المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الألف ‌ ‌أولا: الهمزة … الألف: تبين لنا من المقدمة التاريخية السابقة أن للألف مدلولين - دراسات في علم اللغة

[كمال بشر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌المرحلة الأولى

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌الواو والياء

- ‌المدلول الأول

- ‌المدلول الثاني:

- ‌الألف والواو والياء دراسة لغوية تحليلية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌أولا: الهمزة

- ‌ثانيا: ألف المد

- ‌الواو والياء:

- ‌المبحث الثاني: همزة الوصل

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌المجموعة الأولى:

- ‌المجموعة الثانية:

- ‌المجموعة الثالثة:

- ‌المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية

- ‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة

- ‌المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة بين طلاب الجامعات

- ‌مدخل

- ‌الأخطاء "ومفردها "خطأ

- ‌الأخطاء الشائعة:

- ‌نظام الجملة

- ‌مدخل

- ‌أولا: الإعراب

- ‌ثانيا: الاختيار

- ‌ثالثا: الموقعية

- ‌رابعا: المطابقة

- ‌المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير

- ‌مدخل

- ‌التعريب اللغوي: مؤيدوه ومعارضوه:

- ‌المؤيدون:

- ‌المعارضون:

- ‌الترجمة

- ‌مدخل

- ‌ التعبير

- ‌المراجع والمصادر:

الفصل: ‌ ‌الألف ‌ ‌أولا: الهمزة … الألف: تبين لنا من المقدمة التاريخية السابقة أن للألف مدلولين

‌الألف

‌أولا: الهمزة

الألف:

تبين لنا من المقدمة التاريخية السابقة أن للألف مدلولين مختلفين أحدهما الهمزة، والثاني ما يراد به ألف وما يطلق عليه في العرف الحديث الفتحة الطويلة، وهي بالاعتبار الأول جزء من نظام الأصوات الصامتة consonants، ولكنها من الحركات vowels من وجهة النظر الثانية.

ولسوف نعرض في الصفحات التالية لهذين المدلولين كليهما، ولكن مع الفصل بينهما في التحليل والمناقشة، حيثُ ينفرد كل مدلول منهما بعدد من الصفات الصوتية التي تقتضي هذا النهج.

أولا: الهمزة

الهمزة -في رأينا- صوت صامت حنجري، وقفة انفجارية، ويطلق عليه في الإنجليزية glottal stop أو glottal catch والفرنسية Coup de glotte.

ويتم نطق هذا الصوت بأن تسد فتحة المزمار The glottis الموجودة بين الوترين الصوتيين the vocal chords، وذلك بانطباق هذين الوترين انطباقا تاما وحبس الهواء خلفهما، بحيث لا يمر من الحنجرة إلى الحلق وما بعده، ثم ينفرج الوتران فيخرج الهواء فجأة محدثا صوتا انفجاريا.

ويلاحظ في التعريف السابق للهمزة أنا راعينا أمرين:

أحدهما: موضع النطق وهو منطقة الحنجرة، ومن ثم وصفت الهمزة بأنها حنجرية.

والثاني: حالة ممر الهواء عند النطق. وقد رأينا أن هذا الممر يغلق إغلاقا تاما ثم يفتح فجأة، فيحدث انفجار نتيجة لخروج الهواء المضغوط خلف الوترين الصوتيين. ومن هنا كانت الصفة "وقفة" stop وانفجارية Plosive. فالهمزة وقفة إذا راعينا هذا الإغلاق. وهي انفجارية إذا راعينا انفجار الهواء. والأمريكيون أميل إلى الاعتبار الأول، لا في الهمزة فحسب، بل في كل ما يتفق معها في هذه الصفة من الأصوات. أما الإنجليز فيفضلون الاعتبار الثاني، وكلا المسلكين صحيح ودقيق.

غير أنا أهملنا جانبا ثالثا يؤخذ به عادة عند النظر في جميع الأصوات. ذلك الجانب هو ملاحظة وضع الوترين الصوتيين من حيث ذبذبتها أو عدم

ص: 57

ذبذبتهما عند النطق بالصوت المعين. فإذا ما مر الهواء المندفع من الرئتين خلال هذين الوترين بحيثُ يجعلهما يتذبذبان بانتظام وبسرعة سمي الصوت المنطوق آنئذ بالصوت "المجهور" Voiced. أما إذا مر هذا الهواء خلالهما دون أن يجابهه أي اعتراض، بسبب انفراجهما انفراجا يفسح مجالا للنفس، سمي الصوت المنطوق صوتا "مهموسا" Voiceless أو 1Breathed.

