المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أطماع صليبية قديمة وحديثة في لبنان: - حاضر العالم الإسلامي

[علي جريشة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب التمهيدي: وضع العالم الإسلامي وموقعه

- ‌العالم الإسلامي جغرافيًا

- ‌الموقع

- ‌ العالم الإسلامي فقهيًّا:

- ‌ العالم الإسلامي بين غيره من العوالم:

- ‌الباب الأول: واقع العالم الإسلامي

- ‌الفصل الأول: الواقع الفكري للعالم اللإسلامي

- ‌مدخل

- ‌الأفعى اليهودية تنفث سمومها:

- ‌ الفكر الغربي الصليبي في الشرق الإسلامي:

- ‌ الفكر الماركسي اليهودي في الشرق الإسلامي:

- ‌الفصل الثاني: الواقع السياسي للعالم الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌ غيبة الخلافة الإسلامية:

- ‌ الاستعمار الجديد:

- ‌ البعد عن جوهر النظام الإسلامي السياسي:

- ‌الفصل الثالث: الواقع الاجتماعي للعالم الإسلامي:

- ‌الفصل الرابع: الواقع الاقتصادي للعالم الإسلامي

- ‌الباب الثاني: قضايا إسلامية معاصرة

- ‌الفصل الأول: أوطان سلبية

- ‌مدخل

- ‌ الأندلس:

- ‌ فلسطين المسلمة:

- ‌الأرض السليبة تحت النفوذ الشيوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: المسلمون في الاتحاد السوفيتي

- ‌ثانيًا: المسلمون في الصين

- ‌ثالثًا: المسلمون في بلاد شيوعية أخرى

- ‌الفصل الثاني: أوطان تجاهد

- ‌أفغانستان المجاهدة

- ‌ إرتريا:

- ‌عذراء ماليزيا

- ‌مدخل

- ‌أولًا: كيف دخل الإسلام عذراء ماليزيا

- ‌ثانيًا: حاضر عذراء ماليزيا

- ‌ثالثًا: مستقبل العذراء "ماليزيا

- ‌الفصل الثالث: أوطان يتهددها الخطر

- ‌مدخل

- ‌ إندونيسيا:

- ‌سوريا

- ‌مدخل

- ‌ البعث:

- ‌ النصيرية:

- ‌ مصر:

- ‌لبنان

- ‌مدخل

- ‌أطماع صليبية قديمة وحديثة في لبنان:

- ‌تصويب الخطأ:

- ‌الفهرست:

الفصل: ‌أطماع صليبية قديمة وحديثة في لبنان:

‌أطماع صليبية قديمة وحديثة في لبنان:

تتركّز هذه الأطماع في شيء واحد، هو سلخ لبنان من عروبته وإسلامه، وإدخاله في حظيرة "المسيحية" التي تتعاون الآن مرحليًّا مع الصهيونية، فقد انتفعت الحركة الصليبية "قديمًا" بمعرفة موارنة لبنان في القرن الثالث عشر، وجعلت منهم أعوانًا ساعدوا على التمكن للإمارات الصليبية في بلاد الشام، وكانت فرنسا هي التي تذكي هذا الصراع، ولذلك أعلن ملوكها منذ القديم بسط الحماية المسيحية على موارنة لبنان، ودعوتهم إلى المطالبة بالانفصال عن كلِّ ما هو عربي، وكل ما هو إسلامي، والتعلق دائمًا بطلب إقامة دولة مسيحية مستقلة لا صلة لها بقضايا العروبة والإسلام، وقد خُيِّلَ لبعض القيادات يومًا أنهم قادرون على ذلك. ولو أدركت القيادات العربية والإسلامية، أو أنهم اعترفوا بهذه الحقيقة وأقاموا سياستهم على ضوئها؛ لكان لهم من أحداث لبنان موقف آخر، ولوقفوا من الدول الصليبية التي تخلق هذه الأحداث موقفًا إسلاميًّا موحدًا، ولنقرأ تلك الرسالة التي أرسل بها لويس التاسع ملك فرنسا في 21 مايو سنة 1250 من عكَّا إلى موارنة لبنان، جاء فيها:

"إننا موقنون أن هذه الأمة التي قامت تحت اسم القديس مارون، هي قسم من الأمة الفرنسية؛ لأن محبَّتها للفرنسيين تشبه محبة الفرنسيين بعضهم لبعض، وعليه من قبيل العدل أن تتمتَّعوا أنتم وجميع الموارنة بنفس الحماية التي يتمتع بها الفرنسيون من جانبنا، وأن تقبلوا في الوظائف كما هم يقبلون، أمَّا نحن وجميع الذين يخلفوننا على عرش فرنسا، فنعد بأننا نوليكم أنتم وجميع شعبكم حمايتنا الخاصة كما نوليها للفرنسيين بعينهم"1.

