم تنساه؟ هل ترغب فيه، أم تنفر منه؟ كل هذه صفاتها وهو يشبهها في ذلك بالغول الذي يعرفه بدو الصحراء بأنه ساحرة الجن تظهر في الفلاة أمام الناس بألوان وأشكال شتى جميلة موشاة حتى يتبعها من يراها، ثم تتغير إلى حال كريهة تثير الفزع والخوف في نفوس من يتبعها، وهذه المعشوقة لا تتمسك بوعد قطعته على نفسها أو عهد منحته عاشقا من عشاقها، فهي كذوب في وعودها وعهودها وكأنها غرابيل وضع فيها الماء للحفاظ عليه، فهل من الممكن أن تحفظ الماء هذه الغرابيل ذات الفتحات الواسعة والثقوب الكبيرة..؟

لا يمكن لإنسان عاقل أن يصدق أن الغرابيل تحفظ الماء، ولا يمكن أيضا من وجهة نظر الشاعر أن تحافظ سعاد على وعودها تجاهه، فلا تصدق أيها الإنسان ما تعدك به الأنثى وما تمنيك به، كما أنه لا يصدق أن سعاد ستفي بما وعدت ومنت، فإن وعودها وأمانيها ما هي إلا سراب في سراب، وأحلام في أحلام حتى أنها بدأت مثل هذا السراب للرجل الشهير بين العرب بعدم احترامه للمواعيد ولم تكن مواعيده إلا أكاذيب باطلة، وهو (عرقوب) الذي يضرب به المثل في خلف المواعيد.

ويمضي الشاعر فيقول:

أرجو وامل أن تدنو مودتها

وما إخال لدينا منك تنويل «1»

أمست سعاد بأرض لا يبلغها

إلا العتاق النجيبات المراسيل «2»

(1) التنويل: العطاء والمراد به (هنا) الوصل.

(2)

العتاق: الكرام، والنجيات: جمع نجيبه وهي القوية الخفيفة أي السريعات، والمراسيل: جمع مرسال وهي السريعة.

ص: 32

ولن يبلغها إلا عذافرة

فيها على الأين أرقال وتبغيل «1»

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الاعلام مجهول «2»

وبذلك يعود الشاعر إلى الرجاء والأمل فأنه سيأتي يوم وتدنو مودة سعاد منه وتقترب عواطفها من عواطفه، وامالها من اماله، وأحلامها من أحلامه، ويرجو أن تعود إليه مودتها كاملة قريبة وهو يكاد يلمس هذه المودة وهذا الطيف حتى ينال عطاءها ألا وهو الوصال: ولكن هيهات هذا الوصال، فإن سعاد قد نأت إلى مكان بعيد غاية في البعد حتى أنه لا يستطيع أن يبلغ مكانها، إلا إذا كانت لديه هذه الإبل العتاق الكريمة الأصول القوية السريعة الخفيفة، وهذه الناقة التي من صفاتها الصلابة الشديدة والتي لا تتعب، ومهما سارت وبأي ضرب من ضروب السير فإنها لا يبلغ منها الأعياء، أو يصل إليها التعب والكلال.

وأدرك الشاعر أن بعد سعاد أصبح عقبة في سبيل الوصول إليها فيمهد ويخطط ليتخطى هذا البعد، وبروح البدوى وبإدراكه لمعطيات مجتمعه يرى أن الوسيلة الوحيدة التي تقرب بينه وبين سعاد هي هذه الناقة التي يصفها بتمكن شديد فهي من النياق النجيبات المراسيل أي قوية خفيفة سريعة كريمة الأصل، ويستمر الشاعر في وصف هذه الناقة في أثناء سيرها فهي كثيرة العرق لكثرة الجهد الذي تبذله.. وأول جزء من بدنها، ما خلف الاذان، وهذه الناقة تغز السير وتجد فيه وهي تعرف الطريق جيدا حتى لو ازيلت العلامات المميزة وأنها عارفة بالمسالك المجهولة لكثرة أسفارها وسلوكها الدائم للصحراء في أثناء هذه الأسفار.

(1) العذافرة: الناقة الصلبة العظيمة، والأبن، الأعياء والتعب، وارقال والتبغيل: ضربان من السير السريع.

(2)

النضاحة: الكثيرة رشح العرق، والذفرى: النقرة التي خلف إذن الناقة وعرضتها: همتها، وطامس الأعلام: الدارس المتغير من العلامات التي تكون في الطريق ليهتدي بها.