وهذا الإهمال مقصود، حيث إن وضع الوترين الصوتيين -حال النطق بالهمزة- لا يمكن وصفه بالذبذبة أو عدمها. فالوتران مغلقان إغلاقا تاما، فلا ذبذبة، ولا مجال لخروج الهواء من بينهما كذلك في نظرنا. ومن ثم جاز لنا أن نهمل هذا الاعتبار الثالث نهائيا، أو أن ننظر إليه بصورة سلبية، حيئنذ

1 انظر: دانيال جونز An Outline of English Phonetics ص20 وهناك ينص على جواز إطلاق أي من هذين المصطلحين على الأصوات التي تنطلق بهذه الطريقة أيا كان نوع هذه الأصوات، غير أنه يفضل إطلاق المصطلح الأول Voiceless على تلك الأصوات المسماة "انفجارية" Plosives Continuants "المتمادة". ومن ثم نرى أنه لا محل لاعتراض الدكتور عبد الرحمن أيوب "أصوات اللغة ص183 ط2" على الدكتور إبراهيم أنيس في استعماله المصطلح الثاني عند وصف الهمزة بأنها "صوت لا هو بالمجهور ولا بالمهموس"، وهو ما يقابل عبارة دانيال جونز "المرجع السابق ص138" عند وصفه للهمزة بأنها "neither breathed nor voiced" فاستعمل جونز هنا breathed "لا Voiceless" وهو استعمال جائز ولكنه غير مفضل.

2 من هؤلاء الدكتور إبراهيم أنيس "الأصوات اللغوية ص73 ط2" والدكتور محمود السعران "علم اللغة ص171"، ودانيال جونز "المرجع السابق". وهذا المعنى نفسه يفهم من كلام B. Bloch and G. Trager في كتابهما Outline of Linguistic Analysis موجز في التحليل اللغوي ص17، حيث يقرران أن "أي صوت مهما كان نوعه -باستثناء الهمزة- يمكن أن ينطق مجهورا أو مهموسا، أي مع ذبذبة الأوتار الصوتية أو عدم ذبذبتها"، وانظر أيضا ص25 من المرجع المذكور حيث يعيد المؤلفان هذا المعنى نفسه. ويشير إلى هذا الاتجاه كذلك ما سلكه "روبنس" R. H. Robins عند الكلام على أوضاع الأوتار الصوتية حال النطق بالأصوات؛ حيث عين وضعا خاصا بنطق الهمزة، يختلف عن وضع هذه الأوتار بالنطق بالأصوات المجهورة والمهموسة.

انظر: روبنس: General Linguistics: An lntroductory Survey، pp. 88، 99.

"روبنس: علم اللغة العام، عرض تمهيدي ص88 و99".

ص: 58

نضيف إلى وصف الهمزة عبارة أخرى هي "أنها صوت لا بالمجهور ولا بالمهموس".

وهذا الذي نقوله بالنسبة لهذا الجانب الثالث يأخذ به كثير من المحدثين الذين يتفقون معنا في وصف الهمزة بأنها صوت لا بالمجهور ولا بالمهموس1.

وهناك آخرون يرون أن الهمزة صوت "مهموس". ويعلل أحدهم الهمس بقوله: "وتأتي جهة الهمس في هذا الصوت من أن إقفال الأوتار الصوتية معه لا يسمح بوجود الجهر في النطق"2. فهو يعدها مهموسة لعدم وجود حالة وضع الجهر. ويتفق معه في مثل هذا التعليل باحث آخر حيث يقول: ولا يمكن حال النطق بالهمزة "أن تظل الأوتار الصوتية انطباقا تاما، وهو أمر يناقض التذبذب، ومن أجل هذا نقول بأن الهمزة مهموسة، لأن الهمس يعني عدم التذبذب"2.

وهكذا نجد أن كلا من هذين الدارسين قد عد الهمزة مهموسة لعدم التذبذب في الأوتار الصوتية أو لعدم وجود حالة الجهر. ونحن نرى أن الهمس ليس معناه عدم الجهر. أو بعبارة أدق، نحن نرى أن الهمس لا ينتج من عدم التذبذب وحده، وإنما ينتج من عدم التذبذب الذي سببه انفراج الوترين نفسيهما انفراجا يسمح بمرور النفس خلالهما. أما عدم التذبذب في حالة الهمزة فهو نتيجة للإقفال التام للوترين، وهذا في رأينا وضع آخر، لا هو بوضع حالة الجهر ولا هو بوضع حالة الهمس. ومعنى ذلك أن للأوتار الصوتية -في نظرنا- ثلاثة أوضاع رئيسية في الكلام العادي: وضع لها حالة الجهر وآخر حالة الهمس وثالث عند النطق بالهمزة العربية. ولكن يبدو أن الباحثين المذكورين اكتفيا بوضعين اثنين لهذين الوترين، وهو ما لا نأخذ به.

1 الدكتور تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص97.

2 الدكتور عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص184، ط2.

ص: 59

والقول بهمس الهمزة ذهب إليه كذلك هيفنر الأمريكي الذي يؤكد أنها "دائما صوت مهموس"1 ولكنه مع ذلك لا يعلل لنا هذا الحكم ولا يحاول تفسيره.

وهناك عالم إنجليزي -هو جاردنر- يؤكد أن "طبيعة الهمزة تجعل جهرها أمرًا مستحيلا"2، ولكنه مع ذلك يقف عند هذا الحد، فلا يفصح بشيء عن الهمس وجوازه أو عدم جوازه بالنسبة للهمزة.

