المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثفي أهمية توحيد الألوهيةوكونه هو الغاية عند علماء الحنفية - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - جـ ١

[شمس الدين الأفغاني]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات

- ‌الأحاديث

- ‌المقالة الحنفية الحنيفية التي تقمع القبورية

- ‌القصيدة السلفية اليمانية ثم الحنفيةفي كشف فضائح القبورية الشركية

- ‌ الفصل الأول: في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية

- ‌المبحث الأولفي تعريف التوحيد عند علماء الحنفية

- ‌ المطلب الأول: في تعريف التوحيد لغة

- ‌المطلب الثانيفي معنى التوحيد اصطلاحًا

- ‌المطلب الثالثفي إبطال تعريف القبورية للتوحيد

- ‌المبحث الثانيفي أنواع التوحيد عند علماء الحنفيةوردهم على القبورية في ذلك

- ‌المطلب الثانيفي التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية

- ‌المطلب الثالثفي التقسيم الثلاثي للتوحيد عند الحنفية

- ‌الفصل الثالثفي أهمية توحيد الألوهيةوكونه هو الغاية عند علماء الحنفية

- ‌المبحث الثانيفي بيان شروط صحة توحيد العبادة

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية لإبطال تعريف القبورية للعبادة

- ‌ المطلب الأول: رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة

- ‌المطلب الثانيفي تعريف العبادة لغة

- ‌المطلب الثالثفي تعريف العبادة اصطلاحا وشرعًا عند علماء الحنفية

- ‌المبحث الثالثفي أركان العبادة وأنواعها وشروط صحتها عند علماء الحنفية وردهم على القبورية

- ‌ المطلب الأول: في أركان العبادة عند علماء الحنفية

- ‌المطلب الثانيفي أنواع العبادة

- ‌المطلب الثالثفي صحة شروط العبادة

- ‌ الفصل الأول: في تعريف الشرك وأنواعه ومصدره وتطوره، ونشأة القبورية

- ‌المطلب الثانيفي تعريف علماء الحنفية للشرك

- ‌المطلب الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للشرك

- ‌المبحث الثانيفي بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفيةوردهم على القبورية

- ‌المبحث الثالثفي مصدر الشرك بعبادة القبور وتطوره، ونشأة القبورية

- ‌ المطلب الأول: في مصدر الشرك بعبادة القبور ونشأة القبورية عند علماء الحنفية

- ‌المطلب الثانيفي تطور الشرك بعبادة القبور وأهلها وانتشار القبورية في العالم

- ‌المطلب الثالثفي تحقيق علماء الحنفية أن القبورية أهل الشرك وثنية عبدة الأوثان

- ‌المبحث الأولفي تحقيق علماء الحنفية أن الشرك موجود في القبورية

- ‌ المطلب الأول: في تاريخ القبورية إجمالًا

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفيةفي المقارنة بين القبورية الحديثة وبين الوثنية القديمة

- ‌الفصل الثالثفي أجوبة علماء الحنفية عن شبهات القبورية الأخرى

- ‌الشبهة الأولى: شبهة الأحجار والأشجار والأصنام والأوثان

- ‌الشبهة الرابعة: شبهة تنقيص الأنبياء والأولياء:

الفصل: ‌الفصل الثالثفي أهمية توحيد الألوهيةوكونه هو الغاية عند علماء الحنفية

‌الفصل الثالث

في أهمية توحيد الألوهية

وكونه هو الغاية عند علماء الحنفية

لقد تبين مما سبق أهمية شأن العقيدة في الإسلام بصفة عامة كما سبق تعريف التوحيد وأنواعه وأهميته بين العقائد بصفة خاصة.

وفي هذا الفصل أتحدث عن جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد العبادة بين سائر أنواع التوحيد بصفة أخص؛ لأن غالب انحراف القبورية إنما كان عن توحيد العبادة حيث أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وعبدوا القبور وأصحابها بأنواع العبادات؛ فأخلوا بهذا النوع من التوحيد إخلالًا واضحًا سافرًا، وناقضوه فناسب ذلك أن أذكر جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد الألوهية؛ وكونه هو الغاية العظمى والمقصد الأسمى من الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب ليعرف المسلمون مدى ضلال القبورية عن أهم نوع من أنواع التوحيد وإخلالهم بالمقصد الأسنى، ومناقضتهم للهدف الأسمى وانحرافهم عن الغاية العظمى التي هي توحيد العبادة المتضمن لبقية أنواع التوحيد.

وبيان ذلك في عدة وجوه:

الوجه الأول: وجه إجمالي يجمع ميزات توحيد العبادة على وجه الإجمال، والوجوه التي بعده تفصيل وشرح له، فهو أم الوجوه:

ص: 121

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة القاري (1014هـ) واللفظ للأول:

(اعلم أن التوحيد [توحيد العبادة] :

1 -

أول دعوة الرسل.

2 -

وأول منازل الطريق.

3 -

وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل.

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] .

وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65، هود: 50] .

وقال صالح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73، هود: 61] .

وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85، هود: 84] .

