الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في أجوبة علماء الحنفية عن شبهات القبورية الأخرى
التي
تشبثوا بها لتبرير إشراكهم الأكبر وعبادتهم القبور وأهلها
للقبورية شبهات كثيرة لتبرير إشراكهم الأكبر بالله عز وجل وعبادتهم القبور وأهلها من الاستغاثة بهم عند الكربات والنذر لهم عند الملمات وغيرها من أنواع العبادات.
وقد سبق أن ذكرت شيئًا كثيرًا من هذه الشبهات مع أجوبة علماء الحنفية عنها.
وسيمر بك أيها القارئ الكريم شيء كثير منها مع أجوبة علماء الحنفية عنها في مناسبات شتى إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الفصل أذكر شبهات تشبثت القبورية بها لتبرير إشراكهم بالله تعالى وعبادتهم القبور وأهلها:
الشبهة الأولى: شبهة الأحجار والأشجار والأصنام والأوثان
.
زعم القبورية - لتبرير إشراكهم بالله وعبادتهم لغير الله: أن المشركين السابقين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار * ويعتقدون فيها الربوبية ويعبدون الأوثان والأشجار * التي لا تضر ولا تنفع * ولا ترى ولا
تسمع * ولا مكانة لها عند الله ولا احترام لها عنده.
أما نحن فنستغيث بالأنبياء والمرسلين *
ونتوسل بالأولياء والصالحين إلى رب العالمين *
فهم أحياء يسمعون ويتصرفون ويعلمون *
ولهم مكانة عند الله تعالى، ويشفعون *
فجاء هؤلاء الوهابية الخوارج - فعمدوا إلى آيات نزلت في المشركين - فحرفوها وحملوها على المؤمنين الموحدين المتوسلين المستغيثين بالأنبياء والأولياء، كما أنهم حرفوا الآيات التي نزلت في الأصنام والأوثان والأحجار - فحملوها على الأنبياء والأولياء، فقاس هؤلاء الوهابية الخوارج - المؤمنين الموحدين الذين يستغيثون بالأنبياء والأولياء - على المشركين الذين كانوا يعبدون الأحجار والأصنام - في أن كلا منهم أهل الشرك.
وقاسوا الاستغاثة بالأنبياء والأولياء - على عبادة الأصنام، والأوثان - في أن كلا منها شرك.
كما قاسوا الأنبياء والأولياء - على الأصنام والأوثان -
في عدم النفع والضر وعدم الشفاعة.
مع أن هذه الأقيسة فاسدة؛ إذ لا يصح قياس موحد مؤمن يستغيث بالأنبياء والأولياء - الذين لهم مكانة عند الله، وينذرون لهم وينادونهم - على مشرك يعبد الأحجار والأصنام والتماثيل التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعقل ولا تسمع.
كما لا يصح قياس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم - على عبادة الأصنام والأحجار والأوثان - التي لا مكانة لها ولا احترام لها عند الله ولا تضر ولا تنفع؛ لأن المشركين كانوا يعبدونها على أساس أنها تستقل بالنفع والضر وأن لها تأثيرًا وشرفًا ذاتيا واختيارًا وتدبيرًا وأما نحن فنستغيث بالأنبياء والأولياء - الذين لهم مكانة عند الله تعالى، وهم أحياء يعلمون ويسمعون.
فأين هذا من ذاك؟!؟
الجواب:
أن هذه الشبهة تتضمن شبهات كثيرة:
منها: أن الاستغاثة بالأموات عند الكربات ليست من العبادة فليست
من الشرك بالله تعالى.
وسيأتي الجواب عنها مفصلًا إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن الشرك لا يتحقق إلا باعتقاد الربوبية والخالقية والاستقلال بالنفع والضر في غير الله.
وقد سبق الجواب عنها بحمد الله وتوفيقه.
ومنها: أن المشركين السابقين كانوا يشركون آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والاستقلال بالنفع والضر.
وقد سبق الجواب عنها بما لا يزيد عليه.
ومنها: أن ((الوهابية)) (أهل التوحيد) خوارج يكفرون المؤمنين الموحدين وسيأتي الجواب عنها في إبطال شبهة التكفير.
بقيت شبهة: أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار * والأوثان والأشجار * التي لا تضر ولا تنفع * ولا ترى ولا تسمع * ولا مكانة لها عند الله ولا تشفع * وقد أجاب عنها علماء الحنفية بعدة أجوبة:
الجواب الأول: أن المشركين الأولين - لم يكونوا يعبدون الأحجار والأشجار لذاتها، وإنما كانوا يعبدون الصالحين * على أساس أنهم من عباد الله المقربين * عند رب العالمين * فيكونون لهم عنده من الشافعين * وقد سبق مفصلًا محققًا أن بداية إشراكهم ونشأة القبورية والوثنية -
إنما كان على هذا الأساس * كل ذلك بحيل الشيطان الخناس *.
قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققًا أن إشراك المشركين قديمًا وحديثًا، إنما كان بعبادة الصالحين وجعلهم شفعاء عند الله:
(فإن الشرك بقبر الرجل المعروف بالصلاح أقرب إلى النفس من الشرك بالأحجار، لما للشيطان من وساوس يلقيها في قلوب بني آدم، وقد أدخلها في قوالب يريهم أنها بظواهرها شرعيات * وما هي إلا زخارف وتمويهات * ثم إذا ألفوها لم تكد أن تفارقها النفوس * ولو قطعت بالسيوف * فمما ألقاه إليهم بكيده:
أن قال: إن هؤلاء قوم صالحون * وعند الله مقربون *، ولهم عنده ما يشاءون * ولهم الجاه الأعلى * والمقام الرفيع الأسمى *
فمن قصدهم لا يخيب سعيه * ولا يطيش رأيه *، وأن ببركتهم تدفع البليات * وتقضى الحاجات *، وبشفاعتهم يتقرب زوارهم إلى الله الغفار * فتحط عنهم بشفاعتهم عند الله الأوزار * إلى غير ذلك من التمويهات التي يملأ بها قلوب أهل الأماني * بمثل هذه المعاني *؛ فيتلاعب بعقولهم السخيفة * وآرائهم الضعيفة * ويحسن لهم البدع والمنكرات * بما يلقيه إليهم من الحكايات والخرافات * ويحثهم على التقرب إلى أهل القبور * بما يقدرون عليه من النحر والنذور * والطواف وتزيينها بالزينة المحرمة من القصب والذهب وتعليق القناديل، وإيقاد شموع العسل وتصفيح الجدران *، والأعتاب، والسقوف، والأبواب بالفضة والذهب وغيرها مما يجاوز الحساب، ويفهمهم: أنهم في مثل ذلك أحسنوا كل الإحسان فدخلوا الجنان *.
ثم ما كفاه ذلك حتى استخفهم، فدعاهم إلى أن يطلبوا منهم النصر على الأعداء * والشفاء من عضال الداء *
فأجابوه إلى ما دعاهم (إليه) مسرعين * وزادوا على ذلك بأن طلبوا منهم بقاء الحياة لأولادهم، فتراهم يقولون *:
قد علقنا أولادنا عليهم.