ومهما يكن من أمرٍ فهؤلاء الدارسون جميعا متفقون فيما بينهم على الخواص الأخرى للهمزة، وهي:

1-

كونها صوتا صامتا Consonant له خواص الأصوات الصامتة وأما ما ينسب إليها من تسهيل، أو تخفيف، أو قلب

إلخ، فهذه كلها في نظرهم ظواهر مستقلة يجب أن تؤخذ على أساس صورها الحاضرة، لا على أساس الأصل المفترض.

2-

حنجرية، فمخرجها الحنجرة، وهي أقصى مواضع النطق في الجهاز النطقي عند الإنسان، ولا يشركها في هذا المخرج في العربية إلا صوت الهاء.

3-

وقفة انفجارية Plosive Stop.

كذلك يؤكد جميعهم أن الهمزة لا تكون مجهورة بحال من الأحوال، لاستحالة ذلك الأمر استحالة مادية، بسبب انطباق الوترين الصوتيين انطباقا تاما حال النطق بها، ومن ثم ليس من الممكن أن تحدث ذبذبة للأوتار من أي نوع كانت هذه الذبذبة.

وتلخيص هذا الاتفاق بين العلماء بالصورة السابقة أمر مهم وضروري، حيث يعيننا على فهم المناقشة التالية الخاصة بآراء علماء العربية القدامى في هذا الصوت.

1 هيفنر: General Phonetics P. 125.

2 جاردنر: The Phonetics of Arabic، p. 30.

ص: 60

ينص سيبويه في كتابه على أن الهمزة حرف شديد مجهور، وهي حلقية عنده، أو من أقصى الحلق، بعبارة أدق1، وقد تبع سيبويه في ذلك معظم علماء العربية الذين جاءوا من بعده، بل يكاد هؤلاء جميعا يرددون الألفاظ نفسها. وممن تبعه في ذلك أيضا ابن جني الذي لم يزد عما قاله سيبويه في هذا الشأن إلا في التفصيل والشرح، وفي إقحام بعض المشكلات الصرفية في مناقشة القضايا المتعلقة بهذا الصوت2.

أما تقويم هذه الأحكام من وجهة النظر الحديثة، فيقتضينا أن ننظر أولا في المصطلحات التي استعملت في الوصف، ثم في معانيها والمقصود منها.

والمصطلحات المذكورة في التعريف السابق أربعة أولها الحرف. والمقصود به هنا الصوت3، وهو صوت صحيح، وهو ما نسميه Consonant ولهم تسمية أخرى بارعة يصح إطلاقها على هذا الصوت، هذه التسمية هي "الصوت الصامت"4. أما كونها صوتا صحيحا "أو صامتا" فهو ثابت في كلامهم:"وحكم الهمزة كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"، غير أنه كان الأوفق -في نظرنا- التعبير بأسلوب غير أسلوب التشبيه. ويبدو أن الالتجاء إلى أسلوب التشبيه هنا سببه ما رأوه من أن الهمزة أحيانا يعرض لها عارض من تخفيف أو تسهيل أو إبدال أو قلب إلخ، فلم تكن حينئذ أصيلة في الصحة -في نظرهم- أصالة الباء أو التاء مثلا. يدل على هذا المعنى بقية النص السابق: "إلا أنها قد تخفف لأنها حرف ثقيل، إذ مخرجه أبعد مخارج جميع الحروف

"5. وهناك نصوص أخرى معروفة مشهورة تشير إلى تسهيل الهمزة، أو إبدالها، أو قلبها

إلخ.

1 سيبويه: الكتاب جـ2 ص404-406 "طبعة بولاق".

2 ابن جني: سر صناعة الإعراب جـ1 ص52، 69، 78 وما بعدها.

3 من معاني "الحرف" في العربية الرمز الكتابي والصوت والمقطع والكلمة والجملة والعبارة، هذا بالإضافة إلى معانيها العامة التي لا تعنينا هنا.

4 انظر الملحوظة "1" ص55.

5 انظر شرح مراح الأرواح ص98.

ص: 61

وفي رأينا -كما سبق أن أشرنا إلى ذلك- أن هذا النظر إلى الهمزة يعني خلطا بين اللهجات التي تحققها والتي تخففها أو تسهلها، أو خلطا بين مستويين كلاميين: كلام فصيح وكلام غير فصيح مثلا.

وعلى كل حال فالوصف الذي قدموه للهمزة هنا وصف علمي يتمشى -في عمومه- مع ما أثبته النظر الحديث.

أما وصف الهمزة بأنها صوت شديد فيمكن أن يعد وصفا صحيحا ودقيقا في احتمال واحد. ذلك إذا أخذنا المصطلح "شديد" على أنه يعني ما نعنيه بالمصطلح الحديث "انفجاري" أو "وقفة انفجارية". والحق أن كلام علماء العربية في هذا الشأن يوحي في عمومه بهذا التوافق. فعلى الرغم من صعوبة التعريف الذي قدموه للأصوات الشديدة1، فهناك دليل قوي يشير إلى أن فهمهم للصوت الشديد يتفق -في عمومه- مع فهمنا للصوت الوقفة الانفجارية، ذلك دليل يتلخص في أن ما سموه بالحروف الشديدة يقابل عندنا -باستثناء واحد أو اثنين- ما نسميه بالوقفات الانفجارية. فالأصوات الشديدة عندهم مجموعة في قولك "أجدت طبقك"2 "والألف هنا تمثل الهمزة" والأصوات الوقفات الانفجارية عندنا -بحسب نطقنا الحالي للفصيحة- هي: الهمزة والباء والتاء والدال والضاد والطاء والكاف والقاف.