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» .

4 -

ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف ((شهادة

ص: 122

أن لا إله إلا الله)) .

لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك.

كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم.

بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان.

ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك ولم يوجب أحد منهم على وليه:

أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين؛ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجود الصلاة؛ لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك

5 -

فالتوحيد أول ما يدخل [المرء] به في الإسلام.

6 -

وآخر ما يخرج به من الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة» .

7 -

وهو أول واجب وآخر واجب.

ص: 123

8 -

فالتوحيد أول الأمر وآخره؛ أعني: توحيد الإلهية؛ فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع:

أحدها: الكلام في الصفات.

والثاني: توحيد الربوبية.

وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.

والثالث: توحيد الإلهية؛ وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له) .

الوجه الثاني:

أن توحيد العبادة هو المطلب الأعلى والهدف الأسمى والمقصد الأسنى المطلوب من الناس والمأمور به؛ قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) - بعدما أبطل مزاعم المتكلمين في كون توحيد الربوبية هو الغاية، محققًا أن توحيد الربوبية أمر فطري مركوز مستقر في فطر الناس وأن المشركين كانوا معترفين به.

وأن مفترق الطرق والمعترك إنما هو توحيد الألوهية -:

(فعلم أن المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية

) .

ص: 124

وقد استدل علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب بعدة آيات أذكر منها آيتين على سبيل المثال مع أقوالهم في تغييرها:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .

قال الإمام أبو الثناء محمود بن عبد الله الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) :

(والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} : جليل الشأن وهو الله سبحانه، ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره؛ فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه......) .

وقال الإمام أبو السعود العمادي (982هـ) :

ص: 125

( {وَمَا أُمِرُوا} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابيهم {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} عظيم الشأن وهو الله سبحانه وتعالى، ويطيعوا أمره، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه؛ فإن ذلك مخل بعبادته تعالى؛ فإن جميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة

) .

وهكذا قاله كثير من الحنفية.

وقال العلامة الوالي (1362هـ) وتبعه تلميذه الشيخ الغلام (1980م)، واللفظ للثاني:

(إن اليهود والنصارى قد اتخذوا مشائخهم وأئمتهم أربابًا؛ فعبدوهم من دون الله تعالى؛ مع أنهم قد أمروا في التوراة والإنجيل بأن لا يعبدوا إلا

ص: 126

الله سبحانه؛ لأنه لا متصرف في العالم ولا قاضي للحاجات، ولا مستحق للاستغاثة والنداء لدفع الكربات وطلب المنافع غيره عز وجل .

الآية الثانية: قوله تعالى:

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .

قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) مفتي الحنفية ببغداد:

( {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} : جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا

، أي والحال: أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى؛ وقال الفراء:

((العرب تجعل اللام موضع ((أن)) في الأمر: ((أمرنا لنسلم)) وكذا في الإرادة: ((يريد الله ليبين لكم)) ؛ فهي هاهنا بمعنى ((أن)) أي بأن ((يعبدوا الله)) ؛ وأيد بقراءة عبد الله: ((إلا أن يعبدوا)) .

فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها، والأمر على ظاهره، والأول هو الأظهر؛ وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي:

ص: 127

((وهذه الآية علم منها معنى قوله تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ؛ أي: إلا لأمرهم بالعبادة، فيعلم المطيع من العاصي)) .

وهو - كما قال الشهاب - ((كلام حسن دقيق)) ..) .

الوجه الثالث: أن توحيد العبادة غاية خلق الجن والإنس:

لقد استدل كثير من علماء الحنفية بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على أن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له هي غاية خلق الجن والإنس وسر خلقهم، والحكمة منه وغاية العباد التي خلقوا لها، ولهم في ذلك نصوص مهمة متنوعة طويلة وهذا الذي ذكرته هو لب ما قالوه في تفسير هذه الآية.

الوجه الرابع: أن توحيد العبادة غاية إرسال الرسل عليهم السلام.

لقد صرح علماء الحنفية أن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية

ص: 128

فلم يكونوا يعارضون فيه، فلم يكن هو الغاية لإرسال الرسل وإنما المعترك، والمختلف فيه ومفترق الطرق هو توحيد العبادة الذي ناقضه المشركون، فأرسل الله تعالى الرسل عليهم السلام؛ ليدعوا الناس إلى تحقيقه؛ فعلم أن الرسل لم ترسل لتحقيق توحيد الربوبية؛ وإنما أرسلت لتحقيق توحيد الألوهية والدعوة إليه.

وفيما يلي أذكر بعض نصوص علماء الحنفية:

1 -

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) :

(اعلم أن التوحيد [أي توحيد العبادة] أول دعوة الرسل....) ثم ذكر عدة آيات كريمات للبرهنة على أن الرسل عليهم السلام إنما أرسلت للدعوة إلى توحيد العبادة وتحقيقه، ثم ذكر عدة ميزات لتوحيد العبادة تدل على أهميته بين سائر أنواع التوحيد، وحقق أن الغاية إنما هو توحيد العبادة لا توحيد الربوبية ثم أشبع الرد على المتكلمين والصوفية في جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية وبين أن أهل الملل والنحل من جميع أصناف المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية؛ فلا يمكن أن يكون هو الغاية كما لا يمكن إرسال الرسل لأجله) .