ومنهم من يطلب منهم النسل إذا كان عقيمًا * والشفاء إذا كان سقيمًا * وكثير منهم يطلب منصبًا فيه أخذ أموال العباد * والسعي في الأرض بكل فساد * فيجيء إليهم ويلازمهم معتقدًا: أن من لازمهم قضيت حاجته *، ونجحت سعايته * واقتربت سعادته *، وإذا فتحت بيوت قبورهم المذهبة * ورفعت ستور الأبواب المطلية المطرزة * وفاحت تلك الروائح المسكية من الجدران المخلقة * - وجد هذا الزائر في فؤاده من الخشية والرهب - ما لا يجد معشار جزء من عشرة بين يدي خالق السماوات والأرضين * وإله جميع العالمين *؛ فيدخل إلى القبر خاشعًا * ذليلًا متواضعًا * لا يخطر في قلبه مثقال ذرة من غير إجلاله * منتظرًا فيض كرمه ونواله *.
فأقسم بالله! أنه لم يتصوره بشرًا قد وضع بأكفانه في لحده، ولو سلمنا: أنه خطرت له - وهو عنده - تلك الخطرة - لتعوذ بالله منها، ووقف عند حده.
ويا مصيبة من أنكر عليهم حالهم * ويا شناعة من رد عليهم أمرهم * ويا خسارة من علمهم وأرشدهم * فإن ذلك عندهم قد تنقص حق الأولياء * وهضمهم مرتبتهم من السمو والارتقاء *.
فبالله عليك أيها الناظر! إلا ما قابلت هذه مع ما ورد عن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، متأملًا كيفية إذنه بعد المنع.
وانظر إلى سبب المنع والإذن، وما علل النبي صلى الله عليه وسلم به الإذن وجعله في حكم الغاية والشرط
…
) .
قلت: هذا النص يدل على أمور:
الأول: أن القبورية فرقة مشركة عباد القبور والأوثان.
الثاني: أن أصل شرك الوثنية الأولى والحديثة - هو عبادة الصالحين للتقرب بهم إلى الله تعالى وقضاء الحاجات.
الثالث: أن أهل الشرك قديمًا وحديثًا قصدهم عبادة الصالحين المقربين عند الله تعالى للشفاعة بهم عنده.
الرابع: أن أهل الشرك قديمًا وحديثًا لم يقصدوا عبادة الأوثان والأحجار * والأصنام والتماثيل والأشجار *
وإنما كان قصدهم عبادة الصالحين ليشفعوا لهم عند رب العالمين.
الخامس: أن أهل الشرك - لم يعتقدوا في آلهتهم أنهم شركاء في الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية، والاستقلال بالنفع والضر.
السادس: أن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات * والنذر والذبح لهم عند الكربات * من أعظم أنواع العبادات * ومن أكبر الأمور الشركيات *.
السابع: أن الحكم على هؤلاء القبورية بالشرك - ليس من باب رمي الخوارج المسلمين بالكفر.
وإنما هو من باب الحقيقة وبيان الحق وحماية التوحيد.
وبذلك راحت شبهة القبورية هذه ومعها أمثالها أدراج الرياح.
الجواب الثاني:
أن علماء الحنفية قد حققوا: أن القبورية هم عبدة القبور، وعباد الأوثان والأنصاب والأشجار والأحجار.
فالقبورية كما أنهم وثنية أقحاح كذلك هم نصبية أجلاد حجرية أصلاب.
فلا فرق بينهم وبين المشركين السابقين إلا أن الأولين كانوا عبدة الأصنام أيضًا، وأما قبورية هذه الأمة - فليسوا عباد الأصنام؛ لأنهم لم ينقشوا ولم ينحتوا للأولياء الصور من الحجر، أو الخشب أو الحديد أو الصفر ونحو ذلك.
ولكن القبورية شاركوا المشركين الأولين في كونهم جميعًا عباد القبور وأهلها وعبدة الأوثان والأنصاب والأحجار والأشجار.
وامتازت قبورية هذه الأمة بأن شركهم أشد من شرك الأولين وأنهم أعظم عبادة وخوفًا ورجاء من الأموات منهم لخالق البريات.
وبذلك قد اجتثت شبهة القبورية:
من أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار.
أما نحن فنستغيث بالأولياء المقربين عند الله!
فالقبورية كذبهم علماء الحنفية، كما كذبتهم أفعالهم.
وتحقق أن القبورية قديمًا وحديثًا - عباد الأحجار والأشجار وعبدة الأنصاب والأوثان، يعبدون القبور وأهلها.
الجواب الثالث:
أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن جل شرك المشركين إنما كان بإشراكهم الصالحين بالله تعالى ولذلك نرى أن أكثر آلهتهم إنما كانت من عباد الله الصالحين من الأنبياء والأولياء.
أمثال إبراهيم، وإسماعيل، والمسيح، وعزير عليهم السلام، ومريم، وود، وسواع، ويغوث، ويعوق، واللات، ومناة، وهبل وغيرهم.
فإذا كان الأمر كذلك - فلا يصح للقبورية أن يقولوا:
إن المشركين الأولين كانوا يعبدون الأحجار التي لا كرامة لها، ونحن نستغيث بالأنبياء والأولياء الذين لهم كرامة عند الله!
فزالت شبهة من أصلها.
الجواب الرابع:
أن علماء الحنفية قد حققوا:
أن الله عز وجل قد ذكر أوصاف العقلاء لآلهة المشركين في صدد الرد عليهم وعبر عن آلهتهم بصيغ العقلاء؛ فدل ذلك على أنهم إنما كانوا يعبدون الصالحين، ولم يكونوا
يقصدون الأحجار والأصنام بالعبادة لذاتها.
وتفصيل ذلك على ما ذكره كثير من علماء الحنفية:
أن الله تعالى قال في صدد الرد على المشركين مبينًا عجز آلهتهم:
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، وقال جل وعلا:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28-29] . وقال سبحانه وتعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194]، وقال عز وجل:
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102]، وقوله تبارك وتعالى:
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 13-14]، وقال جل شأنه:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6]، وقال تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] .
إلى غيرها من الآيات التي فيها ذكر آلهة المشركين بصيغ العقلاء وصفات ذوي العقول؛ فأنت ترى: أن هذه الآيات الكريمات مشتملة على صفات العقلاء؛ لآلهة المشركين والتعبير عنهم بصيغ العقلاء:
نحو: الذين، يخلقون، وأموات، وما يشعرون، ويبعثون، ونحشرهم، وقال شركاؤهم، ولغافلين، وعباد أمثالكم وفليستجيبوا، وعبادي، وما يملكون، ولا يسمعوا، و (لو سمعوا) ، وما استجابوا، و (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ، و (هم) ، وغافلون، و (إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) ، و (كانوا بعبادتهم كافرين) ، و {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ، و (يرجون رحمته) ، و (يخافون عذابه) ، ونحو ذلك من الصيغ التي لا تستعمل إلا لذوي العقول عند العرب، وغيرهم والصفات التي لا توجد إلا في العقلاء في اللغة العربية، وغيرها؛ فإن الجمادات من الأصنام والأحجار والأشجار والتماثيل التي لا تعقل لا يقال فيها:
(الذين لا يخلقون) ، و (لا يشعرون) ، ولا يملكون، ولا يستجيبون، ولا يسمعون
…
، كما لا يقال فيها:( {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} ، وعباد أمثالكم، وأعداء، وعبادي، ونحشرهم، وغافلون، وغافلين، وكافرين، ويبعثون، ويبتغون، ويرجون، ويخافون)
…
؛ وهذه كلها براهين باهرة * وسلاطين قاهرة * وحجج ساطعة * وأدلة قاطعة * -
على أن آلهة المشركين السابقين إنما كانوا عقلاء، وأنهم كانوا من عباد الله تعالى وليسوا جمادات بحتة، ولا أحجار صرفة، ولا أصنام خالصة، كما تزعم القبورية.
وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ردا على ابن جرجيس خاصة * وعلى القبورية أتباع إبليس عامة * مجيبًا عن هذه الشبهة:
(فأقول: يريد العراقي بهذا الكلام إثبات المساواة بين الأموات * والأحياء! ؛ ليغري الناس على ندائهم في الملمات * والدعاء! .
وهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] .
وشبه بهم من لم ينتفع بسماع الهدى؛ وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أموات {غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
[النحل: 20 - 21] ، وليست هذه الآية في الأصنام - كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت
…
ولا شعور لها.
وقد قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الآية، وإنما هي فيمن يموت ويبعث: من أهل الكرامات، والمعجزات، وغيرهم؛ كما لا يخفى على من تدبرها، وتأمل قوله تعالى:{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وهذا إنما يستعمل فيمن يعقل؛ كما لا يخفى على من له معرفة باللغة العربية [بل بغيرها من اللغات أيضا] ؛ فالحمد لله على ظهور الحجة * وبيان المحجة) .
قلت:
بعد إتمام هذه الحجة * وإنارة هذه المحجة * لا يمكن للقبورية أن يقولوا: إن المشركين كانوا يعبدون الأحجار والأشجار، ونحن نستغيث بالأنبياء والأولياء.
ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا
…
وأنك تلقى باطل القول لجلجا
أبن وجه نور الحق في صدر سامع
…
ودعه فنور الحق يسري ويشرق
الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد حققوا أن المشركين لم يكونوا يعبدون الأصنام والأحجار لذاتها في الحقيقة، وإنما كان قصدهم عبادة هؤلاء الصالحين الذين ظنوا أنهم مقربون عند الله، ويشفعون لهم عنده، وإنما صوروا لهم تماثيل ليجعلوها قبلة للتوجه إلى هؤلاء المقربين، كما أن الكعبة قبلة للمسلمين؛ لأنه لا يعقل في أحد من بني آدم أن ينحت بيده حجرًا أو خشبًا ثم يعتقد أنه إلهه ويعبده ويجعله شفيعًا بينه وبين الله، إذن لا يتصور إطباق جم غفير من العقلاء على عبادة الأصنام والأخشاب والأحجار لذاتها وجعلها آلهة بأعيانها؛ لأن هذا مما لا يصدر من عاقل، ولا يتصور أن يفعله أحد من بني آدم، فكيف يتصور ذلك من جم غفير من العقلاء؟ بل الحقيقة أن المعبود لهم لم يكن هذا الحاضر من الصنم المنحوت من الحجر أو الخشب، بل المعبود إنما كان ذلك الغائب الذي صوروه وجعلوا له صنمًا من خشب أو حجر أو صفر أو غيره، فالصنم لم يكن مقصودًا بالعبادة، وإنما كان المقصود هو ذلك المقرب الصالح، وإنما كان الصنم قبلة لتوجههم إلى هذا الصالح المقرب عند الله في زعمهم، الشفيع لهم عنده،
هذا هو ما عليه جمهرة المشركين، ولكن لا يمنع أن يكون فيهم بعض الحمقى السفهاء الذين لم يتفطنوا للفرق بين هذه الأصنام، وبين من هي على صورهم، فظنوها معبودات وآلهة بأعيانها.
ولذلك نرى: أن الله تعالى تارة قد يرد على أمثال هؤلاء السفهاء أيضًا كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] .
قلت:
لا ريب في أن القبورية الوثنية من هذه الأمة - على طريقة الوثنية الأولى بعينها، فإنهم أيضًا يعظمون آثار الصالحين كقبورهم، وأحجارهم، وأشجارهم، كأنها قبلة لتوجههم إلى هؤلاء الصالحين، فقد قال علماء الحنفية في بيان سبب تعظيم المشركين للأصنام:
(إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا: أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله) .
ولذلك صرح الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) بأن المعبود الحقيقي عند المشركين إنما كان هو الله تعالى، وأما آلهتهم الأخرى فكانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى.
وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققًا أن المشركين السابقين لم يقصدوا عبادة الأحجار والأصنام لذاتها، بل كانوا يعبدون من يعتقدون فيهم الشفاعة عند الله، مبينًا أن القبورية في ذلك على طريقة الوثنية الأولى:
(فإن قال [القبوري] : ((الشرك عبادة الأصنام)) ، فقل له:((ما معنى عبادة الأصنام؟)) .
أتظن أنهم كانوا يعتقدون: أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق، وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟)) - فهذا يكذبه القرآن.
وإن قال: ((هو قصد خشبة، أو حجرًا، أو بنية على قبر، أو غيره -[مما له تعلق بالصالحين]- يدعون ذلك ويذبحون له، ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع عنا [المصائب] ببركته)) . - فقل له: ((صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار، والأبنية التي على القبور وغيرها)) .
فهذا قد أقر: أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام) .
الجواب السادس:
أنه لو سلم أن المشركين السابقين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار لذاتها والقبورية من هذه الأمة لا يعبدون الأحجار، بل يستغيثون بالأنبياء، والأولياء، لكن لا نسلم أن القبورية غير مشركة؛ لأنه قد تحقق أن القبورية من أعظم أهل الشرك، وأن استغاثتهم بالأموات عند الكربات ونذورهم لهم عند الملمات * من أعظم الشركيات؛ لأنها من أعظم أنواع العبادات *؛ فالقدر المشترك بينهم وبين المشركين الأولين هو ارتكاب الشرك الأكبر وعبادة غير الله تعالى - سواء كان ذلك إنسانًا، أو جنا، أو ملكًا، أو صنمًا، أو حجرًا، أو شجرًا، حيًّا، أو ميتًا، قبرًا، أو غارًا، فمن عبد غير الله تعالى - فقد أشرك به سبحانه؛ فمن زعم أن المشركين السابقين - كانوا مشركين؛
لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأحجار؛ بخلاف القبورية - فإنهم لا يعبدون الأصنام ولا الأحجار، وإنما يستغيثون بالأموات عند الكربات وينذرون لهم عند الملمات - فهم ليسوا بمشركين - فهو إما مجنون، زائل العقل، مرفوع عنه القلم، ملحق بالأنعام * أو مستكبر، معاند، مكابر، سوفسطائي، مغرض، ممرض للأنام * فلسان حاله يقول:
لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي
…
ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
ولكننا نقول له:
فليس شعاع الشمس يخفى لناظر
…
أفيقوا عن الإصرار ما بالكم لد
وإليكم لتحقيق هذا المطلوب بعض نصوص علماء الحنفية:
قال العلامة السهسواني (1326هـ) بعد ذكر عقائد المشركين مقارنًا بها عقائد القبورية من هذه الأمة:
(وإذا تقرر هذا فلا شك: أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حي من الأحياء:
أنه يضره أو ينفعه، إما استقلالًا، أو مع الله تعالى، وناداه، أو توجه إليه، أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق - فهو لم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة، إن الدعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضر عنه -
هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه - حجرًا، أو ملكًا، أو شيطانًا، كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية، وبين أن يكون إنسانًا من الأحياء أو الأموات، كما يفعله الآن كثير من المسلمين.
وكل عالم يعلم هذا، ويقر به، فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى، وتشريك غيره معه - للحيوان، كما يكون للجماد، وللحي كما يكون للميت.
