الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في جهود علماء الحنفية لإبطال تعريف القبورية للعبادة
وتحقيق التعريف الصحيح للعبادة
وفيه ثلاثة مطالب:
-
المطلب الأول: رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة
.
- المطلب الثاني: في تعريف العبادة لغة عند الحنفية.
- المطلب الثالث: في تعريف العبادة اصطلاحا عند الحنفية.
المطلب الأول
في إبطال علماء الحنفية تعريف القبورية للعبادة
لقد تصدى علماء الحنفية للرد على القبورية؛ فأبطلوا تعريف القبورية للعبادة؛ وحكموا عليهم بالجهل بحقيقة العبادة؛ وبينوا: أن القبورية في حصرهم للعبادة في بعض الأعمال الإسلامية الظاهرة وبعض الإيمانيات الباطنة على باطل محض؛ لأنهم قد قصروا في تعريف العبادة؛ حيث جعلوها مقصورة في بعض أنواعها. فتعريفهم للعبادة تعريف باطل مزيف؛ لأنه غير جامع لأفرادها.
بل تعريفهم للعبادة لا يصدق على عبادات المشركين لآلهتهم؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون فيها أنها خالقة، رازقة، مالكة، أرباب للكون، متصرفة في الخلق، مستقلة بالنفع والضر؛ نافذة المشيئة لا محالة بدون إذن من الله تعالى، وحاجة إليه؛ كما يزعم القبورية.
بل كانوا يعبدون آلهتهم: بالنذر لهم، والاستغاثة بها، والاستشفاع بها؛ على أساس أنهم عباد مقربون يشفعون لهم عند الله تعالى.
إذن تعريف الحنفية للعبادة لا يصدق على عبادات المشركين
لآلهتهم؛ لأن القبورية يشترطون في العبادة: أنها غاية التعظيم لمن يعتقد فيه الربوبية والاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة لا محالة والقدرة الذاتية بدون الحاجة إلى الله.
فالمشركون السابقون إذن ليسوا بمشركين عند هؤلاء القبورية؛ وليسوا عابدين لغير الله تعالى؛ لأنهم إنما عبدوا الصالحين على أساس الشفاعة، لا على أساس الربوبية والاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة.
فلو كان تعريف القبورية للعبادة صحيحًا - لزم منه كون المشركين غير مشركين، وغير عابدين لغير الله؛ لكن التالي باطل، فالمقدم مثله.
أما وجه بطلان التالي فظاهر؛ لأن القبورية أيضًا يسلمون أن المشركين السابقين كانوا مشركين بلا ريب، وأنهم عباد غير الله بلا امتراء؛ وإذا ثبت بطلان التالي - حتى بشهادة الخصوم واعترافهم - ظهر بطلان المقدم؛ وهو أن تعريف القبورية للعبادة تعريف باطل مزيف فاسد غير جامع لأفراده؛ بل غير صادق على شيء من أفراده.
هذا تقرير هذا البرهان على طريقة القياس الاستثنائي
الرفعي.
وأما تقريره على طريقة القياس الاستثنائي الوضعي فهو أن يقال:
لو كان المشركون الأولون مشركين بالله وعابدين لغير الله؛ لزم منه أن يكون تعريف القبورية للعبادة باطلًا مزيفًا غير جامع لأفرادها؛ بل غير صادق على شيء من العبادات.
لكن المقدم حق؛ لأن المشركين السابقين مشركون حتى باعتراف القبورية، وعابدون لغير الله حتى بشهادة القبورية؛ فالتالي مثله؛ وهو بطلان تعريف القبورية، وكونه غير جامع لأفراده؛ بل كونه غير صادق على شيء من العبادات.
لأن القبورية يشترطون في تحقيق العبادة شروطًا لم تتوفر في عبادة المشركين السابقين لآلهتهم، مع كونهم مشركين وعابدين لغير الله - حتى باعترافهم وشهادتهم -.
قلت:
هذا الذي ذكرت هو خلاصة رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة وهذا هو تقرير ردهم عليهم.