2 -

ثم قال رحمه الله وتبعه العلامة نعمان الآلوسي (317هـ) واللفظ للأول:

(وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ لاعتقادهم

ص: 129

أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك؛ بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية، المتضمن توحيد الربوبية؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد؛ كما أخبر تعالى عنهم بقوله:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] .

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] .

ومثل هذا كثير في القرآن.

ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام: أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم كحال أمثالهم من مشركي الأمم في الهند والترك والبربر وغيرهم؛ تارة يعتقدون: أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا كان أصل شرك العرب؛ قال تعالى حكاية عن قوم نوح:

.... {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ؛ وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب

ص: 130

التفسير، وقصص الأنبياء، وغيرها:

عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف:

أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما: قبيلة قبيلة) .

3 -

ثم قال رحمه الله بعد كلام طويل:

(فعلم أن التوحيد المطلوب - هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية) .

4 -

ولأحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني مجدد الألف الثاني (1034هـ) - كلام في أن توحيد العبادة غاية إرسال الرسل؛ لأن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية ووجود الله تعالى، وتوحيد العبادة أهم من توحيد الربوبية، فمن لم يحقق ما قاله الأنبياء من توحيد العبادة - لا يتخلص من الشرك.

5 -

وقال العلامة القاري (1014 هـ) :

ص: 131

(وفي فطر الخلق إثبات وجود الباري

، يشير إليه قوله تعالى:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ؛ ولهذا لم يبعث الأنبياء إلا للتوحيد [أي توحيد العبادة] ؛ لا لإثبات وجود الصانع....) .

6 -

وقال أيضًا في بيان سبب عدم تعرض الإمام أبي حنيفة لمباحث توحيد الربوبية:

(وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاءً بما هو ظاهر في مقام الشهود ففي التنزيل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ؛ فوجود الحق ثابت في فطر الخلق، كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ويومئ إليه حديث «كل مولود يولد على فطرة الإسلام» ، وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد [توحيد العبادة] ، وتبيان التفريد؛ ولذا أطبقت كلمتهم، وأجمعت حجتهم على كلمة ((لا إله إلا الله)) ، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا:((الله موجود)) ؛ بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود؛ ردا لما توهموا وتخيلوا؛ حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}

ص: 132

[الزمر: 3] ؛ على أن التوحيد [توحيد العبادة] يفيد الوجود مع مزيد التأييد) .

7 -

وقال الشاه أنور الكشميري أحد كبار أئمة الحنفية (1352هـ) :

(واعلم أن كلمة الإخلاص لاستئصال الإشراك في العبادة دون الإشراك في الذات، وعليه [أي على توحيد العبادة] تنبني دعوة الأنبياء عليهم السلام؛ لأن منكري الربوبية، أو المشركين في الذات كانوا أقل قليل، فلم يريدوا بتلك الكلمة [يعني لا إله إلا الله] إلا الرد على الذين كانوا يشركون في العبادة، [دون الربوبية] ؛ كما حكى الله عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، يعني: أن

ص: 133

الله واحد، وهؤلاء مقربون إليه؛ والعياذ بالله؛ وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، ولم يقل:((يجحدون)) ، فعلم أنهم لم يكونوا منكرين لتلك الكلمة رأسًا؛ لأن الاستكبار بعد العلم؛ وقد مر أن أول من بعث لدحض الكفر هو نوح عليه الصلاة والسلام، وقبله لم يكن إلا الإيمان فقط، ثم جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقابل قوم نمروذ، وكانوا مشركين في العبادة، فرد عليهم بأبلغ وجه وأتم تفصيل، وعلى هذا فالملة الإبراهيمية هي استئصال الإشراك في العبادة.

8 -

وقد احتج كثير من علماء الحنفية بكثير من الآيات؛ على أن توحيد العبادة هو غاية إرسال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم لم يدعوا الناس إلى توحيد الربوبية؛ لأنهم كانوا معترفين به؛ وإنما دعوا الأمم إلى توحيد العبادة؛ لأن إشراكهم إنما كان في العبادة؛ دون الربوبية والخالقية والرازقية، أذكر على سبيل المثال آيتين فقط:

9 -

الآية الأولى: قوله تعالى:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .

ص: 134

10 -

الآية الثانية: قوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ؛ فهذه الآية - كما نرى - نص صريح على إجماع الأنبياء والمرسلين على أنهم أرسلوا للدعوة إلى توحيد العبادة، وأن توحيد العبادة - هو غاية إرسالهم وبعثتهم، وهذه الآية كالأولى دليل إجماعي على كون توحيد العبادة هو الهدف الأسمى وهو الغاية العظمى.