وهكذا نرى أن الخلاف بيننا وبينهم يظهر في حالتين اثنتين هما:

1-

إخراجهم للضاد من الأصوات الشديدة. على حين أنا عددناها من الوقفات الانفجارية.

2-

إدخالهم للجيم ضمن الأصوات الشديدة، ولكنا نعدها صوتا من نوع آخر يسمى بالأصوات المركبة أو الانفجارية الاحتكاكية.

1 انظر هذا التعريف في الكتاب لسيبويه جـ3 ص406 وسر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص70.

2 ابن جني: المرجع السابق ص69.

ص: 62

فما سر هذا الخلاف "إذا كانت الشدة عندهم تساوي الوقفة الانفجارية عندنا"؟ هناك احتمالان: أحدهما أنهم ربما أخطئوا في وصف كل من الضاد والجيم. الثاني "وهو الراجح" أن تطورا حدث لهذين الصوتين، أو أنهم كانوا يصفون صوتين آخرين غير اللذين نعرفهما الآن. فالمفهوم لنا من جملة الأوصاف التي نعتوا بها الضاد أن الضاد القديمة تختلف عن ضادنا الحالية من وجوه عدة منها: أنها في نظرهم جانبية "فهي تشبه -ولكنها ليست مثل- اللام في ذلك" وأنها لا أخت لها من مخرجها أو في بعض صفاتها، على حين أن لها أختا في نطقنا الحالي وهي الدال، والفرق بينهما إنما هو الإطباق أو التفخيم في الأولى، وعدم الإطباق أو الترقيق في الثانية. أما بالنسبة للجيم فربما كانوا يصفون جيما أشبه بجيم القاهرة فهي التي يمكن أن تسمى شديدة أو وقفة انفجارية، فلعل هذا الصوت إذن قد تطور ثم عاد إلى أصله في لهجة القاهرة ونحوها، أو لعله كان خاصا بلهجات معينة1.

فإذا ما صح هذا الاحتمال الثاني بالنسبة للضاد والجيم جاز لنا القول بأن المصطلح "شديد" عندهم يعني ما نعنيه حديثا بالمصطلح "وقفة انفجارية". ومن ثم يكون وصفهم للهمزة بأنها صوت شديد وصفا صحيحا دقيقا، إذ الخلاف في لفظ المصطلحات كلا خلاف، وإنما العبرة بالمدلول.

ووصف القدامى الهمزة بأنها صوت مجهور يستدعي تأملا ونظرا، ذلك لأن أحدًا -غير هؤلاء العلماء- لم يقل بجهر الهمزة، ولاستحالة ذلك استحالة مادية حال النطق بها. كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.

فكيف إذن جاز لعلماء العربية وصف هذا الصوت بأنه مجهور؟ أهم مخطئون في وصف الهمزة أم في تعريف الجهر نفسه؟ وهل هناك من مخرج أو تفسير لما قالوه؟

1 ما زالت الجيم تنطق كما ينطقها القاهريون "g" في بعض المناطق اليمنية في الشمال والجنوب كليهما، كما يرى التاريخ اللغوي أن هذا هو الأصل في اللغة العربية وأخواتها الساميات كذلك.

ص: 63

قدم علماء العربية تعريفا للجهر وللصوت المجهور، ولكنه في نظري تعريف صعب عسير الفهم. وواضع التعريف في الأصل هو سيبويه، وتبعه غيره فيه بدون أدنى تغيير في العبارة تقريبا1. أما صعوبة هذا التعريف فترجع في رأيي إلى سببين:

أحدهما: استعمال مصطلحات في هذا التعريف غير مألوفة وغير معروف المقصود بمعانيها بدقة ووضوح.

وثانيهما: عدم ذكر أية إشارة إلى العنصر الأساسي أو الشرط الأساسي في تعريف الجهر بحسب العرف الحديث. هذا العنصر أو الشرط هو ضم الوترين الصوتيين ضما معينا بحيث يسمح بمرور الهواء من خلالهما، وبحيث يجعلهما يتذبذبان بسرعة فائقة وانتظام2.