1 سياسة الحكم في لبنان: للدكتور حمدي الطاهري ص51، نقلا عن تاريخ الطائفة المارونية للنويهي ص110.

ص: 227

وظلت هذه العلاقة تتجدد جيلًا بعد جيل. ففي القرن السابع عشر أرسل ملك فرنسا لويس الرابع عشر في 28 إبريل 1649 بالرسالة الآتية إلى الطائفة المارونية، وفيها:

"نحن لويس بعناية الله ملك فرنسا إلى كل من تصله، هذا ليكن معلومًا أننا بنصيحة الملكة الوصية أمنا الشريفة، نضع حمايتنا ورعايتنا الخاصة من ساعة توقيع هذا بطريك ورعاية وإكليروس المارونية المسيحية، الذين يعيشون ويعملون في جبل لبنان، وإننا لنرغب إليهم أن يعرفوا ذلك في كل الأوقات" وأكد فيها أمره لمن دونه من الفرنسيين أن يظهروا لهم كل عناية وحماية أمام كل جهة، ومساعدتهم بما يمنع عنهم الضرر، وأن تكون لهم الحرية لممارسة شعائر دينهم وأعمالهم، ومساعدتهم على السفر للدراسة، ومعاملتهم بمنتهى الرقة والاحترام"1.

وكما استعانت فرنسا بالموارنة استعانت إنجلترا بالدروز، واستعانت روسيا القيصرية بالروم الأرثوذكس، وعملت هذه الدول المسيحية على إذكاء نار الفتنة الطائفية حتى انجلت عن مذبحة دير القمر 1860، التي انتهت بمذابح دامية شملت كل لبنان. وانتهت بعقد مؤتمر حضرته كل من انجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وتركيا في أغسطس 1860، أسفر عن قرار بشرعية التدخل الأجنبي في شئون لبنان، وأعقبه وضع مشروع عُرِفَ باسم بروتوكول لبنان، الذي كان من نتيجة سلخ بعض الأجزاء عن لبنان، ومعظمها مناطق إسلامية مثل: صيدا وطرابلس وبيروت، وقصد بذلك أن يكون وجه لبنان مسيحيًّا2.

وفي عهد الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان أعطت معاهدة لوزان بسويسرا سنة 1926 فرنسا حق التصرف المطلق في كل منهما، فعملت على توسيع رقعة لبنان على حساب سوريا، فضمَّت إلى لبنان معظم المدن

1 المرجع السابق ص51 نقلًا عن مجموعة الوثائق التي أصدرها معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا عام 1956.

2 المرجع السابق ص47.

ص: 228

الكبرى حاليًا، وهي بيروت وصيدا وطرابلس وسهل البقاع وبعلبك وراشيا ومرجعيون. وعملت فرنسا على تدعيم الطائفية بتوزيع الرئاسة الكبرى بين الطوائف، فجعلت رئاسة الجمهورية من نصيب الموارنة، ورئاسة مجلس الوزراء للشيعة، ورئاسة الخارجية من نصيب المسلمين أهل السنة.

ونجحت فيما قصدت إليه من سلخ كثير من البلاد التي كانت تحكمها من وجهها العربي والإسلامي، كما نجحت في اتخاذ ركائز وأعوان غرست في نفوسهم أنَّ بقائهم وعزَّهم في تحويل لبنان إلى بلد مسيحي، وغرسوا بكل الوسائل روح الاحتقار والتهوين لكل ما هو عربي أو إسلامي، وأصبحت دعوة الوحدة العربية عندهم مرادفة للإسلام.