الوجه الخامس: أن توحيد العبادة غاية إنزال الكتب السماوية:

لقد صرح علماء الحنفية أن توحيد العبادة كما هو غاية إرسال الرسل، كذلك غاية إنزال الكتب السماوية؛ فلم تنزل الكتب الإلهية إلا

ص: 135

لتحقيق توحيد العبادة والدعوة إليه، وإليك بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب:

1 -

قول الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، وقد سبق ضمن كلامه الطويل في الوجه السابق.

2 -

وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) والعلامة الرستمي، واللفظ للثاني: (وسر جميع القرآن؛ بل جميع الكتب المنزلة اختصاص العبادة له تعالى كما قال ابن كثير رحمه الله: والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين أي:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

وكذا قيل: أنزل الله تعالى مائة كتب وأربعة؛ جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجميع هذه الكتب الثلاثة في القرآن؛ وجميع معاني القرآن في المفصل، وجميع معاني المفصل في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ،

ص: 136

وقد مر معنا: أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنه: ((لكل شيء لباب ولباب القرآن حواميم)) ؛ وخلاصة الحواميم السبعة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

بل العبادة سر خلق الإنس والجن؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وهي سر بعثة جميع الرسل والأنبياء قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، ثم ذكر عدة آيات أخرى للبرهنة على ذلك، ورمز إليها بالأرقام، وأنه أول ما دعا إليه الرسل عليهم السلام أممهم:

انظر الأعراف 59، 65، 73، 85 وهود 26، 50، 61، 84 ومريم 41، 44، والشعراء 70 - 72 والعنكبوت 16، 17، 36 والصافات 85 -

ص: 137

86، وغيرها؛ ثم قال: (ففي هذه المواضيع تفصيل دعوة الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم إلى عبادة الله وحده؛ فثبت أن سر بعثة جميع الأنبياء هو العبادة لله وحده....، فثبت أن مقصود نزول القرآن دعوة العباد إلى عبادة الله وحده والرد على الذين أشركوا مع الله في العبادات: من السجدة لغير الله، والحج، والنذر لغير الله؛ وغير ذلك من العبادات

) .

3 -

وقال العلامة السهسواني (1326هـ) :

(اعلم أن الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق لهم، ونحو ذلك؛ فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل) ؛ ثم ذكر عدة آيات كريمات لتحقيق أن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأن إشراكهم إنما كان في العبادة، وأن حقيقة إشراكهم هي التوسل والتشفع بالصالحين قربة وتوصلًا إلى الله تعالى، كما هو طريقة القبورية اليوم في التوسل الشركي إلى الله عز وجل.

ص: 138

4 -

قلت: هذا الذي قاله هؤلاء العلماء الثلاثة يدل عليه كلام غيرهم من علماء الحنفية.

الوجه السادس: أن توحيد العبادة غاية الجهاد فقد استدل علماء الحنفية على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» الحديث.

وقوله صلى الله عليه وسلم:

«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث.

فقد سبق أن الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله استدل به على كون توحيد العبادة هو الغاية دون توحيد الربوبية.

الوجه السابع: أن توحيد العبادة غاية فتح البلاد * فيطبق بعد الجهاد على العباد؛ ليعبدوا رب العباد * ويخلعوا كل ما يعبد من دون الله من الأصنام والأوثان والطواغيت والأنداد * فقد قال سبحانه وتعالى:

ص: 139

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] .

ولعلماء الحنفية كلام في تفسير هذه الآية يدل على أن المراد من التطهير تطهير البلاد * من عبادة العباد وتخليتها من الشرك والأنداد وتحليتها بالتوحيد وعبادة رب العباد *.

الوجه الثامن: أن توحيد العبادة أول دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد سبق ذكر الآيات الدالة على هذا المطلوب؛ سياق كلام الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله وغيره من علماء الحنفية.

الوجه التاسع: أن توحيد العبادة كما هو أول دعوة الرسل كذلك هو آخر الرسل ووصيتهم صلى الله عليهم وسلم؛ دل عليه قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}

الآية [البقرة: 132] وقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}

الآية [البقرة: 133] .

قلت: لعلماء الحنفية كلام في تفسير هاتين الآيتين يدل على هذا المطلوب.

ص: 140

الوجه العاشر: أن توحيد العبادة أول واجب في الإسلام فقد صرح له علماء الحنفية الذين عرفوا حقيقة توحيد الرسل.

1 -

2 - فقد تقدم قول ابن أبي العز (792هـ)، والعلامة القاري (1014هـ) رحمهما الله تعالى وتصريحهما بهذا المطلوب:

من أن السلف كلهم متفقون على أن أول ما يجب على العبد الشهادتان، وأن التوحيد أول الأمر.

3 -

قلت: وأصرح ما يحتج به على هذا المطلوب قول النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه معاذًا إلى اليمن وإرشاده ووصيته له:

...... «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله» .... .

4 -

وللإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح هذا الحديث كلام يحقق أن توحيد العبادة أول واجب على العبد.

الوجه الحادي عشر: أن توحيد العبادة - كما هو أول واجب - كذلك هو آخر واجب، فهو أول الأمر وآخر الأمر؛ فتوحيد العبادة، كما هو أول ما يدخل به العبد في الإسلام كذلك يجب عليه أن يخرج به من الدنيا.