فهل مفهوم الجهر عندهم يختلف عن مفهومه في نظر المحدثين؟ من الجائز أن يكون الأمر كذلك، إذا نظرنا إلى مجموع تصريحاتهم في هذا الشأن نظرة عجلى سطحية، أو إذا أسأنا الظن بهم وبتقديرهم للموضوع. ولكن النظر الدقيق في بعض ما قالوه -بقطع النظر عن التعريف الذي قدموه للجهر- وحسن الظن بهم يقودان إلى احتمال أقرب إلى الصحة والحقيقة. لقد نص هؤلاء العلماء على الأصوات المجهورة نصا، وهي في مجموعها تتفق مع ما عددناه مجهورا فيما عدا صوتي القاف والطاء "وهذ الصوت المختلف فيه وهو الهمزة"، فهما في نظرهم مجهوران، على حين أنهما مهموسان بحسب نطقنا الحالي لهما. ومع ذلك فمن السهل تفسير هذا الخلاف فيما يختص

1 انظر: الكتاب لسيبويه جـ2 ص465، وسر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص69.

2 يروي الدكتور إبراهيم أنيس نصا عن أبي الحسن الأخفش نسبه إلى سيبويه، ومنه يفهم الدكتور إبراهيم أنيس أن كلام سيبويه في الجهر والهمس يتضمن "آراء قيمة في الدراسة الصوتية تتفق مع أحدث النظريات إلى حد كبير"، وأن هذه الآراء في مجموعها تفيد ما تفهمه الآن من ذبذبة الوترين "في حالة الجهر" وعدم ذبذبتهما "في حالة الهمس".

انظر: الأصوات اللغوية ص88-91 ط3.

ص: 64

بهذين الصوتين. يبدو أن القاف التي وصفها علماء العربية صوت أشبه بالجاف المصرية التي تنطق في الصعيد وبعض جهات الوجه البحري في نحو قال "G" وهذا صوت مجهور ولا شك، ولعله كان خاصا بلهجة أو لهجات معينة. وكذلك يبدو أن الطاء في القديم كانت تختلف عن طائنا الحالية. وهنا نص صريح لسيبويه يفيد ما نقول. ففي هذا النص يذكر سيبويه أن الطاء أخت الدال في كل خواصها ما عدا الإطباق في الطاء وعدمه في الدال. ونحن نعرف أن الدال صوت مجهور، فنظيره إذن -وهو الطاء- مجهور كذلك1.

إذا صح هذا التفسير -وهو ما نأخذ به لأسباب أخرى ليس هنا محل تفصيلها- بالنسبة لهذين الصوتين "القاف والطاء" أصبح من الواضح أنهم يدركون معنى الجهر، وإن خانهم الحظ في إدراك الدور الذي يلعبه الوتران الصوتيان، أو إدراك ما يحدث في المنطقة كلها. ويبدو أنه كانت لديهم فكرة غامضة عما يحدث في الجهاز النطقي حال الجهر.

ويؤكد احتمال إدراك هؤلاء العلماء لمعنى الجهر اتفاقهم معنا في عدد الأصوات المجهورة بعد هذا التفسير الذي قدمناه لصوتي القاف والطاء، كما تؤكده حقيقة أخرى، وهي إدراكهم لوظيفة الجهر في الكلام.

ومعنى ما تقدم إذن أنهم كانوا على صواب في تعريف الجهر والصوت المجهور، ولكنهم أخطئوا في وصف الهمزة بالجهر. على أنا نستطيع -بطريقتهم- أن نفسر سبب هذا الخطأ الذي وقعوا فيه. هناك احتمالان لوصفهم الهمزة بالجهر.

الأول: لعلهم وصفوا الهمزة متبوعة بحركة، فأحسوا الجهر بسبب وجود الحركة، إذ الحركات العربية كلها "عادة" مجهورة.

1 الكتاب لسيبويه جـ2 ص406، وانظر أيضا الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس: ص50، 52، 67-69.

ص: 65

الثاني: لعلهم كانوا يصفون الهمزة المسهلة "وهي ما تسمى همزة بين بين"، وفي نطق الهمزة المسهلة لا تقفل الأوتار الصوتية إقفالا تاما "بخلاف حال نطق الهمزة المحققة""بل يكون إقفالا تقريبيا"، وحينئذ يحدث الجهر حال النطق غير أن المجهور هنا ليس الهمزة أو الوقفة الحنجرية، ولكنه شيء أشبه بأصوات العلة1.

والاتجاه الغالب عند علماء العربية هو وصف الهمزة بأنها صوت حلقي، وهو وصف يمكن قبوله بضرب من التوسع فقط، ذلك لأن الهمزة تخرج في حقيقة الأمر من منطقة الحنجرة Larynx وهي منطقة تقع في أسفل الفراغ الحلقي Pharynx، وهي أول مواضع النطق في الجهاز الصوتي عند الإنسان على أنه يمكن تفسير ما ذهب إليه علماء العربية بوجه من الوجوه الآتية:

1-

ربما أخطأ هؤلاء العلماء الملاحظة والتقدير. فلم يستطيعوا تحديد منطقة الهمزة بالدقة، وبخاصة أنها متصلة بمنطقة الحلق.