فمن زعم: أن ثم فرقًا بين من اعتقد في وثن من الأوثان: أنه يضر أو ينفع، وبين من اعتقد في ميت من بني آدم، أو حي منهم:
أنه يضر أو ينفع، أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله - فقد غلط غلطًا بينًا، وأقر على نفسه بجهل كثير؛ فإن الشرك - هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغير الله فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره مما لا يتقرب به إلا إليه، وليس في مجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكًا: بالصنم، والوثن، والإله لغير الله - زيادة على التسمية بالولي، والقبر، والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين؛ بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن؛ إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض
المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلقه عليه الجاهلية، أو أطلق عليه اسم آخر.
فلا اعتبار بالاسم فقط، ومن لم يعرف هذا؛ فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم، وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام - لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد: أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة، والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم
…
وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور [وأهلها]
…
) ، ثم حقق رحمه الله أن القبورية أشد شركًا من الوثنية الأولى، وأعظم عبادة للقبور وأهلها منهم لله عز وجل.
2 -
وقال الشيخ الرستمي بعد ذكر قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] :
(فمن اجتنب عن عبادة الأحجار والخشب، وابتلي في عبادة
القبور - فهو منكر هذه الآية، وداخل في حكم المشركين؛ فعلم من جميع هذا التفصيل: أن بين المشركين السابقين وبين عابدي القبور في هذا الزمان أو غيره ليس فرق ما، بل فصلنا في هذا الباب تفصيلًا طويلًا؛ ليوازي كل عابد قبر نفسه بالمشركين السابقين، ويظهر له باليقين: أن عبادة القبور أيضًا شرك وضلال، فلا يغتر هؤلاء الجهلة بأنا مؤمنون وموحدون، بل صدق عليهم قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] .
فيا أيها الإخوان! ، ويا مدعي الإسلام! ، الشرك الشرك، وعبادة القبور، وعبادة القبور؛ فإنها شرك الردى، يردى صاحبها، ويهوي صاحبها في مكان سحيق) .
3 -
وقال حفظه الله:
(وبعض الجهلة إذا سمعوا هذه المقالة - يقولون: ((إن هؤلاء الوهابيين يسوون بين الأنبياء والأولياء، وبين سائر الناس والأوثان والأصنام، ويذلونهم)) .
فأقول لهم - تمثيلًا -: بأن من يصلي، وأكل بصلًا، أو فومًا في الصلاة - فتفسد صلاته بهذا الأكل.
وكذا من أكل طعامًا لذيذًا مثل اللبن، أو الدجاج، أو غيرها في الصلاة - تفسد صلاته.
فهل يجوز لأحد أن يقول: إن الفقيه سوى بين البصل واللبن؟
فكذا التوحيد يفسد بأن يعتقد في عامة الناس التصرف والملك للأصنام.
أو يعتقد هذا الاعتقاد في الأنبياء والأولياء) .
الحاصل:
أن العبرة بارتكاب الشرك لا بالشريك، فالمشرك مشرك؛ سواء أشرك بالله تعالى: صنمًا، أو وثنًا، أو حجرًا، أو شجرًا، أو قمرًا، أو شمسا، أو نجمًا، أو أشرك بالله تعالى: ملكًا مقربًا، أو نبيا مرسلًا، أو وليًّا كاملًا، أو رجلًا عاميا.
قلت:
هذا الذي ذكرته من كلام الحنفية في هذا الجواب يكفي لقلع شبهة القبورية وقطع دابرهم:
ولو كان هذا موضع القول لاشتفى
…
به القلب لكن للمقال مواضع
الجواب السابع:
أن علماء الحنفية قد حققوا: ((أن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس - من الشرك بشجر أو حجر، ولهذا نجد كثيرًا من الناس عند القبور: يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى، ولا في وقت السحر! ، ومنهم من يسجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد)) .
قلت:
لعلماء الحنفية أجوبة أخرى أيضًا في الجواب عن هذه الشبهة وإبطالها.
وأقول: بناء على ذلك لو سلم أن المشركين السابقين كانوا عباد الأصنام والأشجار * وعبدة الأوثان والأحجار * التي لا كرامة لها ولا مكانة عند الله، ولا تضر ولا تنفع * ولا ترى ولا تسمع * - لكان شرك القبورية أشد وأسرع فليكن السابقون عباد الأحجار والأشجار، فإن ذلك لا ينفع القبورية عبدة القبور وأهلها، ولا يبرر شركهم ولا يجوز استغاثتهم بالأموات * ولا يبيح النذور لهم
عند الكربات *؛ فالفريقان كلاهما أهل الشرك وكلهم جميعًا عبدة غير الله سبحانه؛
فإن تنج منها تنج من ذي ملمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيا
وبعد إبطال هذه الشبهة ننتقل إلى إبطال شبهتهم الأخرى:
الشبهة الثانية: شبهة التكفير والخروج:
لقد أثارت القبورية ضد التوحيد وأئمته كثيرًا من العوام الجهلة، وقاموا وقعدوا وهولوا وجولوا، وصاحوا وصرخوا، وقالوا:
إن هؤلاء الوهابية قد كفروا الأمة المسلمة كلها جميعًا برمتها، ورموها بالشرك والكفر على طريقة إخوانهم الخوارج كلاب النار، فزعموا في المؤمنين الموحدين زوار القبور المستغيثين بالأنبياء والأولياء:
أنهم يعبدون غير الله، وأنهم يشركون بالله، ويعمدون إلى آيات نزلت في الكفار والأصنام - فيحرفونها ثم يحملونها على المؤمنين الموحدين المتوسلين، مع أن زوار قبور الصالحين بريئون من الشرك بحمد الله.
والقبورية يتشبثون لتحقيق شبهتهم هذه بتلك الأحاديث المطلقة
التي فيها ذكر قول ((لا إله إلا الله)) مطلقًا بدون قيد؛ كحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» ، وحديث أسامة:«يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟» الحديث.
وقالوا: إن هذه الأحاديث دالة على أن الكفر أمر باطني؛ فلا يجوز تكفير أحد ممن قال كلمة التوحيد؛ لكن هؤلاء الخوارج يكفرون الأمة الإسلامية جمعاء، حتى الصحابة والتابعين وأتباعهم، والمتكلمين، والفقهاء، والمحدثين، والصوفية إلى يوم القيامة.
قلت:
لعنة الله على الأفاكين البهاتين * وغضب الله على المتقولين الدجالين *!؟!
وأقول:
يجدر بي أن أسوق نصوص بعض القبور بحرفها وفصها في تقرير هذه الشبهة ليظهر للمسلمين تهورهم * وفي دركات البهتان تطورهم *:
1 -
قال ابن عابدين الشامي (1252هـ) ، مبينًا تعريف الخوارج، مدرجًا فيهم أئمة الدعوة السلفية، معلقًا على قول الحصكفي (1088هـ) :
[ ((.....، وخوارج: وهم قوم لهم منعة، خرجوا عليه [أي الإمام]
بتأويل يرون أنه على باطل: كفر، أو معصية توجب قتاله بتأويلهم، ويستحلون دماءنا وأموالنا، ويسبون نساءنا، ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم) ]-:
(
…
، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد، وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتى كسر الله شوكتهم، وخرب بلادهم، وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين) .
