المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيفي بيان شروط صحة توحيد العبادة - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - جـ ١

[شمس الدين الأفغاني]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات

- ‌الأحاديث

- ‌المقالة الحنفية الحنيفية التي تقمع القبورية

- ‌القصيدة السلفية اليمانية ثم الحنفيةفي كشف فضائح القبورية الشركية

- ‌ الفصل الأول: في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية

- ‌المبحث الأولفي تعريف التوحيد عند علماء الحنفية

- ‌ المطلب الأول: في تعريف التوحيد لغة

- ‌المطلب الثانيفي معنى التوحيد اصطلاحًا

- ‌المطلب الثالثفي إبطال تعريف القبورية للتوحيد

- ‌المبحث الثانيفي أنواع التوحيد عند علماء الحنفيةوردهم على القبورية في ذلك

- ‌المطلب الثانيفي التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية

- ‌المطلب الثالثفي التقسيم الثلاثي للتوحيد عند الحنفية

- ‌الفصل الثالثفي أهمية توحيد الألوهيةوكونه هو الغاية عند علماء الحنفية

- ‌المبحث الثانيفي بيان شروط صحة توحيد العبادة

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية لإبطال تعريف القبورية للعبادة

- ‌ المطلب الأول: رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة

- ‌المطلب الثانيفي تعريف العبادة لغة

- ‌المطلب الثالثفي تعريف العبادة اصطلاحا وشرعًا عند علماء الحنفية

- ‌المبحث الثالثفي أركان العبادة وأنواعها وشروط صحتها عند علماء الحنفية وردهم على القبورية

- ‌ المطلب الأول: في أركان العبادة عند علماء الحنفية

- ‌المطلب الثانيفي أنواع العبادة

- ‌المطلب الثالثفي صحة شروط العبادة

- ‌ الفصل الأول: في تعريف الشرك وأنواعه ومصدره وتطوره، ونشأة القبورية

- ‌المطلب الثانيفي تعريف علماء الحنفية للشرك

- ‌المطلب الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للشرك

- ‌المبحث الثانيفي بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفيةوردهم على القبورية

- ‌المبحث الثالثفي مصدر الشرك بعبادة القبور وتطوره، ونشأة القبورية

- ‌ المطلب الأول: في مصدر الشرك بعبادة القبور ونشأة القبورية عند علماء الحنفية

- ‌المطلب الثانيفي تطور الشرك بعبادة القبور وأهلها وانتشار القبورية في العالم

- ‌المطلب الثالثفي تحقيق علماء الحنفية أن القبورية أهل الشرك وثنية عبدة الأوثان

- ‌المبحث الأولفي تحقيق علماء الحنفية أن الشرك موجود في القبورية

- ‌ المطلب الأول: في تاريخ القبورية إجمالًا

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفيةفي المقارنة بين القبورية الحديثة وبين الوثنية القديمة

- ‌الفصل الثالثفي أجوبة علماء الحنفية عن شبهات القبورية الأخرى

- ‌الشبهة الأولى: شبهة الأحجار والأشجار والأصنام والأوثان

- ‌الشبهة الرابعة: شبهة تنقيص الأنبياء والأولياء:

الفصل: ‌المبحث الثانيفي بيان شروط صحة توحيد العبادة

‌المبحث الثاني

في بيان شروط صحة توحيد العبادة

إن علماء الحنفية - كما اهتموا ببيان ركني التوحيد - كذلك اهتموا ببيان شروط صحة التوحيد، فذكروا لتوحيد العبادة عدة شروط، وصرحوا بأنه لا صحة للتوحيد إلا بعد توفر تلك الشروط، وكل ما أذكره عن الحنفية فهو رد على القبورية فإنهم قد أخلوا بتلك الشروط، بارتكابهم الشرك بسبب عبادتهم القبور وأصحابها فلم يصح توحيدهم. وفيما يلي بيانها:

الشرط الأول:

فهم معنى توحيد العبادة، والعلم به المنافي للجهل؛ فمن قال:((لا إله إلا الله)) ولم يفهم معناها - لا يدخل في الإسلام، ولا يصح توحيده، ففهم معنى كلمة التوحيد من أعظم شروط صحة توحيد العبادة وأهمها ولما لم يعرف القبورية معناها، وما هو الإله، وما هي العبادة؟ لم يعرفوا ما يضاد التوحيد من الشرك بالله تعالى، فعبدوا القبور وأهلها بأنواع من العبادات.

فناقضوا كلمة التوحيد، وأشركوا بالله بأنواع من الإشراك.

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في أهمية العلم بمعنى كلمة التوحيد:

ص: 161

1 -

قال الإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح قول الإمام البخاري (256هـ) :

(باب العلم قبل القول والعمل؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، فبدأ بالعلم) .

(أي هذا باب في بيان أن العلم قبل القول والعمل: أراد أن الشيء يعلم أولًا، ثم يقال، ويعمل به؛ فالعلم مقدم عليهما بالذات، وكذا مقدم عليها بالشرف؛ لأنه عمل بالقلب، وهو أشرف أعضاء البدن

؛ وقال ابن المنير: أراد: أن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به؛ فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح النية المصححة للعمل؛ فنبه البخاري على ذلك) .

2 -

وقال الملا علي القاري (1014هـ) :

(يتعين على كل موقن أن يعتني بشأنها [كلمة التوحيد] مبنى ومعنى، لينقل من إفادة مبناها * إلى إعادة معناها *؛ فإنها مفتاح الجنة * وعن النار بمنزلة الجُنة * للناس والجِنة * وقد نص الأئمة * من سادات الأمة *:

ص: 162

أنه لا بد من فهم معناها * المترتب على علم مبناها *؛ ليخرج عن ربقة التقليد، ويدخل في رفعة التحقيق والتأييد؛ وقد قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] .

3 -

وقال العلامة اللكنوي (1304هـ) ، رحمه الله.

4 -

(وفي النوازل الفقهية، لأبي الليث السمرقندي [375هـ) :

5 -

سئل أبو القاسم:

في رجل لا يحسن العربية، وقد تعلم في صغره.

آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره

ص: 163

وشره؛ ويعلم أن هذا هو الإيمان.

إلا أنه إذا سئل عن تفسيره لا يحسن تفسيره!

أهو مؤمن؟

قال: هذا حافظ كلامًا لا يدري ما هو؟) .

6 -

7 - ولقد صرح كثير من علماء الحنفية أن مجرد التلفظ بكلمة التوحيد؛ ومجرد قولها باللسان بدون فهم معناها والاعتقاد بها من عمق القلب لا يفيد شيئًا.

واستدل كثير من الحنفية على اشتراط العلم بمعنى كلمة التوحيد بحديث: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» .

فهذا الحديث صريح في أنه لا يكفي مجرد التلفظ بكلمة التوحيد دون فهم معناها والاعتقاد بها من عمق القلب.

8 -

وقال العلامة الخجندي (1379هـ) محققًا أن التلفظ بكلمة التوحيد بدون فهم معناها وبدون العلم بالمراد منها - لا يفيد شيئًا:

(واعلم: أن ((لا إله إلا الله)) - هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام....، وليس المراد قولها باللسان فقط، مع الجهل بمعناها....، ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب والإذعان لها....) .

ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك ثم قال:

ص: 164

(إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة....) .

ثم قال:

(واعلم: أن لا إله إلا الله هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام؛ فمن قالها - عالمًا بمعناها، ومعتقدًا إياها - فقد دخل في الإسلام * وصار من أهل دار السلام *) .

9 -

وقال رحمه الله تعالى أيضًا؛ محققًا أن التلفظ بكلمة التوحيد بدون فهم معناها لا يجدي ولا ينفع:

(و ((لا إله إلا الله)) هي كلمة الإخلاص المنافية للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله؛ ولكن لا تنفع قائلها عند الله، وفي دار الآخرة إلا بشروط:

الأول: العلم بمعناها: نفيا وإثباتًا.

والثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها، المنافي للشك.

والثالث: الإخلاص المنافي للشرك؛ فمن يقول: ((لا إله إلا الله)) ، ولكن لا يفهم معناها، ولا يعمل به فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا....؛ لأن الله عز وجل قال:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ؛ فالعلم مقدم على القول والعمل

) .

10 -

وقال رحمه الله تعالى أيضًا - مبينًا أن المشركين السابقين كانوا يعرفون معنى كلمة التوحيد بخلاف القبورية:

(فإذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أن المشركين الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 165

إلى الإيمان كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ كما بين الله تعالى في كتابه؛ ولم يدخلهم ذلك التوحيد في الإسلام؛ بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقروا بتوحيد الألوهية، وهو معنى:((لا إله إلا الله)) ؛ والمراد من هذه الكلمة: معناها، لا مجرد لفظها؛ والكفار الجهال كانوا يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالعبادة، والتبرؤ مما يعبد من دون الله، والكفر به؛ فإنه لما قال لهم:« [يا أيها الناس!] قولوا: لا إله إلا الله [تفلحوا] » - قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص5] ؛ وقد عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار! ؛ بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن: أن معناها: ((لا يخلق، ولا يرزق إلا الله)) ، و ((لا يدبر الأمر إلا الله)) .

فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى ((لا إله إلا الله)) ؛ وقد ذكر الله تعالى في كتابه: أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم بالملائكة والأنبياء والأولياء، مع قولهم:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ....، فمن قال ((لا إله إلا الله)) ، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر:

كدعاء الموتى والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات،

ص: 166

والتقرب إليهم بالنذر والذبائح فهذا مشرك شاء أم أبى....) .

11 -

قلت: يدل هذا النص أن المشركين السابقين وهؤلاء القبوريين كلهم في الحقيقة غير مؤمنين بكلمة التوحيد؛ غير أن المشركين السابقين كانوا يعرفون معناها، ويعلمون أن هذه الكلمة تمنعنا من عبادة آلهتنا من الاستغاثة والنذور ونحوها.

فلذا كانوا يأبون التلفظ بها ولم يكونوا يقولونها قطعًا.

وأما هؤلاء القبوريون فهم لأجل أنهم لا يعرفون معناها، ولا يعلمون أنها تضاد ما هم عليه من عبادة القبورية وأهلها من الاستغاثة والنذور ونحوها يتلفظون بها ويقولونها مئات المرات بل الآلاف، ولكن إذا فسر لهم معناها، وأنها تنهاهم عن عبادة الصالحين فهم حينئذ يأبون معناها؛ ولو كان هؤلاء القروية عارفين بمعنى هذه الكلمة - كالمشركين السابقين - لكانوا أشد الناس إباء عن التلفظ بها وامتناعًا عن قولها باللسان؛ كإخوانهم المشركين السابقين. والله المستعان على ما يصفون.

12 -

وقال رحمه الله مبينًا أنه لا عبرة بالتلفظ بالكلمة بدون فهم المعنى:

(وغالب من يقول: ((لا إله إلا الله)) وإنما يقولها تقليدًا؛ ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه، فلا يعرف ما تنفيه، وما تثبته؛ ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت؛ وفي القبور أمثال هؤلاء يقولون - كما في الحديث الصحيح:«سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته»

ص: 167

الحديث) .

قلت: لا يخشى عليهم عند الموت فقط؛ بل يخشى عليهم قبل الاحتضار في حياتهم اليومية، بل ليس الأمر إلى حد الخشية فحسب؛ بل الحقيقة أن هؤلاء قد صرفوا عن كلمة التوحيد فعلًا، وناقضوها بأنواع من الإشراك بالله سبحانه، وأبطلوها بأنواع من العبادات للقبور وأهلها.

الشرط الثاني: اليقين المنافي للظن والشك.

ص: 168

1 -

قلت: اشتراط اليقين قد تقدم في نفس كلام العلامة الخجندي.

2 -

ومن الأدلة القاطعة التي استدل بها الحنفية على اشتراط اليقين القلبي المنافي للظن والشك حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

«من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة» .

فهذا الحديث صريح في اشتراط اليقين وهو يقيد تلك الأحاديث المطلقة الواردة في فضل كلمة التوحيد.

3 -

5 - قال العلامة القاري (1014هـ) في شرح هذا الحديث وتبعه العثماني (1369هـ) واللفظ للأول: ((مستيقنًا بها)) أي بمضمون هذه الكلمة ((قلبه)) أي منشرحًا بها صدره غير شاك ومتردد في التوحيد....؛ وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق:

أن اعتقاد التوحيد لا ينفع دون النطق عند الضرورة، أو عند الطلب، ولا النطق دون الاعتقاد بالإجماع؛ بل لا بد منهما....) .

6 -

قلت: ويؤكد ذلك حديث: ((

«لا يلقى الله بهما عبد غير شاك»

)) ؛ فهو نص صريح في أنه لا يكفي مجرد قولها باللسان؛ بل لا

ص: 169

بد من اليقين المنافي للظن والشك والتردد.

وأن هذا الحديث مقيد لتلك الأحاديث المطلقة الواردة في قول لا إله إلا الله، فلا حجة لأهل البدع في تلك الأحاديث المطلقة؛ لأن هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي ورد فيها قيود مع قول لا إله إلا الله تقيد تلك الأحاديث المطلقة.

الشرط الثالث: التصديق المنافي للتكذيب:

فلقد صرح علماء الحنفية باشتراط التصديق بمعنى كلمة التوحيد وأن المرء لا يكون مسلمًا عند الله بدون التصديق؛ وأنه لا يكفي مجرد قولها باللسان والإقرار بها بدون التصديق من عمق القلب.

1 -

وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه من أهل السنة، فإن حقيقة الإيمان عندهم الإقرار باللسان والتصديق بالجنان بل يؤيده مذهب الحنفية الماتريدية المرجئة الجهمية المعطلة أيضًا.

2 -

فإن حقيقة الإيمان عندهم التصديق بالجنان فقط.

وأما الإقرار باللسان فهو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وليس شرطًا

ص: 170

لحقيقة الإيمان ولا ركنًا له.

فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن ناج عندهم.

مع أن الحق في هذا هو مذهب أهل الحديث وأهل السنة المحضة من أن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

3 -

ومن أصرح الحجج، وأقوى البراهين التي استدل بها علماء الحنفية على اشتراط التصديق بالجنان مع الإقرار باللسان حديث أنس رضي الله عنه.

«ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه على النار» .

4 -

ولعلماء الحنفية كلام في شرح هذا الحديث يؤكد ما سبق.

الشرط الرابع: الإخلاص المنافي للشرك والنفاق والرياء والسمعة:

فلا يصح توحيد الشخص وإقراره به والتظاهر بأنه موحد إلا إذا صدق

ص: 171

به بقلبه مخلصًا لله عز وجل خائفًا من عقابه راغبًا في ثوابه راجيًا من الله الجنة وما أعده للموحدين من النعيم المقيم، وإلا يكون منافقًا مرائيًا مغرضًا من المغرضين ممرضًا من الممرضين.

1 -

ولقد استدل علماء الحنفية على اشتراط الإخلاص بأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث محمود بن عتبان في قصة مالك بن دخشن رضي الله عنهم:

«فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» .

وفي لفظ: «لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله إلا حرم الله عليه النار» .

وفي لفظ: «ألا تقولونه: يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؛ قال: بلى، قال: فإنه لا يوافي عبد يوم القيامة به إلا حرم الله عليه النار» .

2 -

ولعلماء الحنفية كلام مهم في شرح هذا الحديث يفيد أن من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه فقد برئ من النفاق؛ وأن هذا الحديث وأمثاله يفيد تلك الأحاديث الواردة في إطلاق القول ((لا إله إلا الله)) .

وأن هذه الأحاديث المقيدة مفسرة لتلك الأحاديث المطلقة.

3 -

وقد تقدم كلام العلامة الخجندي في أن من شروط كلمة التوحيد

ص: 172

- الإخلاص المنافي للشرك.

وسيأتي مزيد تحقيق وتفصيل لهذا الشرط إن شاء الله تعالى.

وبعد أن عرفنا أهمية أركان توحيد العبادة وشروط صحته ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في تحقيق أن توحيد العبادة غير توحيد الربوبية، وإبطال قول القبورية باتحاد الربوبية والألوهية. وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *.

*****

ص: 173

الباب الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية من قولهم باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وبيان التعريف الصحيح للعبادة، وأركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله

وفيه أربعة فصول:

- الفصل الأول: في عرض عقيدة القبورية في القول باتحاد توحيد الربوبية والألوهية وجعلهم توحيد الربوبية الغاية.

- الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في القول باتحاد هذين التوحيدين وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية.

- الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد هذين التوحيدين، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وزعمهم أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها.

- الفصل الرابع: في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة، وأركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله.

ص: 175

الفصل الأول

في عرض عقيدة القبورية في قولهم باتحاد توحيد الربوبية والألوهية وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية

لقد أصيبت القبورية بطامة كبرى، هي أم الطامات - فتولدت منها طامات أخرى، هي أكبر من أمها، في الضلال والفساد * والإضلال والإفساد *

وهي: جهلهم بحقيقة توحيد العبادة، وجعلهم إياه مترادفًا لتوحيد الربوبية، وعينه، وأنهما شيء واحد بلا تمييز ولا فرق كما أصيب بهذا الداء العضال خلطاؤهم المتكلمون من الماتريدية والأشعرية،

ص: 177

وهذه الطامة الكبرى التي هي أم الطامات المتولدة منها -:

أعني جهل القبورية بحقيقة توحيد الألوهية وجعلهم إياه عينًا لتوحيد الربوبية - هو السبب الوحيد لوقوعهم في أنواع من الشرك الأكبر من عبادة القبور وأهلها.