ص: 33

ويقول:

ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق

إذا توقدت الحزان والميل «1»

ضخم مقلدها فعم مقيدها

في خلقها عن بنات الفحل تفضيل «2»

غلباء وجناء علكوم مذكرة

في دفعها سعة قدامها ميل «3»

وجلدها من أطوم مايؤيسه

طلح بضاحية المثنين مهزول «4»

وهنا يستطرد كعب في وصفه هذه الناقة العجيبة فيقول: إنها في أثناء هذه الرحلة الشاقة ترمي بنظراتها يمينا ويسارا كأنها نظرات ثور برى أبيض تفرد في المكان وعرفه معرفة شديدة وألفه الفة حميمة، فهو يعيش فيه ويخرج منه، يعرف تفاصيل الرمال والكثبان والأماكن الغليظة الصلبة التي تكثر فيها الحصباء، ويشبه الشاعر هذه الناقة بهذا الثور الذي عاش في هذه المنطقة بل ويعتبر الناقة قد عرفت هذا الطريق البعيد الطويل بينه وبين محبوبته، كما عرف الثور الأبيض الوحشي مسالك منطقته الصغيرة المحدودة التي يعيش فيها.

ثم يبدأ الشاعر في وصف الناقة فيصف ضخامة عنقها التي تعبر عن ضخامة في كل جسدها، ثم يصف ارتفاع سيقانها وقوائمها، وهذا يدل على سرعة وقوة السير ثم يصف قوتها وقدرتها على حمل الأثقال، ثم يذكر أنها من أفضل بنات

(1) الغيوب: اثار الطريق التي غابت معالمها عن العيون والمفرد الثور الوحشى الذي تفرد في مكان واللهق: (بفتح الهاء وكسرها) الأبيض، والحزان: الأمكنة الغليظة الصلبة تكثر فيها الحصباء وهي جمع حزيز، والميل: جمع ميلاء وهي العقدة الضخمة من الرمل.

(2)

المقلد: موضع القلادة في العنق، وفعم: ممتليء، والمقيد: موضع القيد، وبنات الفحل: الإناث من الإبل المنسوبة للفحل المعد للضراب.

(3)

غلياء: غليظة العنق، ووجناء: عظيمة الوجنتين، أو هي من الوجين وهو ما صلب في الأرض، وعلكوم: شديدة ومذكرة: عظيمة الخلقة وقدامها، ميل: كفنانة عن طول عنقها أو سعة خطوها.

(4)

الأطوم: بفتح الهمزة: سلحفاة بحرية غليظة الجلد وقيل: هي الزرافة، ويؤيسة: يذلله ولا يؤثر فيه، والطلح: القراد دوييه معروفه يلزق بالدابه، والضاحية ناحيته البارزة للشمس، والمتنان: ما يكتنف صلبها عن يمين وشمال من عصب ولحم، ومهزول: صفة لطلح أي قراد مهزول من الجوع.

ص: 34

الفحول، أي أنها ناقة أصيلة كريمة بنت فحل قوى كريم حسن التكوين

وتتكرر هذه المعاني، فهي غليظة العنق عظيمة الوجنتين وصلبة وشديدة وعظيمة الخلق، وهي واسعة الجنيين والبطن، وإن خطوها واسع، ورأسها تميل إلى الأمام من فرط الطول، ثم يستطرد في وصفها بصفات جديدة ليدلل بها على قوتها، فهي ذات جلد قوي ومتين لا يؤثر فيه أي شيء حتى القراد ويؤكد أن هذا الجلد ليس متينا فقط، وإنما هو ناعم وغاية في الملاسة، وأي حشرة لا تستطيع أن تعلق به.

ويقول:

حرف أخوها أبوها من مهجنه

وعمها خالها قوداء شمليل «1»

يمشي القراد عليها ثم يزلقه

منها لبان واقراب زهاليل «2»

عيرانه قذفت بالنحض عن عرض

مرفقها عن بنات الزور مفتول «3»

كأنما فات عينيها ومذبحها

من خطمها ومن اللحين برطيل «4»

ليؤكد كرم أصل هذه الناقة، فهي من نسب لم يدخله غريب، وهي موصوفة بأنها مهجنة، وهي من الصفات المستحبة في الإبل، كما أنها سريعة لا

(1) الحرف: القطعة الحارجة من الجبل، شبه الناقة بها في القوة والصلابة، والحرف الناقة الضامرة وأخوها أبوها.. إلخ.. يريد أنها مداخلة النسب في الكرم، والمهجنة: الكريمة الأبوين من الإبل، والقوداء: الطويلة الظهر والعنق وهي من صفات الإبل التي تمدح بها، والشمليل: الخفيفة السريعة.

(2)

يزلقه: من الازلاق أي يسقطة، واللبان: الصدر وقيل وسطه، والأقراب: الخواصر والمراد بالجمع هنا المثنى، والزهاليل: الملس (جمع زهلول) .