ولتنوير المقام أود أن أسوق بعض نصوص علماء الحنفية لتكون شاهدة لما ذكرت؛ فإليكم بعضها:
1 -
قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة ولا سيما جهالة ابن جرجيس أحد أئمتهم (1299هـ) مبطلًا تلك الشروط التي اشترطوها في مفهوم العبادة؛ ومحققًا أن العبادة أوسع مما ذكروه وقصروه في بعض الأعمال الظاهرة والباطنة:
(وبعضهم [أي بعض المشركين] أحذق من هذا العراقي وأمثاله الذين لم يفهموا من العبادة سوى الركوع والسجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه. فأين الحب، والخضوع، والتوكل، والإنابة، والخوف، والرجاء، والرغب، والرهب، والطاعة، والتقوى؛ ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنية والظاهرة؟ فكل هذا عند العراقي - \ ابن جرجيس \ - يصرف لغير الله ولا يكون عبادة؛ لأن العبادة ما فسرها هو به فقط. بل عبارته في عدة مواضع تفهم: أن السجود لا يحرم إلا على زعم الاستقلال. وقد رأينا كثيرًا من المشركين، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته) .
2 -
وقال رحمه الله أيضًا محققًا أن المشركين الأوائل إنما كان إشراكهم: التسبب والتشفع في آلهتهم، دون عقيدة الاستقلال؛ فهم غير مشركين بناء على تعريف القبورية لعبادة:
(ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد *؛
ومن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف: أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم، وآلهتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب، والتوسل، والتشفع؛ ولم يدعوا الاستقلال، والتصرف لأحد من دون الله، ولا قاله أحد منهم، سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه؛ وقد قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] . فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده.
قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس: 18] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ) .
3 -
ثم ذكر رحمه الله عدة آيات في أن عبادة المشركين لآلهتهم إنما كانت على أساس الشفاعة؛ لا على أساس الاستقلال، ثم قال:
(فأخبر تعالى: أنهم تعلقوا على آلهتهم ودعوهم مع الله للشفاعة والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة،
…
ولم يريدوا منهم تدبيرًا، ولا تأثيرًا، ولا شركة، ولا استقلالًا؛ يوضحه قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] ) .
4 -
ثم ذكر رحمه الله عدة آيات في اعترافهم بتوحيد الربوبية والخالقية والمالكية؛ ثم قال:
(فتأمل هذه الآيات وما فيها من الحجج والبينات تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله؛ وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين * ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين*) .
5 -
ثم ذكر رحمه الله كلامًا مهما في تحقيق أن الله تعالى جعل توحيد الربوبية دليلًا على توحيد الألوهية، وأنه سبحانه احتج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليعترفوا بتوحيد الألوهية.
6 -
ثم قال: (فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة، والظهور؛ فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور؟) .
7 -
وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا أن تعريف القبورية للعبادة يستلزم أن لا يكون المشركون الأولون مشركين؛ لأن تعريفهم هذا لا يصدق على عبادة المشركين لآلهتهم؛ لأنهم لم يعتقدوا فيهم القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر:
(وهذا الأحمق زاد في غير موضع من كتابه قيدًا فقال: ((لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله)) .
مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية: ((لبيك لا شريك لك إلا
شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) .
فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال؛ وعلى زعم هذا [العراقي وأمثاله] فليسوا بمشركين.
وأما قوله: ((إن نداء الصالحين ليس بعبادة)) : فهو من أدل الأشياء على جهله وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قل....) .
8 -
وقال رحمه الله مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة وحقيقة شرك المشركين وحقيقة التوحيد، وأن خبطهم في هذه المعارف جعلهم يعبدون غير الله ويشركون وهم لا يشعرون:
(إنه [أي العراقي ابن جرجيس] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فلذا خبط خبط عشواء؛ وإذا بسطنا ذلك يتبين فساد قوله وبطلانه؛ حتى لصغار المتعلمين؛ فنقول، وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *: توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم) .
9 -
ثم أقام عليه عدة آيات، ثم قال:
(وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد
…
، وإذا علمت هذا تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط
…
؛ وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته. وقد رد الله سبحانه على من خالف هذا الأصل *، وحكم على الوصل بحكم الفصل *، وهم المشركون الذين وحدوه بالربوبية * وأشركوا به في الألوهية *
10 -
…
؛ والحكم باتحاد التوحيدين نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
…
؛ ولربما اعتقد أن أفعال إخوانه ومن على
شاكلته ليس شركًا في الألوهية، ولا عبادة لغير الله بناء على زعمهم: أنهم مصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله تعالى.