ص: 141

1 -

صرح بذلك الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله واستدل على هذا المطلوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة» .

2 -

وأشار إليه العلامة القاري (1014هـ) .

قلت: وأصح منه حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعًا:

«من مات وهو يعلم أنه (لا إله إلا الله) دخل الجنة» .

وهذا الحديث يقيد الحديث الأول وأمثاله؛ فإنه لا يكفي مجرد القول بل لا بد من العلم والاعتقاد الجازم المنافي للشك؛ كما صرح به علماء الحنفية في شرح الحديث الأول وفي شرح هذا الحديث.

3 -

قلت: لأجل أن توحيد العبادة آخر واجب على المرء - اهتم علماء الحنفية بتلقين المحتضر كلمة التوحيد: ((لا إله إلا الله)) .

واستدلوا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا:

«لقنوا موتاكم: (لا إله إلا الله) » .

ص: 142

4 -

قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) في شرح هذا الحديث:

(هذا غاية الإحسان بالمحتضر بحسب صلاح معاده، وإنما خص ((لا إله إلا الله)) ؛ لأنه أفضل الذكر مشتمل على التوحيد ونفي الإشراك وأنوه أذكار الإسلام) .

5 -

وللعلامة القاري كلام مهم فليراجع.

الوجه الثاني عشر: أنه لا يدخل العبد في الإسلام بأية كلمة إلا بكلمة توحيد العبادة، التي هي كلمة الإسلام:

وهي كلمة: ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من الكلمات:

1 -

قال العلامة الخجندي (1379هـ) رحمه الله:

(اعلم أن ((لا إله إلا الله)) - هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام؛ فمن قالها - عالمًا بمعناها، ومعتقدًا إياها - فقد دخل في الإسلام وصار من أهل دار السلام ((الجنة)) ؛ وأما من قال:

ص: 143

((لا خالق إلا الله)) ، أو ((لا رازق إلا الله)) ، أو ((لا رب إلا الله)) ، أو ((لا موجود إلا الله)) ، أو ((الله موجود)) ، أو نحو ذلك.

فلا يكون مسلمًا، ولا يكون من أهل دار السلام، وهذه الكلمات - وإن كانت حقًا؛ لكن يشرك في القول بها سائر الناس: من المشركين، والمجوس، والنصارى، واليهود، وغيرهم، سوى الدهرية المادية؛ كما يشهد القرآن بذلك؛ فقد ثبت بهذا التحقيق: أن الذكر النافع المنجي من عذاب الله - إنما هو: ((لا إله إلا الله)) ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أفضل الذكر ((لا إله إلا الله)) » .

ص: 144

فما يتداوله العوام * ومن يدعي العلم والدين من الطغام *

من قولهم: ((الله موجود)) ، أو ((لا رب إلا الله)) أو ((لا خالق إلا الله)) ، أو نحو ذلك، فليس من خصائص دين الإسلام، ولا من خصائص المسلمين؛ بل يشترك فيه المشركون، واليهود، والنصارى، والمجوس؛ فتنبه وتدبر، ولا تكن أعمى، وأصم، تقلد كل ناعق وناهق) .

2 -

وقال رحمه الله: (و ((لا إله إلا الله)) - هي كلمة الإخلاص المنافية للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله

) .

3 -

وقال رحمه الله تعالى: (

ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام * ومفتاح دار السلام * والفارق بين المؤمنين والكافرين من الأنام *) .

4 -

قلت: من الكلمات التي ظنها كثير من الأعلام * فضلًا عن العوام الطغام * مفيدة للتوحيد، وتتردد على ألسنتهم وتستطر في كتبهم:

كلمة: ((لا مقصود إلا الله)) ؛ مع أنها من خرافات الصوفية * ومصطلحاتهم الخرافية؛ فإنهم يزعمون: أنهم يعبدون الله تعالى لله؛ لا طمعًا في الجنة ولا نجاة من النار

ص: 145

والذين يعبدون الله طمعًا في الجنة وخوفًا من النار - فهم في الحقيقة ليسوا من الموحدين الكاملين، بل هم من الأجراء العمال العاملين؛ لأن كل ما هو مقصود فهو معبود.

5 -

وهذا في غاية من الفساد والإفساد * والضلال والإضلال * ومناقض لمنهج الأنبياء والمرسلين، فهو في نهاية من الإبطال *؛ فقد قال سبحانه وتعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] وقال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . وقال سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} .... [السجدة: 16] ، وللإمام الآلوسي (1270هـ) كلام في تفسير هاتين الآيتين لتحقيق أن العبادة لرجاء الجنة وخوف النار لا ينافي الإخلاص المقصود في التوحيد والكمال، وللإمام ابن أبي العز (792هـ) كلام مهم في الرد على هؤلاء الصوفية وقد صرح الحنفية أن الإيمان بين الخوف والرجاء.