(3)

العيرانه: الناقة المشبهة عير الوحش في سرعته ونشاطه وصلابته، والنحض: هو اللحم، وعن: بمعنى من، وعرض (بضمتين أو بضم أو فسكون) : جانب، والمرفق: يريد المرفقين، والزور: الزور وقيل وسطه، وبنات الزور: ما يتصل به مما حوله من الاضلاع وغيرها.

(4)

الخطم: الأنف وما حوله، واللحيان: العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان السفلى من الإنسان وغيره، والبرطيل: حجر مستطيل، والقاب: المقدار والمراد المسافة من وجهها إلى عينيها.

ص: 35

يضاهيها في السرعة شيء، وهي طويلة الظهر، طويلة العنق، ثم يردف الشاعر صفات سبق له أن ذكرها: فهي ذات صدر لا يستطيع أن يستمر القراد في الالتصاق به، فهي ملساء شديدة الملاسة، كما شبهها بأنها مثل عير الوحش في سرعته ونشاطه وصلابته، ولم يكتف بذلك، بل أضاف أنها ممتلئة اللحم وافرته من كل جنب من جوانبها، وكأنها قد امتلأت باللحم من كل صوب حتى الصدر، فلا يظهر من هذا الصدر أضلع وأكتاف من العظم، وإنما هذه الأضلع، وهذه الاكتاف ممتلئة ومغطاه باللحم ويريد الشاعر هنا أن يقول أنها تتحمل ثقل راكبها ولا يؤثر هذا الثقل في احتكاك عظامها، فقد اكتست هذه العظام باللحم، فلا تصيبك عظامها، مما يعطيها القدرة على الحركة والسرعة وراحة راكبها، ثم يلجأ إلى التشبيه فيقول: إنها مثل الحمر العريض المستطيل وجهها. فوجهها ما بين عينيها ومقدم الفكين غاية في الطول.

ويقول كعب:

تمر مثل عسيب النخل ذا خصل

في غارز لم تخونه الأحاليل «1»

قنواء في حرتيها للبصير بها

عتق مبين وفي الخدين تسهيل «2»

تخدي على يسرات وهي لاحقة

ذوابل مسهن الأرض تحليل «3»

سمر العجايات يتركن الحصى زيما

لم يقهن رؤوس الأكم تنعيل «4»

(1) عسيب النخل: جريده الذي لم ينبت عليه الخوص، وذا خصل: يريد ذيلا له لفائف من الشعر، وفي غارز: أي على ضرع، ولم تخونه: لم تنقصه، والأحاليل: مخارج اللبن جمع أحليل بالكسر.

(2)

القنواء: المحدوبة الأنف، ويروى (وجناء)، والحزتان: الأذنان، والعتق بالكسر: الكرم، والمبين: الظاهر، وتسهيل: سهولة ولين لا خشونة ولا حزونة.

(3)

تخدى: تسرع أي تسترخى، واليسرات: القوائم الخفاف، وهي لا حقة يعني أي والحال أنها لاحقة بالنوق السابقة عليها أو بالديار البعيدة عنها (وهي لا أهية) أي غافلة عن السير، والذوابل: جمع ذابل وهو الرمح الصلب اليابس، ومسهن أي مس تلك اليسرات للأرض أو وقعهن عليها، وتحليل: أي قليل لم يبالغ فيه.

(4)

العجايات: الأعصاب المتصلة بالحافر وقيل اللحمة المتصلة بالعصب المنحدر من ركبة البعير إلى الفرسن، وزيما: متفرقا، والأكم: هي الأراضى المرتفعة، والتنعيل: شد النعل على ظفر الدابة ليلقيها الحجارة.

ص: 36

فيتبين أن هذه الناقة الأعجوبة لها ذيل أجرد ليس فيه شعر إلا خصلة في نهايته ولها ضروع مليئة بالشعر عدا اللبن على الرغم من أنها لا تحلب، وتلك صفات تدل على قوة سيرها، كما أنها محدودبة الأنف ذات أذنين كبيرتين مما يدل على كرم أصلها، كما أن هاتين الأذنين ناعمتان لينتان، والتشبيهات كلها سبق أن أوردها الشاعر بصيغ شعرية أخرى في الابيات السابقة، ثم يصف سرعتها فيقول أنها مسترخية ولعل ذلك أبلغ في مدح النوق، تسترخي وهي مسرعة فلا تتعب راكبها، ويعتقد الشاعر أن هذه أوصاف كريمة إذ لا تكترت بالجهد، فهي لاهية لا مبالية في سيرها فكأنها تطير ولا تمشي على الأرض، كما يؤكد أن أعصابها المتصلة بالأخفاف قوية صلبة، فلا تشعر بالتعب ولا بالألم أثناء السير لصلابة هذه الأخفاف.