2 -
وقال جميع أئمة الديوبندية وشيوخهم، وعلى رأسهم خليل أحمد
السهارنفوري (1346هـ) في الجواب عن السؤال ((الثاني عشر)) :
(قد كان محمد بن عبد الوهاب النجدي يستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وكان ينسب الناس إلى الشرك، ويسب السلف، فكيف ترون ذلك؟
وهل تجوزون تكفير السلف والمسلمين وأهل القبلة؟
أم كيف مشربكم؟.
الجواب: الحكم عندنا فيهم: ما قال صاحب الدر المحتار
…
) ، ثم ساقوا كلامه المذكور آنفًا في الخوارج، ثم قالوا:
(وقال الشامي في حاشيته:
((كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب....)) ) .
ثم ساقوا كلام ابن عابدين المذكور - الذي قرروا فيه: أن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه خوارج مكفرون للمسلمين.
3 -
وقال خرافي آخر وهو الشاه محمد أنور الكشميري (1352هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية:
(أما محمد بن عبد الوهاب النجدي - فإنه كان رجلًا بليدًا، قليل العلم، فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر، ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقظًا متقنًا عارفًا بوجوه الكفر وأسبابه) .
4 -
وقال حسين أحمد الملقب عند الديوبندية بشيخ الإسلام، أحد كبار أئمة الديوبندية، وأحد مشاهير القبورية الخرافية، وأحد الأعداء الألداء للدعوة السلفية وأئمتها (1377هـ) :
(محمد بن عبد الوهاب النجدي كان يحمل خيالات باطلة، وعقائد فاسدة، وقاتل أهل السنة والجماعة، وقتلهم، وأجبرهم على اعتقاد خيالاته، وغنم أموالهم، ورأى أن قتلهم موجب لرحمة الله، وقد آذى أهل الحرمين أشد الأذى، وكان يسيء القول في السلف الصالح،
وقد تضايق كثير من أهل الحرمين من إيذائه، فهاجروا، واستشهد بأيدي جنوده آلاف من الناس؛ فالحاصل:
أنه كان ظالمًا، وباغيًا، سفاكًا، فاسقًا، ولهذا أبغضه العرب كما أبغضوا أتباعه، إلى حد لم يبغضوا اليهود، ولا النصارى، ولا المجوس، ولا الهندوك؛ نعم يجب بغضهم وعداوتهم لما صدر منهم من أنواع الإيذاء لهم
…
؛ إن بين عقائدنا، وعقائد أكابرنا، وبين عقائد الوهابية بونًا بعيدًا، وفرقًا شاسعًا، كما بين السماء والأرض
…
؛ وإليكم بعض الأمثلة من عقائد الوهابية..؛ العقيدة الأولى:
أن محمد بن عبد الوهاب يعتقد أن جميع المسلمين في جميع العالم مشركون وكافرون، وأن قتلهم، وقتالهم، وسلب أموالهم جائز وحلال، بل واجب
…
؛ وأن الشيخ النجدي يعتقد تحريم مناكحتهم ومجالستهم، ويوجب هتك أعراضهم، وإيذاءهم في دينهم، وأنفسهم، وأموالهم) .
إلى آخر ما ذكره في الطعن في أئمة الدعوة وعقيدتهم، ظلمًا وعدوانًا * وبغيًا وبهتانًا.
5 -
وهكذا نرى كثيرًا من الديوبندية يرددون أكاذيب أكابرهم في كتبهم الوثنية.
قلت:
هذه عدة نماذج من نصوص القبورية ولا سيما الديوبندية في تقرير هذه الشبهة.
وبذلك تبين للمسلمين حقيقة الديوبندية * وأنهم قبورية خرافية * إلا من رحم ربك منهم.
والحقيقة أن هؤلاء الديوبندية وأئمتهم - قد شهدوا على أنفسهم بلسانهم وبنانهم:
أنهم فرقة قبورية خرافية * مبتدعة صوفية * - بتلك الخرافات الوثنية التي سجلوها في كتبهم، كما أنهم شهدوا على أنفسهم:
أنهم كذبة في افترائهم على أئمة التوحيد والسنة والدعوة السلفية، فقد أظهروا للناس حقيقة أمرهم - بتلك الشهادات التي هي أعظم وثوقًا من شهادة من قال الله تعالى فيه:
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ..... [يوسف: 26]، ومن قواعد الحنفية:((المرء مؤاخذ بإقراره)) .
فلا يلومن إلا نفسه. ولنعم ما قيل:
فكانت كعنز السوء قامت بظلفها
…
إلى مدية تحت التراب تثيرها
وبعد هذا العرض لهذه الشبهة، ننتقل إلى جهود علماء الحنفية في الجواب عنها وإبطالها وقلعها وقطع دابر أهلها.
الجواب:
لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة وجوه أذكر منها:
الوجه الأول: أن علماء الحنفية قد حققوا:
أن من ركني التوحيد: ركن النفي، وهو نفي جميع ما يعبد من دون الله؛ سواء كان صنمًا أو حجرًا أو شجرًا، أو وثنًا، أو ملكًا مقربًا، أو نبيا مرسلًا، أو وليا كاملًا، أو رجلًا عاديا عاميا، أو جنيا، أو غير ذلك؛ فمن أقر بكلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) - ولكنه لم يتجنب من عبادة غير الله من الاستغاثة بالأموات، والنذر لهم عند الملمات ونحو ذلك - فلا يتحقق توحيده، ولا ينفعه التلفظ بكلمة التوحيد.
وللعلامتين الآلوسيين كلام في غاية الأهمية في أن المسلم إذا تلفظ بالكفر وجحد ما هو من الضروريات كالتوحيد الذي هو دين الرسل فقد كفر ولو مزحًا.
إذن بطل اتهام القبورية بأن الوهابية خوارج يكفرون المؤمنين
الموحدين.
الوجه الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا:
بأن من شروط صحة التوحيد - فهم معنى: ((لا إله إلا الله)) - فمن قال هذه الكلمة بدون فهم معناها، ويرتكب الشرك، ويعبد غير الله - لا يدخل في الإسلام ولا يصح توحيده.
قلت:
إذا كان الأمر كذلك - لا يصح زعم القبورية أن المستغيثين بالأموات والناذرين لهم عند الكربات - موحدون مؤمنون *؛ فبطل تهمة الخروج، وتهمة تكفير المؤمنين الموحدين *.
الوجه الثالث: أن علماء الحنفية قد ذكروا في شروط صحة التوحيد:
التصديق المنافي للتكذيب.
ولا شك أن القبورية مع قولهم: ((لا إله إلا الله)) يكذبون معناها - بارتكابهم للشرك الأكبر، وعبادة غير الله؛ فالقبورية في الحقيقة مكذبون لهذه الكلمة لا مصدقون بها، وإن كانوا يقولونها باللسان.
وبهذا ثبت أن القبورية ليسوا موحدين ولا مؤمنين * وبطلت شبهة تكفير المؤمنين الموحدين *.
الوجه الرابع: أن علماء الحنفية اشترطوا لصحة التوحيد:
الإخلاص المنافي للشرك.
ولا ريب أن القبورية لم يحققوا هذا الشرط؛ لأنهم مع تلفظهم بكلمة التوحيد - يرتكبون الشرك البواح * والكفر الصراح * ويعبدون الأموات بأنواع من العبادات * فلا يصح توحيدهم * مع ندائهم الأموات عند الكربات *.
وإذا كان الأمر كذلك - فأنى للقبورية أن يكونوا مؤمنين موحدين *
وثبت أن القبورية كذابون متقولون على أئمة التوحيد والسنة في أنهم خوارج، وأنهم يكفرون المؤمنين الموحدين *.