فيقال له: لا يفيد ذلك الزعم الكاذب مع إظهار الأعمال الشركية الدالة على عقيدة الشرك، وما يصادم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك كمن يقول: إني مصدق بما ذكر. ثم شد الزنار. وإن تصلف هذا العراقي وادعى: أن أفعال إخوانه عبدة القبور لا تشبه أفعال المشركين؛ فتلك عبادة، وأفعال إخوانه ليست عبادة!؟ يقال له: إنك لم تفهم معنى العبادة....) .
وقال رحمه الله رادا على ابن جرجيس حصره للعبادة في عدة أمور مبينًا جهله للعبادة:
(والجواب أن كلامه هذا نشأ عن جهل باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم
…
؛ وهذا الغبي لم يعرف من أفراد العبادة غير الركوع والسجود والذبح والتقرب؛ مع أن دعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها
…
) .
11 -
وقال الشيخ الرستمي بعد أن ذكر تعريف العبادة وأنواعها وأمثلة لها مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة - محققًا أن تعريف القبورية للعبادة أمر ذهني لا حقيقة له في الخارج؛ لأنه لا يصدق على شيء من أفراد
العبادة:
(فالأسف كل الأسف على حال من يسجد للقبور ويركع ويعين في الأنعام والحرث نذرًا لأهل القبور حصة معينة، ويقطع مسافة طويلة لزيارة القبر كالحج؛ مع أنه يقول في صلاته: ((إياك نعبد)) ؛ فما بال هؤلاء الجهلة!؟ ؛ أي معنى للعبادة عندهم؟!؟ ؛ هل للعبادة مصداق عندهم في الخارج أم لا؟!؟ . فهذا حال من لم يعرف حق الله وحق العباد ولم يميز بينها....) .
12 -
وقد حقق جمع من علماء الحنفية الذين لهم علم بتاريخ الوثنية وعقائد المشركين السابقين، وصرحوا: أن عبادة المشركين لآلهتهم لم تكن باعتقاد الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية والقدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر والتصرف في الكون. وإنما كانت عبادتهم لآلهتهم بندائهم عند الكربات * والاستغاثة بهم عند إلمام الملمات والبليات * والتوجه إليهم بالنذور ونحوها لدفع المضرات وجلب الخيرات * والتوسل بهم والتشفع بهم إلى خالق البريات * لاعتقادهم أنهم عباد صالحون معظمون ذوو مكانة عند رب الكائنات *.
الحاصل:
لقد حصل لنا من نصوص علماء الحنفية التي ذكرتها في الرد على
تعريف القبورية للعبادة أحد عشر أمرًا:
الأول: جهل القبورية بحقيقة الشرك.
الثاني: جهلهم بتاريخ الوثنية وعقائد المشركين.
الثالث: جهلهم بحقيقة التوحيد.
الرابع: جهلهم بحقيقة العبادة.
الخامس: بطلان تعريفهم للعبادة، وأنه تعريف مزيف فاسد، غير جامع لكثير من أنواع العبادة؛ بل غير صادق على شيء من العبادة.
السادس: أن تعريفهم للعبادة لا يشمل عبادة المشركين لآلهتهم.
السابع: حصرهم للعبادة في بعض الأعمال الظاهرة والباطنة.
الثامن: أنه يلزم من تعريفهم للعبادة: أن يكون المشركون غير مشركين.
التاسع: أنه يلزم من تعريفهم للعبادة: أن المشركين غير عابدين لغير الله.
العاشر: ارتكاب القبورية أنواعًا من الشرك الأكبر وعبادتهم للقبور وأهلها بأنواع من العبادة تحت ستار التوسل والتشفع والولاية والكرامة وتعظيم الأولياء.
الحادي عشر: رميهم أئمة السنة وأعلام هذه الأمة بدائهم من الجهل بحقيقة التوحيد والعبادة والشرك؛ وعدم الإلمام بتاريخ الوثنية، وعدم معرفة عقائد المشركين.
وبهذه المناسبة أحب أن أنشد فيهم ما قيل:
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
…
وكل إناء بالذي فيه ينضح
وأقول بالنسبة إلى جهلهم المطبق المحيط بهم ورميهم أئمة الهدى
بأدوائهم:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
…
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وبعد أن عرفنا بطلان تعريف القبورية للعبادة، ننتقل إلى تحقيق تعريف العبادة لغة واصطلاحًا عند علماء الحنفية.
***