كما أوقع هذا الجهل خلطاءهم من الماتريدية والأشعرية أيضًا - في أنواع من الإشراك بالله من عبادة القبور وأصحابها.

وفيما يلي أذكر أم الطامات وأذكر الطامات المتولدة منها فأقول وبالله التوفيق:

1 -

الطامة الأولى أم الطامات: تعتقد القبورية أن الألوهية بعينها هي الربوبية بدون فرق وتمييز بينها فهما متحدان لا مفهومان متغايران.

ص: 178

ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة القبورية لتوضيح مقالتهم الفاسدة هذه:

1 -

قال ابن جرجيس (1299هـ) وتبعه السمنودي (بعد

ص: 179

1326 هـ) ، واللفظ للأول:

(..... الرب والإله معناهما ومفادهما واحد....) .

2 -

3 - وقال: (إن الإله والرب واحد) و (إن الإله هو الرب) .

4 -

5 - وقال دحلان (1304هـ) وتبعه السمنودي (المتوفى بعد

ص: 180

1326 هـ) ، واللفظ للأول:

(وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - فباطل أيضًا -؛ فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية

) .

6 -

7 - وقالا واللفظ أيضًا للأول:

(وقالوا: إن التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوصلوا بذلك إلى تكفير المسلمين....، هؤلاء الملحدة المكفرة للمسلمين....) .

ص: 181

8 -

10 - وقالا، وتبعهما الحداد (1232هـ)، واللفظ للأول:

(ومن المعلوم: أن من أقر بالربوبية، فقد أقر بالألوهية؛ إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه)، 11 - 13 - وقالوا جميعًا واللفظ أيضًا للأول:

(فهل سمعتم أيها المسلمون في الأحاديث والسير:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب؛ ليسلموا على يده - يفصل لهم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ ويخبرهم: أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في الإسلام) .

14 -

15 - وقال الدجوي (1365هـ) وتبعه ابن مرزوق، واللفظ

ص: 182

للأول:

(توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية:......، من ذا الذي فرق بينهما؟

؛ إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره؛ قال: إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية؛ وهو إفراد الله بالعبادة؛ وأما توحيد الربوبية؛ وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم؛ فلم يخالف فيه أحد من المشركين

؛ ثم قالوا:

إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم؛ وينادونهم عند الشدائد - هم عابدون لهم، فقد كفروا بما كفر به عباد الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء؛ فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها؛ بل بترك توحيد الألوهية - بعبادتها؛ وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء؛ المنادين لهم، المستغيثين بهم؛

ص: 183

الطالبين منهم ما لا يقدر عليه غير الله؛ بل قال محمد بن عبد الوهاب:

إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان....؛ فنقول: قولهم: إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، وغير معقول أيضًا

، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام: إن هناك توحيدين؛....، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء؛ ولا معنى لهذا التقسيم، فإن الإله الحق هو الرب الحق) .

وقال: (وإني أعجب من تفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية؛ وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية) .

16 -

17 - وقال القضاعي (1736هـ) وابن مرزوق (؟) واللفظ

ص: 184

للأول:

(إن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد)، 18 - 19 - وقالا:(( (إن لا رب سواه)) هو معنى ((لا إله إلا الله)) في قلوب جميع المسلمين) .

20 -

21 - وقالا: (فالناطق بـ ((لا إله إلا الله)) معترف بالتوحيد لله في ألوهيته وربوبيته جميعًا، والقائل:((ربي الله)) معترف بكلا التوحيدين جميعًا) .

22 -

23 - كما أنهما صرحا بأن توحيد الربوبية كاف للمرء في دخوله في الإسلام، وكاف له في النجاة.

24 -

وقال هذا القضاعي الداعي إلى الشرك طاعنًا في شيخ الإسلام * ببذاءة الكلام:

(لم يقتصر هذا الحراني على رمي زوار سيد المرسلين بالشرك؛ بل جرت به أوهامه إلى أن يرمي بالشرك جميع المسلمين..؛

ص: 185

وقسم التوحيد إلى قسمين:

توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ وقال: إن المقصود ببعثة الأنبياء إنما هو الثاني

) .

25 -

وقال هذا القضاعي الوثني أيضًا هاذيًا في أئمة الإسلام * ولا سيما شيخ الإسلام، ورميهم بدائه، محرفًا تلك الآيات الصريحة الناصعة على اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية:

(وقول هؤلاء المغرورين إن الكافرين الذين بعث لهم الرسل - كانوا قائلين بتوحيد الربوبية، وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر؛ وإنما كان شركهم بتعظيم غير الله بالسجود والاستغاثة به والنداء له، والنذر، والذبح له - إنما هو قول من لم يعرف ((التوحيد)) ولا ((الشرك)) ولا ((المعقول)) ولا ((المنقول)) ....، ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة) .

26 -

وعنون ابن مرزوق بقوله: (الإله هو الرب والرب هو

ص: 186

الإله) .

27 -

وله كلام فضح به نفسه ونال به من شيخ الإسلام (728هـ) * ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) حاول فيه اتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

28 -

وقال هذا المجهول المخذول:

(توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - الذي اخترعه ابن تيمية

؛ وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء، وزعم: أن هذا اعترف به المشركون؛ فكفر به جميع المسلمين،

ص: 187

وقلده فيه محمد بن عبد الوهاب، كما قلده في غيره) .

29 -

وقال محمد نوري رشيد النقشبندي الديرشوي (؟) :

(إن شر بدعة أحدثها السلفية - هي: بدعة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية....، وتوحيد الأسماء والصفات.

وليت شعري من ذلك السلف؟

بل أي دين سوى دين النصرانية ذلك الدين الذي يبث لله تعالى أقانيم ثلاثة؛ فاقتدى به هؤلاء السلفية، واتخذوه الدين الخالص والتوحيد المحض

؛ وفسر رئيس نحلتهم وإمام بدعتهم محمد بن عبد الوهاب الأنواع الثلاثة) .

30 -

وقال: (إن توحيدهم أشبه شيء بتثليث النصارى، إنهم يقولون: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات - إله واحد.

ص: 188

والنصارى يقولون: الأب، والابن، وروح القدس إله واحد) .

31 -

وقال هذا النوري الوثني القبوري هاذيًا في شيخ الإسلام (728هـ) :

(توحيد الربوبية وهذا لا ينفي الكفر ولا يكفي؛ هذا قول ابن تيمية، وسنكتفي بالرد على قول ابن تيمية باعتباره الرئيس الأول للسلفية ومبدع بدعتهم) .

32-

وهكذا طول لسانه في أئمة الإسلام ولا سيما شيخ الإسلام ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) وحاول إثبات اتحاد الربوبية والألوهية.

2 -

الطامة الثانية:- بناء على الطامة الأولى - إنكارهم لتقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية:

لقد أنكر القبورية تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية إنكارًا باتا قاطعا) ، وشنوا الغارات على أهل التوحيد في هذا الصدد، وشنعوا عليهم ورموهم بكلمات نابية وشتائم وسباب لا تصدر إلا عن الرعاع والأوباش؛ ووقعوا في أعراض أئمة الإسلام * أمثال شيخ الإسلام (728هـ) ومجدد الدعوة الإمام الهمام (1206هـ) .

ص: 189

وقد ذكرنا بعض نماذج من ذلك.

3 -

الطامة الثالثة: جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية العظمى لما سبق ولما يلي:

4 -

والطامة الرابعة: أن القبورية بسبب جهلهم بتوحيد العبادة - وجعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية - قالوا صراحة جهارًا نصا: إن توحيد الربوبية كاف لدخول المرء في الإسلام والنجاة.

وإن من اعترف بتوحيد الربوبية فقد اعترف بتوحيد الألوهية.

5 -

والطامة الخامسة: أنهم غيروا مفهوم الشرك وزعموا أنه لا يتحقق الشرك إلا إذا اعتقد في غير الله أنه رب مستقل بالتصرف والتأثير بنفسه.

6 -

والطامة السادسة: تحريفهم لمعنى العبادة حسب تبديلهم لمعنى الشرك.

ص: 190

7 -

والطامة السابعة: جعلهم المشركين السابقين مشركين في توحيد الخالقية والرازقية والربوبية والتدبير للكون، وأنهم اعتقدوا في آلهتهم التصرف بالاستقلال وأنها مستقلة بالتأثير.

وأن لها شرفًا ذاتيا واختيارًا وتدبيرًا.

8 -

الطامة الثامنة: تحريفهم لتلك الآيات الصريحة الناصة على أن المشركين كانوا يعترفون بتوحيد الربوبية - تحريفًا معنويا قرمطيا -، ولهم في هذا التحريف القرمطي طرق عجيبة غريبة، كل هذه التحريفات لمحاولة إثبات أن المشركين لم يكونوا معترفين بربوبية الله تعالى.

وهكذا يفضح الله المحرفين المبطلين.

أقول: إن تحريفات هؤلاء القبورية لهذه الآيات لا شك أنها تحريفات قرمطية؛ ولكن المدعو بعلوي المالكي ارتكب تحريفًا لا إخاله أوحاه إليه مشائخه، وخلطاؤه الإنسية،

ص: 191

ولعله أخذ هذا التلبيس مباشرة من إبليس:

فقد صرح بأن المشركين لم يكونوا جادين في جميع تلك الاعترافات التي حكى الله عنهم في القرآن بربوبيته وخالقيته ومالكيته وتدبيره وجعلهم الآلهة شفعاء عند الله.

9 -

الطامة التاسعة: إنكارهم وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام إنكارًا قاطعًا باتا؛ وأن الشرك لم يقع في المستغيثين بأهل القبور، ويبررون كل ما يرتكبه القبورية من الإشراك الصريح من استغاثتهم بالأموات عند الكربات * وعبادتهم للقبور وأهلها بأنواع العبادات * بأن هذا ليس من قبيل الإشراك بالله سبحانه، *

ولا من باب عبادة غير الله؛ *

لأن الشرك والعبادة لا يتحققان إلا باعتقاد الربوبية لغيره تعالى والاستقلال بالنفع والضر والإيجاد والخلق ونفوذ المشيئة لا محالة والتأثيرات بالذات دون الحاجة إلى الغير فليس في المسلمين الموحدين المستغيثين بالصالحين شرك، وهم برآء من الشرك.

ص: 192

10 -

الطامة العاشرة: وهي أكبر من أمها، فكيف بأخواتها فهي أشنع الطامات * وأبشع البليات *:

وهي ارتكاب القبورية أنواعًا من الإشراك برب البريات *

من دعاء الأموات والاستغاثة بهم عند الكربات والملمات *

وعبادتهم للقبور وأهلها أنواعًا من العبادات *

فقد وصلوا في الشرك إلى حد لم يصله أهل الجاهلية في الأيام الخاليات *

كما سيأتي تحقيقه بنصوص علماء الحنفية وأقوالهم القاطعات *

فقد حقق علماء الحنفية أن القبورية أعظم شركًا من أهل الوثنيات * وأنهم أعظم عبادة وخشوعًا وهيبة للأموات عند الكربات * منهم لخالق الكائنات في المساجد وفي الأسحار وغيرها من الأوقات * - 11 - الطامة الحادية عشرة: تسمية القبورية أنفسهم موحدين مع إشراكهم.

من تلك الطامات التي تشعبت من الطامة الأولى الأم، والطامات التي بعدها:

من جهلهم بتوحيد الألوهية وجعله عين توحيد الربوبية، ثم تحريفهم مفهوم الشرك وتبديلهم معنى العبادة، ثم وقوعهم في الشرك الأكبر الذي يفوق إشراك الوثنية الأولى -

ص: 193

طامة أخرى:

وهي أن القبورية مع ارتكابهم الشرك الأكبر - يسمون أنفسهم موحدين مؤمنين.

12 -

الطامة الثانية عشرة: أنهم يسمون - بعكس ذلك - أئمة التوحيد والسنة دعاة العقيدة السلفية - خوارج كلاب النار؛ ويتهمونهم بأنهم مكفرون جميع الأمة الإسلامية برمتها، وأنهم يكفرون المؤمنين الموحدين المستغيثين بالصالحين.

بل تصل القبورية إلى أبعد الحدود في الكذب والبهتان والبغي والظلم والافتراء والعدوان على أئمة التوحيد والسنة والإيمان؛ فيتهمونهم بأنهم كفروا الصحابة والتابعين وأتباعهم من الفقهاء والمحدثين؛ على طريقة أسلافهم الخوارج كلاب النار.

13 -

الطامة الثالثة عشرة: تبرير إشراكهم بأنهم لا يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار التي لا منزلة لها عند الله تعالى بخلاف المشركين؛ ويقولون - في أئمة التوحيد والسنة الرادين عليهم -:

إنهم يعمدون إلى تلك الآيات التي نزلت في المشركين؛ فيحرفونها، ويحملونها على المؤمنين الموحدين المتوسلين المستغيثين بالأنبياء والأولياء؛

ص: 194

كما يحرفون الآيات التي نزلت في الأصنام؛ فيحملونها على الأنبياء والأولياء؛ فقاس هؤلاء الخوارج المكفرون للمؤمنين الموحدين المستغيثين بالصالحين - الاستغاثة بالأنبياء والأولياء عند الكربات *

والنذر لهم والذبح لهم وطلب الدعاء منهم عند الملمات *

على عبادة الأصنام والأحجار والأشجار التي لا مكانة لها عند الله؛ فظنوا أن كليهما إشراك بالله وعبادة لغير الله سبحانه.

مع أن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه لا يصح قياس مؤمن موحد يستغيث بالأنبياء والأولياء ويناديهم وينذر لهم - على مشرك يعبد الأصنام والأحجار والتماثيل والأشجار التي لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا مكانة لها عند الله؛ كما لا يصح قياس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم - على عبادة الأصنام والأحجار * والأوثان والأشجار *؛ فأين هذا من ذاك؟ .

ص: 195

قلت: هذه ثلاث عشرة طامة - هي خلاصة عقيدة القبورية في جعل توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية بدون تفريق وتغائر، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وبعد عرض عقيدة القبورية في قولهم باتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ننتقل إلى الفصل الآتي؛ لنعرف بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية - في القول بعينية هذين التوحيدين، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية؛ فأقول مستعينًا بالله العظيم:

****

ص: 196

الفصل الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة

القبورية باتحاد وتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية

لعلماء الحنفية جهود في الرد على عقيدة القبورية، وإبطال جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية، وجعل توحيد الربوبية هو الغاية؛ ويحسن أن أعرض بعض جهود علماء الحنفية في الجواب عن جعل القبورية توحيد الربوبية هو الغاية، وإبطال عقيدتهم في جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية في وجوه؛ ليكون كل وجه جوابًا عن قولهم وإبطالًا لعقيدتهم؛ فأقول وبالله التوفيق.

الوجوه: الأول إلى الثالث عشر:

لقد سبق أن ذكرت جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد الألوهية وعرضت كلامهم في ثلاثة عشر وجهًا؛ كلها تدل على الفروق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية وهذه الوجوه كل واحد منها برهان قاطع وسلطان باهر على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية وكل هذه الوجوه حجج ساطعة على أن المقصود الأعظم والغاية العظمى والهدف الأسمى والمطلب الأسنى الأعلى من خلق الجن والإنس، ومن إنزال الكتب وإرسال الرسل - هو توحيد العبادة المتضمن لتوحيد الربوبية.

ص: 197

فلا حاجة إلى إعادة تلك الوجوه هنا.

الوجه الرابع عشر:

أن الرب والإله مفهومان متغايران لغة؛ وليسا مترادفين حتى يكونا بمعنى واحد ويتحدا مفهومًا:

وفيما يلي كلام علماء اللغة من الحنفية:

أ- أما لفظ: ((الرب)) :

فهو ينبئ عن القيام بالشيء وإصلاحه، وحفظه، وتنميته، وكون الشيء مالكًا لآخر ومتصرفًا له وسيدًا له وسائسًا له، ومصلحًا، حافظًا وقائمًا بأموره.

ب- وأما لفظ: ((الإله)) :

فهو فعال بمعنى مفعول؛ أي ((مألوه)) بمعنى: ((معبود)) ؛ كإمام: بمعنى: مؤتم به:

من أله يأله إلهة وتألهًا:

أي: عبد يعبد عبادة وتعبدًا.

ومنه قول رؤبة بن العجاج (145هـ) :

لله در الغانيات المده

سبحن واسترجعن من تألهي

ص: 198

أي: من تعبدي.

و ((المده)) جمع ((ماده)) كركع جمع راكع، من ((المده)) وهو المدح.

ومنه قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: ((ويذرك وإلهتك)) [الأعراف: 127] : أي: عبادتك.

قلت: لقد تبين من نصوص هؤلاء الحنفية من أهل اللغة:

أن ((الرب)) و ((الإله)) مفهومان متغايران لغة.

إذن لا يصح أن يكون ((الرب)) و ((الإله)) من المترادفات.

وأما تغايرهما اصطلاحا فبيانه في الوجه الآتي.

الوجه الخامس عشر:

أن: ((الإله)) و ((الرب)) مفهومان متغايران اصطلاحا كما أنهما متغايران لغة:

لقد تبين في الوجه السابق أن ((الرب)) و ((الإله)) مفهومان متغايران لغة؛ وأريد أن أذكر كلام الحنفية لتحقيق أنهما متغايران اصطلاحا أيضًا ليتبين أن جعل القبورية توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية باطل لغة واصطلاحًا:

أ- فأما ((الإله)) اصطلاحا فهو لا يختلف معناه عما كان معناه لغة؛

ص: 199

فالإله اصطلاحا - كما صرح به الحنفية -:

((كل معبود سواء كان حقا أم باطلا)) ، بخلاف ((الله)) ؛ فإنه لا يطلق إلا على ((الإله الحق)) ، وهو الله سبحانه وتعالى.

وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض أئمة القبورية أيضًا:

ب- وأما ((الرب)) معرفًا باللام مطلقًا عن الإضافة؛ فلا يطلق إلا على الله سبحانه وتعالى، وهو الاصطلاح المعروف المشهور؛ بخلاف ((الإله)) .

فإنه يطلق على ((المعبود)) بالحق وعلى ((المعبود)) بالباطل، وأما إذا أضيف ((الرب)) وصار مقيدًا فيطلق على غير الله نحو ((رب الدار)) ، نعم أطلق ((الرب)) بدون الإضافة على غير الله تعالى في الشعر لا في النثر، ولكنه نادر شاذ فلا اعتبار له؛ لأنه لم يصدر إلا مرة واحدة من شاعر واحد.

الوجه السادس عشر:

أنه قد تبين من الوجهين السابقين اللذين ذكرت فيهما كلام علماء الحنفية من أهل اللغة في بيان معنى ((الرب)) و ((الإله)) لغة واصطلاحًا؛ ومن النصوص التي ذكرت عن علماء الحنفية في فصل أهمية توحيد الألوهية:

أن كلمة الإسلام هي: ((لا إله إلا الله)) ؛ وأنه لا يمكن لأحد أن

ص: 200

يدخل في دين الإسلام إلا بكلمة:

((لا إله إلا الله)) .

وأما غيرها من الكلمات مثل:

1 -

((لا رب إلا الله)) .

2 -

((لا خالق إلا الله)) .

3 -

((لا رازق إلا الله)) .

4 -

((لا موجود إلا الله)) .

5 -

((لا مقصود إلا الله)) .

6 -

((الله موجود)) .

7 -

((الله إله)) .

ونحو ذلك من الكلمات.

فلا يدخل بها المرء في الإسلام البتة؛ لأن هذه الكلمات لا تفرق بين الإسلام والكفر؛ وليست هي مفترق الطرق بين المسلمين والكافرين؛ لأن جميع الكفار يعترفون بهذه الكلمات.

بل بعضها من كلمات الملاحدة الصوفية الاتحادية الوجودية والحلولية.

قلت: هذا كله حجة قاطعة على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية، إذن لا يصح جعل توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية.

يوضحه الوجه الآتي.

ص: 201

الوجه السابع عشر:

أنه كما تبين من الوجوه السابقة ولا سيما كلام الحنفية في الوجهين:

الرابع عشر والخامس عشر:

أن ((الإله)) غير ((الرب)) لغة واصطلاحًا، وأنهما مفهومان متغايران، وليسا اسمين مترادفين؛ كذلك تبين أنه لا يصح أن يكون معنى كلمة التوحيد:((لا إله إلا الله)) : ((لا رب إلا الله)) ؛ فلو كان معنى ((توحيد الربوبية)) بعينه معنى ((توحيد الألوهية)) لصح أن يكون معنى ((لا إله إلا الله)) هو: ((لا رب إلا الله)) ؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله، وإذا لم يجز أن يكون معنى ((لا إله إلا الله)) هو ((لا رب إلا الله)) لزم أن لا يصح كون ((توحيد الألوهية)) عينًا لتوحيد الربوبية؛ لكن المقدم حق فالتالي مثله.

بل قد صرح علماء الحنفية أن المعنى الصحيح لكلمة ((لا إله إلا الله)) هو: ((لا معبود بحق إلا الله)) ، ولا يصح معنى آخر لهذه الكلمة العظيمة.

كما لا يصح أن يقال في معناها:

((لا إله موجود إلا الله)) ، أو ((لا إله في الوجود إلا الله)) ؛ لأنه يكذبه الواقع؛ لأن الله تعالى قد أخبر عن وجود آلهة كثيرة متعددة غير الله تعالى ولا يمكن التخلص عن هذا الإشكال إلا إذا قلنا: إن معناها: ((لا إله بحق

ص: 202

إلا الله)) ؛ لأن تلك الآلهة كلها باطلة وإنما الإله الحق هو الله وحده)) .

الحاصل: أنه قد تبين من كلام الحنفية في الوجهين البالغين، وغيرها من الوجوه السابقة أن الفرق بين ((الرب)) وبين ((الإله)) واقع واضحًا لغة واصطلاحًا، فهما مفهومان متغايران لا أنهما اسمان مترادفان بمعنى واحد؛ وهذه كلها حجج باهرة وبراهين قاهرة على أن جعل القبورية توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية باطل أيما بطلان.

الوجه الثامن عشر:

أن علماء الحنفية الرادين عقائد القبورية قد صرحوا وحققوا بنصوص الكتاب والسنة واستنادًا إلى تاريخ الوثنية وسبر عقائد المشركين:

أن المشركين كافة بألوانهم وأصنافهم، ولا سيما مشركي العرب لم ينكروا توحيد الربوبية والخالقية والرازقية لله سبحانه؛ بل كانوا يعترفون ويقرون:

بأن الله تعالى هو وحده: الرب الخالق الرازق المالك المدبر للأمور المتصرف في العالم نافذ المشيئة في الكون، وهو يحيي ويميت ويجيب المضطر، وحده لا شريك له، فلا راد لقضائه ولا دافع لأمره.

وقد ذكر كثير من علماء الحنفية كثيرًا من الآيات القرآنية التي تنص على اعتراف المشركين وإقرارهم:

بأن الله تعالى هو وحده الخالق الرازق المالك المحيي المميت المدبر للأمور المتصرف في الكون، ونحوها من المعارف التي تتعلق

ص: 203

بتوحيد الربوبية.

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) موردًا عدة للبرهنة على اعتراف المشركين؛ محققًا الفرق بين التوحيدين، قاطعًا دابر القبورية الجهلاء في ذلك:

(ومن بلغت به الجهالة والعماية * إلى هذه الغاية * فقد استحكم على قلبه الضلال والعناد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد *، ومن له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف: أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب والتوسل والتشفع؛ ليس إلا؛ ولم يدعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون الله) .

ثم ذكر عدة آيات على ذلك ثم قال:

(ولم يريدوا منهم تدبيرًا ولا تأثيرًا ولا شركة ولا استقلالًا؛ يوضحه قوله تعالى:

ص: 204

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32] ؛ وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] وقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 61-63] ، فتأمل هذه الآيات * وما فيها من الحجج والبينات * تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين *؛ ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين *) .

وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا جهل القبورية بحقيقة التوحيد والشرك، محققًا الفرق بين التوحيدين: (إنه [ابن جرجيس] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ فلذا خبط خبط عشواء؛ وإذا بسطنا ذلك يتبين فساد قوله وبطلانه حتى لصغار المتعلمين؛ - فنقول - وبالله التوفيق *

ص: 205

وبيده أزمة التحقيق *: توحيد الربوبية: هو الذي أقرت به الكفار جميعهم؛ ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية وبعض المجوس؛ وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم، ورازقهم، ومدبر أمرهم، ونافعهم، وضارهم، ومجيرهم واحد، لا رب، ولا خالق، ولا رازق ولا مدبر، ولا نافع ولا ضار، ولا مجيد غيره كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ......، ولا يستقيم التوحيد للربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية إلا بتوحيد الصفات المترتب على الذات؛ لأن صفاته تعالى لا تشبه صفات المخلوقين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا، وأهل الكلام يسمون هذا النوع من التوحيد توحيد الأفعال؛ لما ذكره بعض المحققين: أن صفة الربوبية تستلزم جميع صفات الفعل؛ وصفة الألوهية تستلزم جميع أوصاف الكمال والجلال؛ إلى آخر ما قال.

وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد؛ لأن ((الإله)) من يقصد للعبادة ويعامل بما يجب على المكلفين

؛ وإذا علمت هذا تبين لك: أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط

؛ فقد تبين لك أن أكثر المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ وإنما أشركوا في الألوهية؛ وعلى ذلك كتب العقائد السلفية والحديث والتفسير؛ والحكم باتحاد التوحيد نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وتقليده الأعمى للذين زعموا أنفسهم علماء ومؤلفين من المقلدين أمثاله الذين كل مؤلفاتهم أو أكثر ما فيها ضلال وبعد عن الهدى؛ أو نشأ من حبه لضلاله واتباعه لهواه....) .

ص: 206

الوجه التاسع عشر:

أن علماء الحنفية قد صرحوا استنادًا إلى نصوص الكتاب والسنة وحقيقة الشرك والتوحيد ومعرفة تاريخ الوثنية: أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم التي كانوا يعبدونها: أنها خالقة، رازقة مالكة لهم، مدبرة لأمورهم، متصرفة في شئونهم ولم يعتقدوا فيها القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر، بدون إذن من الله وبدون عطاء من الله سبحانه؛ فلم يجعلوا آلهتهم شريكة مع الله سبحانه في الخلق والرزق والتدبير والتصرف في الكون والربوبية للعالم، والإحياء والإماتة ونحوها من المعارف.

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة نعمان الآلوسي (317هـ) واللفظ للأول بعد ذكرهما عدة نصوص قرآنية على اعتراف المشركين:

(ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم؛ تارة يعتقدون: أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا كان أصل شرك العرب

) .

الوجه العشرون:

أن المشركين لم يعبدوا آلهتهم - لأجل اعتقادهم فيهم:

ص: 207

أنهم قادرون على النفع والضر والتدبير بذاتهم استقلالًا دون الحاجة إلى الله تعالى ودون إذن الله سبحانه، ودون عطاء الله تعالى لهم.

الوجه الحادي والعشرون:

أن المشركين لم يعبدوا الأحجار والأشجار لذاتها ولا اعتقدوا فيها الألوهية فضلًا عن الربوبية؛ فإن هذا لم يصدر عن عاقل قط؛ إذ لا يتصور أن ينحت الشخص حجرًا ونحوه ويجعله صنمًا ثم يعتقد فيه أنه إلهه فضلًا عن أن يعتقد فيه أنه خالقه ورازقه وربه.

الوجه الثاني والعشرون:

أن المشركين إنما أشركوا بالله تعالى شرك الشفاعة والتوسل إلى الله تعالى بعباده الصالحين؛ فظنوا أنهم لا يمكن لهم الوصول إلى الله تعالى مباشرة إلا بواسطة الصالحين الذين لهم مكانة عند الله، وأن الله تعالى لا يرد شفاعتهم لمنزلتهم عنده؛ وكانوا يقيسون الله تعالى بملوك الدنيا؛ فزعموا أنه كما لم يكن يمكن الوصول لعامة الناس إلى الملوك إلا بواسطة الأمراء والوزراء؛ فكذلك عامة العباد لا يمكن لهم الوصول إلى الله تعالى مباشرة إلا بواسطة عباد الله المقربين عنده، وعلى هذا الأساس صوروا لهم الصور ونحتوا لهم التماثيل تذكارًا لهم وجعلوها قبلة للتوجه إلى هؤلاء الصالحين المقربين، فكانوا على هذا الأساس يدعونهم ويستغيثون بهم في المهمات وينذرون لهم ويعبدونهم بأنواع العبادات؛ وهذه العقيدة الفاسدة في التوسل والواسطة والاستشفاع بعينها هي عقيدة القبورية اليوم

ص: 208

حذو القذة بالقذة.

وقد ذكرت كثيرًا من نصوص علماء الحنفية بنصها وفصها متفرقة في عدة مواضع من هذه الرسالة؛ فلا حاجة لسردها هاهنا.

وسأذكر كثيرًا منها في هذه الرسالة لمس الحاجة إلى ذكرها عند المناسبة كما سأذكر نصوص علماء الحنفية على أن القبورية في توسلهم الشركي وواسطتهم الشركية على طريقة أسلافهم المشركين السابقين حذو

ص: 209

النعل بالنعل.

وأقول: الحاصل: أن المشركين لما كانوا معترفين بتوحيد الربوبية وإنما كان خلافهم في توحيد الألوهية؛ ثبت أن توحيد الربوبية غير توحيد الألوهية.

إذا بطل قول القبورية؛ في جعلهم توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية وثبت أيضًا أن الرسل ما أرسلت والكتب ما أنزلت وأن الجن والإنس ما خلقوا إلا لتحقيق توحيد الألوهية، فتبين أن الغاية إنما هي توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية، ولله الحمد.

الوجه الثالث والعشرون:

أن المشركين - كما صرح الحنفية - كانوا يدعون الله تعالى عند الشدائد ولا يدعون آلهتهم الباطلة عند إلمام الملمات والكربات.

وقد استدل كثير من الحنفية بكثير من تلك الآيات التي تدل على أن المشركين كانوا يستغيثون بالله وحده عند الكربات.

وقد ذكر الحنفية بهذه المناسبة عدة قصص للمشركين.

الأولى: قصة إسلام عكرمة:

فقد فر عند فتح مكة وركب البحر وأخذتهم الريح فجعل أهل

ص: 210

السفينة يدعون الله تعالى ويوحدونه وقالوا: إن هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى فقال عكرمة: فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا؛ فرجع فأسلم.

القصة الثانية: قصة التجاء قريش وعلى رأسهم عبد المطلب حينما غزا أبرهة الأشرم مكة لهدم الكعبة:

فلقريش عامة ولعبد المطلب خاصة عجائب في التضرع والاستغاثة بالله تعالى وقد ذكر الحنفية شطرًا من تضرع قريش والتجائهم إلى الله وحده.

ولهم في ذلك أشعار يستغيثون فيها بالله تعالى؛ منها أبيات لعبد المطلب:

لاهم إن المرء يم

نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصلي

ب وعابديه اليوم آلك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلًا وما رقبوا جلالك

يا رب لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع عنهم حماك

ص: 211

إن عدو البيت من عاداك

امنعهم أن يخربوا فناك

القصة الثالثة:

أن أهل مكة لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا:

((اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين)) .

الحاصل:

أن هذه النصوص التي ذكرها علماء الحنفية عن المشركين تدل دلالة قاطعة أنهم لم يكونوا مشركين في ربوبية الله تعالى وخالقيته ومالكيته وتدبيره للكون؛ وإنما كان إشراكهم في توحيد الألوهية؛ فتبين الفرق بين التوحيدين وبطل جعل أحدهما عين الآخر كما هو زعم القبورية الباطل.

الوجه الرابع والعشرون:

أن الحنفية ذكروا أن المشركين كانوا على بقية من بقايا الملة الإبراهيمية وكانوا يسمون أنفسهم الحنفاء؛ وكانوا يعبدون الله تعالى ببعض العبادات.

كالصلاة والحج والصوم ويعظمون الله تعالى بأفعال تعظيمية ولا سيما السجود وأقوال من الذكر والدعاء؛ والطهارة والغسل من الجنابة، وكان فيهم الزكاة، وقرى الضيف والاهتمام بابن السبيل وحمل الكل والصدقة على المساكين وصلة الأرحام والإعانة على نوائب الحق والذبح في الحلق واللبة وكانوا يحرمون المحارم كالأم والبنت والأخت وكان فيهم القصاص

ص: 212

والدية والقسامة، وعقوبات الزنا والسرقة ونحوها من بقايا الملة الإبراهيمية؛ بل كانوا يسلمون جواز بعثة الأنبياء ويقولون بالمجازاة ويعتقدون أصول أنواع البر وكثيرًا في الشعائر كالختان ونحوه.

الحاصل:

أن كل هذا يدل دلالة لا تحتمل النقيض:

أن المشركين كانوا يعبدون الله تعالى أيضًا بكثير من العبادات الظاهرة والباطنة؛ وأنهم لم يكونوا مشركين بالله آلهتهم في الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية؛ وهذا كله برهان أيما برهان على الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية؛ وحجة قاهرة على بطلان جعل هذين التوحيدين شيئًا واحدًا.

الوجه الخامس والعشرون:

أن علماء الحنفية قد ذكروا:

أن المشركين كانوا إذا حجوا يلبون لله عز وجل بهذه التلبية:

((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ، وكانوا إذا «قالوا:((لبيك لا شريك لك)) ؛ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم قد قد؛»

ص: 213

«فيقولون: ((إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» *)) وقد ذكر بعض الحنفية تلبيتهم هذه في صورة الرجز:

* لبيك لا شريك لك * إلا شريكًا هو لك * تملكه وما ملك.

قال علماء الحنفية في شرح قول المشركين: ((تملكه وما ملك)) .

إن كلمة: ((ما)) تحتمل وجهين:

الأول: أن تكون نافية؛ فالمعنى: أنهم يعترفون بأن الله تعالى هو المالك وأن آلهتهم لا تملك شيئًا.

والثاني: أن تكون موصولة عطف على الضمير المنصوب المتصل؛ فيكون المعنى: أن الله تعالى هو مالك آلهتهم ومالك ما تملك آلهتهم أيضًا.

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في شرح هذه التلبية ردًّا على مزاعم القبورية ولا سيما ابن جرجيس العراقي:

(وهذا الأحمق زاد في غير موضع في كتابه قيدًا؛ فقال: ((لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله)) .

مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية:

((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال، وعلى زعم هذا [العراقي] فليسوا بمشركين) .

ص: 214

ولذلك قال الإمام ابن أبي العز في بيان عقائد المشركين وحقيقة شركهم:

(ولم يكونوا يعتقدون في أصنامهم أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم في مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم؛ تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا كان أصل شرك العرب

) .