وأدَّى كثير من رؤساء الجمهوريات ما عهد إليهم من تنفيذ هذه السياسة المسيحية، وأدوا رسالتهم في تبنِّي كل سياسة محالفة للغرب، حتى إنَّ رئيس جمهورية لبنان أعلن قبول مشروع أيزنهاور، فخرج على إجماع الدول العربية. وكان هذا القبول وأسباب أخرى سببًا في ثورة لبنان الأهلية 1958، تلك الثورة التي انتهت باستعانة كميل شمعون بحماية أمريكا، ودخل الأسطول الأمريكي شواطئ لبنان متحديًا إرادة شعب لبنان من جهة، منتصرًا لرئيس الجمهورية وسلطة المارونية من جهة أخرى، وحاميًا لنظام الحكم الذي يرعى مصالح المسيحية ويهدر مصالح المسلمين. وقد برَّرت أمريكا يومئذ تدخلها السافر بدعوة لبنان له للتدخل، ولم تكن لبنان يومئذ إلّا شخص رئيس الجمهورية الذي يعمل لحماية مصالح الصليبية العالمية.

الطائفية في لبنان:

الطائفية في لبنان هي المسئولة عن كلِّ ما يتعرض له لبنان داخليًّا وخارجيًّا، وهي السبب في الحرب الأهلية الدائرة منذ ست سنوات، ومن المؤكَّد أن المحرِّك لوقودها والمستفيد منها هم أعداء العروبة والإسلام؛ لأنه باستقراء التاريخ نجد أن التركيب الطائفي للسكَّان لم يؤثر أثره إلّا عقب الاستعمار الغربي الذي فرض على لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ص: 229

ونلقي نظرة على الطوائف الدينية في لبنان؛ لندرك مدى تأثيرها في صنع الأحداث، تنقسم الطوائف إلى قسمين رئيسيين: الطوائف المسيحية والطوائف الإسلامية، ثم يتفرَّع عن كلٍّ منها عدة مذاهب مختلفة. وينطبق على كلٍّ منها ما قاله الله في شأن اليهود {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .

أما الطوائف المسيحية فتشمل الموارنة والروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك والأرمن، ثم أقليات أخرى من البروتستانت والإنجيليين.

وأكثر هذه الطوائف تأثيرًا وأكثرها عددًا هي طائفة الموارنة، فهم الذين يحتكرون أهمّ مناصب الدولة الرئيسية، فلهم منصب رئاسة الجمهورية ومدير المن العام، ولهم أكبر عدد من الوزراء، من وزارات السيادة، ولهم أكبر مقاعد مجلس النواب.

والحق أن ذلك التفوق والامتياز عن غيرهم من الطوائف يرجع إلى مغالطة مكشوفة هي الادِّعاء بأنهم أكثر الطوائف عددًا، والواقع يكذِّب هذا الادعاء؛ لأن المسلمين بيقين يفوقونهم عددًا، ولذا فلم تسمح الحكومات المتعاقبة بعمل إحصاء دقيق؛ لأن نتائج هذه الإحصائية ستسقط الادِّعاء بأكثرية الموارنة، ومن ثَمَّ يسقط حقهم في أغلب المناصب التي يتميزون بها.

لقد بلغت دعوى التميز إلى حدِّ القول من رئيس حزب الكتائب، وكان وزيرًا سنة 1960 بأن الموارنة لهم حقوق أكثر، وبخاصَّة من الناحية الاقتصادية؛ لسبب بسيط: هو ما ادَّعاه من أنَّ الإحصاءات تثبت أن 83% من الواردات إلى لبنان يشتريها المسيحيون، ومعنى ذلك في نظره أنَّ لبنان يعيش على المسيحيين، ولولاهم لأغلقت الأسواق أبوابها. هكذا يكذبون على الواقع الذي لم يشهد أيّ لون من ألوان الإحصاء.

أما الروم الأرثوذكس فإنهم كانوا في حماية روسيا القيصرية إلى قيام

ص: 230

الشيوعية التي أعلنت عداءها للأديان، فلم يجدوا من الحماية الأجنبية ما يلقي غيرهم، مما دفع بهم إلى الانضمام

لحركة القومية العربية التي كانت تتبناها الطائفة في سوريا1.

أما الروم الكاثوليك فإنهم يتميزون عن بقية الطوائف بالثراء الفاحش من جهة، وباحتلالهم المراكز الحسَّاسة مثل: منصب وزير الخارجية، فمنذ عام 1960 ومنصب وزير الخارجية لا يشغله إلّا كاثوليكي.

وطائفة الأرمن من بين الطوائف المسيحية هي التي تكون أغلبية أعضاء الحزب الشيوعي في لبنان، ويمتازون بشدة اختلاطهم بأغلب الأوساط اللبنانية دعاةً لنشر مذهب الشيوعية، ولا يبالون بما تعلنه الشيوعية من عداوة الأديان، وكثير من الأنشطة الثقافية التي تمارس بإدارة الأرمن كلها أنشطة شيوعية2.