2-

يبدو أن هؤلاء العلماء أطلقوا "الحلق" على منطقة أوسع وأكبر من تلك التي نسميها "الحلق" اليوم. أو بعبارة أخرى، يبدو أنهم أطلقوا لفظ "الحلق" على تلك المنطقة التي تشمل -في عرفنا الحاضر- الحنجرة والحلق "بمعناه الدقيق" وأقصى الحنك من باب التوسع والمجاز. ويظهر هذا الاحتمال واضحا في قول قائلهم:

همز فهاء ثم عين حاء

مهملتان ثم غين خاء

ويقصد أن هذه الأصوات الستة كلها حلقية، على حين أنا نقسمها اليوم إلى ثلاث مجموعات:"الهمزة والهاء"، وهما صوتان حنجريان، "والعين والحاء" وهما صوتان حلقيان، "والغين والخاء" وهما من أقصى الحنك، وربما سوغ ما ذهب إليه هؤلاء الدارسون أمران:

1 أرشدنا إلى هذا التعليل الدكتور تمام حسان عند مناقشته لتسهيل الهمزة، انظر مناهج البحث في اللغة ص 97.

ص: 66

أحدهما: قرب هذه المخارج بعضها من بعض، بل عدم إمكانية الفصل بينها فصلا تاما، وإنما الفصل أمر تقديري مبني على الناحية الفسيولوجية.

ثانيهما: اشتراك هذه الأصوات الستة في بعض الخواص الصوتية والصرفية في اللغة العربية، منها أن الفعل على وزن فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمضارع لا يقع إلا إذا كان عين الفعل أو لامه حرف حلق. وإنما التزموا فتح العين فيهما "ليقاوم خفة فتحة العين ثقالة حروف العين"1. ومن هذه الخواص أيضا جواز تحريك الاسم الثلاثي ساكن العين بالفتح إذا كانت هذه العين حرف حلق، فيقال مثلا نهر وبحر بفتح الهاء والحاء.

على أن هؤلاء أنفسهم أحسوا بأن الهمزة "ومعها الهاء والألف على خلاف" أدخل في النطق من أخواتها، ومن ثم قسموا الحلق إلى ثلاث مناطق:

1-

أقصاه.

2-

أوسطه.

3-

أدناه.

فمن أقصاه "الهمزة والألف والهاء"2.

وخلاصة ما تقدم أن معظم علماء العربية اتفقوا مع البحث الحديث في نقطة مهمة، هي أن الهمزة تخرج من أول مواضع النطق، غير أنهم سموا هذا الموضع أقصى الحلق وسماه البحث الحديث بالحنجرة. يدل على إدراكهم لهذه

1 انظر شرح مراح الأرواح ص18.

2 الكتاب لسيبويه الجزء الثاني ص404، وسر صناعة الإعراب لابن جني، جـ1 ص50. وقد جاء هذا التقسيم منظوما بصورة واضحة في متن الجزرية، حيث يقول صاحبها "ابن الجزري".

ثم لأقصى الحلق همز هاء

ثم لوسطه فعين حاء

أدناه غين خاؤها

...

...

...

ونلاحظ هنا -خلافا للكثيرين- أنه لم ينسب ألف المد إلى أي جزء من الحلق، وإنما نسميه -مع الواو والياء- إلى الجوف والهواء، وهو عمل جيد، كما سنرى فيما بعد.

ص: 67

الحقيقة -حقيقة أن الهمزة أسبق الأصوات مخرجا أو من أسبقها- ترتيبهم للأصوات العربية ترتيبا مخرجيا، فهم في هذا الترتيب وضعوا الهمزة في صدر الأصوات هكذا: الهمزة والألف والهاء

إلخ، والمعروف أن غالبية لغويي العرب القدامى سلكوا هذا المسلك الذي ابتدعه سيبويه. وهو مسلك سليم مقبول فيما يختص بوضع الهمزة في الترتيب المخرجي للأصوات العربية.

أما المروي عن الخليل فيما يتعلق بمخرج الهمزة وبعض خواصها ففيه خلط واضطراب واضحان. ويستوي في ذلك ما جاء في كتاب العين المشهور بنسبته إلى هذا العالم الجليل، وما ورد في غير هذا المعجم من الآثار اللغوية التي ترسمت خطأه في هذه المسألة "وغيرها" كالتهذيب للأزهري، وإذا صحت نسبة الآراء الواردة في هذه الآثار وغيرها إلى الخليل فلا يسعنا إلا القول بأن الهمزة كانت تمثل مشكلة حقيقية عنده، حيث لم يستطع أن يأتي برأي حاسم فيها، وإنما كان يسلك نحوها مسالك شتى قادته إلى الغموض أحيانا، وإلى التناقض أحيانا أخرى1.

ويقيننا أن موضوع الهمزة عند الخليل -على نحو ما جاء في هذه الآثار- يحتاج إلى دراسة مستقلة، ولكنا مع ذلك رأينا أن نشير هنا -في إيجاز موجز- إلى تلك المعالم البارزة من آرائه وتصريحاته فيما يتعلق بموضوع الحديث.