قلت: الحاصل: أن القبورية في دعواهم: أن المشركين إنما كان إشراكهم لأجل اعتقادهم في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضرر غير صادقين كما أنهم في قولهم باتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية على باطل محض.

الوجه السادس والعشرون:

أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، ولا عكس؛ كما سبق تقريره في كلام الحنفية.

ولا شك أن المتضمن بصيغة اسم الفاعل غير المتضمن بصيغة اسم المفعول لأن الأول كل، والثاني جزء له.

ولا شك أن الكل غير الجزء، والجزء غير الكل؛ ومن لم يفرق بين

ص: 215

الكل والجزء وقال باتحادهما فقد هذى هذيان المحمومين * وانحط من عقلاء المجانين * وقد تبين من هذا أن توحيد الألوهية إذا وجد وجد توحيد الربوبية؛ لأن وجود الكل يستلزم وجود الجزء ولا عكس؛ فإن توحيد الربوبية قد وجد عند المشركين ومع ذلك هم مشركون في توحيد العبادة كما سبق تقريره غير مرة.

الوجه السابع والعشرون:

أن توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية مدلول لتوحيد الربوبية؛ كما صرح بذلك علماء الحنفية؛ وهذا حجة وبرهان ودليل وسلطان على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية؛ أنه لا شك أن الدليل غير المدلول والمدلول غير الدليل؛ ومن زعم أن الدليل والمدلول شيء واحد فقد حكم على نفسه بالجنون * ولكن الجنون أنواع وفنون *.

فقد صرح علماء الحنفية أن الله تعالى احتج على المشركين لأجل اعترافهم بربوبيته وخالقيته ومالكيته في مواضع لا تحصى من كتابه ليوحدوه في ألوهيته؛ لأنهم يسلمون في الأول دون الثاني؛ فاحتج الله تعالى بالأول على الثاني ليسكتهم ويفحمهم ويلجئهم إلى الاعتراف بالثاني، وهذه طريقة محكمة غاية الإحكام في باب المناظرة.

وإليك نصين مهمين للعلامة الآلوسي (1342) في ذلك.

ص: 216

1 -

قال رحمه الله في تحقيق أن الله تعالى احتج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية؛ ليعترفوا بتوحيد العبادة؛ وذلك بعد ذكره لعدة آيات فيها استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية:

(تأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته ووجوب عبادته وحده لا شريك له بما أقر به الخصم واعترف به من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق والتأثير والتدبير؛ وهذه عادة القرآن دائمًا: يعرج على هذه الحجة؛ لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود؛ فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة والظهور؛ فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور) .

2 -

وقال رحمه الله تعالى: محققًا أن توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية وأن الله تعالى قد احتج على المشركين بهذه الحجة القاهرة الباهرة:

(إنه [ابن جرجيس] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فلذا خبط خبط عشواء

؛ توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم

؛ فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم ومدبر أمرهم ونافعهم وضارهم ومجيرهم واحد؛ لا رب ولا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره..؛ وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد....؛ إذا علمت هذا تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط

؛ وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم

ص: 217

دعوا إلى توحيد الله وعبادته، وقد رد الله سبحانه على من خالف هذا الأصل، وحكم على الوصل بحكم الفصل، وهم المشركون الذين وحدوه بالربوبية، وأشركوا به في الألوهية توحيدهم؛ فأقامه حجة بالغة وسلطانًا مبينًا قامعًا للشرك في الألوهية، موجبًا لإفراده فيها أيضًا، وأنه ينبغي أن لا يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه؛ فقد تبين لك أن أكثر المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وإنما أشركوا في الألوهية، وعلى ذلك كتب العقائد السلفية والحديث والتفسير.

والحكم باتحاد التوحيدين نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم] .

الوجه الثامن والعشرون:

أن الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية، جوهري؛ لأن توحيد الربوبية توحيد بأفعال الله تعالى، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الكون والتصرف في الخلق وإنزال المطر وإنبات النبات، وغيرها من أفعال الله تعالى الخاصة به سبحانه وتعالى.

أما توحيد الألوهية فهو توحيد بأفعال العبد؛ مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والصوم والصلاة والحج والزكاة وغيرها من أنواع العبادات الظاهرة والباطنة وهذا التوحيد هو الذي وقع فيه النزاع في قديم العصر وحديثه، وأنكر المشركون قديمًا وحديثًا، وهذا التوحيد هو معنى:

((لا إله إلا الله)) .

ص: 218

الوجه التاسع والعشرون:

أن الفرق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية؛ وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات - موجودان - قبل شيخ الإسلام - عند أئمة الحنفية الكبار الأعلام؛ فكيف يصح زعم القبورية أن هذا التقسيم من بدع ابن تيمية، ومخترعاته؟

وإليك بعض نصوص هؤلاء الأئمة للحنفية في صحة هذا التقسيم وفي صحة الفرق بين هذين التوحيدين؛ إتمامًا للحجة وإيضاحًا للمحجة:

1 -

4 - قال الإمام الطحاوي (321هـ) في بيان عقيدة الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق:

أبي حنيفة (150هـ) وأبي يوسف (182هـ) ومحمد (189هـ) رحمهم الله تعالى:

(نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره) .

قلت: تدبر رحمك الله كلام هؤلاء الأئمة؛ فإن قولهم: ((إن الله واحد لا شريك له)) توحيد إجمالي ونفي الشرك، وقولهم:((ولا شيء مثله)) هو توحيد الأسماء والصفات، وقولهم:((ولا شيء يعجزه)) هو توحيد

ص: 219

الربوبية، وقولهم:((ولا إله غيره)) هو توحيد الألوهية.

أو يقال: إن الجملة الأولى: توحيد الربوبية؛ والجملتين بعدها: توحيد الأسماء والصفات، والجملة الأخيرة: توحيد العبادة.

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله في شرح الجملة الأخيرة محققًا أن هذه توحيد العبادة:

(قوله: ((ولا إله غيره)) هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم كما تقدم ذكره

) .

5 -

وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (150هـ) أيضًا:

(من قال: ((لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض)) فقد كفر؛ وكذا من قال: ((إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض؟)) والله يدعى من أعلى لا من أسفل؛ لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء) .

ثم ذكر رحمه الله حديث الجارية في البرهنة على صفة العلو

ص: 220

والاستواء.

قلت: والشاهد أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد صرح بالتوحيدين في هذا النص: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ حيث عطف الثاني على الأول، وهذا دليل قاطع على تغايرهما وأنهما ليسا شيئًا واحدًا.

6 -

وقال أبو منصور الماتريدي (333هـ) في تفسير قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] :

(أي ما لكم من إله تثبت ألوهيته وربوبيته بالدلائل والحجج، والبراهين غيره تعالى) .

7 -

ونقله الناصري (652هـ) وأقره.

قلت: الشاهد أن الماتريدي ثم الناصري - وهما من كبار الحنفية قد صرحا بذكر الألوهية والربوبية، وقد عطفا الثانية على الأولى؛ فدل ذلك على أن الربوبية غير الألوهية؛ فثبت: أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية، وأنهما ليسا شيئًا واحدًا، وهؤلاء الأئمة للحنفية كلهم كانوا قبل شيخ الإسلام بقرون متطاولة؛ فهل يصح هذيان القبورية أن الفرق بين هذين التوحيدين من بدع ابن تيمية ومخترعاته؟

بل نص الإمام ابن بطة على هذا التقسيم وهو توفي قبل شيخ الإسلام بقرون (387هـ) .

ص: 221

الوجه الثلاثون:

أن الشيخ أبا غدة الكوثري الذي له ولاء وثقة بأئمة القبورية وهو من كبار علماء الحنفية قد صرح بأن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وأن الفرق بينهما، وتحقيق أن المشركين كانوا يؤمنون بالأول دون الثاني كل ذلك ثابت بالكتاب والسنة؛ وهذا نص كلامه بحرفه ونصه * ولفظه وفصه *:

(وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة:

شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى:

مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، دون توحيد الألوهية؛ وفي سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في صلاته مرات كل يوم دليل على ذلك؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ) .

قلت: بعد أن شهد شاهد من أهلها - وقد كذبهم شاهدهم في طاماتهم - هل يمكن للقبورية أن يقولوا: إن تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية والفرق بينهما لا يدل عليهما الكتاب والسنة؟

ستعلم ليلى أي دين تدينت

وأي غريم في التقاضي غريمها

ص: 222

وبعد أن ثبت صحة هذا التقسيم والفرق بين التوحيدين وأن الغاية هي توحيد العبادة ننتقل إلى الفصل الآتي للرد على شبهات القبورية بحول الله.

*****

ص: 223

الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وزعمهم أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها.

وفيه مبحثان:

- المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية.

- المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لإثبات زعمهم: أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها.

ص: 225

كلمة بين يدي هذا الفصل

للقبورية شبهات تشبثوا بها لإثبات زعمهم: أن توحيد الألوهية بعينه هو توحيد الربوبية؛ وزعمهم: أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخلق والرزق والملك والربوبية والتصرف في العالم استقلالًا، وزعمهم: أن الشرك لا يتحقق إلا إذا اعتقد الإنسان في غير الله: أنه خالق رازق رب مستقل بالنفع والضر بدون الحاجة إلى الله تعالى، وزعمهم: أن العبادة لغير الله لا تتحقق إلا إذا عبد غير الله بذلك الاعتقاد.

وأنا بحول الله وقوته وحسن توفيقه سأذكر جل هذه الشبهات وأهمها؛ ثم أذكر جهود علماء الحنفية في قلعها وقمعها؛ لإقامة الحجة وإيضاح المحجة؛ فأقول والله المستعان على ما يصفون:

إن الكلام هاهنا في مبحثين:

****

ص: 227

المبحث الأول

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية

للقبورية شبهات تشبثوا بها للاستدلال على أن توحيد الربوبية هو عين توحيد الألوهية لغة واصطلاحا، وأنهما شيء واحد، لا شيئان متغايران، وأن الإيمان بأحدهما إيمان بالآخر، والاعتراف بأحدهما اعتراف بالآخر، وأن توحيد الربوبية كاف للمرء في الدخول في الإسلام، إلى غير ذلك من الطامات.

وفيما يلي عرض أهم تلك الشبهات مع بيان جهود علماء الحنفية لإبطالها وقمعها وقلعها، فأقول وبالله التوفيق.

الشبهة الأولى: شبهة ((برهان التمانع)) :

وإنما سمي به: لأنه مبني على فرض التمانع؛ لأنه يتبين فيه تمانع كل واحد من الصانعين الآخر عن الصنع، أي أن هذا يمنع ذاك وذاك يمنع هذا عن تنفيذ إرادته.

وتقرير برهان التمانع الدال على وحدانية الصانع الخالق هو: (أنه لو

ص: 229

أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع، بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه

؛ وحينئذ إما أن يحصل الأمران؛ فيجتمع الضدان؛ أو لا؛ فيلزم عجز أحدهما) .

أي: يبطل أحد الإلهين ويبقى الآخر حقا، فثبت توحيد الصانع.

وهذا البرهان أشهر براهين المتكلمين في إثبات وحدانية الصانع؛ ومع ذلك قد طعن فيه بعض المتكلمين والمتفلسفين: كأبي هاشم عبد السلام بن محمد الحنفي إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ) ، وأبي نصر الفارابي الضال الكافر (339هـ) ، والتفتازاني الحنفي فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، وغيرهم.

ولكن لقوة هذا الدليل عند المتكلمين وشهرته عندهم قد كفر بعضهم التفتازاني وأبا هاشم لطعنهما فيه.

والحق أن هذا الدليل حجة عقلية قاطعة صحيحة لا مطعن فيها؛

ص: 230

كما صرح بذلك شيخ الإسلام.

ولكن القبورية كدأب إخوانهم المعطلة المتكلمين من الماتريدية والأشعرية؛ جعلوا برهان التمانع دليلًا على اتحاد الرب والإله؛ فكلهم قد حملوا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ على برهان التمانع بين الصانعين.

أما المتكلمون: من الماتريدية والأشعرية فأمرهم أوضح في استخدام برهان التمانع وجعله دليلًا على وحدانية الصانع؛ وزعمهم أن هذه الآية الكريمة تفيد وحدانية الصانع على طريقة برهان التمانع، وجعلهم ((الإله)) في هذه الآية بمعنى الخالق الصانع.

وأما القبورية: فيقول ابن جرجيس (1299هـ) ، والقضاعي (1376هـ)، واللفظ للأول:

(ويدل أيضًا على أن ((الإله)) هو ((الرب)) الآيات الدالة على التمانع، وهو نفي الشريك؛ فإن الله تعالى علم المؤمنين ورد على الكافرين المشركين؛ كقوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ؛ أي لو كان في السماوات والأرض أرباب غير الله لفسدتا؛ لأن كل رب يريد ما لا يريد

ص: 231

الآخر؛ فيلزم فساد هذا النظام الموجود؛ فلما لم تفسد؛ دل أن الرب لهذا الوجود واحد في ربوبيته) .

قلت: هذا النص مشتمل على أمور:

الأول: أن المراد من ((الإله)) هو الرب الخالق الصانع، وأن ((الإله)) هو بعينه الرب والخالق والصانع.

والثاني: أن هذه الآية فيها حجة تسمى ببرهان التمانع.

والثالث: أن المراد من الفساد في هذه الآية هو الفساد بمعنى التدمير والهدم الظاهري.

الجواب:

لقد صرح علماء الحنفية الرادين على أهل الكلام وعلى القبورية بأن هذه المقدمات كلها فاسدة؛ فإن ((الإله)) في هذه الآية ليس المراد منه هو الرب الخالق الصانع؛ لأن هذه الآية سيقت للرد على المشركين الذين لم يعتقدوا صانعين أو أكثر للعالم؛ بل اتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله؛ ولم يعتقدوا فيها أنها خالقة أرباب صانعة؛ بل اعتقدوا فيها أنها عباد مقربون عند الله ويشفعون لهم عند الله. إذن حمل الآية على برهان التمانع صار باطلًا أيضًا، كما أن المراد من ((الفساد)) التخريب والهدم الظاهر أيضًا باطل هاهنا؛ لأنه لو كان الأمر على برهان التمانع لقال الله تعالى:((لم تخلقا)) ، ولم يقل:((لفسدتا)) ؛ لأن برهان التمانع يقتضي أن لا توجد السماوات والأرض إن فرض وجود صانعين فأكثر؛ لا أن تفسدا بعد خلقهما.

ص: 232

بل المراد من ((الفساد)) في الآية: الفساد بمعنى الظلم والعدوان؛ لأن التوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم.

قال الإمام ابن أبي العز الحنفي أحد أئمة الحنفية رحمه الله (792هـ) ، وتبعه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ، واللفظ للأول؛ مبطلًا جميع هذه المقدمات، ومزيفًا استدلالهم بهذه الآية على جعل توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية؛ وجعل هذه الآية مشتملة على برهان التمانع:

(وكثير من أهل النظر يزعمون: أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ لاعتقادهم: أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن؛ ودعت إليه الرسل عليهم السلام؛ وليس الأمر كذلك؛ بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84-85] ؛ ومثل هذا كثير في القرآن؛ ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام: أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر، وغيرهم؛ تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا أصل شرك العرب....) .

ص: 233

وقال رحمه الله تعالى أيضًا بعد ذكر قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] :

(وقد ظن طوائف: أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره: وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية؛ فإنه سبحانه أخبر: أنه لو كان فيهما آلهة غيره؛ ولم يقل: ((أرباب)) ؛ وأيضًا؛ فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا؛ وأيضًا؛ فإنه قال:((لفسدتا)) ، وهذا فساد بعد الوجود؛ ولم يقل لم يوجدا؛ ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة؛ بل لا يكون الإله إلا واحدًا؛ وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى؛ وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة؛ ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره؛ فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله؛ فإن قيامه إنما هو بالعدل؛ وبه قامت السماوات والأرض؛ وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك؛ وأعدل العدل التوحيد؛ وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ دون العكس....) .

قلت: الحاصل: أن استدلال القبورية وكذا إخوانهم المعطلة المتكلمة بهذه الآية على جعل توحيد العبادة عينًا لتوحيد الربوبية باطل أي بطلان، ولله الحمد.

الشبهة الثانية: تشبثهم بقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}

ص: 234

[الأعراف: 172] .

قالوا: ((لم يقل ألست بإلهكم فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية. ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية إذ ليس الرب غير الإله، بل هو بعينه)) .

الشبهة الثالثة: تشبثهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}

[فصلت: 30، الأحقاف: 13] .

قالوا: لم يقل ((إلهنا)) ؛ فهذا يدل على أن توحيد الربوبية كاف في النجاة والفوز لاستلزامه توحيد الألوهية، فهذا دليل على أن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر.

الشبهة الرابعة: استدلالهم بحديث سؤال الملكين في القبر: «من ربك» .

قالوا: لم يقولا له: ((من إلهك)) ، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.

وقال الدجوي: (وأما السنة فسؤال الملكين للميت عن ربه لا عن إلهه لأنهم [لا] يفرقون بين الرب والإله؛ فإنهم ليسوا تيميين ولا

ص: 235

متخبطين، وكان الواجب على مذهب هؤلاء أن يقولوا للميت ((من إلهك)) لا «من ربك» ، أو يسألوه عن هذا وذلك)) .