وبالرغم من محاربة الحكومة اللبنانية للشيوعية، واعتبار القانون اللبناني عدم شرعية الحزب الشيوعي، إلّا أنها تصرّح له بإصدار صحيفة ناطقة باسمه، هي صحيفة النداء، التي تدعو صراحة إلى الشيوعية وتندد بخصومها.

وإذا كان لمثل هذا الوضع أكثر من دلالة إلّا أنه في رأينا يمثّل التعاون بين الطوائف المسيحية على ضرب كل محاولة لجعل لبنان ذا طابع عربي أو إسلامي.

أما الطوائف الإسلامية: فينقسمون إلى السُّنَّة والشيعة والدروز، وهم يزيدون عن نصف عدد السكان.

ويتركَّز المسلمون السُّنَّة في بيروت وطرابلس، وقد خضع مسلمو بيروت

1 سياسة الحكم في لبنان للدكتور حمدي الظاهري ص25.

2 المرجع السابق ص269-272.

ص: 231

للأمر الواقع في الرضا بسياسة الانتداب، وظل مسلمو طرابلس يطالبون بالوحدة مع سوريا، ولهذا تعاون الفرنسيون مع الأسر الأستقراطية من مسلمي بيروت، فأسندوا إليهم بعض المناصب التافهة، وحقَّق قبول بعض الأسر الإسلامية للتعاون مع حكومة الانتداب ما قصدوا إليه من إظهار رضا المسلمين بالوضع السياسي، وإظهار أنهم يشاركون في بناء الدولة اللبنانية، ولكن مسلمي طرابلس ظلوا بحكم مصالحهم الاقتصادية ووضعهم الجغرافي الذي يربطهم بسوريا دعاة للوحدة العربية عامَّة ومع سوريا خاصة. وأدَّى ذلك بهم إلى إعلانهم

نار التعصُّب والكراهية ضد الموارنة.

أما الشيعة فهم أقل عددًا من أهل السنة، وقد عمل هذا الانتداب على إذكاء نار الفرقة بين الشيعة والسنة حتى أصبح العداء بينهما أشد مع العداوة بين المسلمين وبقية الطوائف الأخرى، ولا يخفى الدور الذي تلعبه الشيعة منذ القديم، ويمكن القول بأن مَيْل الشيعة وتأييدهم للمسيحيين أكثر من ميلهم وتأييدهم للمسلمين، ويكفي القول بأنَّ أعدادًا كبيرة من الشيعة ينتظم في حزب الكتائب الماروني"1.

أما الدروز فهم فرع من الشيعة أصبحت مستقلة بمبادئها، وتتركز قوتهم في محافظة جبل لبنان، ويمثلهم سياسيًّا أسرتان كبيرتان هما: أسرة آل أرسلان وآل جنبلاط.

ولكن الطائفية في لبنان لا يظهر تأثيرها السياسي في لبنان إلّا إذا عرفنا تعدّد الأحزاب السياسية التي توزع هذه الطوائف، وفي لبنان ستة عشر حزبًا سياسيًّا لكلٍّ منها أنصاره ومبادئه، ومن ثَمَّ تختلف الاتجهاهات والآراء التي تعمل على تفريق الكلمة وبثّ أسباب الفرقة هو مقصود الاستعمار عامة في الأوطان التي حكمها بسياسته المشهورة "فرِّق تَسُد" ومن أشهر هذه الأحزاب: حزب الكتائب الذي يقوم على المراونة، ثم حزب النجادة الذي يقوم على

1 سياسة الحكم في لبنان الدكتور حمدي الطاهري ص30.

ص: 232

طائفة السُّنة وترجع قوته إلى أنَّه يضم الطبقات العاملة من المسلمين في لبنان، ومن المؤسِف أن كثيرًا من المثقَّفين المسلمين يأنفون من الانضمام إلى عضويته، لما يرونه في أنفسهم من تفوق اجتماعي يزيد عن مستوى الطبقات المنضمَّة للحزب، وعن حزب النجادة تصدر صحيفة "صوت العروبة".