1 أغلب الظن أن الخلط في موضوع الهمزة "وغيرها" على نحو ما جاء في كتاب العين المنسوب إلى الخليل ليس مصدره الخليل نفسه، وإنما يرجع إلى تلامذته الذين خانهم التوفيق في تدوين آراء الشيخ، كما ألقاها عليهم، أو كما أراد لها أن تكون. وقد أخذ بعضهم هذا الخلط دليلا على أن الكتاب المذكور ليس من صنع الخليل، وإنما هو من جمع تلامذته لآرائه. وهؤلاء لم يسلموا من الخطأ في نقل كلام أستاذهم، ولم يتحروا الدقة في تفسير مادته شرحها. ومن المعتقد كذلك أن بالكتاب زيادات وإضافات أدخلها عليه بعض هؤلاء التلاميذ أو رواة الكتاب عبر الأجيال المتعاقبة. ومهما يكن من أمر، فنحن نناقش موضوعنا هذا على أساس المادة الواردة في كتاب العين وفي غيره من الآثار العلمية التي نقلت عنه أو التي نسبت ما سجلته في هذا الشأن إلى الخليل. وليس يعنينا في هذا المقام أن نثبت صحة هذه النسبة أو أن ننفيها.

ص: 68

من المعروف أن الخليل لم يبدأ ترتيبه المخرجي للأصوات بالهمزة، وإنما بدأه بصوت العين، مخالفا بذلك أكثر علماء العربية ومنهم تلميذه سيبويه، ومخالفا أيضا ما كنا نتوقعه من باحث عبقري مثله في شئون الأصوات والموسيقا اللغوية.

ولقد قدم تعليل مشهور لتسويغ هذا المسلك الذي سلكه الشيخ الكبير نحو موقع الهمزة في سلسلة الأصوات العربية من حيث مخارجها ومواضع نطقها. يروي السيوطي في المزهر عن ابن كيسان أنه قال: "سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني، ومنه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين، فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف"1.

فهذا النص -إن صحت روايته- يدل على أن الخليل كان يدرك أن الهمزة هي أول الأصوات العربية مخرجا. وبذلك يتفق مع سيبويه وغيره من الباحثين العرب، كما يتفق مع وجهة النظر الحديثة في ذلك. ولكن الخليل -على الرغم من هذا الإدراك- لم يشأ أن يبدأ بها الألفباء الصوتية، لأنها في نظره غير مستقرة الصورة النطقية، ولم ترق إلى درجة غيرها من الأصوات التي هي أحق منها "ومن غيرها" في أن تتصدر الأصوات العربية، وهي العين لقوتها ونصاعتها.

وعلى فرض التسليم بصحة هذا الاحتمال -وهو إدراك الخيل لموقع الهمزة بين الأصوات- فما زال هذا النص السابق نفسه يدل على اضطراب الخليل في فهم حقيقة الهمزة وغيرها من الأصوات. إن ظواهر النقص والتغيير

1 المزهر للسيوطي جـ1 ص90.

ص: 69

والحذف التي ظن الخليل أنها تلحق الهمزة ظواهر مستقلة، وليست -في رأينا- صورا أخرى لها أو إبدالا منها. إن المنطوق في هذه الحالات قد يكون ألفا أو واوًا أو ياء، وربما لا يكون هناك أي منطوق على الإطلاق. والنظر العلمي الحديث يوجب علينا أن نأخذ في الحسبان تلك الظواهر أو الأحداث المنطوقة وحدها، لا ما يظن أنه أصل هذه الظواهر وتلك الأحداث.

إن الهمزة همزة فقط حين تحقق وتنطق بالفعل، أما تلك الحالات المشار إليها ونحوها فليست من الهمزة في شيء، وهي وحدها التي تؤخذ في الحسبان دون الهمزة.

ولقد كانت هذه النظرة إلى الهمزة سببا في وقوع الخليل في خطأ آخر يتعلق بهذا الصوت نفسه. ذلك أنه يرى أن الهمزة حرف معتل، إذ هي في نظره قابلة للتغير والتحول، شأنها في ذلك شأن "حروف العلة" المعهودة: الألف والواو والياء. يروي صاحب التهذيب عن الخليل أنه قال: "والحروف الثمانية والعشرون على نحوين: معتل، وصحيح. فالمعتل منها ثلاثة أحرف: الهمزة، والياء، والواو. قال: "يعني الخليل" وصورهن على ما ترى: "اوي" ثم يعيد هذا المعنى نفسه ناسبا إياه إلى الخليل كذلك. ولكن مع إضافة الألف إلى هذه الحروف الثلاثة، على ما هو المتوقع، "قال -يعني الخليل- والعويص في الحروف المعتلة، وهي أربعة أحرف: الهمزة والألف اللينة والياء والواو"1. أما الاعتلال فيفسره الأزهري في التهذيب نقلا عن الخليل على

