الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
في جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للشرك
لقد سبق أن عرضت عقيدة القبورية في تعريف الشرك، فقد رأيت أخي المسلم: أن القبورية قد عرفوا الشرك بحيث يبرر لهم جميع ما يرتكبونه من الشرك الأكبر وعبادة غير الله - تحت ستار الوسيلة والواسطة والشفاعة والولاية والكرامة؛ ولكن علماء الحنفية قد ردوا عليهم وأبطلوا تعريفهم للشرك؛ وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن علماء الحنفية قد عرفوا الشرك بعدة تعريفات كما ذكرت أمثلة منها أمام القراء الكرام وليس في هذه التعريفات شيء من تلك القيود الفاسدة التي ذكرتها القبورية في تعريفهم للشرك؛ كقيد ((الاستقلال بالنفع والضر)) ، وقيد ((الربوبية)) ، وقيد ((بنفسه وبذاته)) ، وقيد ((نفوذ المشيئة لا محالة)) ، وقيد ((الخالقية والإماتة والإحياء)) ونحوها، فدل ذلك على أن الشرك يتحقق بدون هذه القيود؛ فذكر هذه القيود كلا أو بعضًا يفسد حقيقة الشرك ويغير مفهومه ويحرف معناه، وهذا دليل على أن تعريف القبورية للشرك -
تعريف مزيف باطل فاسد *، عاطل كاسد *، وليس إلا محاولة فاشلة لتبرير الإشراك بالله وجواز عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا - كما ظهر في تعريفاتهم للشرك - بأن الشرك يتحقق بعبادة غير الله سبحانه على سبيل الاستشفاع، واعتقاد التصرف في الكون لغير الله جل وعلا، واعتقاد علم الغيب في غير الله تعالى، سواء اعتقد ذلك في غير الله عز وجل على سبيل الاستقلال أم على سبيل الإعطاء من عند الله سبحانه.
قلت: فهذا كله يدل على إبطال تعريف القبورية للشرك وأنه تعريف باطل فاسد.
الوجه الثالث: أن الحنفية قد صرحوا بأن القبورية هم أهل الشرك وهم عباد القبور وأهلها سواء اعترفوا بذلك أم لا، وسواء سموا شركهم تعظيمًا أو محبة أو تقديرًا، أم سموه بأسماء أخرى، فهم في الشرك على طريقة الوثنية الأولى:
قال الإمام إسماعيل الدهلوي (1246هـ) وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي، واللفظ للثاني:
(اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر
…
؛
والحاصل: أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقًا مع آلهتهم - إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء
…
، وتبعوا سنن جيرانهم من المشركين شبرًا بشبر وذراعًا بذراع وحذو القذة بالقذة والنعل بالنعل
…
؛ فإذا عارضهم معارض وقال لهم: أنتم تدعون الإيمان، وتباشرون أعمال الشرك
…
؟!؟ ، قالوا: نحن لا نأتي بشيء من الشرك؛ إنما نبدي ما نعتقده في الأنبياء والأولياء من الحب والتقدير، أما إذا عدلناهم بالله واعتقدنا: أنهم والله جل وعلا بمنزلة سواء - كان ذلك شركًا، ولكننا لا نقول بذلك، بل نعتقد بالعكس: أنهم خلق الله وعبيده؛ أما ما نعتقد فيهم من القدرة، والتصرف في العالم - فهما مما أكرمهم الله وخصهم به، فلا يتصرفون في العالم إلا بإذن منه ورضاه؛ فما كان نداؤنا لهم واستعانتنا بهم إلا نداء الله واستعانة به، ولهم عند الله دالة ومكانة ليست لغيرهم، قد أطلق أيديهم في ملكه، وحكمهم في خلقه؛ يفعلون ما يشاءون، وينقضون ويبرمون، وهم شفعاؤنا عند الله، ووكلاؤنا عنده - فمن حظي عندهم ووقع عندهم بمكان - كانت له حظوة ومنزلة عند الله
…
؛
إلى غير ذلك من التأويلات الكاسدة والحجج الفاسدة
…
؛ وإن كانوا عولوا على كلام الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وعنوا بتحقيقه - عرفوا أنها نفس التأويلات والحجج التي كان كفار العرب يتمسكون بها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويحاجونه بها، ولم يقبلها الله منهم، بل كذبهم فيها؛ فقال في سورة يونس:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]
…
وقد تبين من هذه الآية: أن من عبد أحدًا من الخلق اعتقادًا بأنه شفيعه - كان مشركًا بالله
…
، وقد وضح من ذلك: أن من اتخذ وليًا من دون الله - وإن كان ذلك على أساس: أن عبادته تقربه عند الله - كان مشركًا بالله كاذبًا، كافرًا بنعمة الله
…
؛ وكذلك تبين: أن الكفار الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعدلون آلهتهم بالله
…
؛ بل كانوا يقرون بأنهم مخلوقون وعبيد
…
؛ فما كان كفرهم، وشركهم إلا نداؤهم لآلهتهم والنذور التي كانوا ينذرون لها....؛
واتخاذهم لهم شفعاء ووكلاء؛ فمن عامل أحدًا بما عامل به الكفار آلهتهم - وإن كان يقر بأنه مخلوق وعبد - كان هو وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء....؛ فاعلم: أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله ويساوي بينهما بلا فرق، بل حقيقة الشرك: أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية، وجعلها شعارًا للعبودية - لأحد من الناس:
كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له - كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا....؛ لا فرق في ذلك بين الأولياء والأنبياء والجن والشياطين، والعفاريت، والجنيات - فمن عاملها هذه المعاملة - كان مشركًا
…
؛ فمن كان يلهج باسم أحد من الخلق ويناديه....، ويستصرخه ويستغيث به عند نزول البلاء
…
، ويعتقد أنه لا يخفى عليه من أمره شيء....؛ كان بذلك مشركًا، وكل ذلك يدخل في الشرك؛ ويسمى هذا النوع:((الإشراك في العلم)) ....،
سواء اعتقد: أنه يعلم من ذاته، أو يعلم أنه منحة من الله وعطاء منه؛ كل ذلك شرك
…
؛ إن التصرف في العالم، وإصدار الأمر والنهي
…
، وإنجاح المطالب، وتحقيق الأماني، ودفع البلايا، والإغاثة في الشدائد، وإلهاف الملهوف، وإنهاض العاثر - هذه كلها من خصائص الله تعالى؛ لا يشاركه فيها أحد من الأنبياء والأولياء والشهداء والصلحاء والعفاريت والجنيات؛ فمن أثبت هذا التصرف المطلق لأحد، وطلب منه حاجته: وقرب القرابين والنذر لأجل ذلك، واستصرخه في نازلة - كان مشركًا؛ ويقال لهذا النوع:((الإشراك في التصرف)) ؛ سواء اعتقد أنهم يقدرون على ذلك بأنفسهم، أو اعتقد: أن الله سبحانه وهبهم هذه القدرة
…
) ، ثم ذكرا عدة أنواع من العبادات التي يصرفها القبورية للقبور وأهلها، ثم قالا:
(كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه؛ فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو قبر محقق، أو مزور، أو لنصب أو لمكان عبادة
…
، - فقد تحقق عليه الشرك؛ ويسمى:((إشراكًا في العبادة)) ؛
سواء اعتقد: أن هذه الأشياء تستحق التعظيم بنفسها، وأنها جديرة بذلك، أو اعتقد: أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء، وأن الله يفرج الكرب ببركة هذا التعظيم) .
الوجه الرابع: أن علماء الحنفية قد حققوا:
أن المشركين السابقين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأنهم لم يشركوا آلهتهم بالله في الخلق والتدبير والتصرف والاستقلال ونحو ذلك.
ومع ذلك كانوا مشركين؛ فدل هذا دلالة قاطعة لا تحتمل النقيض على أن تعريف القبورية للشرك فاسد باطل.
الوجه الخامس: أن تعريف القبورية للشرك - دليل على أنهم لم يعرفوا الشرك ولا تاريخ الوثنية، ولا عقيدة المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين كما أن القبورية لم يعرفوا ما كان عليه الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من توحيد رب العالمين.
لذلك هم عرفوا الشرك بهذا التعريف الباطل - الذي ذكروا فيه تلك القيود والشروط التي لم تكن متحققة في شرك المشركين الأولين.
الوجه السادس: أن نقول: لو صح تعريف القبورية للشرك -
لزم منه - أن يكون المشركون السابقون غير مشركين؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله؛ ولو صح أن المشركين السابقين كانوا مشركين - لزم منه - أن يكون تعريف القبورية للشرك باطلًا فاسدًا * عاطلًا كاسدًا *؛ لكن المقدم حق فالتالي مثله.
ودليل هذين البرهانين القاهرين * والسلطانين الباهرين * - ما قاله العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :
(وهذا الأحمق [ابن جرجيس] زاد في غير موضع من كتابه قيدًا فقال:
لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله.
مع أن تلبية المشركين في الجاهلية:
((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال؛ وعلى زعم هذا ((العراقي ابن جرجيس)) فليسوا بمشركين) .
وقال رحمه الله:
(وأما جعل الأموات أسبابًا يستغاث بها وتدعى وترجى وتعظم على أنها وسائط - فهذا دين عبادة الأصنام؛
يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله؛ وإن لم يعتقد الاستقلال:
كما نص عليه القرآن في غير موضع؛ فالغلاة معارضون للقرآن مصادمون لنصوصه) .
قلت: أنشده بهذه المناسبة ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) :
والله ما بعد البيان لمنصف
…
إلا العناد ومركب الخذلان
الحاصل: أن تعريف القبورية للشرك - تعريف باطل فاسد غير جامع لأفراده؛ بل غير صادق على شرك المشركين الأولين والآخرين، وأن الصحيح الحق الصواب - هو تعريف هؤلاء العلماء من الحنفية للشرك؛ فإنه جامع شامل لجميع أفراده صادق على شرك الوثنية القديمة وعلى شرك القبورية في آن واحد.
وبعد أن عرفنا بطلان تعريف القبورية للشرك وعرفنا صحة تعريف الحنفية للشرك ننتقل إلى المبحث الآتي؛ لنعرف أنواع الشرك عند الحنفية.
فنقول وبربنا الرحمن نستغيث ونستعين * إذ هو المستعان المغيث وهو المعين *:
*****