ويقول كعب:

كأن أوب ذراعيها وقد عرقت

وقد تلفع بالقور العساقيل «1»

يوما يظل به الحرباء مصطخدا

كأن ضاحية بالشمس مملول «2»

وقال للقوم حاديهم وقد جعلت

ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا «3»

شد النهار ذراعا عيطل نصف

قامت فجاوبها نكد مثاكيل «4»

(1) الأوب: بالفتح سرعة التقلب والرجوع، وعرقت: أي عرقها لا لتعب ولا لاعياء، وتلفع: اشتمل والتحف، والقور: جمع قارة وهي الجبل الصغير العساقيل: السراب.

(2)

الحرباء: (بالكسر) هو حيوان بري له سنام كسنام الجمل يستقبل الشمس حيثما دارت ويتلون بألوان الأمكنة التي يحل فيها، ومصطخدا: محترقا بحر الشمس وروى (مصطخما) أي منتصبا قائما كما يروي (مرتبئا) أي مرتفعا ضاحية: ما برز للشمس منه، ومملول: موضوع في الملة وهي الرماد الحار.

(3)

الحادي: السائق للإبل، والورق: جمع أورق أو ورقاء وهو الأخضر الذي يضرب إلى السواد وقيل الورقة لون يشبه لون الرماد، والجنادب: جمع جندب ضرب من الجراد، ويركض الحصى: يحركنه بأرجلهن لقصد النزول بسبب الأعياء عن الطيران من شدة الحر، وقيلوا: أمر من قال يقيل قيلولة وهي الاستراحة وقت شدة الحر.

(4)

شد النهر: وقد ارتفاعه وهو مبالغة في شدة الحر، والعطيل: الطويلة والنصف: المتوسطة في السن وذلك حين استكمال قوتها وبلوغ أشدها فتكون أسرع في الحركة.

ص: 37

نواحة رخوة الضبعين ليس لها

لما نعى بكرها الناعون معقول «1»

تفرى اللبان بكفيها ومدرعها

مشقق عن تراقيها رعابيل «2»

وبذلك يستمر الشاعر في وصف قوة الناقة التي تعرق في أثناء سيرها وهذا ليس من تعب أو إعياء بل لشدة الحر، فهي تستطيع أن تمشي فوق المرتفعات والكثبان والوهاد في وقت الحر ووقت ظهور السراب ولا تأبه بأي عقبة من العقبات وأنها مهما تكن الحرارة أو البرودة تستطيع أن تسير في هذا الجو أو ذلك ومهما تكن الأرض وعرة أو ممهدة فهي مؤهلة للسير فيها على الرغم من تعب الحادي الذي يقودها أو القافلة التي تضمها، وعلى الرغم من طلب الراحة فهي نشطة قادرة على الاستمرار، ويكرر الشاعر وصفه لسرعتها في صور شعرية غاية في العظمة، فهو يشبه حركة سيقان الناقة بحركة امرأة تلطم خديها حزنا على ولدها وكأن هذه الناقة في سرعتها سرعة هذه المرأة التي تنوح وتلطم خديها عندما نعى إليها إبنها وهذا لفرط سرعتها، وتسير كأنها قد فقدت عقلها كهذه المرأة، وهذه الناقة المعجزة التي لا مثيل لها هي الوحيدة التي تستطيع الوصول به إلى حبيبته.

وخلاصة القول أن كعبا يمجد الناقة لأنها الوسيلة الوحيدة التي تجمعه بحبيته وحقها عليه أن يصفها وأن يسهب في تمجيدها لأنها تحقق له أملا كان عاجزا عن بلوغه بدونها.

(1) النواحة: الكثيرة النوح على ميتها، ورخوة الضيعين: مسترخية العضدين والبكر بالكسر: أول للأولاد، والناعون: المخبرون بالموت النادبون له، والمعقول هنا: العقل وهو من المصادر التي جاءت على (مفعول) كمسعور.

(2)

تفرى: تقطع، واللبان: الصدر، والمدرع: القميص، ورعابيل: قطع متفرقة وهو جمع رعبول.