ص: 146

6 -

وقال العلامة القاري (1014هـ) محققًا أن كلمة الإسلام هي: ((لا إله إلا الله)) دون غيرها:

(وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد، وتبيان التفريد؛ ولذا أطبقت كلمتهم، وأجمعت حجتهم على كلمة ((لا إله إلا الله)) ، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا:((الله موجود)) ؛ بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود؛ ردا لما توهموا وتخيلوا؛ حيث قالوا:

{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] .

و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]

) .

الوجه الثالث عشر:

أن توحيد العبادة مستلزم ومتضمن لتوحيد الربوبية دون العكس.

فمن لم يحقق توحيد العبادة، واكتفى بتوحيد الربوبية - كان كافرًا من الكافرين * ومشركًا من المشركين * وقد صرح بذلك علماء الحنفية:

1 -

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) :

(فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار؛ ويفنى فيه كثير من أهل التصوف؛ ويجعلونه غاية السائلين، وهو مع ذلك لم يعبد الله وحده، و [لم] يتبرأ من عبادة ما سواه كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين) .

ص: 147

2 -

وقد سبق كلام الإمام ابن أبي العز والعلامة نعمان الآلوسي في أن توحيد العبادة متضمن ومستلزم وقوعًا لتوحيد الربوبية دون العكس.

3 -

وقال العلامة القاري (1014هـ) :

الحاصل: أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية، دون العكس في القضية؛ لقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] .

وقوله سبحانه حكاية عنهم:

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ....) .

قلت: هذه كانت أحد عشر كوكبًا؛ والشمس والقمر:

ميزات وخصائص كبرى لتوحيد العبادة وهي تدل على أهميته إلى الغاية؛ وأنه هو الغاية العظمى والمقصد الأسنى، والهدف الأسمى والمطلب الأعلى، الجامع المتضمن لتوحيد الربوبية، المستلزم لتوحيد الأسماء والصفات.

وهذا يدل على أن القبورية الذين عبدوا القبور وأهلها بأنواع من العبادات من الاستغاثة بهم والنذر لهم، والغلو فيهم ونحوها قد أخلوا بأعظم الغاية على الإطلاق، وأشركوا بالله في أهم المطالب بالاتفاق.

وبعد أن عرفنا أهمية توحيد العبادة - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف أركان توحيد العبادة وشروط صحته وبالله التوفيق.

ص: 148

الفصل الرابع

في أركان توحيد الألوهية وشروط صحته

وفيه مبحثان:

- الأول: في بيان أركان توحيد الألوهية.

- الثاني: في بيان شروط صحة توحيد الألوهية.

ص: 149

المبحث الأول

في بيان أركان توحيد العبادة

بعد أن عرفنا أهمية توحيد العبادة وميزاتها لا بد أن نعرف أركانه لنعلم أن توحيد العبادة مركب من جزئين هما ركنان له وليكون هذا كله أبلغ رد على القبورية فإنهم قد أخلوا بأركان توحيد العبادة وأشركوا بالله تعالى.

فأقول: إن علماء الحنفية قد صرحوا أن توحيد العبادة متركب من ركنين أساسيين وجزئين مهمين، لا يمكن وجوده إلا بهما ولا قوام له إلا بوجودهما معًا؛ وهما كما يلي:

الركن الأول: النفي؛ أي نفي جميع ما يعبد من دون الله، باعتقاد أن كل إله غير الله، فهو باطل؛ فلا يستحق العبادة أحد غير الله تعالى؛ وإذا لم يتحقق هذا الركن الأول لم يتحقق توحيد العبادة البتة.

الركن الثاني: الإثبات؛ أي إثبات أن الله تعالى هو وحده إله حق، مستحق للعبادة وحده لا شريك له فكلمة الإسلام مركبة من جزئين هما ركنان لها.

الأول: ((لا إله)) وهو النفي، والثاني:((إلا الله)) ، وهو الإثبات.

ووجه تقديم النفي على الإثبات ما قاله العلامة الخجندي (1379هـ) بعد ذكر أن الأغذية لا تنفع ما دام المرض موجودًا:

ص: 151

(فكذلك الإنسان ما دام مبتلى بمرض القلب بالشرك ونحوه لا تنفعه عبادة وطاعة أصلًا.

ولهذا أجمعوا على أن التخلية مقدمة على التحلية، وهذا هو معنى ((لا إله إلا الله)) .

تنفي أولًا الآلهة الأنفسية والآفاقية، ثم تثبت الإله الواحد الأحد الحق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد) .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب:

1 -

قال الإمام ابن أبي العز (791هـ) ، في شرح قول الإمام الطحاوي (321هـ) .

2 -

والعلامة القاري (1014هـ)، واللفظ للأول:((ولا إله غيره)) بعد قوله: ((إن الله واحد)) :

(هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم؛ كما تقدم ذكره؛ وإثبات التوحيد لهذه الكلمة، باعتبار النفي والإثبات - المقتضي للحصر فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا - والله أعلم-.