وقال القضاعي أحد أئمة القبورية: (ولا يقولان له: إنما اعترفت بتوحيد الربوبية، وليس توحيد الربوبية كافيًا في الإيمان) .

الشبهة الخامسة: استدلالهم بحديث: «قل ربي الله ثم استقم» .

استدل به عدة من القبورية.

وتقرير استدلالهم مر في الشبهة الثالثة.

الجواب عن هذه الشبه الأربع:

لقد تصدى العلامة السهسواني (1326هـ) لجواب هذه الشبه بذكر تمهيد طويل وجواب مختصر فقال:

(أقول: لا مرية أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبودنا، ليس لنا معبود غيره، ولا نعبد إلا إياه.

والأمر الأول: هو الذي يقال: ((توحيد الربوبية)) .

والأمر الثاني: هو الذي يقال: ((توحيد الألوهية)) .

والإشراك في الأول: يسمى ((الإشراك في الربوبية)) .

والإشراك في الثاني: يسمى ((الإشراك في الألوهية)) .

ص: 236

والآيات الدالة على الأمر الأول كثيرة) .

ثم ذكر كثيرًا منها، ثم قال:

(وأما الآيات الدالة على الأمر الثاني ((يعني توحيد الألوهية)) فأكثر من أن تحصى) .

ثم ذكر كثيرًا منها، ثم قال:

(ولا أظنك شاكا في أن مفهوم ((الرب)) ومفهوم ((الإله)) متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر وفي اعتقاد المسلمين المخلصين واحد.

وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيدين، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين ((توحيد الرب)) ولا يعتقد ((توحيد الإله)) ، وأن يشرك واحد من المبطلين في ((الألوهية)) ، ولا يشرك في ((الربوبية)) وإن كان هذا باطل في نفس الأمر. ألا ترى أن مصداق ((الرازق)) ومالك السمع والأبصار، والمحيي، والمميت، ومدبر الأمر، ورب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، والخالق، ومسخر الشمس والقمر، منزل الماء من السماء، ومصداق ((الإله)) واحد. ومع ذلك كان مشركو العرب يقرون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما، ويشركون في ((الألوهية)) و ((العبادة)) ) .

ثم ذكر عدة آيات دالة على هذا المطلب، ثم قال:

(فكذلك عباد القبور الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه، يقرون بتوحيد الرازق والمحيي والمميت والخالق والمؤثر والمدبر والرب. ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفًا وطمعًا، ويذبحون لهم ويطوفون بهم ويحلقون لهم ويخرجون من أموالهم جزءًا لهم. وكون مصداق ((الرب)) عين مصداق ((الإله)) في نفس الأمر وعند المسلمين المخلصين لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، واتحاد مصداق الرب والإله عند

ص: 237

المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة) .

ثم قال:

(الاحتمال الثالث: أن المراد بـ ((الرب)) ((المعبود)) ..... قال القرطبي: ((والرب المعبود)) ....) .

ثم ذكر عدة من النصوص أفادت أن المراد بالرب في هذه الآيات هو المعبود.

وقال في الجواب عن شبهات أخرى:

(( (الوجه الثاني)) أنه يحتمل أن يكون المراد بالرب في الآيات المذكورة ((المعبود)) ، وقد عرفت بما تقدم أن ((الرب)) ربما يجيء بمعنى ((المعبود)) ) .

قلت:

حاصل الجواب: أنه لا شك في تغاير مفهومي ((الرب)) و ((الإله)) ولا ريب أيضًا أن ((توحيد الربوبية)) غير توحيد الألوهية، وأن الشرك في الأول غيره في الثاني. كما لا يرتاب ذو عقل سليم خبير بأحوال المشركين أنهم كانوا معترفين بالأول دون الثاني، ولكن لا يمنع ذلك أن تأتي كلمة ((الرب)) في بعض النصوص ويراد بها ((الإله)) ، فكلمة ((الرب)) في هذه النصوص التي تشبثت بها القبورية هي بمعنى ((الإله)) . فالمعنى:((ألست بمعبودكم)) ، و ((إن الذين قالوا معبودنا)) ، و ((من معبودك)) ؛ لأن كثيرًا من الكلمات مع اختلاف معانيها قد تأتي إحداهما بمعنى ((الأخرى)) في بعض

ص: 238

السياق، ومع ذلك لا يدل على أنهما شيء واحد؛ لأن الاتحاد في الصدق لا يستلزم الاتحاد في المفهوم فضلًا عن التساوي، كما صرح به العلامة محمود شكري الآلوسي.

وقد أوضح هذا المطلوب المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب (1206هـ)، وأرى أن أذكر كلامه توضيحًا لكلام العلامتين السهسواني والآلوسي؛ قال رحمه الله:

(اعلم أن ((الربوبية)) و ((الألوهية)) يجتمعان ويفترقان. كما في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 1-3] ، وكما يقال ((رب العالمين)) ، و ((إله المرسلين)) . وعند الإفراد يجتمعان، كما في قول القائل:((من ربك)) . مثاله: الفقير والمسكين نوعان في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم: «افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» . إذا ثبت هذا؛ فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك، معناه: من إلهك؛ لأن توحيد الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]، وقوله:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام: 164]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] . فالربوبية في هذا هي ((الألوهية)) ليست قسيمة لها كما

ص: 239

تكون قسيمة لها عند الافتراق، فينبغي التفطن لهذه المسألة) .

قلت:

نظير هذه المسألة: مسألة اتحاد الإيمان والإسلام وافتراقهما؛ فهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي إذا ذكر الإيمان والإسلام في سياق واحد يكون المراد من الإيمان عقد القلب، ويكون المراد من الإسلام الإقرار باللسان، والعمل بالأركان، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]، وقوله تعالى:{مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] ، وكما في حديث جبريل الذي فيه بيان أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة.

وإذا ذكر الإيمان دون الإسلام، يكون الإيمان شاملًا للإسلام، كما في قوله تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]، وقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

[التوبة: 71] .

وإذا ذكر الإسلام دون الإيمان يكون الإسلام شاملًا للإيمان، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] .

ولقد حقق هذه القاعدة؛ قاعدة الافتراق والاجتماع وبسط القول فيها، وذكر لها نظائر كثيرة الإمام ابن أبي العز الحنفي، وقبله شيخ

ص: 240

الإسلام؛ فراجعها.

الحاصل: أن مفهوم ((الربوبية)) غير مفهوم ((الألوهية)) بلا ريب؛ فهما مفهومان متغايران، أمران مستقلان اثنان، لكن قد يذكر أحدهما ويراد به الآخر في بعض السياق أحيانًا، فهذا لا يدل على اتحادهما.

فكلمة ((الرب)) الواردة في النصوص التي تشبث بها هؤلاء القبورية لإثبات الاتحاد بين ((الربوبية)) و ((الألوهية)) معناها ((المعبود)) فلا يصح استدلالهم بها على اتحاد مفهومها.

ولذا نرى العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342هـ) بعد بحث طويل في معنى الربوبية والألوهية، وأن الأول اعترف به المشركون، وأن المعركة كانت في الألوهية فقط، وأن الأول دليل على الثاني -، أجاب عن شبهة إمام القبورية ابن جرجيس ((من أن الرب والإله متحدان في المفهوم)) قائلًا:

(ثم إن العراقي - عامله الله بعدله - كأنه لم يشم رائحة العلم ولا قرأ مقدماته حتى حكم باتحاد الرب والإله في المفهوم توهمًا منه: أن الاتحاد في [الصدق] يستلزم الاتحاد في المفهوم، وأن الترادف [يعني إطلاق ((الرب)) على ((الإله)) في بعض المواضع] يستلزم التساوي. وهذا جهل بالنسب بين الألفاظ. وما كفاه هذا الخبط العظيم حتى أخذ يتكلم على أهل الحق بكلام لا يصدق إلا عليه ولا يثبت صفته المذمومة لغيره. فتبًا

ص: 241

لشيبته الضالة، وسحقًا له من رجل لم تحنكه التجارب) .

الشبهة السادسة: استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80] .

قال الدجوي أحد أئمة القبورية مستدلًا بهذه الآية الكريمة على اتحاد الرب والإله:

(فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابًا يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب: إنهم موحدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلا رب واحد، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية) .

الجواب:

لقد ذكر هذه الشبهة العلامة السهسواني مع شبهات أخرى، ثم قال:

(قلت جوابه لوجوه:

الأول: أنه ليس في شيء من الآيات المذكورة أن مشركًا قال في حق غير الله إنه رب [أي إنه خالق ومدبر الكون ونحوه] ....، وإنما في بعضها اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصا على أنهم مقرون بربوبيتهم [وخالقيتهم ونحوها] ؛ بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب بمعنى صرف شيء من العبادة إليهم أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام..) .

ص: 242

قلت: حاصل هذا الجواب: أنه ليس المراد من لفظة ((الرب)) في مثل هذا السياق ((الخالق الرازق مدبر الكون)) حتى يلزم ما زعمته القبورية، بل المراد من ((الرب)) في مثل هذا السياق هو ((المعبود)) .

وقد يرد في بعض السياق ((الرب)) ويراد منه ((المعبود)) ، كما تقدم ذلك على لسان علماء الحنفية.

فلفظة ((الرب)) في هذه الآية بمعنى ((المعبود)) .

وأقول: يدل عليه أيضًا ما ذكره المفسرون من علماء الحنفية سببين لنزول هذه الآية:

الأول: أن بعض اليهود والنصارى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن نعبد غيره، أو أن نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

والثاني: أن رجلًا قال: «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض؟ أفلا نسجد لك؟ قال: لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» ، فنزلت.

فالحاصل:

أنه ليس في الآية إشارة ولا صراحة أن المشركين كانوا يشركون بالله في الخالقية والرازقية وتدبير الكون، فانهار استدلال القبورية.

ص: 243

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لتحقيق زعمهم: أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها

للقبورية شبهات كثيرة استندوا إليها لتحقيق أن المشركين السابقين ولا سيما مشركي العرب في الجاهلية إنما كانوا مشركين آلهتهم بالله تعالى في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية.

بل سووا آلهتهم بالله سبحانه وعدلوهم به تعالى، بل كانوا يرجحون آلهتهم على الله تعالى، بل كانوا يسبون الله تعالى إعظامًا لآلهتهم.

وفيما يلي بعض أهم شبهاتهم أعرضها للقراء الكرام، مع بعض جهود علماء الحنفية في إبطالها وقمعها، إتمامًا للحجة وإيضاحًا للمحجة، فأقول مستعينًا بالله تعالى:

الشبهة الأولى: تشبث القبورية بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] .

قالت القبورية مستدلين بهذه الآية: إن المشركين كانوا دهرية منكرين للخالق.

ص: 245

قلت:

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذا الاستدلال بجوابين:

الأول: أن هذه الآية ليس فيها إنكار مشركي العرب للخالق، بل الآية سيقت لبيان اعتقادهم وغلوهم في إنكار البعث، وإنكار قبض ملك الموت أرواحهم بإذن الله، فأنكروا البعث وقالوا: إن الدهر يهلكنا لا ملك الموت.

فالحصر هاهنا في الآية حصر بالنسبة لملك الموت، لا أنهم ينكرون وجود الله تعالى.

ومع ذلك كان فيهم من يثبت نوعًا من التصرف للدهر.

قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ) والعمادي (983هـ) والآلوسي (1270هـ) واللفظ له:

(وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل، وكانوا يسندون الحوادث مطلقًا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله، وأشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر، وهؤلاء معترفون بوجود الله فهم غير الدهرية؛ فإنهم - أي الدهرية - مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجود الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير) .

الجواب الثاني: أن هذا اعتقاد بعض الجاهلية الذين كانوا زنادقة.

ص: 246

قلت: لا شك أن الزنادقة لا دين لهم فهم إن أنكروا خالقية الله تعالى وربوبيته ونسبوا الحوادث إلى الدهر، فهذا منهم مكابرة وعناد.

فهذه الآية لا تناقض ما حكى الله عنهم من اعترافهم بتوحيد الربوبية، فهم يقولون ذلك بالألسنة مع أن قلوبهم تشهد بخلاف ذلك.

الشبهة الثانية: تشبثهم بقول الشاعر:

أشاب الصغير وأفنى الكبي

ر كر الغداة ومر العشي

قالوا: هل يعقل أن يقول عاقل: إن أصحاب هذا الكفر كانوا يقرون بتوحيد الربوبية؟ .

والجواب: أن هذه الشبهة في غاية من الحماقة والبلادة؛ لأن هذا الشاعر كان مسلمًا؛ فكيف يتصور أنه كان ملحدًا دهريا زنديقًا منكرًا لخالق الكائنات ورب البريات؟ .

والظاهر أنه عنى: أن البلايا في الدهر أشابت الصغير وأفنت الكبير.

ولا يعبد أن يكون قوله هذا في شدة تلك المصائب، مثل ما في قوله تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] ، ولو سلم أنه كان كافرًا فجوابه ما سبق في الجواب عن الشبهة السابقة وبالله التوفيق.

الشبهة الثالثة: تشبثهم بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} .... [البقرة: 28]، وقوله تعالى:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] ،

ص: 247

وقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] .

قالوا: هذه الآيات صريحة في إنكار المشركين للخالق سبحانه وتعالى، فدل أنهم كانوا مشركين في خالقية الله تعالى.

وأجاب الحنفية بأجوبة ثلاثة:

الأول: أن المراد من الكفر في هذه الآيات كفر النعمة، والمعنى: كيف تكفرون نعم الله؟ .

والثاني: أن المراد من كفرهم بالله هو كفرهم بكتاب الله؛ فعبر عن ذلك بكفرهم بالله.

والجواب الثالث: أن المراد من الكفر بالله كفرهم بتوحيد الله، فمعنى {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} : كيف تعبدون معه غيره. فكفرهم بالله اتخاذ الأنداد والشركاء له سبحانه. ولذا قال الآلوسي في بيان الربط بين الجملتين في قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} -: (لأن الأولى متحدة بقوله تعالى {تَكْفُرُونَ} بمنزلة إعادتها) .

الشبهة الرابعة: تشبثهم بقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] .

ص: 248

قالوا: فلم يجعلوه ربًا.

بل هو صريح في أنهم كانوا منكرين للخالق سبحانه وتعالى.

أقول: إن الحنفية قد أجابوا عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأول: ما مر في الجواب عن الشبهة الثانية.

أن المراد بالكفر بالرحمن هاهنا هو الكفر بتوحيده.

قال العلامة الجاجروي:

(قال ابن جرير: يقول: وهم يجحدون وحدانية الله ويكذبون بها) .

والجواب الثاني: ما مر أيضًا في الأجوبة عن الشبهة الثالثة من أن المراد كفر النعمة، وهي إرسال الرسول وإنزال القرآن لهدايتهم.

قال الآلوسي:

(فلم يشكروا نعمة الله سبحانه لا سيما ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم، بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر) .

الجواب الثالث: أن المراد أنهم أنكروا هذا الاسم لله تعالى كما ورد ذلك في سبب نزول هذه الآية، فأنكروا تسمية الله بالرحمن، لا أنهم أنكروا الله تعالى؛ وهذا نوع من الإلحاد في توحيد الأسماء والصفات. وكثير من

ص: 249

المشركين لا يعرفون الله تعالى باسمه ((الرحمن)) ؛ كما روي أن سهيل بن عمرو قال يوم صلح الحديبية: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة.

وروي «أن أبا جهل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا الله يا رحمن.

فقال: إن محمدًا ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، فنزلت هذه الآية» .

قلت: الجواب الصحيح هو الأول: ولذا ضعف الآلوسي الجواب الثاني.

والحاصل: أن الآية ليس فيها ما يدل على أن المشركين كانوا منكرين لوجود الله تعالى وخالقيته، فبطلت شبهة القبورية.

الشبهة الخامسة: تشبثهم بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 10] .

قالوا: (فلم يكن مشركو العرب مؤمنين بالأحدية والربوبية) .

وقالوا: ((فهل نرى صاحب هذا الكلام موحدًا أو معترفا)) .

ص: 250

الجواب:

لقد أجاب المفسرون من الحنفية بأن قصد المشركين إنكار تسمية الله تعالى ((الرحمن)) ولم يكن قصدهم إنكار مسماه، وهو الخالق الرازق الرب؛ لأنهم لا يعرفون الله باسمه ((الرحمن)) .

وذكر الآلوسي:

(وقيل سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه، أو لأنهم ظنوا أن المراد غيره عز وجل، فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة) .

وكانوا ينكرون أن يسمى الله تعالى باسمه ((الرحمن)) كما أنكروا ذلك يوم الحديبية.

الشبهة السادسة: تشبث القبورية بقوله تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] .

قال الدجوي (1365هـ) : انظر إلى قولهم، فهم سووا آلهتهم بالله في جعلهم أربابًا كما هو ظاهر لغير المتعسف.

الجواب: أنه قد صرح علماء الحنفية في تفسير هذه الآية: أن المراد من التسوية هاهنا عند الكفار التسوية في العبادة واستحقاقها.

ص: 251

ولا شك أن من عبد غيره تعالى فقد جعله ندا لله سبحانه، وسواه به تعالى في العبادة، وليس المراد من التسوية هاهنا تسويتهم لآلهتهم بالله تعالى في الخلق والإيجاد والربوبية والخالقية والرازقية والتصرف في الكون والمالكية، لما سبق تحقيقه مرارًا وتكرارًا على لسان الحنفية: من أن المشركين كافة لم يكونوا يعتقدون في آلهتهم ذلك بل كانوا يعتقدون: أن آلهتهم عباد معظمون عند الله مملوكون له محترمون عنده وهم شفعاؤهم عند الله تعالى.

