الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
في تعريف العبادة اصطلاحا وشرعًا عند علماء الحنفية
لقد ذكر علماء الحنفية عدة تعريفات للعبادة؛ وكلها صحيحة جامعة مانعة.
وهي ترد على تعريف القبورية للعبادة ردا باتا.
وأذكر من تلك التعريفات ما يلي:
التعريف الأول: هو أن العبادة: (فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه) .
التعريف الثاني: هو أن العبادة: (فعل ما يرضي الرب) .
قلت: المناسبة بين هذين التعريفين وبين المعاني اللغوية للعبادة:
هي الذل والخضوع والتنسك.
التعريف الثالث: هو أن العبادة: (تعظيم يقصد به الزلفى من الله تعالى والنجاة في الدار الآخرة) .
التعريف الرابع: هو أن العبادة: (نهاية التذلل لنهاية تعظيم الغير
بالاختيار) .
قلت: المناسبة بين هذين التعريفين وبين المعاني اللغوية للعبادة واضحة.
التعريف الخامس: هو أن العبادة: (عبارة عن الاعتقاد والشعور بأن للمعبود سلطة غيبية في العلم والتصرف فوق الأسباب، يقدر بها على النفع والضر؛ فكل دعاء وثناء وتعظيم ينشأ من هذا الاعتقاد: فهو عبادة) .
وقد أثنى الحنفية على هذا التعريف بأنه جامع لأنواع من العبادة؛ قال الشيخ الرستمي:
(وما أحسن ما قيل.....)، ثم ذكر هذا التعريف ثم قال:
(وهذا التعريف جامع لجميع أفراد العبادات: من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والذكر، والنذر، والثناء، والدعاء، والعبادات: القولية، والبدنية، والمالية جميعًا؛ فكل من يعبد عبادة،
ويعتقد أن للمعبود علي. علمًا بجميع الحالات، وتصرفًا في كل حال. فإن كان يعبد الله - فهو عبادة الله، وإن كان يعبد لغير الله بهذا الاعتقاد - فهو شرك، وعبادة غير الله تعالى) .
التعريف السادس: هو أن العبادة: (ما أمر به شرعًا من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي) .
التعريف السابع: هو أن العبادة: (فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم ابتغاء وجه الله والآخرة) .
قلت: وجه المناسبة بين هذين التعريفين وبين معاني العبادة اللغوية: الطاعة والتنسك.
قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342) هـ قبل أن يذكر هذين التعريفين، مبينًا جهالة القبورية للعبادة، مبطلًا حصرهم لها:
(والجواب أن يقال: إن كلامه [ابن جرجيس] هذا نشأ عن جهل
باللغة والشرع وما جاءت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين....) .
ثم ذكر هذين التعريفين وتعريفًا آخر، ثم قال:
(فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله ولا تصرف لسواه. وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير الركوع والسجود والذبح والتقرب؛ مع أن دعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها) .
التعريف الثامن: هو أن العبادة: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ كالتوحيد؛ فإنه عبادة في نفسه، والصلاة، والزكاة، والحج، وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والدعاء، والذكر، والقراءة، وحب الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، والاستغاثة به، وغير ذلك مما رضيه وأحبه، فأمر به، وتعبد الناس به) .
قلت: هذا التعريف أحسن التعريفات كلها لفظًا ومعنى، وأشملها جمعًا ومنعًا، وأدقها طردًا وعكسًا، وأوضحها كلا وجزءًا، وهو من كلام شيخ الإسلام.
التعريف التاسع: هو أن العبادة: (ضرب من الخضوع بالغ حد
النهاية، ناشئ عن استشعار القلوب عظمة المعبود) .
التعريف العاشر: هو أن العبادة: (عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف، والرجاء، والطاعة) .
قلت: هذا التعريف فيه ميزة لا توجد في غيره من التعريفات، وهي اشتماله على أركان العبادة.
التعريف الحادي عشر: هو أن العبادة: (فعل ما يرضى به الرب) .
التعريف الثاني عشر: هو أن العبادة: غاية حب العابد للمعبود، مع ذل العابد لمعبوده.
أقول: إن هذه التعريفات التي ذكرتها عن الحنفية للعبادة حجة قاطعة على بطلان تعريف القبورية للعبادة، وأن القبورية في اشتراط القيود التي ذكروها في مفهوم العبادة؛ كالاستقلال بالنفع والضر، والربوبية، ونفوذ المشيئة، ونحوها على باطل محض.
وأن تعريفهم للعبادة غير جامع لأفرادها؛ بل غير صادق على شيء من العبادة؛ فهو تعريف مزيف ذاهب أدراج الرياح؛ بل قضي عليه فصار كأمس الدابر؛ وأن تعريفات الحنفية للعبادة كلها صحيحة في نفسها، وبعضها أولى وأوضح من بعضها؛ وأنها جامعة لأفراد العبادة، ومانعة عن دخول غيرها فيها.
وتبين من هذه التعريفات: أن القبورية بنذورهم وتوجههم إلى الأموات، واستغاثتهم بهم عند الملمات - عباد القبور وأهلها مرتكبون للشركيات *.
وبذلك جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.
ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا
…
وأنك تلقى باطل القول لجلجا
وبعد أن عرفنا تعريف العبادة ننتقل إلى معرفة أركانها وأنواعها وشروط صحتها في المبحث الآتي عند علماء الحنفية، وبالله التوفيق.
*****