الوجه الخامس: أن علماء الحنفية صرحوا بأن الركن الأهم في الإيمان * - هو التصديق بالجنان *.
وأئمتهم الثلاثة: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وغيرهم، كالطحاوي وغيره - يجعلون الإقرار باللسان أيضًا ركنًا للإيمان *.
فإذا كان الأمر كذلك - فالقبورية لم يحققوا التصديق بالجنان * لارتكابهم الشرك الأكبر، وعبادتهم للأموات * من الاستغاثة، والنذور عند الكربات *؛ فزالت شبهة تكفير المسلمين المؤمنين الموحدين من أصلها، وبطلت تهمة الخروج.
الوجه السادس: أن علماء الحنفية قد صرحوا بعدم تكفير أهل القبلة، لكن إذا لم ينكر أحد منهم ما هو من ضروريات الدين * فمن أنكر ما هو من ضروريات الدين *، وارتكب ما هو كفر بواح * وشرك صراح * - فهو عندهم كافر؛ حتى أن كثيرًا منهم لا يعذرون بالجهل في ذلك، وإن كان مواظبًا طول عمره على الطاعات.
قلت:
بناء على نصوص هؤلاء العلماء من الحنفية -
لا شك أن القبورية قد ارتكبوا كفرًا بواحًا * وشركًا صراحًا * وأنكروا ما هو من ضروريات الدين: من التوحيد، وإفراد الله تعالى بالعبادة، فيتحقق كفرهم عند علماء الحنفية، ولا يعذرون بالجهل، ولكن لا يجوز تكفيرهم قبل إقامة الحجة عليهم وإيضاح المحجة لهم عند أئمة السنة، والحنفية.
وبهذا قد بطلت شبهة القبوريين * وذهب اتهامهم لأئمة الدعوة بأنهم خوارج يكفرون المسلمين * - أدراج الرياح * وأنهم على أئمة السنة باغون أقحاح *، وأن القبورية في هذا الاتهام كذابون أفاكون * ساقطون عن العدالة خائنون مائنون * كما أنهم بهاتون متقولون في زعمهم أن الوهابية يعمدون إلى آيات نزلت في الكفار المشركين * والأوثان، فيحرفونها ويحملونها على المؤمنين الموحدين *.
الجواب السابع: أن علماء الحنفية قديمًا وحديثًا أشد الناس في التكفير وأسرع الناس إليه ويكفرون بأشياء قد لا تكون من الكفر البواح مباشرة إلا بالوسائط التي لم يلتزمها ذلك القائل الذي يحكمون عليه بالكفر، وقد اشتكى تهورهم وإسراعهم إلى التكفير كثير من الناس.
وقد خصص كثير من علماء الحنفية عدة مباحث للتكفير في كتبهم، وبوبوا لذلك واهتموا بجمع ألفاظ الكفر،
والتصريح بالتكفير بها، وفي ذلك من العجائب والغرائب من تكفير المسلمين، بأشياء قد تصدر خطأ، أو بزلة لسان * دون قصد الجنان *، وقد جمع العلامة القاري (1014هـ) ألفاظ الكفر وكلمات الارتداد عند الحنفية فأوعى.
وذكر العلامة الآلوسي (1317هـ) طرفًا من ذلك أيضًا.
بل قد ألف بعض الحنفية كتابًا في ألفاظ الكفر وكلمات الارتداد والأقوال التي يكفرون بها المسلم الذي صلى وصام، وزكى، وحج، وعبد الله طوال عمره.
قلت: إذا كان الأمر كما وصفت - فلم لا يوجه القبورية - ولا سيما قبورية الحنفية * طعونهم وسهامهم إلى الحنفية؟!؟ * - ولم لا يحكمون عليهم بأنهم خوارج كلاب النار * وأنهم جعلوا
المسلمين كالكفار *؟
وأنهم يكفرون المسلمين بمثل هذا التكفير الواسع الأرجاء؟ فلم هذا الإباء والإحجام والإرجاء؟ *
ولكن القبورية في كتمان الحقائق واتهام الأبرياء كمن قيل فيه:
أصم عن الشيء الذي لا أريده
…
وأسمع خلق الله حين أريد
وما قيل:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
مع أن أئمة التوحيد والسنة لا يكفرون أحدًا بمثل هذا التكفير الواسع الذي يوجد عند الحنفية.
كما أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة إلا بعد إتمام الحجة * وإيضاح المحجة *
ولكن القبورية في عدم الإنصاف * وشدة الاعتساف * كمن قيل فيه:
فرصاص من أحببته ذهب كما
…
ذهب الذي لم ترض عنه رصاص
بل هم في الظلم والعدوان * والبغي والاتهام والبهتان * كمن قيل فيه:
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا
…
شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
إذن لا ذنب لأئمة التوحيد والسنة، ولا مبرر للقبورية في ولوغهم في
أعراضهم، فإن القبورية كذابون بهاتون في الحكم عليهم بأنهم خوارج، وأنهم يكفرون المسلمين.
وأقول متمثلًا بما قيل:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
…
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
الجواب الثامن: أن الحنفية قد صرحوا بأن الخوارج كانوا يكفرون المسلمين بارتكاب الكبيرة من الذنوب العملية دون الاعتقادية.
فمن كفر أحدًا بارتكاب كفر بواح * وشرك صراح * بعد إقامة الحجة عليه * وتنور المحجة لديه * - لا يقال له: إنه خارجي يكفر المسلمين * المؤمنين الموحدين *!
ومن زعم ذلك - فهو مغالط ماكر ملبس مغرض * غالط شاطر مدلس ممرض *
فأئمة الدعوة لم يكفروا أحدًا من المسلمين بارتكاب الذنب الكبير العملي، ولا كفروا أحدًا بارتكاب الكفر والشرك إلا بعد إقامة الحجة عليه * وإيضاح المحجة لديه *؛ قال العلامة السهسواني (1326هـ) في الرد على دحلان أحد أئمة الدعاة إلى عبادة الشيطان (1304هـ) ؛ وكشف تلبيساته * وبيان أكاذيبه وتمويهاته وتدليساته *:
(وأما المسألة الثالثة - وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام -:
أن أهل العلم قالوا: ((لا يجوز تكفير المسلم بالذنب)) ، وهذا حق،
ولكن ليس هذا مما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زنا، أو سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر [عندهم]، وأما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا [بالكفر] بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك، لكنك رجل من أجهل الناس * [ومن أكذب الناس *] ؛ تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم - لا يكفر؛ فإذا كنت تعتقد ذلك - فما تقول في المنافقين الذين يصلون ويصومون ويجاهدون
…
؟؟؟
ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره
…
؟؟
فأضرم لهم علي بن أبي طالب نارًا فأحرقهم بها
وأجمعت الصحابة على قتلهم
لكن ابن عباس رضي الله عنهما أنكر تحريقهم بالنار، وقال:((يقتلون بالسيف)) .
أتظن أن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟
أم أنت تفهم الشرع!؟! ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه؟؟؟؟) .