ولا تنس ما ذكره الحنفية من تلبيتهم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) . وقد سبق تخريجها وتفسير علماء الحنفية لها.

وأقول: إن هذه الآية بمثابة آية أخرى: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1، 150]، مع قوله تعالى:{أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] .

فهذه الآية الأخيرة مفسرة لهاتين الآيتين، وتبين المراد بأنهم كانوا مشبهة يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والمحبة، وأن المراد التسوية والعدل في المحبة والطاعة والتعظيم والعبادة، لا في الخالقية والمالكية والرازقية والتصرف في الكون ونحوها.

ص: 252

الشبهة السابعة: استدلال القبورية بقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] .

قال الطباطبائي أحد أئمة القبورية مستدلًا بهذه الآية:

(ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكًا لله في الخلق وتدبير العالم وجوزوا عبادتها خلافًا لله تعالى

) .

ثم تشبث بهذه الآية ثم قال:

(وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء والصلحاء الخلق والتدبير ولا يعتقد عبادتهم) .

قلت: منشأ الشبهة في هذه الآية هو أن الله تعالى نهاهم عن جعل الأنداد لله، والأنداد جمع ند، وند الشيء مشارك له في جوهره، فهو أخص من المثل؛ فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت؛ فكل ند مثل، وليس كل مثل ندا.

وفرق آخر بينهما: هو أن الند هو المثل المخالف.

فدلت الآية على أن المشركين كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها مساوية

ص: 253

لله في الربوبية، كما قالوا ذلك في الشبهة التي قبلها.

ولكن أجاب المفسرون من علماء الحنفية بأن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم أنها مساوية لله أو مشاركة له في الربوبية والخالقية؛ لأن الآية خرجت مخرج التهكم والسخرية منهم، يدل عليه قوله تعالى في آخر الآية:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

قال الزمخشري (538هـ) والعمادي (983هـ) والآلوسي (1270هـ) ما حاصل كلامهم:

فإن قلت: كيف سموا آلهتهم التي كانوا يعبدونها أندادًا؟ مع أنهم لم يكونوا يزعمون أنها تخالف الله أو تساويه أو تماثله في ذاته تعالى وفي صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله، وإنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى.

قلت: لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات مثله قادرة على مخالفته ومضادته، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله عز وجل، وتمنحهم ما لم يرد الله تعالى لهم من خير. فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم؛ فتهكم بهم وتشنع عليهم بأن جعلوا أندادًا لمن يستحيل أن يكون له ند واحد فضلًا عن أنداد كثيرة على سبيل الاستعارة التهكمية؛ حيث استعير النظير للمناسب المقرب؛ كما استعير التبشير للإنذار، والأسد للجبان، فإن المشركين جعلوا آلهتهم بحسب أفعالهم وأحوالهم مماثلة له تعالى في العبادة، وهي صفة شنعاء وصفة حمقاء، في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم.

ولله در موحد الفترة؛ زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه حيث يقول في ذلك:

أربًا واحدًا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

ص: 254

تركت اللات والعزى جميعًا

كذلك يفعل الرجل البصير

وقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال عن ضمير (لا تجعلوا) ؛ أي والحال أنكم تعلمون أن آلهتكم لا تماثل الله تعالى، وأنها لا تفعل مثل أفعاله تعالى، ولا تقدر على مثل ما يفعل سبحانه، كما قال تعالى:{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] .

وقال العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342) :

(فالمشركون كانوا مشبهة يشبهون آلهتهم بالله تعالى في الإلهية؛ حيث غلوا في تعظيمهم وحبهم، وإن لم يشبهوهم بالله تعالى في كل وجه؛ فكل مشرك مشبه. وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام المشركين المشبهين العادلين بالله غيره. قال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلًا للخالق. والند: الشبه؛ يقال: فلان ند فلان، وند ونده أي شبهه ومثله. ومنه قول حسان:

أتهجوه ولست له بند

فشركما لخيركما الفداء

وقال جرير:

ص: 255

أين ما تجعلون إلي ندا

وما يتم لذي حسب نديد

فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به والنذر له والسجود له والعكوف عند بيته وحلق الرأس له والاستعانة به والتشريك بينه وبين الله تعالى في قولهم:

ليس إلا الله وأنت، وأنا متكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت، وهذا لله ولك، وأمثال ذلك، فهؤلاء هم المشبهة. فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام، وتبين له سر القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة) .

الشبهة الثامنة: تشبثهم بقوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] .

استدل الدجوي (1365هـ) بهذه الآية على بطلان الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية.

وقال المالكي مستدلًا بهذه الآية على أن المشركين لم يعترفوا بربوبية الله تعالى، بل جعلوا الله أقل منزلة من أصنامهم:

(فلولا أن الله تعالى في نفوسهم من تلك الحجارة ما رجحوها

ص: 256

عليه هذا الترجيح الذي تحكيه هذه الآية....) .

الجواب:

أقول: تسمية هذا المالكي القبوري آلهة المشركين بـ ((الأحجار)) غفلة فاحشة وكذب مكشوف؛ لأن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والصالحين، ولم يكونوا يعبدون الأحجار، غير أنهم جعلوا صور الأنبياء والصالحين قبلة لعبادتهم كما تقدم.

وأما صنيعهم الذي ذمهم الله به في الآية، فلا شك أنهم في ذلك على ضلال، إذ لا شك أنهم رجحوا ما نذروه لآلهتهم على ما نذروه لله تعالى، ولكن هذا ليس لأجل أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم أرفع مكانة من الله، وليس فيه أنهم جعلوا آلهتهم شركاء لله في الخلق وتدبير العالم، غاية ما في الأمر أن المشركين كانوا ينذرون لله تعالى، وينذرون لآلهتهم الباطلة أيضًا، فما نذروه لآلهتهم لا ينفقونه على المساكين وأبناء السبيل والضيوف وغيرهم من الوجوه، وما نذروه لله ينفقونه على آلهتهم، وسدنتها وعاكفيها، ويعللون صنيعهم هذا بأن الله تعالى غني غير محتاج، وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها.

صرح بذلك جمع من المفسرين الحنفيين.

وقال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) أحد أئمة الحنفية:

(روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كانوا يسمون لله جزءًا من

ص: 257

الحرث، ولآلهتهم جزءًا، فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه، وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وقالوا إن الله غني عن هذا) .

وقال السدي:

(ما خرج عن نصيب الأصنام أنفقوه عليها، وما خرج عن نصيب الله تصدقوا به، فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي لله قالوا لا بد من النفقة، فأخذوا الذي لله وأنفقوه على الأصنام، وإذا هلك الذي لله وكثر الذي للأصنام قالوا: لو شاء الله لأزكى له، فلا يزيدون عليه شيئا. فذلك قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}

) .

وقال القاضي الباني بتي أحد كبار الحنفية (1225هـ) في تفسير هذه الآية:

(حيث كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه له دون العكس. قال قتادة: كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوه للأوثان) .

وقال الإمام ولي الله إمام الحنفية (1176هـ) :

(كانوا ينفقون ما نذروه لله على المساكين والضعفاء، وينفقون ما نذروه لآلهتهم على سدنتها وعاكفيها، ولكن إذا اختلط بنذر آلهتهم شيء من نذر الله ضموه إلى نذر آلهتهم دون العكس، وقالوا: إن الله غني لا

ص: 258

يحتاج إليه وآلهتنا في حاجة إلى ذلك) .

وكانوا يرجحون جانب نذر آلهتهم على جانب نذور الله تعالى خوفًا من آلهتهم لئلا تصيبهم بلية لو قصروا في حقهم.

قلت: ونظير صنيع هؤلاء المشركين صنيع كثير من فسقة القبورية، فترى أحدهم لا يؤتي الزكاة المكتوبة، ولكن يهتم اهتمامًا بالغًا بإخراج ما ينذره لأهل القبور خوفًا من أن تصيبه بلية في ماله أو نفسه أو أهله أو ولده.

الحاصل:

أنه ليست أية إشارة في هذه الآية إلى أن المشركين كانوا بصنيعهم الفاحش هذا منكرين لخالقية الله ومشركين به آلهتهم في الخالقية والرازقية والربوبية، بل كانوا يعبدون الله وغيره من آلهتهم؛ فلا يصح التمسك بها.

وهكذا ترى القبورية إذا أحاطت بهم بلية في البر أو البحر يدعون أهل القبور ولا يكادون يدعون الله حتى في تلك الحالة بخلاف مشركي العرب، فإنهم كانوا يخلصون في دعاء الله تعالى وينسون ما كانوا يعبدونهم من دون الله كما سيأتي تفصيله على لسان علماء الحنفية.

بل تجاوز بعض القبورية إلى حد صار شركهم أشنع من شرك مشركي العرب، حيث يزعمون أن الولي أسرع إجابة من الله تعالى....

انظر إلى هذا النتن والغلو والإسراف.

فإن كان صنيع مشركي العرب يقتضي الإشراك بالله في الخالقية

ص: 259

والرازقية والربوبية، فالقبورية أيضًا أشركوا بالله في الربوبية بالطريق الأولى.

ولهذا قال الآلوسي ردا على القبورية وكشفًا لعوراتهم في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] :

(وقد رأينا كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي يا فلان أغثني. فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ، فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء. وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل. وهذا من الكفر بمكان نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان) .

الشبهة التاسعة: تشبثهم بقوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم} [الأنعام: 108] .

فقد استدل بعض أئمة القبورية بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى بطلان أن المشركين كانوا يعترفون بربوبية الله

ص: 260

تعالى.

فقد قال الدجوي (أحد أئمة القبورية)(1365هـ) :

(هذه الآية أدل الأدلة على هذا، فهل ترى للمشركين توحيدًا بعد ذلك. أما التيميون فيقولون بعد هذا كله: إنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية) .

وقال المالكي أحد رؤساء القبورية في صدد أن المشركين لم يعترفوا بأن الله هو الخالق وحده، وإثبات أن المشركين أشركوا آلهتهم في خالقية الله تعالى مستدلًا بهذه الآية:

(وإذا غضبوا قابلوا المسلمين بالمثل فيسبون الله تعالى غيرة على تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها يعتقدون أنها تنفع وتضر، فيرمون الله بالنقائص. وهذا واضح جدا في أن الله تعالى أقل منزلة في نفوسهم من تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها. ولو كانوا يعتقدون حقا أن الله تعالى هو الخالق وحده، وأن أصنامهم لا تخلق لكان على الأقل احترامهم له تعالى فوق احترامهم لتلك الأحجار) .

أقول: هذه الآية لا تدل بحال على أن المشركين كانوا ينكرون خالقية الله وربوبيته أو أنهم كانوا يشركون آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والربوبية، بل لا تدل أيضًا على أنهم كانوا يسبون الله تعالى تدينًا غيرة على آلهتهم.

فقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية جوابين:

حاصل الأول: أن المراد من سبهم الله سبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث

ص: 261

يفضي سبهم إلى الله من دون قصد وعلم، يدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها:{بِغَيْرِ عِلْمٍ} ؛ لأنهم كانوا يقرون بعظمة الله، وإنما عبدوا آلهتهم لتكون شفعاء لهم عنده.

وحاصل الجواب الثاني: أنهم كانوا يسبون الله صريحًا وقت الغضب فالحمية الجاهلية تحملهم على ذلك لا لأجل التدين والاعتقاد، ومثل هذا قد يحدث عن المسلم أيضًا، فتحمله شدة الغيظ على التكلم بالكفر. فمثل هذا إن صدر عن شخص لا يصدر منه تدينًا واعتقادًا، بل فسقًا وحمية وغضبًا.

قال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) والعلامة حسين علي (1362هـ)، واللفظ للأول:

(ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره. وقد فسر {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه، وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحًا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك. ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر. ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام، أكثر الرافضة سب الشيخين - رضي الله تعالى عنهما - عنده فغاظه ذلك جدا، فسب عليا - كرم الله تعالى وجهه -، فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم، ولم أر شيئًا يغيظهم مثل ذلك. فاستتيب عن هذا الجهل العظيم.

وقال الراغب: إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحًا، ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة

ص: 262

ويزداون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه. وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا، وهو سب فعلي. قال الشاعر:

وما كان ذنب بني مالك

بأن سب منهم غلام فسب

بأبيض ذي شطب قاطع

يقد العظام ويبري العصب

ونبه به على ما قاله الآخر:

ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

وقيل: المراد بسب الله سب الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك من وجه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] .

قلت: احتمال سبهم الله لأجل الغضب والانتقام والحمية دون التدين والاعتقاد واضح يدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها: {عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

قال الإمام بيان الحق أحد كبار علماء الحنفية (ت 555هـ) :

(العدو والعدوء والعدوان والعداء والاعتداء واحد) .

أقول: وعلى هذا مشى الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) .

قلت: لقد شاهدنا كثيرًا من فسقة المسلمين إذا غضبوا يسبون الله ورسوله والإسلام والقرآن، نعوذ بالله من كيد الشيطان، فليس معنى ذلك أنهم ينكرون وجود الله أو يسوون غيره به تعالى في الخالقية والمالكية

ص: 263

والرازقية والربوبية.

الحاصل: أن هذه الآية لا تدل على أن المشركين كانوا منكرين لخالقية الله وربوبيته، أو أنهم كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخلق وتدبير الكون.

فسقط استدلال القبورية بهذه الآية على عدم الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية. والله المستعان، وعليه التكلان.

الشبهة العاشرة: استدلالهم بقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31] .

قلت: لقد استدل القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الربوبية.

وقال الدجوي أحد أعناقهم (1365هـ) :

(وإني لأعجب لتفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية مع قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فكيف يقولون إن عندهم توحيد الربوبية) .

الجواب:

لقد فسر علماء الحنفية هذه الآية بأن المراد من ((الرب)) في هذه الآية ليس ((الرب)) بمعنى مالك الكون وما فيه وخالقه والمتصرف فيه كيف شاء، بل إطلاق ((الرب)) في هذا السياق ونحوه يراد به ((المعبود)) ، وليس المراد به ((المعبود مطلقا)) أيضًا، بل المراد ((المعبود المقيد)) الذي يعبد بطاعته في

ص: 264

التحليل والتحريم في الأحكام الشرعية.

وقد يعبد الشخص إمامه وشيخه ورئيسه بطاعته في التحريم والتحليل وهو لا يشعر أنه يعبده بهذه الطاعة.

فالآية لا دليل فيها على أن اليهود والنصارى اعتقدوا في أحبارهم ورهبانهم أنهم شركاء لله في خلق هذا الكون وتدبيره وترتيبه.

وإليكم بعض نصوص المفسرين من الحنفية في تفسير هذه الآية:

1 -

قال الزمخشري (538هـ) :

(اتخاذهم أربابًا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي، وتحليل ما حرم الله وتحريم ما حلله كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم) .

2 -

وقال العمادي (983هـ) :

(اتخذ كل واحد من الفريقين علماء لهم لا الكل الكل {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه الله أو بالسجود لهم ونحوه

) . ثم ذكر حديث عدي بن حاتم) .

3 -

وقال البروسوي (1137هـ) :

(والمعنى أطاعوا علماءهم وعبادهم فيما أمروهم به طاعة العبيد للأرباب فحرموا ما أحل الله وحللوا ما حرم الله. ومثاله: من اعتقد أن اللبس حرام يكون كمن اعتقد أن الخمر حلال. ومن اعتقد أن لحم الغنم حرام يكون كمن اعتقد أن لحم الخنزير حلال) .

ص: 265

4 -

وقال الآلوسي (1270هـ) :

(والمراد في الآية: اتخذوا كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى، وتحليل ما حرم سبحانه، وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى الشعبي وغيره عن عدي بن حاتم قال:«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فيستحلون. فقلت: بلى. قال: ذلك عبادتهم» .

ونظير ذلك قولهم: ((فلان يعبد فلان)) إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة. أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة وهي

ص: 266

طاعة مخصوصة على مطلقها. والأول أبلغ. وقيل: اتخاذهم أربابًا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا للرب عز وجل، وحينئذ لا مجاز، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأ اجتهاد مقلده) .

5 -

ولقد ساق العلامة السهسواني (1326هـ) هذه الشبهة، ثم أجاب عنها بما حاصله:

أن هذه الآية ليس فيها أنهم كانوا يقولون في أحبارهم ورهبانهم أنهم أرباب من دون الله، وإنما فيها أنهم اتخذوهم أربابًا.

ثم قال:

(وإنما في بعضها [أي بعض هذه الآيات] اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصا على أنهم مقرون بربوبيتهم؛ بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب من صرف شيء من العبادة إليهم، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام، لا أنهم كانوا يطلقون لفظ ((الرب)) عليهم) .

الحاصل: أن اليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله بمعنى أنهم خالقون لهذا الكون مدبرون له متصرفون فيه حيث

ص: 267

يشاءون بدون إذن من الله، بل اتخذوهم أربابًا بمعنى أنهم كانوا يعبدونهم في التشريع من التحليل والتحريم.