ص: 38

ويستمر كعب فيقول:

يسعى الوشاة جنابيها وقولهم

انك يابن ابي سلمى لمقتول «1»

وقال كل صديق كنت امله

لا الهينك اني عنك مشغول «2»

فقلت خلوا سبيلى لا أبالكم

فكل ما قدر الرحمن مفعول «3»

كل ابن انثى وأن طالت سلامته

يوما على الة حدباء محمول «4»

بعد انشاد الشاعر نصف القصيدة تقريبا يبدأ في الدخول إلى مأساته الحقيقية، إذ يقول: أن الوشاة قد أبلغوه أنه مقتول لأن الرسول قد أهدر دمه ومن خلال فهمنا للبيت الأول هنا نستطيع أن ندرك أن الشاعر قد هجا الرسول وسخر من الصحابه رضوان الله عليهم فأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه وأحله، إذ بلغه من بعض الذين سعوا في الأمر بالوقيعة بينه وبين الرسول فأصدر القرار بإهدار دمه فبدأ يسعى لدى من كان يعتبرهم أصدقاءه الذين كان يغشى مجالسهم ليقول الشعر هجاء للرسول صلى الله عليه وسلم ومدحا لهم وكان هؤلاء الأصدقاء يحسنون له الأمر ويضحكون من تشبيهاته، ذهب إليهم طالبا الحماية والعون، لكن كل رفاقه قد تراجعوا وكل منهم ادعى أنه مشغول في أموره الخاصة وتهرب من نصرة كعب بن زهير فأصبح بلا أمل ولا رجاء، معرضا للقتل وسفك الدم، ويواجه أحلامه بالحياة الهانئة قد تبددت وأصبحت قاتمة مظلمة، ولكنه ينفض عنه أغلال يأسه ويرد عليهم وعلى هؤلاء الوشاة وعلى هؤلاء الأصدقاء الكاذبين يرد عليهم قائلا اتركوني لا خير فيكم فليس لأي إنسان أن يملك زمام الموت أو الحياة لأن الموت بأمر الرحمن الذي لا إاه إلا هو. ويأمل الشاعر في عفو الرسول عنه وعلى الرغم

(1) الغواة: المفسدون جمع غاو، جنابيها: حواليها تثنية جناب بفتح الجيم ومقتول: أي متوعد بالقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أهدر دمه.

(2)

املة: أؤمل خيره وأرتجى أعانته في الملمات، والهينك: اشغلنك (لا) فيها: نافية والتوكيد قليل مع النفي والمعنى لا أشغلك عما أنت فيه من الخوف والفزع بأن أسهله عليك وأسليك.

(3)

خلو سبيلي: اتركوه، وقوله لا أبا لكم: ذم لهم لكونهم لم يغنوا عنه شيئا أو مدح لهم على سبيل التهكم والاستهزاء..

(4)

الالة الحدباء: النعش الذي يحمل الميت.

ص: 39

من خوفه واشفاقه على نفسه من القتل إلا أنه تذكر الحكمة والحقيقة التي تقول أنه ليس هناك من يبقى أو يظل خالدا يذكر ذلك ويصوغه صياغة شعرية محكمه إذ يقول «كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما» «على الة حدباء ومحمول» . ويمضي كعب في قصيدته إذ يقول:

انبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول «1»

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الق

ران فيها مواعيظ وتفصيل «2»

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

اذنب ولو كثرت في الأقاويل «3»

لقد أقوم مقاما لو يقوم به

أرى وأسمع ما لم يسمع الفيل «4»

لظل يرعد الا أنّ يكون له

من الرسول بإذن الله تنويل «5»

حتى وضعت يمينى ما انازعه

في كف ذى نقمات قيله القيل «6»

لذلك اهيب عندى إذا اكلمه

وقيل انك منسوب ومسئول «7»

فيبين أن الوشاة قد أبنأوه بأن رسول الله قد أهدر دمه وهدده بالقتل إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعفو من شيمته يعفو عن كل من يتراجع عن خطيئته وكفره،

(1) انبئت: أخبرت، ويروى (انبئت) وأوعدني: تهددني بالقتل، مأمول: مرجو ومطموع فيه.

(2)

هداك: زادك هدى أو هداك الله للصفح والعفو عني، والناقلة الزيادة.

(3)

لا: إن كانت ناهية بحسب وضعها لكن المراد منها التضرع والتذلل.

(4)

لقد أقوم: والله لقد أقوم مقاما (فهو جواب قسم محذوف)، المقام هنا: مجلس النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

يرعد: تأخذه الرعده، والتنويل: التأمين والمعنى لصار الفيل يضطرب ويتحرك من الفزع وإنما خصه بذلك لأنه أراد التعظيم والتهويل.

(6)

حتى وضعت: أي فوضعت وخص اليمين لأن الأشياء الشريفة تفعل باليمين ولا انازعه، أي حال كوني طائعا له راضيا بحكمه في غير منازع والنقمات: بفتح جمع نقمة والمراد بصاحب النقمات النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه وهو في المسجد ووضع يده يستأمنه.

(7)

اخوف: أشد أخافة وإرهابا، ومنسوب: أي إلى أمور صدرت منك كقولك لأخيك بجير (سقاك بها المأمون.. إلخ) ؛ ومسئول: أي عن سببها، أو مسئول عن نسبك فكأنه يقول من قبيلتك التي تجيرك منى؟ ومن قومك الذين يعصمونك منى فقد تبرؤا منك وتخلوا عنك.