لما قال الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] ؛ قال بعده: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني:

هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره؛ فقال تعالى:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}

ص: 152

3 -

15 - وقريب منه كلام لكثير من علماء الحنفية في تفسير هذه الآية وتحقيق أن توحيد العبادة قائم على الركنين مؤسس على دعامتين ومركب من جزئين، وهما النفي والإثبات.

16 -

وقال القاري (1014هـ) في بيان أهمية الركن الثاني:

(والمقصود الأعظم - هو إثبات الإلهية لله تعالى - بعد نفيها عن غيره) .

17 -

ثم قال في بيان أهمية الركن الأول: (لا نزاع في ثبوت إلهية مولانا - جل وعز - لجميع العقلاء وإنما كفر من كفر بزيادة إله آخر؛ فنفى ما عداه - تعالى؛ على هذا هو المحتاج إليه، وبه يحصل التوحيد) .

18 -

وقال الشيخ أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني، ومجدد الألف الثاني (1034هـ)، في بيان أهمية الركن الأول وهو النفي:

ص: 153

(والمتشبث بمجوع أحكام الإسلام والكفر - مشرك؛ والتبرؤ من الكفر شرط الإسلام؛ والاجتناب عن شائبة الشرك - توحيد؛ والاستمداد من الأصنام، والطواغيت - في دفع الأمراض والأسقام - كما هو الشائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - عين الشرك، والضلالة؛ فيكفرون من حيث لا يشعرون؛ ونذر الحيوان للمشايخ، وذبحه عند قبورهم - داخل في الشرك؛ ولا يجوز إشراك أحد به تعالى في عبادة من العبادات، وطلب الحاجات من غير الله - عين الضلالة وتسويل الشيطان الرجيم) .

19 -

وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام قيم في تحقيق الركن الأول، وهو النفي أي البراءة من أفعال الكفر والشرك وعدم ارتكاب ما ينافي كلمة التوحيد، وأن من ارتكب ما يوجب الكفر ولو أقر بكلمة التوحيد؛ فقد كفر وحبط عمله وتبين زوجته، وخرج من دين الإسلام.

20 -

وللعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كلام مهم في تحقيق أن القبورية لا تنفعهم كلمة التوحيد ما داموا مرتكبين للشرك وعبادة غير الله، وإن هم زعموا أنهم لا يعبدون غير الله.

21 -

وقال العلامة الخجندي - في تحقيق هذين الركنين - بعدما ذكر عدة قبور جعلت أوثانًا تعبد من دون الله - في بلاد ما وراء النهر:

ص: 154

بلخ، وبخارى، وسمرقند، وتركستان، وخجندة، وكاشغر، وقونية، والعراق، وكربلاء، ودمشق، ومصر، والقاهرة، وطنطا:

(أو غيرها من القبور التي يعظمونها ويعبدونها وينذرون لها ويتوجهون إليها..، فصارت كل هذه القبور كالتي ذكرها الله تعالى في كتابه؛ فلا يكون إيمان العبد صحيحًا حتى يكفر بهذه كلها؛ ويؤمن بالله وحده؛ وهذا معنى قوله تعالى:

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] ؛ وهذا معنى: ((لا إله إلا الله)) ؛ فتنفي الآلهة كلها من كل الوجوه، وتثبت الإله الحق الواحد الأحد الصمد الذي:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ؛ فهذا التوحيد الخالص إنما هو مفتاح الجنة بلا ريب ولا شبهة

؛ فقائل: ((لا إله إلا الله)) يجب عليه أن يستمر عليه، وعلى موجبه؛ وأن لا يبطله بما ينافيه من الشرك، واتخاذ الأنداد، واعتقاد التصرف الغيبي لغير الله؛ وإلا بطل ولا تبقى له منفعة

؛ فلا بد من الاستمرار على التوحيد، وعلى كل ما يقتضيه التوحيد؛ ولا بد من الكفر

ص: 155

بالطاغوت، وكل آلهة دون الله كما لا يخفى؛ فمن يقول:((لا إله إلا الله)) ، ثم يقول: إن الأرواح تنصر، وتمد، أو يدعو غير الله، أو يرجو غير الله، فقد أبطل قوله:((لا إله إلا الله)) ؛ بل أشرك بالله شركًا جليا لا يغفره الله عز وجل فتنبه) .

22 -

وقال رحمه الله، في بيان أهمية هذين الركنين:

(وهذه الكلمة نفي، وإثبات: نفي الآلهة عما سوى الله تعالى من المخلوقات؛ حتى جبريل ومحمد عليهما السلام، فضلًا عن غيرهم من الأولياء والصالحين؛ وهذه الألوهية - هي التي تسميها العامة في زماننا: ((السر والولاية)) ! و ((الإله)) معنا: ((الولي الذي فيه السر)) ؛ وذلك أنهم يظنون: أن الله تعالى جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن يلتجئ الإنسان إليهم، ويرجوهم، وليستغيث بهم، ويجعلهم ((واسطة)) بينه وبين الله تعالى؛ فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا: أنهم ((وسائط)) هم الذين يسميهم الأولون: ((الآلهة)) !!