نظام الحكم في لبنان:

ينصّ الدستور اللبناني على أنَّ نظام الحكم في لبنان جمهوري برلماني، وأن السلطة التنفيذية يتولَّاها رئيس الجمهورية بمعاونة الوزراء، وقد أعطي شخص رئيس الجمهورية حق عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، ويطلع مجلس النواب حينما تمكنه من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة.

كما أعطي حق إعلان الحرب وحالة الطوارئ، وتعيين الوزراء، ويسمى منهم رئيسًا ويقيلهم ويولي الموظفين مناصب الدولة ما خلا تلك التي يحدد القانون شكل التعيين لها بأساليب معينة، كما أعطي حق فتح اعتمادات استثنائية، وحقه في نشر الميزانية.

وعليه من الواجبات احترام الدستور والقوانين، والتزامه بالمحافظة على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.

ومع خلوّ مواد الدستور من أيّ نص يتعلّق بالديانة التي يجب أن يدين بها رئيس الجمهورية أو الطائفة التي ينتمي إليها، إلّا أن الواقع الذي فرضه الانتداب الفرنسي جعل الموارنة يتمسَّكون -في زعمهم حفاظًا على سلامة لبنان وتأمين حقوقه وتنفيذ التسوية- بأن تبقى رئاسة الجمهورية ومديرية الأمن العام في يد المسيحيين الموارنة، بينما يؤكد المسلمون أنه لا وجود مطلقًا لهذا البند، ولعل ما نشر في صوت العروبة في العدد 692 في 29/ 12/ 60 يلقي ضوءًا على ما تراه المعارضة اللبنانية التي تقوم أغلبها من المسلمون؛ إذ جاء فيها:"إن رئيس الجمهورية طبقًا للدستور حاكم غير مسئول" م17. ومعنى ذلك أن الوزراء محرومون من هذه السلطة الإجرائية، بل هم مجرَّد موظَّفين تابعين لرئيس الجمهورية، وكذا المادة 53 تؤكِّد بأن مجلس الوزراء

ص: 233

رئيسًا وأعضاءً لا يستمدون سلطتهم الحقيقية من ثقة ممثلي الشعب في الأساس، بل يستمدونها من إدارة رئيس الجمهورية فقط، وهم بالتالي لا يتمتَّعون بأي حصانة، بينما موظفو الدولة يتمتعون بهذه الحصانة، والدستور "م60" يؤكِّد أن رئيس الجمهورية حاكم فعلي للبلاد غير مسئول عن تبعاته، ومما يزيد الوضع غرابة أنَّ الوزراء الذين يعينهم رئيس الجمهورية دون أن يسأل عن نتائج أعمالهم هم المسئولون عن كل إجراء في الحكومة، وهم في الحقيقة لا يملكون من أمرهم شيئًا، فهم مسئولون غير حاكمين.

وقد أثبت الواقع اللبناني أهمية منصب رئاسة الجمهورية، وهي الرئاسة الأولى، وعجز ما عداها من الرئاسات عن التأثير في توجيه مقدرات البلاد.

لقد كان للسلطات التي أعطاها الدستور لشخص رئيس الجمهورية من إطلاق يده في عقد المعاهدات، هي السبب في تصرفات كميل شمعون، الذي استغلَّ هذه الحقوق استغلالًا سيئًا باستدعاء الأسطول السادس الأمريكي لاحتلال البلاد سنة 1958، ولكن يقظة الشعب اللبناني يومذاك أسقطت شمعون وحافظة قليلًا على استقلال لبنان، حتى وقع فريسة الحرب الأهلية التي تصطلي بنارها منذ سنوات؛ لتحقق ما عجز عنه الأسطول الأمريكي، أمَّا رئاسة الوزراء فقد جرت العادة بإسنادها إلى أحد أعضاء المجلس النيابي وفقًا لاختيار رئيس الجمهورية، ولم يحدد الدستور قيودًا أو شروطًا معينة لهذا المنصب، سواء في الحقوق أو الواجبات، ويكاد ينحصر في النواحي الإدارية لا الإنشائية.