ص: 40

ويستطرد مرة أخرى مخاطبا الرسول ويقول له: انتظر أيها المهدي الذي هداه الله واصفح عني وبالحق الذي منحك القران بما فيه من عظات وايات بينات عطية زائدة على حق النبوة، فأنت بهذا خير الأنبياء لأنك صاحب القران، وبحق هذا القران لا تحاسبني على أقوال هؤلاء الوشاة الذين سعوا بيني وبينك وبين المسلمين بالفساد والكذب والبهتان والنميمة لأنني لم أذنب. ويقسم كعب بأغلظ الإيمان أنه سيذهب إلى مجلس النبي ويحضره وأنه متأكد أنه سيرى بعينه وسيسمع بأذنيه ما لم يره من قبل، ولنا هنا أن نقول بأن الفيل وهو حيوان عظيم الجثة بل هو أضخم الحيوانات قاطبة لو رأى وسمع ما يحدث في مجلس الرسول لظل يرتعد خوفا على نفسه وهيبة لعظمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وقدرته حتى يؤمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسه وبإذن من الله تعالى، وأن الرعدة التي تصيب الفيل قد أصابت الشاعر نفسه إلى أن تجرأ ووضع يمينه في يد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الشريفة وأحس برضاه فامن على نفسه. ويصل بنا كعب إلى وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول:

من ضيغم من ضراء الأرض مخدرة

في بطن عثر غيل دونه غيل «1»

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما

لحم من القوم معفور خراديل «2»

إذا يساور قرنا لا يحل له

ان يترك القرن إلا وهو مفلول «3»

(1) ضيغم: أسد، وضراء الأرض: الأرض التي فيها شجر، والمخدر: غابة الأسد، وعثر (بفتح العين وتشديد المثلثه) ، اسم مكان مشهور بكثرة السباع، والغيل: الشجر الكثير الملتف، وغيل دونه غيل: دونه غيل: أي أجمه تقربها أجمة أخرى فتكون أسدها أشد توحشا وأقوى ضراوة، والخادر: الأسد الداخل في خدره وهو حينئذ يكون أشد قوة وبأسا.

(2)

يغدو: يخرج في أول النهار يتطلب صيدا لشبليه، وفي رواية (يغذو) بالذال: أي يطعم ويلحم: يطعمها اللحم، والضرغام: الأسد، ويريد بالضرغامين شبليه، ومعفور: ملقى في العفر وهو التراب ووصفه بذلك لكثرته وعدم اكتراثه به لشبعه، وخراديل: قطع صغار يصف هذا الأسد بكثرة الافتراس وعظم الأصطياد.

(3)

يساور: يواثب، والقرن (بكسر القاف) : المقاوم في الشجاعة، وفي ذكر القرن إشارة إلى أن هذا الأسد لا يساور ضعيفا ولا جبانا، وإنما يساور مقاومة في الشجاة، والمفلول: المكسور المهزوم.

ص: 41

منه تظل سباع الجو نافرة

ولا تمشى بواديه الأراجيل «1»

ولا يزال بواديه أخو ثقة

مطرح البز والدرسان مأكول «2»

ومن الابيات نلحظ أن الشاعر بدأ بوصف الرسول وصفا ماديا، فهو كالأسد الذي سكن غابة تكثر فيها السباع قوة وبأسا وكأنه ملكّ عليها فهو الأسد الوحيد بينها الذي له بيت يأوي إليه مما يعطيه فضلا وقوة، وهذا الأسد يخرج في أول النهار يأكل اللحم ويطعم صغاره مما يصطاد وهو يصيد الكثير لقوته وبأسه ولكثرة صيده نرى اللحم ملقى على الأرض متربا ممزق الأوصال، وهذا الأسد لا يحارب أو يفترس إلا حيوانا شجاعا ولا يكترث بالجبناء، وهنا نجد أن الشاعر يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الأسد الذي يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم به لا يفترس ولا يتعارك إلا مع شجاع قوى مقدام، ولعله يقصد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أهدر دمه يعد ذلك اعترافا بقوة كعب وبأسه، ولو كان كعب ضعيفا خامل الذكر جبانا لما اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يهدر دمه، ثم يعود مرة أخرى إلى الوصف فيتولى: أن هذا الأسد شجاعته لا تدانيها شجاعة حتى أن كافة الأسود في هذا الوادي بالجو وهو موضع واسع كأنه معلق بين السماء والأرض نجد أن هذه الحيوانات خائفة نافرة تخشى هذا الأسد القوى الذي تخافه كافة الحيوانات والناس والدواب الاخرى وإذا رأى هذا الأسد إنسانا أو حيوانا واثقا من نفسه قويا شجاعا لا يجد نفسه إلا مدافعا عن ذويه.