و ((الواسطة)) هي ((الإله)) ؛ فقول المؤمن: ((لا إله إلا الله)) إبطال للوسائل؛ وغالب الذين غلوا في تعظيم الأولياء، وشيوخ الطرق، وأئمة آل البيت من السادة قد عبدوهم بدعائهم حتى في الشدائد، والطواف بقبورهم، وذبح القرابين لهم؛ وكانوا يجهلون: أنهم بهذا قد اتخذوهم ((آلهة))

) .

23 -

وقال في بيان أهمية هذين الركنين: النفي والإثبات:

(فالله فالله يا إخواني!

ص: 156

تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره ورأسه: ألا وهو شهادة أن ((لا إله إلا الله)) ، واعرفوا معناها؛ واكفروا بالطواغيت وعادوهم

، ولا شك: أن أول ما فرض الله تعالى على عباده الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ....؛ فصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها وتعاديهم؛ ومعنى الإيمان بالله:

أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده، دون من سواه، وتخلص كل أنواع العبادة لله وحده، وتنفيها عن كل معبود سواه، و ((الطاغوت)) عام في كل أنواع العبادة؛ فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة: من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فهو طاغوت

؛ فالإنسان لا يكون مؤمنًا بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]

) .

24 -

وقال رحمه الله في بيان تحقيق هذين الركنين، ولا سيما الركن الأول: وهو ((النفي)) :

(فقد ثبت ثبوتًا بينًا: أن ((لا إله إلا الله)) :

مفتاح دار السلام؛ ولكن بشرط كونها خالصة مخلصة؛ فلا بد أولًا من الكفر [بالطاغوت] ، والتبرؤ من كل الآلهة الآفاقية والأنفسية؛ ثم إثبات الواحد الأحد المعبود حقا؛ وأهم ما نفته هذه الكلمة - استحقاق العبادة

ص: 157

لغير الله نفيًا كليا؛ ولأجل هذا أرسلت الرسل، وجردت السيوف؛ ومن لوازمها - العمل بكل ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقتضى هذه الكلمة؛ بلا تغيير، ولا تزييد: فمن المنفي: الربوبية والخالقية؛ فلا رب إلا الله، ولا خالق إلا الله؛ فمن اعتقد أن الملائكة، أو الأرواح تربي تربية بسلطة غيبية فقد أشرك بالله في الربوبية والخالقية؛ كما هو حال كثير من جهلة القبوريين والطرقيين.

ومن المنفي: القدرة؛ فلا قدرة لأحد إلا بالله؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمن اعتقد أن الملائكة، أو الأرواح تقدر على شيء بنفسها فقد أشرك بالله في صفة القدرة والقادرية.

ومن المنفي: التصرف في الكون، والإحياء والإماتة؛ فلا متصرف في الكون إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله؛ فمن اعتقد: أن الملائكة والأرواح تتصرف في الكون، أو تحيي أو تميت. فقد أشرك بالله.

ومن المنفي: الحكم والتحليل والتحريم؛ فالحاكم الحق حقيقة هو الله وحده، وهو المشرع وحده، وهو المحلل وحده، وهو المحرم وحده؛ فلا حاكم إلا الله، ولا مشرع إلا الله، ولا محلل إلا الله، ولا محرم إلا الله.

فمن حكم بحل شيء لم يحله الله، أو حكم بحرمة شيء لم يحرمه الله، أو شرع ما لم يأذن به الله فقد أشرك بالله.

ومن المنفي: العبادة، والمعبودية؛ وهذا هو الأصل الذي أنزلت

ص: 158

هذه الكلمة لأجله، وأرسلت الرسل لأجله؛ فلا معبود حقا إلا الله، ولا يعبد حقًّا إلا الله: بأي نوع من أنواع العبادة.

وبالجملة.....؛ هذا هو معنى: ((لا إله إلا الله)) ؛ فمن قالها لفظًا، ولكنه غير معناها، وأفسد تفسيرها، وعبد غير الله. فقد أتى ببهتان * فلا شك أن يصير من أهل الخسران *) .

25 -

وقال رحمه الله مبينًا أهمية هذين الركنين:

(واعلم أن مدلول: ((لا إله إلا الله)) : التزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دون الله؛ وهذا أصل دين الإسلام وقاعدته؛ ولهذا كانت هذه الكلمة الإسلام * ومفتاح دار السلام * والفارق بين المؤمنين والكافرين من الأنام *) .

قلت: هذه كانت أمثلة من نصوص علماء الحنفية في تحقيق الركنين لتوحيد العبادة: النفي، والإثبات، وهي أبلغ وأقمع للقبورية الذين أخلوا بهذين الركنين، وناقضوا التوحيد بعبادتهم القبور وأهلها أنواعًا من العبادات؛ فهذه النصوص تدل على أن التوحيد لا يمكن أن يوجد ويقوم إلا بهذين الركنين وهاتين الدعامتين، كما تصرح بأن القبورية ناقضوا التوحيد، فهم ليسوا من أهل التوحيد بل هم من أهل الشرك.

وإذا عرفنا ذلك ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف شروط صحة توحيد العبادة والله المستعان.

****

ص: 159