ومثل هذا يوجد بكثرة كاثرة في هذه الأمة، ولا سيما في المقلدة المتعصبة للأئمة الغلاة فيهم الذين رفعوا شأن الأئمة إلى منصب الرسالة بل إلى منزلة الألوهية، فيقعون في عبادة الأئمة بسبب هذه الطاعة المطلقة في التحليل والتحريم ويشركون بالله تعالى هؤلاء الأئمة بسبب تقليدهم الشركي، ويردون نصوص الكتاب الصريحة والسنة الصحيحة؛ كأن الإمام نبي أرسل إليهم، أو إله يعبدونه وهم لا يشعرون.

ولذلك نرى الإمام الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في دهره (1176هـ) تصدى للرد على مثل هؤلاء المقلدة الغلاة، وكشف الستار عن أسرارهم، وجعلهم مصداق هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ حيث قال:

(فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال: ((التقليد حرام.....)) .

إنما يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر عليه ظهورًا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا ونهى عن كذا وأنه ليس بمنسوخ

فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي أو حمق جلي.

وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث

ص: 268

قال: ((ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظاهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مقلده)) .

وقال: ((لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد لمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين؛ فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدًا له فيما قال كأنه نبي أرسل)) .

وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب....

وفيمن يكون عاميا ويقلد رجلًا من الفقهاء بعينه يرى أنه يمتنع من مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب ألبتة، وأضمر في قلبه أن لا يترك تقليده، وإن ظهر الدليل على خلافه، وذلك ما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم؛ أنه قال:«سمعته - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه» .

ص: 269

وفيمن لا يجوز أن يستفتي الحنفي مثلًا فقيهًا شافعيا وبالعكس، ولا يجوز أن يقتدي الحنفي بإمام شافعي مثلًا، فإن هذا قد خالف إجماع القرون الأولى وناقض الصحابة والتابعين

فإن بلغنا حديث من الرسول المعصوم الذي فرض الله علينا طاعته بسند صالح يدل على خلاف مذهبه وتركنا حديثه واتبعنا ذلك التخمين، فمن أظلم منا وما عذرنا يوم يقوم الناس لرب العالمين) .

فإن قيل: ما النكتة في إطلاق كلمة ((الرب)) على من يتخذ مطاعًا مطلقًا في التحليل والتحريم؟

قلت: كلمة ((الرب)) تدل على السيادة والمالكية والتصرف في الملك، فمن أطاع مخلوقًا طاعة مطلقة بدون أمر الله تعالى بطاعته وأذعن لتحليله وتحريمه فقد جعله متصرفًا في التشريع متصفًا بصفات الله معبودًا بطاعته المطلقة، فصح إطلاق ((الرب)) عليه.

قال الإمام ولي الله مبينًا هذه النكتة اللطيفة:

(وسر ذلك أن التحليل والتحريم عبارة عن تكوين نافذ في الملكوت أن الشيء الفلاني يؤاخذ به أو لا يؤاخذ به، فيكون هذا التكوين سببا للمؤاخذة وتركها، وهذا في صفات الله تعالى) .

قلت: لا شك أن من أطاع أحدًا دون الله تعالى طاعة مطلقة بدون أمر من الله تعالى بطاعته المطلقة وأذعن له في التحليل والتحريم وحد

ص: 270

الحدود وفرض الفرائض فقد أشركه بالله تعالى في التشريع وعبده، كما قال تعالى:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] .

قال الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) في تفسير هذه الآية:

(ليس المراد من الشركاء في هذه الآية الشركاء الذين يدعونهم وينادونهم في الكربات وينذرون لهم في البليات، بل المراد من الشركاء في هذه الآية المطاعون الذين جعلوا أفكارهم وعقائدهم وضوابطهم وطرقهم ومذاهبهم شريعة يطاعون فيها بدون إذن من الله تعالى، فهذا العمل لا شك أنه شرك كما أن السجود لغير الله ودعاء غير الله شرك) .

قلت: مثل قول هؤلاء الأجلة من الحنفية صرح كثير من أئمة السنة بأن من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله، لأن مثل هذه الطاعة المطلقة من أنواع العبادة.

وصرحوا أيضًا أن هذا النوع من الشرك موجود في هذه الأمة حيث إن كثيرًا من المقلدة المتعصبة يعبدون الأئمة باسم الفقه والعلم؛ لأن من أطاع مخلوقًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم فهو مشرك.

وقد سبق فتوى جمع من الحنفية بأن هذا النوع من المقلد مشرك كافر يستتاب وإلا قتل.

ص: 271

الشبهة الحادية عشرة: تشبثهم بقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39] .

استدل بهذه الآية الدجوي أحد أئمة القبورية (1365هـ) على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين كانوا مشركين بالله في الخالقية والمالكية والتدبير والربوبية، ثم قال:

(فإذا ليس عند هؤلاء الكفار ((توحيد الربوبية)) كما قال ابن تيمية وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية؛ لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية وشيء آخر توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. فهل هم أعرف بالتوحيد منه أو يجعلونه مخطئًا في التعبير بالأرباب دون الآلهة) .

واستدل بها أيضًا القضاعي أحد رؤساء القبورية (1376هـ) حيث قال:

(وقول هؤلاء المغرورين \ يعني السلفيين \: ((إن الكافرين الذين بعث لهم الرسول كانوا قائلين بتوحيد الربوبية وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر، وإنما كان شركهم بتعظيمهم لغير الله بالسجود له والاستغاثة به والنداء له والذبح له)) :

إنما قول من لم يعرف التوحيد ولا الإشراك ولا المعقول ولا المنقول في كتاب الله وسنة رسوله، ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة. ألم يحك الله

ص: 272

في كتابه عن يوسف عليه الصلاة والسلام قوله في إرشاد صاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، هل يقال ذلك إلا لمن اعتقد أربابًا؟ ألا يكون هذا كفرًا بتوحيد الربوبية

) .

الجواب:

لقد وقف العلامة السهسواني لقمع هذه الشبهة بمرصاد فذكرها ثم جعلها كأن لم تغن بالأمس حيث قال:

(وهذا ليس فيه تصريح أنهما كانا يطلقان لفظ الأرباب على الأصنام حتى يلزم إنكار ((توحيد الربوبية)) ، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام بأن القول بالأرباب المتفرقة باطل قطعًا لا يتأتى إنكاره من أحد عند أهل العقل، وما لا يصلح للربوبية لا يصلح للعبودية، دل عليه قوله تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ.... أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}

) .

قلت: لا يبعد أن يكون قول زيد بن عمرو بن نفيل:

أربًا واحدًا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعًا

كذلك يفعل الجلد الصبور

ص: 273

فلا العزى أدين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني عمرو أزور

ولا غنمًا أدين وكان ربا

لنا في الدهر إذ حلمي يسير

من قبيل قول يوسف عليه الصلاة والسلام؛ فيكون هذا وذاك حجة يعترف بها المشركون فيكون حجة عليهم حجة مفحمة مسكتة وملزمة لهم وتضطرهم إلى أن يعترفوا بتوحيد الألوهية.

الشبهة الثانية عشرة: استدلالهم بالبيت الآتي:

أرب يبول الثعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثعالب

ص: 274

على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين كانوا مشركين بالله في الربوبية.

قال القضاعي أحد أعناق القبورية (1376هـ) مستدلا بهذا البيت:

(فانظر إلى قوله: ((أرب)) ، ولم يقل: أإله) .

الجواب:

أنه قد تقدم في كلام العلامة السهسواني (1326هـ) أن المراد من ((الرب)) في مثل هذا السياق هو ((الإله)) لا الخالق الرازق المدبر لهذا الكون.

فلا يصح تمسك القبورية بهذا البيت.

وقال الشيخ الرستمي:

(قال القرطبي: الرب بمعنى المالك والسيد والمصلح والمدبر والقائم والمعبود، كما قال موحد الجاهلية) .

ثم ذكر البيت.

قلت: ولا يبعد أيضًا أن يكون هذا البيت لبيان ذكر الحجة على المشركين، كما سبق في الجواب عن الشبهة السابقة.

الشبهة الثالثة عشرة: استدلالهم بقوله تعالى حكاية عن المشركين العاديين حيث قالوا لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] .

ص: 275

قال القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) مستدلا بهذه الآية:

(فهذا صحيح اعتقادهم باستقلالها بالضر والنفع) .

وقال الدجوي أحد أعناق القبورية (1365هـ) متشبثًا بهذه الآية:

(فكيف يقول ابن تيمية إنهم يعتقدون: ((أن الأصنام لا تضر ولا تنفع)) إلى آخر ما يقول) .

الجواب:

أن هؤلاء القبورية مفترون في تقرير استدلالهم بهذه الآية على الله تعالى وعلى كتابه وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى المشركين من قوم هود عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله لم يشر إلى أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالضر والنفع فضلًا عن التصريح.

كما أن شيخ الإسلام لم يقل قط: إن المشركين كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع.

غاية ما في هذه الآية أن المشركين كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها تضر وتنفع.

ولكن تقدم عدة نصوص لعلماء الحنفية، ولا سيما الإمام ولي الله دالة على أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق لهذا الكون المدبر للأمور العظام والرازق وحده. ولم يعتقدوا في آلهتهم أنها تنفع وتضر استقلالًا، وإنما كانوا يعتقدون أن الله تعالى فوض إليهم تدبير أمورهم وجعلهم متصرفين في بعض الأمور الخاصة والجزئية في غير الأمور العظام.

ص: 276

فليس في هذه الآية أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضر.

فلم يقل أحد من المفسرين ولا سيما الحنفية أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضر والانتقام.

ومن هذا التصرف الجزئي عقيدة المشركين من عاد هذه وقولهم هذا لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام.

ومثله عقيدة مشركي العرب من تخويفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تضره آلهتهم، كما قال تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] مع اعترافهم بأن الله هو الخالق المدبر للكون وأن الله إذا أراد بأحد ضرا أو نفعًا فآلهتهم لا تكشف الضر ولا تمسك النفع.

ونظيره ما سمعنا ونسمع كثيرًا من القبورية يقولون في حق الموحدين: إن الولي الفلاني قد أصابهم بكذا وكذا.

وفي كلام العلامة محمود شكري الآلوسي إشارة إلى ذلك.

بل القبورية قد فاقوا المشركين السابقين وتجاوزوا حدهم في الإشراك بالله تعالى وإثبات التصرف لأهل القبور كما صرح بذلك علماء الحنفية.

ص: 277

الحاصل:

أن استدلال القبورية بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية منهار * لأنه مبني على شفا جرف هار*.

الشبهة الرابعة عشرة:

تشبثت القبورية بقول أبي سفيان يوم أحد: (اعل هبل) .

قال الدجوي أحد أئمة القبورية (1365هـ) مستدلا به:

(فانظر إلى هذا ثم قل لي ماذا ترى في ذلك التوحيد الذي ينسبه إليهم ابن تيمية ويقول: ((إنهم فيه مثل المسلمين سواءً بسواء، وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية)) ) .

وزعم المالكي: أن المشركين كانوا يعتقدون في تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها أنها شريكة لله تعالى في الخلق وأن الله ليس الخالق وحده عندهم، وأنهم لم يكونوا جادين في قولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، كما لم يكونوا جادين في قولهم: إن الله هو الخالق وحده، بل كان الله أقل منزلة عندهم من حجارتهم....

ثم ذكر قول أبي سفيان هذا، ثم قال:

(ينادي صنمهم المسمى بهبل أن يعلو في تلك الشدة رب السماوات والأرض ويقهره ليغلب هو وجيشه جيش المؤمنين الذي يريد أن يغلب آلهتهم. هذا مقدار ما كان عليه أولئك المشركون مع تلك الأوثان ومع الله

ص: 278

رب العالمين؛ فليعرف حق المعرفة، فإن كثيرًا من الناس لا يفهمونه كذلك ويبنون عليه ما يبنون) .

الجواب عن هذه الشبهة:

أن هؤلاء القبورية كذابون أفاكون بهاتون في مزاعمهم هذه لوجوه:

أما الأول:

فهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية ولا أحدًا غيره من أئمة الإسلام لم يقل: إن المشركين مثل المسلمين سواء بسواء وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية. كيف؟ والمشركون كانوا منكرين لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كانوا كافرين بكتاب الله، وكثير منهم بالبعث أيضًا.

وإنما قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام: إن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ومدبر الكون والأمور العظام. وكانوا يقرون بتوحيد الربوبية إلى حد أكبر.

وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم واحتج عليهم باعترافهم بذلك مع إشراكهم في توحيد الألوهية وبعض جزئيات توحيد الربوبية وبعض تفاصيله.

ومما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله:

(لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم؛ وإنما نازعوا في بعض تفاصيله....

وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب الذي دخل من أقر أنه لا خالق إلا الله ولا رب غيره من أصناف المشركين، كما قال تعالى:

ص: 279

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، كما بسطنا هذا في غير هذا الموضع) .

أقول: تقدمت نصوص علماء الحنفية وخلاصتها:

من المعلوم بالاضطرار أن المشركين مع اعترافهم بأن الله هو الخالق المالك الرازق وحده المدبر لهذا الكون المتصرف فيه كيف يشاء كانوا يعتقدون في آلهتهم أن لهم بعضًا من القدرة على النفع والضر وشيئًا من التصرف والتدبير، ولكن هذا كله بإذن الله تعالى، فالله هو الذي خلع عليهم هذه الخلعة، وأن الله قد فوض إليهم بعض التدبير، وجعلهم متصرفين في بعض الأمور الخاصة الجزئية غير الأمور العظام، ولم يعتقدوا قط في آلهتهم أنهم ينفعون أو يضرون أو يدبرون بالاستقلال من دون إذن من الله وبدون تفويض منه، وليس على سبيل مغالبتهم لله وقهرهم له.

كما أنهم لم يعتقدوا فيهم أيضًا أنهم شركاء مع الله في خلق هذا الكون وتدبيره والتصرف فيه حيث يشاءون.

ومثل هذا الشرك موجود في القبورية بل شركهم أشنع وأبشع من شرك مشركي العرب.

وصرح به كثير من علماء الخنفية.

فالقبورية مشركون في توحيد الربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية.

وأما الثاني:

فهو أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق الرازق المدبر

ص: 280

المحيي المميت وحده؛ كما حكى الله ذلك عنهم في عدة مواضع من كتابه واحتج عليهم بسبب اعترافهم وإقرارهم هذا حيث أفحمهم وأسكتهم، وقد كانوا يقولون: إن الله تعالى هو المالك لهم وهو المالك لآلهتهم وإن آلهتهم لا تملك شيئًا دون إذن من الله وتفويض منه، دل على ذلك تلبيتهم:((تملكه وما ملك)) .

وقد سقنا كثيرًا من نصوص علماء الحنفية في بيان اعتقاد المشركين في آلهتهم أنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الذي خلع عليهم خلعة وفوض إليهم تدبير بعض الأمور الصغيرة الجزئية وجعلهم متصرفين في غير الأمور العظام. وبسبب ذلك كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، ويتوسلون بهم عند الله، إلى آخر ما ذكرنا من نصوص علماء الحنفية التي فيها عبرة للقبورية.

فكيف يقول هذا المالكي إن المشركين لم يكونوا جادين في اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وحده دون تلك الأحجار، ولم يكونوا جادين في قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وإنهم يقربونا إلى الله زلفى.

فتأويلات هذا المالكي ليست إلا تحريفات باطنية وتخريفات قرمطية.

وأما الثالث:

فهو أن هذا المالكي غير صادق في قوله: إن أبا سفيان إنما نادى صنمه هبلًا ليعلو رب السماوات ويقهره، بل هو كذاب أفاك في كلامه هذا

ص: 281

مفتر متقول على المشركين، مقول إياهم ما لم يقصدوا؛ لأن أحدًا من المشركين لم يعتقد في صنمه أنه يقتدر أن يغالب الله تعالى أو يمانعه أو يستطيع أن يغلب رب السماوات والأرض ويعلوه ويقهره لا أبا سفيان ولا غيره؛ كما سبق تحقيقه مرارًا وتكرارًا بنصوص علماء الحنفية الدامغة القامعة الساطعة القاطعة لأعناق القبورية ودابرهم.

بل المشركون كانوا يعتقدون أن الله تعالى خالق هذا الكون كله ومالكه ومدبره والمتصرف فيه حيث يشاء.

بل كانوا يعتقدون أن الله هو مالك آلهتهم وأن آلهتهم لا تملك شيئًا بالاستقلال بدون إذن من الله وتفويض منه، وأن آلهتهم مملوكة لله تعالى وأن الله تعالى مالكها، دل على ذلك قولهم في تلبيتهم المشهورة المعروفة:((تملكه وما ملك)) ، وقد خرجناها وذكرنا تفسير علماء الحنفية في معناها.

وقد ذكر كبار علماء الحنفية: أن المشركين كانوا يقولون: إن الله تعالى مالك الآلهة، ورب الأرباب، وإله الآلهة، وأن الله هو الإله الأكبر الأعظم، وأن آلهتهم شفعاء لهم عند الله ويقربونهم إلى الله زلفى. وقالوا: نحن نتقرب إليهم ونتقرب إلى الله بهم.

وقد ذكر علماء الحنفية من أشعار المشركين ما يدل على اعتقادهم أن الله عندهم هو أكبر الآلهة. فقد قال أوس بن حجر يحلف باللات:

ص: 282

وباللات والعزى ومن دان دينها

وبالله إن الله منهن أكبر

وهذه حقيقة اعترف بها كبار القبورية أيضًا:

فقد قال فضل رسول الحنفي القادري البدايوني أحد أئمة القبورية الهندية (1289هـ) في بيان عقائد مشركي العرب:

(إن المشركين قالوا: يجب عبادة المحبوب والشفيع لصيرورته إلهًا، لا عبادة الله العلي الأكبر، فإنها لا تعبد لكونه في غاية التعالي) .

ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب عن قول أبي سفيان هذا: «قولوا: الله أعلى وأجل» سكت أبو سفيان ومن معه من المشركين، وأفحموا، فبهت الذي كفر * حيث ألقي في فيه الحجر *.

فهذا دليل قاطع قامع ساطع على أن أبا سفيان لم يكن يقصد بقوله ((اعل هبل)) أن هبلًا يغلب الله تعالى ويقهر رب السماوات والأرض أو يغالبه ويمانعه؛ لأنهم كانوا يعترفون بأن الله هو رب الأرباب وإله الآلهة وأكبرها وأعلاها وأجلها ومالكها وهي مملوكة له سبحانه وتعالى، فلا يتصور التمانع والتغالب عندهم بينها وبين الله.

هاهنا نكتة لطيفة عقلية أخرى يجب التنبيه لها؛ - وتؤخذ من كلام الحنفية -:

وهي: أن هؤلاء المشركين كانوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على دين جديد باطل لا يرضاه الله تعالى ويرونهم خارجين عن الدين الحق

ص: 283

ولذا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئًا، والصحابة صباة وأنهم فقط على دين صحيح وأن عبادتهم لآلهتهم مما يرضاها الله تعالى وأن هذا من دين الله تعالى وأن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتقربهم إلى الله زلفى وأن آلهتهم من محبوبي الله عز وجل والمقربين لديه كما سبق في نصوص علماء الحنفية.

فبظهور دينهم وغلبة جندهم يغلب دين الله ويغلب جند الله، وبانهزام محمد وذهاب دينه ينتصر دينهم الذي هو دين الله في زعمهم الباطل لأنهم لم يعتقدوا صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صدقوا ذلك لما قاتلوه كما قال سهيل بن عمرو يوم الحديبية، وإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور أن أبا سفيان يقصد بقوله:((اعل هبل)) أن هبلًا يغلب رب السماوات والأرض ويقهره ويعلو دينه دين الله عز وجل؟

إذا لا يمكن عقلًا ولا نقلًا أن يقصد أبو سفيان التمانع والتغالب بين هبل وبين الله عز وجل، بل كان قصد أبي سفيان أن ((هبلا)) رفع الله أمره وأعلى شأنه وأعز دينه وأظهره بهزيمة محمد وأصحابه.

صرح بذلك علماء الحنفية وغيرهم.

وإليك بعض نصوص علماء الحنفية في تفسير مقالة أبي سفيان هذه:

قال الإمام بدر الدين العيني إمام الحنفية في عصره (ت855) :

(قوله: ((اعل هبل)) ....، قال ابن إسحاق: معناه: ((ظهر دينك)) . قال السهيلي: ((معناه: زد علوا)) .

ص: 284

وفي التوضيح: ((أي ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت)) .

قلت: كل هذا ليس معناه الحقيقي ولكن في الواقع يرجع معناه إلى هذه المعاني.

قال الكرماني: ما معنى: ((اعل، ولا علو في هبل)) ؟ ثم أجاب بقوله: ((هو بمعنى: العلي، أو المراد: أعلى من كل شيء)) انتهى.

قلت: ظن أنه ((أعلى هبل)) على وزن أفعل التفضيل، فلذلك سأل بما سأل وأجاب بما أجاب. وهو واهم في هذا، والصواب ما ذكرنا) . انتهى كلام العيني وما نقله عن غيره.

الحاصل: أن أبا سفيان بل ومن معه من صناديد الكفر والشرك والأعداء الألداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين لم يكونوا يقصدون بهذه المقالة ((اعل هبل)) المغالبة والتمانع بين هبل وبين الله.

ولا قصدوا بها أن معبودهم ((هبلا)) يقهر الله ويغلب رب السماوات والأرض بل كل هذا من ترخصات هذا المالكي الآفك الباهت الساقط المتهافت الذي يرتكب في تأويلات النصوص تحريفات قبورية وتخريفات باطنية لأجل تبرير شرك حزبه القبوري وعبادتهم للقبور وأهلها من دعائهم وندائهم والاستعانة منهم والاستغاثة بهم والنذر لهم وقت نزول النوازل وحلول القلاقل والزلازل، واعتقاد التصرف في الكون وعلم الغيب فيهم،

ص: 285

وغيرها من الطامات الشركية والخرافات القبورية.

وبالجملة: إن القبورية لا دليل لهم ولا شبه دليل يدل على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، ولا على أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والمالكية وتدبير هذا الكون، فإنهم لم يدعوا فيها أنها قادرة على النفع والضر بالاستقلال، بل كانوا يعترفون ويقدرون بأن الله تعالى هو الخالق لهذا الكون والمدبر له والمتصرف فيه كيف يشاء وأنه المحيي المميت الرازق والمالك وحده.

غير أنهم غلوا في تعظيم بعض الصالحين الذين ظنوا أنهم وسائط بينهم وبين الله يصلون إلى الله بسببهم وشفاعتهم كالوزراء والندماء للملوك، فعبدوهم بأنواع من العبادة كالنذر لهم والاستغاثة بهم وندائهم وقت الكربات والبليات ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم إلى الله زلفى.

واعتقدوا فيهم أن الله تعالى فوض إليهم تدبير بعض الأمور الخاصة وجعلهم متصرفين في بعض الجزئيات وأن الله مالكهم وأنهم لا يملكون شيئًا بدون إذن الله تعالى.

وهذه الوسيلة الشركية هي أصل شركهم، والقبورية شاركوهم في ذلك حذو النعل بالنعل.

وأقول: وبهذه الأجوبة راحت شبهات القبورية أدراج الرياح فصارت كأمس الدابر والحمد لله رب العالمين.

وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الآتي، لنعرف العبادة وأركانها وأنواعها وشروط صحتها عند الحنفية؛ وردهم على القبورية في ذلك كله.

****

ص: 286

الفصل الرابع

في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة، وبيان أركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله

وفيه ثلاثة مباحث:

- المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في العبادة، وتعريفهم لها.

- المبحث الثاني: في تعريف العبادة عند علماء الحنفية، وردهم على تعريف القبورية للعبادة.

- المبحث الثالث: في أركان العبادة، وأنواعها، وشروط صحتها عند علماء الحنفية، وردهم على القبورية في ذلك كله.

ص: 287

المبحث الأول

في عرض عقيدة القبورية في العبادة وتعريفهم لها.

لقد انحرفت القبورية عن الجادة الصحيحة المستقيمة في مفهوم ((العبادة)) كما انحرفت في مفهوم ((التوحيد)) كما عرفت.

وكذا انحرفت في مفهوم ((الشرك)) كما عرفت أيضًا. وكما ستعرف إن شاء الله.

فحرفوا مصطلحات شرع الله تعالى ومفهومات دينه عز وجل فغيروها وبدلوها؛ لتطابق عقائدهم الفاسدة، ويبرروا ما يرتكبونه من الشرك بالله عز وجل، بعبادة القبور وأهلها، فقالوا:- في كل ما يسمى عبادة شرعًا -: إنه لا يكون عبادة إلا باعتقاد الربوبية في المعبود؛ واعتقاد أنه مستقل بالنفع والضر، ونافذ المشيئة بذاته لا محالة بدون حاجة إلى الغير.

وبناء على ذلك يرون: أن نداء الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات، والنذر لهم ونحو ذلك من أنواع العبادات * والأفاعيل الشركيات * ليست من قبيل العبادة لغير الله سبحانه؛ ولا من باب الإشراك

ص: 289

بالله تعالى.

وبذلك قد برروا جميع أنواع إشراكهم بالله عز وجل.

كما جوزوا ارتكاب عدة أنواع من العبادات لغير الله جل وعلا.

وبناء على ذلك أنكروا وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام.

بل يعتقدون في القبورية الوثنية الصرحاء: أنهم مؤمنون موحدون أبرياء من الشرك.

ويحسن أن أسوق بعض نصوص القبورية المتعلقة بتعريفهم للعبادة؛ ليعرف المسلمون مدى انحرافهم عن الحق وتحريفهم لمصطلحات الشرع وجهلهم بأعظم المعارف الدينية المهمة:

1 -

قالوا: (إن مسمى العبادة شرعًا لا يدخل فيه شيء من التوسل والاستغاثة وغيرهما؛ بل لا يشتبه بالعبادة أصلًا؛ فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم؛ أو صفة من صفاتها الخاصة بها) .

ص: 290

2 -

وقالوا: (إن الدعاء بمعنى النداء إن كان لمن لا يعتقده ربا فليس من العبادة في شيء

؛ وإن كان لمن يعتقد ربوبيته أو استقلاله بالنفع والضر، أو شفاعته عند الله بغير إذن الله، فهو عبادة لذلك المدعو؛ وقد يطلق الدعاء على العبادة. وقد علمت أن معناها: الخضوع التام لمن يعتقد فيه ربوبية أو خاصة من خواصها) .

3 -

وقالوا: (أي دليل بل أية شبهة فيها رائحة من دليل تجعل التوسل والاستغاثة بالعباد من جملة العبادات التي يكفر من فعلها؛ مع ما علمت: من أن العبادة شرعًا لا تكون إلا ممن اعتقد الربوبية فيمن عظمه وخضع له؛ والمسلمون بحمد الله بريئون من اعتقاد الربوبية بغير مولاهم عز وجل .

4 -

5 - وقال القضاعي أحد مشاهير أئمة القبورية (1376هـ) ؛ وتبعه ابن مرزوق، واللفظ للأول والغين في أغراض شيخ الإسلام وأئمة السنة الأعلام.

(وإنما جر هذا المبتدع [ابن تيمية!] ومن انخدع بأباطيله: أنه لم يحقق معنى ((العبادة)) شرعًا

؛ فظن أن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصالحين، والاستغاثة بهم.... ظن أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة. ومن رافقه التوفيق، وفارقه الخذلان، ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف، علم يقينًا لا تخالطه ريبة: أن مسمى ((العبادة)) شرعًا لا يدخل فيه شيء مما عده [ابن تيمية] من توسل واستغاثة وغيرهما؛ بل لا يشتبه بالعبادة أصلًا؛ فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من ((العبادة))

ص: 291

إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم، أو صفة من صفاتها الخاصة بها....) .

6 -

وقالا: (ولا يكون به [أي بالسجود لغير الله] كافرًا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له) .

7 -

وقال القضاعي:

(والمشركون إنما كفروا بسجودهم لأصنامهم ونحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع والضر ونفوذ المشيئة لا محالة مع الله) .

8 -

ثم القبورية قد صرحوا بحصر العبادة في بعض أمور الإسلام، حسب ما جاء في حديث جبريل الذي فيه تعليم لأركان الإسلام والإيمان، كل ذلك لإخراج عبادة القبور وأهلها كالاستغاثة والنذور ونحوها من تعريف العبادة، ليبرروا أعمالهم الوثنية.

9 -

وقالوا في معنى العبادة:

(لا يخفى أن العبادة كما هو الظاهر من لفظها: هي الطرق المخصوصة لخضوع العبد لمن يعتقده إلهًا؛ وكذلك خضوع المملوك لمالكه والولد لوالده والتلميذ لأستاذه والجاهل للعالم لا يسمى عبادة.

ولكن خضوع المجوسية للنار والوثنية للأصنام والثنوية للشمس عبادة عند

ص: 292

سائر أهل العرف....، وإذا علم أن كل خضوع وتعظيم ليس بعبادة بل العبادة هو الخضوع مع اعتقاد الألوهية [يعني الربوبية] ؛ فنقول: إن المسلمين الذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويعظمونها ويقبلونها ويطوفون حولها ويتمسحون بها لا يخطر ببال أحد منهم أن هؤلاء الأنبياء والصالحين أو قبورهم آلهة يجب عبادتهم، أو شركاء لله سبحانه، أو أرباب من دون الله، بل يجدون من نفوسهم يقينًا لا مزيد عليه أنهم عباد مكرمون أطاعوا أحكامه وامتثلوا أوامره وبذلوا في سبيله وإعلاء كلمته نفوسهم وأموالهم، فأكرمهم بجنته وأعزهم بجوار قدسه فلذلك هم مستحقون منا بالتعظيم ومستأهلون للخضوع لهم والاستكانة، فهذا التعظيم في الحقيقة راجع إلى الله وهو عين التوحيد والاستسلام لعزة الله. وكذلك دعاؤهم ليس دعاءهم بالذوات بأن يحسبوا كافيين في قضاء الحاجة وإنجاح المأمول، بل لما علمنا أن لهم جاهًا ومنزلة عند الله عز وجل بسبب طاعتهم وعبادتهم له واتباع سننه والجهاد في سبيله، فنسألهم أن يدعو الله لنا فيقضي الله حاجاتنا بواسطة دعائهم لنا

، وليس في ذلك من الكفر والشرك شيء) .

10 -

وقالوا - هاذين في أئمة السنة وأعلام هذه الأمة - على طريقة ((رمتني بدائها وانسلت)) :

(فمن أراد الله موالاته وسعادته ووقاه شر أولئك المبتدعة، وحفظه من الوقوع في شرائكهم وحبالهم، وبصره بما يحفظ عليه دينه، ووجهه وأرشده إلى كشف النقاب عن كل وصف مناقض للعبودية، مخالف للتوحيد والتفرد بالوحدانية؛ وإذا لاحظته عناية الله ولازمه التوفيق الرباني جعله لا

ص: 293

يفهم من معنى ((العبادة)) شرعًا إلا أنها الإتيان بأقصى الخضوع قلبًا باعتقاد الربوبية في المخضوع له أو قالبا مع ذلك الاعتقاد؛ و ((أو)) هنا بمعنى ((الواو)) ؛ فإذا انتفى ذلك الاعتقاد، ثم لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهر عبادة شرعًا. ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها؛ كالاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة لا محالة، ولو كان عن طريق الشفاعة لعابد عند ذلك الرب الذي هو أكبر من ذلك المعبود. وإنما كفر المشركون وخرجوا عن الحنيفية بسجودهم لأصنامهم وأوثانهم؛ لاعتقادهم ربوبية ما خضعوا له، واستقلالهم بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة مع الله تعالى. فالتكريم والخضوع لأولياء الله الصالحين مجردا عن الاعتقاد المذكور لا يعتبر عبادة شرعًا.....) .

11 -

قلت: بل وصلت القبورية إلى حد قالوا في كل ما يرتكبونه من الشرك البواح وعبادة القبور وأهلها:

- إنه ليس من الشرك، بل من باب التوحيد.....

- وليس من قبيل عبادة غير الله، بل هو من عبادة الله تعالى....

- وإن كل ذلك مما أمر به الشارع، وإنه من سنن الأنبياء والمرسلين، وطريقة العلماء العاملين، ومسلك الأولياء المقربين.

12 -

ومع هذا الجهل المركب المطبق المحيط بالقبورية لمعنى العبادة كجهلهم بمعنى التوحيد ومفهوم الشرك، ترى القبورية - من باب

ص: 294

رمتني بدائها وانسلت - يقدحون في أئمة التوحيد والسنة، والنحارير الجهابذة في هذه الأمة أمثال شيخ الإسلام ومحمد بن عبد الوهاب الإمام، ويسفهون أحلامهم، ويرمونهم بالجهل بمعاني العبادة والتوحيد والشرك:

قال القضاعي أحد كبراء أئمة القبورية (1376هـ)، وتبعه ابن مرزوق أحد المجاهيل القبورية:

(وإنما جرى هذا المبتدع [يعني شيخ الإسلام] ومن انخدع بأباطيله هذه أنه لم يحقق معنى العبادة شرعًا.....، فظن أن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصالحين والاستغاثة بهم مع استقرار القلب على أنهم أسباب لا استقلال لهم بنفع أو ضر، وليس لهم من الربوبية شيء، ولكن الله جعلهم مفاتيح لخيره ومنابع لبره وسحبًا يمطر منها على عباده أنواع خيره، ظن \ ابن تيمية \ أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة) .

13 -

وقال أيضًا:

(وقول هؤلاء المغرورين \ يعني أهل التوحيد والسنة \: إن الكافرين الذين بعثت لهم الرسل كانوا قائلين بتوحيد الربوبية وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر، وإنما كان شركهم بتعظيمهم لغير الله بالسجود له والاستغاثة به والنداء له والنذر والذبح له - إنما هو قول من لم يعرف التوحيد ولا الشرك ولا المعقول ولا المنقول في كتاب الله وسنة رسوله ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة) .

14 -

والقبورية - بناء على تعريفهم الفاسد للعبادة - شنوا الغارة على أئمة السنة أعلام هذه الأمة، بكلام بذيء فاحش شأن من لا حياء له من

ص: 295

العباد ومن رب العباد، حتى قالوا جهارًا دون إسرار في تعريف شيخ الإسلام للعبادة:

(وقوله [أي شيخ الإسلام] : ((العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والزاهرة)) : هراء ليس بتعريف للعبادة) .

قلت:

الحاصل أن تعريف العبادة عند القبورية كما تبين من نصوصهم هو: غاية الخضوع لمن يعتقد فيه الربوبية والاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة لا محالة بقدرته الذاتية بدون الحاجة إلى غيره.

وبعد أن عرفنا تعريف العبادة عند القبورية، ننتقل إلى المبحث الثاني لنعرف تعريف العبادة عند علماء الحنفية وردودهم على القبورية لإبطال تعريفهم العبادة، وبالله التوفيق.

*****

ص: 296