(1) الجو: اسم موضع أو هو ما اتسع من الأدوية أو ما بين السماء والأرض، نافرة: بعيدة ويروي (ضامزة) والضامز: الذي يمسك جرته بفيه ولا يجتر ويروي (ضامرة) أي جياعا لعدم قدرتها على الاصطياد، والأراجيل: الجماعات من الرجال وهو جمع أرجال وأرجال جمع رجل ورجل اسم جمع لراجل يصف هذا الأسد بالقوة حتى خافته السباع والناس.

(2)

أخو ثقة: الشجاع الواثق بشجاعته، ومضرج: مخضب بالدماء ويروي (مطرح) أي مطروح، والبز: السلاح، والدرسان (بضم الدال) : اخلاق الثياب الواحد دريس، ومأكول: أي طعام لذلك الأسد.

ص: 42

ويقول:

أن الرسول نور يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول «1»

في عصبة من قريش قال قائلهم

ببطن مكة لما اسلموا زولوا «2»

زالوا فما زال انكاس ولا كشف

عند اللقاء ولا ميل معازيل «3»

شم العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل «4»

وفيها نرى كعب بن زهير يصف الرسول وصفا روحانيا على غير عادة العرب قبل الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم في نظره نور يهدي إلى الحق، وسيف يزهق الباطل وهذا السيف يلمع فيظهر لمعانه على البعد فيهدي التائهين إلى مكان الجماعة وهذا السيف الهندي هو أعظم السيوف وأنبلها وهو لا يخرج من غمدة إلا لأمر عظيم وكأنما الرسول صلى الله عليه وسلم هو نور في حد ذاته وهو سيف هندي صقيل وينعكس هذا النور على هذا السيف الصقيل فيظهر لمعانه على البعد فيهدي الكافرين إلى الصراط المستقيم، وانتقل المسلمون المهتدون بضياء الإسلام وهاجروا إلى المدينة، هاجروا دون ضعف ولا ذلة، هاجروا بإيمانهم للمحافظة على هذا الإيمان، وأن الله سينصرهم على القوم الكافرين المتجبرين الذين

(1) يستضاء به: يهتدي به إلى الحق ويروي (لسيف) في مكان (لنور) وقد كانت عادة العرب إذا أرادوا استدعاء من حولهم من القوم أن يشهروا السيف الصقيل فيبرق فيظهر لمعانة من بعد فيأتون إليه مهتدين بنوره مؤتمين بهديه، شبه الرسول بذلك، والمهند: السيف المطبوع في الهند، والمسلول: المخرج من غمده.

(2)

العصبه: الجماعة ويروى (في فتية) جمع فتى وهو السخى الكريم، زولوا: فعل أمر من زال التامة أي تحولوا وانتقلوا من مكة إلى المدينة.

(3)

الانكاس: جمع نكس (بالكسر) وهو الرجل الضعيف، والكشف:(بضم فسكون وحرك للشعر) جمع أكشف وهو الذي لا ترس معه أو هم الشجعان الذين لا ينكشفون في الحرب أي لا ينهزمون، والميل: جمع أميل وهو الذي لا سيف له أو هو الذي لا يحسن الركوب فيميل عن السرج. والمعازيل: الذين لا سلاح معهم وأحدهم معزال (بكسر الميم) .

(4)

شم: جمع أشم، وهو الذي في قصبة أنفة علو، مع استواء أعلاه. والعرانين: جمع عرنين وهو الأنف، اللبوس: ما يلبس من السلاح. ونسج داود: أي منسوجه وهو الدرع، والهيجا (بالقصر هنا) : الحرب والسرابيل: جمع سربال وهو القميص أو الدرع.

ص: 43

طردوهم من ديارهم ومن أرضهم بغير حق، وهؤلاء الرجال المهاجرون لهم من علو النفس والكبرياء ما جعلهم يرتفعون بصفاتهم الحميدة فوق الدنايا وإلى مكانة سامية، واستمروا في هجرتهم يعدون أنفسهم حتى صاروا قوة لا يستهان بها ويستطيعون الان أن يظهروا قوتهم ويواحدوا شأنهم ويلتفوا تحت راية الإسلام.