الحاصل:
أن أهل التوحيد والسنة لا صلة لهم بالخوارج، وليست شبهة القبورية هذه إلا محض اتهام لإضلال العوام * ولحاجة في نفوس هؤلاء الطغام *
رماني بأمر كنت منه ووالدي
…
بريئًا ومن أجل الطوي رمانيا
الوجه التاسع: أن كثيرًا من علماء الحنفية قد صرحوا بأن أئمة الدعوة لا يرون تكفير من ارتكب الكفر والشرك - إلا بعد إقامة الحجة عليه * وتنوير المحجة لديه *
وهذا غاية في الاحتياط، ونهاية في تقوى الله سبحانه وتعالى؛ قال العلامة السهسواني (1326هـ) في الرد على دحلان (1304هـ) :
(السادس: أنك قد عرفت فيما تقدم: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكفر السواد الأعظم من المسلمين، ومن كفره، فلم يكفره بارتكاب ذنب من الكبائر، كما هو مذهب الخوارج؛ وإنما كفره بدعوة غير الله، حيث يطلب فيها منه ما لا يقدر عليه إلا
الله *
وهذا لا يستريب أحد من أهل العلم والديانة: أنه عبادة لغير الله * وعبادة غير الله لا شك في كونها كفرًا؛ مع أنه لم يكفره أيضًا حتى عرفه الصواب * ونبهه [إلى طريقة السنة والكتاب] *.
وأيضًا قد عرفت فيما مر: أن الشيخ ليس بمنفرد في هذا التكفير؛ بل جميع أهل العلم من أهل السنة والجماعة يشاركون فيه، لا أعلم أحدًا مخالفًا له
…
) .
ثم عد جمعًا من العلماء بأسمائهم، أنهم كفروا القبورية بشركياتهم.
وقد ساق العلامة السهسواني عدة نصوص لمجدد الدعوة الإمام، تنفي هذه التهمة الماكرة *
وتكذب القبورية الكذابة الفاجرة.
وذكر العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أن المسلم، بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري، فيجب تنبيهه وتعليمه ليتوب، ولا يحكم بكفره لأجل جهله، وذلك إتمامًا للحجة * وإيضاحًا للمحجة *.
وذكر الآلوسي أن أهل التوحيد لا يكفرون إلا من حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بكفره.
قلت:
هذا كما قال الإمام ابن القيم:
من كان رب العالمين وعبده
…
قد كفراه فذاك ذو الكفران
قلت:
لأجل عدم إتمام الحجة * وإيضاح المحجة * لم يحكم علماء الحنفية على القبورية بالكفر بمعنى خروجهم عن الملة والارتداد عن دين الإسلام.
وأقول:
إن عدم الحكم على القبورية - مع ارتكابهم الشرك الصريح الصراح * والكفر القبيح البواح * - بتكفيرهم وخروجهم عن الملة، وارتدادهم عن الإسلام - مثل عدم الحكم على الجهمية المعطلة بعدم الارتداد - مع ارتكابهم الكفر الواضح * والشرك الفاضح * -
لأجل خوف عدم إقامة الحجة عليهم * وعدم إيضاح المحجة لديهم *
ولقد أجاد أبو غدة الكوثري أحد كبار الكوثرية * وأحد الموالين للقبورية * وأفاد في جمع نصوص العلماء الأعلام * ولا سيما نصوص شيخ الإسلام * في عدم تكفير الجهمية لأجل عدم إقامة الحجة عليهم * وعدم تنوير المحجة لديهم *
وذكر فيها قول شيخ الإسلام: ((لو وافقتكم كنت كافرًا.....، وأنتم لا تكفرون؛ لأنكم جهال)) .
فتبين أن أئمة السنة ليسوا متهورين في التكفير * وأن القبورية كاذبون في النكير *.
الوجه العاشر: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن القبورية يستحقون وصف الخوارج فإنهم هم أشد الناس تكفيرًا، بل هم أشنع تكفيرًا من الخوارج، والخوارج خير منهم؛ لأن الخوارج كانوا يكفرون الناس بارتكاب الكبائر، أما القبورية - فهم يكفرون أهل التوحيد بتوحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة.
قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :
(يوضحه الوجه الثاني: أن الخوارج إنما كفروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته، وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم؛ وأما عباد القبور - فكفروا بموافقة الرسول [صلى الله عليه وسلم] في نفس مقصوده، وجعلوا تجريد
التوحيد كفرًا وتنقصًا؛ فأين المكفر بالذنب من المكفر بموافقة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وتجريد التوحيد؟؟) .
قلت:
لقد ذكرني كلام الآلوسي هذا كلام ابن القيم (751هـ) رحمه الله، فقد قال مبينًا أن القبورية أشنع كفرًا من الخوارج:
وخصومنا قد كفرونا بالذي
…
هو غاية التوحيد والإيمان
ومن العجائب أنهم قالوا لمن
…
قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم
…
أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان
فانظر إلى ذا البهت هذا وصفهم
…
نسبوا إليه شيعة الإيمان
سلوا على سنن الرسول وحزبه
…
سيفين سيف يد وسيف لسان
والله ما كان الخوارج هكذا
…
وهم البغاة أئمة الطغيان
كفرتم أصحاب سنته وهم
…
فساق ملته فمن يلحاني
إن قلت هم خير وأهدى منكم
…
والله ما الفئتان مستويان
شتان بين مكفر بالسنة ال
…
عليا وبين مكفر العصيان
الوجه الحادي عشر: وهو جواب عن تشبث القبورية بتلك الأحاديث المطلقة التي وردت في قول: ((لا إله إلا الله)) :
والجواب:
أن تلك الأحاديث لا تفيد القبورية شيئًا، ولا تدل على شيء من
مطلوبهم؛ فإن غاية ما في تلك الأحاديث وجوب الكف عن قتل من قال: ((لا إله إلا الله)) حتى يتبين أمره، وليس معناها أن من قال:((لا إله إلا الله)) - فهو مسلم مؤمن موحد، وإن ارتكب كفرًا بواحًا * وشركًا صراحًا *!!! ؛ لما سبق تحقيقه: من أن هذه الأحاديث المطلقة مقيدة بقيود وردت في أحاديث أخرى، فلا يكفي مجرد قول كلمة التوحيد باللسان * دون تصديق معناها بالجنان *؛ قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :
(ولخصوم الحق، وأعداء الدين شبهة أخرى: وهي: أنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: ((لا إله إلا الله)) ، وقال:«أقتلته بعدما قال: ((لا إله إلا الله)) ؟» ) .
وكذلك قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»
…
، إلى أحاديث أخر في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها - لا يكفر، ولا يقتل، ولو فعل ما فعل....؛ فيقال لهم:
من المعلوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وسباهم، وهم يقولون:((لا إله إلا الله)) ، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون:((إن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)) ، ويصلون، ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار.
وهؤلاء الجهلة يقرون: أن من أنكر البعث - كفر، وقتل
ولو قال: ((لا إله إلا الله)) ، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام - كفر، وقتل
ولو قالها؛ فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع!؟! ، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل، ورأسه؟؟؟ ؛ ولكن أعداء الله لم يفهموا معنى الأحاديث! ؛ فأما حديث أسامة - فإنه قتل رجلًا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}
[النساء: 94] .
أي: تثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه، والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام - قتل؛ لقوله:((فتبينوا)) ، ولو كان لا يقتل إذا قالها - لم يكن للتثبت معنى، وكذلك الأحاديث الأخر معناها ما ذكرنا
وأن من أظهر التوحيد والإسلام - وجب الكف عنه إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك.....) .
قلت:
لقد بطلت شبهات القبورية كلها المتعلقة بالتكفير بحمد الله وحسن توفيقه، وتبين أنهم في جميع ذلك كذابون أفاكون، دجالون، مضلون *
والآن ننتقل إلى عرض شبهتهم الأخرى لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها:
الشبهة الثالثة: شبهة تعظيم الأنبياء ومحبة الأولياء.