وقد جرى العرب على جعل منصب رئاسة الوزراء لطائفة المسلمين السُّنَّة، حتى تكاد تكون وقفًا على عدد محدود من أبناء هذه الطائفة، تنتقل من أحدهم إلى الآخر دوريًّا. وغالبًا ما يكون رئيس الوزراء على علم بالمدة التي سيقضيها، أو على اتفاق مع رئيس الجمهورية عليها، مما يجعل رئيس الوزراء إذا رغب البقاء في الحكم أداة طيِّعة في يد رئيس الجمهورية، الذي يملك وحده حق الاستغناء عن خدماته في الوقت الذي يراه.. وقد تأثَّرت علاقات كلٍّ من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بمركز كل من الطائفتين

ص: 234

اللتين ينتميان إليها؛ إذ تحاول كلاهما إظهار شخصيتها وإثبات وجودها عن طريق التصرفات الصادرة، ولما كان الدستور يحمي رئيس الجمهورية من الخسارة في معركة الصراع بينه وبين رئيس الوزراء، فإن رئيس الوزراء يلعب لعبة مزدوجة، فهو يسترضي رئيس الجمهورية ليبقى في منصبه، ويوهم الجماهير التي يمثلها بعدم رضاه عن تصرفات الجمهورية حتى يكسب تأييدها1.

أما الوزراء: فإن الدستور أعطى رئيس الجمهورية وحده حق تعيين الوزراء، وله حق التصرف بمفرده في اخيتارهم، ولكن العرف جرى على استدعاء رئيس الجمهورية لجميع النواب أو الكتل النيابية كل على حدة عند تشكيل وزارة جديدة؛ لاستطلاع رأيهم في شأن اختيار الأشخاص بقصد حصول الوزارة الجديدة على ثقة مجلس النواب.

ويتضح من استقراء تاريخ الحكم في لبنان أنَّ رئيس الجمهورية له ثبات في منصبه، بينهما تهتز مناصب رئاسة الوزارة والوزراء ومجلس النواب، وعلة ذلك كما قال بشار الخوري: "إن تغيير الوجوه في الوزارات ضرورة ماسَّة ولا سيما في بلد صغير الحجم كثير المستوزرين، ومن الملائم أن يجربوا كفاءتهم2.

إن طريقة الحكم -كما قال عنها الشيخ بشارة الخوري: تختلف عنها في العالم بأسره، قد تأثَّرت إلى حد كبير بالطائفية الدينية وبالأحزاب، كما لعبت فيها القوى الأجنبية دورها؛ لأنَّ هذه السياسة وضعت بمعرفة الأجانب الذين رسموا خطتهم لتفريق كلمة أبناء الوطن الواحد مستغلين النعرات الطائفية ومحرضين بعضهم على بعض

1 سياسة الحكم في لبنان: الدكتور حمدي الطاهري، ص171، نقلًا عن حقائق لبنانية الشيخ بشارة الخوري جـ3 ص 459 ط بيروت 161.

2 نفس المرجع السابق ص175 نقلًا عن حقائق لبنانية جـ3 ص387.

ص: 235

مستقبل لبنان:

يؤسفنا القول بأنَّ الحاضر مؤلم والمستقبل أشد للنفس ألمًا في هذا القطر العربي الإسلامي الشقيق.

إنه يراد به أن يقسَّم إلى أجزاء أصغر، فتقام فيه دويلة صغيرة للعلويين والدروز، وتقام في الجنوب دويلة مسيحية تعمل لحساب دولة العدو الإسرائيلي الذي يرسم خططه في المستقبل القريب على ضم هذا الجنوب إلى الأرض العربية التي استولى عليها. ويدَّعي أنها أرض محررة، وذلك ليحقق ما تحلم به الصهيونية من استغلال مياه نهر الليطاني وغيره من الأنهار، والإفادة من سهل البقاع في الإنتاج الزراعي والحيواني.

فإذا لم تفق القوى العربية الإسلامية من غفلة خلافاتها الصغيرة، فإن لبنان ستضيع وتلحق بغيره مما ضاع وحينئذ ستجد من يبكي عليه، كما بكوا على الأندلس وفلسطين، فهل هناك من يستمع إلى الحق، ويصغي إلى قول الله عز وجل:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] ويومئذ لا ينفع الندم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، فهل يدرك القادة المسلمون أنَّ الحرب الصليبية التي اندلعت في القرن الثالث عشر ما تزال محتدمة الآوار، ووسائل النصر لمن آمن واتقى ونصر دين الله وشرعه الحكيم، ولمن أعد العدة من التسليح والتدريب والتخطيط، وللمعسكر الذي تطهر قادته وجنوده من الذنوب والمعاصي، كما قال عمر بن الخطاب في وصيته إلى سعد بن أبي وقاص:"إنما تنصرون بذنوب أعدائكم".

ص: 236