وفي النهاية يقول كعب:

بيض سوابغ قد شكت لها حلق

كأنها حلق القفعاء مجدول «1»

لا يفرحون إذا نالت رماحهم

قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا «2»

يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم

ضرب إذا عرد السود التنايل «3»

لا يقع الطعن إلا في نحورهم

وما لهم عن حياض الموت تهليل «4»

فنجده بعد أن تعرض لوصف المسلمين كأصحاب أخلاق وقيم ودين يصفهم في هذه الابيات كمقاتلين عظام، فهؤلاء المسلمون يلبسون دروعا من الحديد الذي لا يصدأ، مجلوة طويلة، تقي لابسها من أشواك النباتات في الصحراء، وهذه الدروع مجلوة ومجدولة، فهى محكمة الصنع من كافة الوجوه وهؤلاء الأبطال الذين يلبسون تلك الدروع لا يسكرهم النصر ولا تؤثر فيهم الهزيمة ولا تجعل الجزع والاشفاق يتطرق إليهم، فهم أن انتصروا يفرحونا لنصر

(1) بيض: مجلوة صافية مصقولة لأن الحديد إذا استعمل لم يركبه صدأ. والسوابغ: الطوال السوابل، وشكت: أدخل بعضها في بعض ويروي (سكت) بمعنى ضيقت، والقفعاء: يعني ضرب من الحسك وهو نبات له شوك ينبسط على وجه الأرض تشبه به حلق الدرع، ومجدول: محكم النعة.

(2)

مفاريح: كثيرو الفرح، ونالوا: أصابوا، ومجازيع: كثيرو الجزع.

(3)

الزهر: البيض البشرة، يعصمهم: يمنعهم، عرد: فرأو عرض عن قرنه وهرب عنه، التنابيل: جمع تنبال وهو القصير.

(4)

وقوع الطعن في نحورهم: دليل على أنهم لا ينهزمون حتى يقع الطعن في ظهورهم، وحياض الموت: موارد الحتف يريد بها ساحات القتال. تهليل: تأخر.

ص: 44

الله وأن انهزموا للحظة فهم واثقون من أن الله سينصرهم، وهؤلاء الأبطال المسلمون يمشون مشية الوقار والهدوء والسؤدد لما لقامتهم من دلائل العظمة مما يعطيهم المهابة والقوة ويبعث في نفوس أعدائهم الذعر والهلع، لأنهم عندما يحاربون لا يتقهقرون ولا يتراجعون، فلا يقع منهم شهيد إلا والسيف في صدره، ولا تجد منهم من يطعن في ظهره مطلقا، فالمحارب الذي يطعن في ظهره جبان فار ومنكسر ضعيف، فكيف يقع الطعن في ظهر هؤلاء المسلمين وهم الذين لا يخافون الحرب؟! وإنما يقبلون عليه إقبال الظمان على الماء، والموت في نظرهم ليس فناء وإنما لحياة أفضل، وهذه الشهادة ينال بها المسلم رضا الله وجنته.

ص: 45

الفصل الثاني البوصيري وبردته

ص: 47

البوصيري وبردته هو الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد بن محسن، الصنهاجي الجد، الدلاصي المولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ.

وقد أشار البوصيري إلى أصله فقال:

أن كان مثلي مغربيا فما

في صحبة الأجناس من بأس

وكان مولد البوصيري يوم الثلاثاء أول شوال عام 608 هـ (1212 م) .

وبدأ حياته الدراسية كما كان يبدؤها معاصروه وذلك بحفظ القران الكريم ودراسة علوم الدين واللغة كالنحو والصرف والعروض، كما درس الأدب والتاريخ الإسلامي وبخاصة السيرة النبوية، ثم اتجه نحو التصوف فتلقى على يد أبي العباس المرسي الطريقة الصوفية، ودرس ادابها وأسرارها.

وكان البوصيري يجيد فن الخط، ومنشدا للمدائح النبوية، كما زوال مهنة كتابة الألواح التي توضع شواهد على القبور، وقرأ المؤلفات التي وضعها النصاري واليهود تأييدا لأديانهم، وقد رأى فيها انكارا لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وقد شغله ذلك فأقبل على دراسة الإنجيل والتوراة دراسة دقيقة كما درس تاريخ ظهور المسيحية ليرد على أصحاب تلك الديانات محاولا إقناعهم بأن الأناجيل التي بين أيديهم لا تدل على ألوهية عيسى، وإنما تدل على نبوته، وأن هذه الأناجيل تخبرنا بظهور نبي من أبناء إسماعيل.

وكانت حياة البوصيري جحيما، فقد رزق كثيرا من الأولاد لدرجة أنه كان يلوم زوجته لكونها ولودا، فتمنى لو كانت عقيما، وهجره أصدقاؤه وقاطعوه لشدة فقره وعلى الرغم من ذلك قام باداء فريضة الحج عن طريق البر، وعند عودته نظم قصيدته الهمزية النبوية، ولعل من أهم قصائده (البردة) والتي سماها (الكواكب الدرية في مدح خير البرية) .

ص: 49