زعم القبورية قديمًا وحديثًا - لتبرير كل ما يرتكبونه من الاستغاثة بالأموات عند الكربات * والنذور لهم، والسجدة لهم، واعتقاد التصرف وعلم الغيب لهم وغير ذلك من الشركيات والعبادات * -
أن كل ذلك ليس من باب الإشراك بالله ولا من قبيل عبادة غير الله *، بل ذلك من تعظيم أولياء الله، ومحبة أحباب الله *.
الجواب:
لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بتحقيقات طويلة جعلوها كأمس الدابر.
وحاصلها: أن تعظيم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومحبة الأولياء والصالحين - أمر مطلوب، وهو من الإيمان، ومن أعظم الأمور في الإسلام، ومن أجل العبادة لله تعالى، ولكن إذا كان في حدود الشريعة الغراء؛ بحيث لا يكون ذلك غلوًا ولا مفضيًا إلى الغلو، ولا يكون ذريعة إلى الإشراك بالله تعالى ولا وسيلة إلى عبادة غير الله تعالى، وأن لا يسمى الشرك الصريح، ولا عبادة الأموات باسم التعظيم والمحبة.
ولا يرتكب الوثنية، ولا يعبد غير الله تحت ستار التعظيم والمحبة، وأما تعظيم الأنبياء والأولياء إذا كان بالغلو فيهم وإطرائهم ورفعهم عن منزلتهم، ويتذرع به إلى الاستغاثة بهم والنذور لهم واعتقاد التصرف وعلم الغيب فيهم، ونحوها من الكفريات والشركيات - فهو ليس بتعظيم، بل هو في الحقيقة تحقير لشأنهم، واستخفاف
بهم، بل هو استخفاف بالله تعالى أيضًا وتحقير لجنابه سبحانه وتعالى، وإنه في الحقيقة مبالغة في الإشراك بالله وعبادة غير الله، وهو شرك صريح، وكفر قبيح تحت شعار التعظيم، وانسلاخ عن جملة الدين، وهذا النوع من التعظيم هو من أعظم أسباب الوثنية، والإشراك بالله، وعبادة غير الله عز وجل قديمًا وحديثًا، وإنما التعظيم للأنبياء عليهم السلام، والأولياء، ومحبتهم، وتوقيرهم، واحترامهم - يكون باتباع سنتهم، والتأسي بهم في أفعالهم وأقوالهم، وسلوك طريقهم، دون عبادتهم وعبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أوثانًا، وتعظيمهم لا يقتضي الاستغاثة بهم، وليس كل تعظيم جائزًا في الإسلام.
قلت:
إن ((التعظيم)) ، و ((المحبة)) ، و ((التوسل)) ، و ((الكرامة)) ، و ((العبادة)) ، و ((التوحيد)) ، و ((الشرك)) ، و ((الاستغاثة)) ، و ((النذر)) ، و ((الألوهية)) ، و ((الصفات)) ، و ((التشبيه)) ، ونحوها - مصطلحات شرعية يجب تفسيرها وشرحها وفق ما ورد في الكتاب
والسنة، وطبق مصطلحات الصدر الأول من الصحابة التابعين؛ فمن فسرها بغير تفسيرها، وحملها على مصطلحات أهل البدع من الروافض، والجهمية * والمعتزلة، والأشعرية، والماتريدية، والصوفية، والقبورية * وغيرهم من أصناف المبتدعة - فقد حرف الإسلام، وقلب الحقائق، وبدل الدين * وأتى بزندقة عظمى * وطامة كبرى * وإلحاد مبين * وتحريف قرمطي * وتخريف وثني * وتلاعب بالمصطلحات * وغير الحدود واللغات *.
وهذه حقيقة واقعة اعترف بها أحد كبار أئمة القبورية * وأحد دعاة الجهمية * ذلكم الكوثري (1371هـ) ، فقد قال - عليه من الله ما يستحقه - مقرا ببعض الحق، شاهدًا على نفسه وأهله وذويه، ذابحًا للقبورية والجهمية في آن واحد بسيف لسانه * ومدية بنانه * وشفرة قوله، وسكين نصه وبيانه * وقانونه الكلي وتبيانه *:
(أين التجليات التي اصطلح عليها الاتحادية؟
من تخاطب العرب، ومن تفاهم السلف والخلف بهذا اللسان العربي المبين؟
حتى يكون حمل النصوص والآثار على التجليات المصطلح عليها فيما بعد عهد التنزيل بدهور - استعمالًا لها في حقائقها؟
ومن زعم ذلك فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب سبيل
السلف الصالح، ومسلك أئمة أصول الدين، ونابذ لغة التخاطب، وهجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل
…
) .
قلت:
بناء على شهادة هذا الكوثري، إمام القبورية الوثنية * والمعطلة الجهمية الماتريدية *وشيخ عصبة التعصبات المذهبية * - أقول، وأقلب حجته عليهم جميعًا: إن القبورية، والماتريدية * والأشعرية، والصوفية * وغيرهم من أهل البدع، قد حملوا كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة * ومصطلحات الصحابة والتابعين، وأئمة هذه الأمة *:
كالتوحيد، والتشبيه، والصفات، والتوحيد، والشرك، والعبادة، والألوهية، والكرامة، والولاية، والتوسل، والتعظيم، والمحبة، وغيرها من المصطلحات الشرعية - على مصطلحات ومعان أحدثوها، وفسروها على ما يوافق مذهبهم البدعي والشركي القبوري، الوثني، الجهمي، الصوفي، الخرافي، كما تراه هاهنا مما فعلت القبورية الوثنية، حيث سمت الشرك الأكبر وعبادة الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات، والنذر لهم عند الملمات * - باسم التعظيم والمحبة، والولاية، والكرامة، والتوسل، ونحوها من المصطلحات التي كانت عند الصحابة والتابعين - على ضد ما تقصده القبورية، وتفعله وتقوله وتعتقده؛
فجاءت القبورية فعمدت إلى تلك المصطلحات القرآنية والسنية التي كانت لها معان أخرى عند الصحابة والتابعين - فحرفتها وحملتها على مصطلحات الوثنية الشركية الكفرية؛ إذن تحقق: أن القبورية - في حمل تلك المصطلحات على مصطلحاتهم - أبعد الناس من تخاطب العرب وتفاهم السلف، واللسان العربي المبين، وأنهم قد زاغوا - بهذا التحريف والتبديل والتغيير للمصطلحات - عن منهج الكتاب والسنة * وطريقة السلف أئمة هذه الأمة *، وأنهم بتخريفاتهم الوثنية هذه - تنكبوا سبيل السلف الصالح - باعتراف الكوثري وقانونه -.
وأقول:
إن الحمد لله الذي دفع أهل البدع بعضهم ببعض، وقطع دابر صغارهم بسيوف كبارهم، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] ، وقمعهم بسلاح كوثريهم؛ ومع ذلك ترى القبورية قديمًا وحديثًا في كل مكان وزمان * - يقاتلون أهل التوحيد والسنن بالسيف والسنان والبهتان * ولكن أهل التوحيد بتوفيق الرحمن * يقمعونهم بالحجة والبرهان *
فإن عدت والله الذي فوق عرشه
…
منحتك مسنون الغرارين أزرقا
فإن دواء الجهل أن تضرب الطلى
…
وأن يغمس العريض حتى يفرقا
وبعد هذا ننتقل إلى شبهتهم الأخرى، وبالله التوفيق.