1 تهذيب اللغة للأزهري، جـ1 ص50-51، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون "سلسلة "تراثنا"". ونلاحظ هنا أن الأزهري لم يذكر الألف ضمن الحروف المعتلة في النص الأول على حين ذكرها في الثاني، وهو يدل على خلط واضح. ولعل هذا الخلط وقع من الأزهري عند النقل، أو هو ناتج من سوء فهم واختلاط الأمر عليه. وربما يكون هذا الخلط من الخليل نفسه، فهو يذكر الألف مرة ويهملها أخرى، كما رأينا، لأنه -على ما يبدو- كان يعاصر مرحلة انتقالية فيما يتعلق بهذين الصوتين، ونعني بها مرحلة التوسع في مفهوم الألف "الذي هو أصل في الهمزة وحدها دون ألف المد" ليشمل الهمزة والألف كليهما. وهناك خلط ثان يظهر في النص الأول حيث قرر أن الخليل عد الحروف ثمانية وعشرين، على حين يذكر في مكان آخر نقلا عن الخليل كذلك أنها تسعة وعشرون حيث يقول "ص48 من المرجع المذكور": قال الخليل بن أحمد، حروف العربية تسعة وعشرون حرفا، وهذا هو الوارد في كتاب العين نفسه، انظر مثلا ص64-65 من هذا المرجع الأخير.

ص: 70

نحو ما ذكرنا، فيروى أن الخليل قال:"واعتلالها "أي: اعتلال هذه الحروف ومن ضمنها الهمزة" تغيرها من حال إلى حال، ودخول بعضها على بعض واستخلاف بعضها من بعض"1.

وقد بنى الخليل على هذا السلوك نحو الهمزة أحكاما أخرى مختلفة، ليس لها ما يسوغها من الحقيقة والواقع. من ذلك مثلا إحجامه عن بدء الألفباء الصوتية بالهمزة، كما رأينا. ومن هذه الأحكام كذلك أنه لم يشأ أن يبدأ بها الألفباء العادية "الإملائية"، مخالفا بذلك العرف السائد قبله، كما يبدو بوضوح من ذلك النص التالي الوارد في كتاب العين. فقد جاء هناك أن الخليل حين أراد أن يؤلف الحروف ويرتبها تدبر في الأمر وأعمل فكره فيه، "فلم يمكنه أن يبتدئ التأليف من أول: أ، ب، ت، ث وهو الألف، لأن الألف حرف معتل"2. ولقد ردد صاحب التهذيب هذا الكلام نفسه على لسان الليث، قال: "قال الليث بن المظفر: لما أراد الخليل بن أحمد الابتداء في كتاب العين أعمل فكره فيه فلم يمكنه أن يبتدئ من أول أب ت ث، لأن الألف حرف معتل"3.

1 الأزهري: المرجع السابق ص50.

2 كتاب العين للخليل بن أحمد جـ1 ص52. والمقصود بالألف هنا الهمزة؛ لأن الألف في أول الألفباء همزة باتفاق المتقدمين والمتأخرين. وهذا أيضا هو ما يفهم من سياق الكلام، حيث جاء هناك في هذا المقام نفسه ما يلي:"وإنما كان ذواقه إياها "يعني الحروف" أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف، نحو: أب، أت، أح

" إلخ. فالألف هنا لا يمكن أن تكون ألف المد، لأنها -بهذا الوصف- حركة "طويلة" والحركة لا يجوز الابتداء بها في العربية، أو هي -على حد تعبيرهم- حرف ساكن، ولا يجوز الابتداء بالساكن، كما هو معروف، بحسب قواعدهم التي قرروها للغتهم.

3 التهذيب جـ1 ص41.

ص: 71

ولقد أكد الخليل هذه النظرة غير الدقيقة إلى الهمزة، وهي كونها حرف علة، ومساواتها بحروف العلة المعروفة في هذا الحكم بأمرين آخرين تجدر الإشارة إليهما في هذا المقام.

الأول: قسم الخليل الألفباء الصوتية من حيث مواضع النطق إلى قسمين اثنين، أحدهما خاص بما سماه "الحروف الصحاح"، وبدأه بصوت العين، على ما هو معروف، وختمه بالباء والميم، أما الثاني فيشتمل على الحروف الأربعة الواو والألف والياء والهمزة. وهذا ترتيبه للقسمين معا، كما ورد في كتاب العين:

""ع ح هـ خ غ"، "ق ك"، "ج ش ض"، "ص س ز"، "ط د ت"، "ظ ذ ث"، "ر ل ن"، "ف ب م"، فهذه الحروف الصحاح، "وا يء""1.

فهذا الترتيب يشير بوضوح إلى أن الخليل قد سوى في الخواص والميزات بين الهمزة وحروف العلة. وهو حكم جانبه الصواب، إذ الهمزة -بهذا الوصف- صوت صامت أو "صحيح" له موضع من النطق محدد هو الحنجرة، على حين تعد: الألف، والواو، والياء المديات حركات صِرفة Vowels، وتصدر عن جهاز النطق بصفة مخصوصة تختلف اختلافا جذريا عن طريقة نطق الأصوات الصامتة.

ويسجل صاحب التهذيب هذا الترتيب نفسه ولكن مع عدم ذكر الهمزة في هذه الألفباء التي نقلها عن الخليل، وكذلك فعل ابن منظور في "لسان العرب"، حيث ذكر الألفباء الصوتية -كما رآها الخليل- وبدأه بالعين ثم الحاء ثم الهاء وانتهى بالباء والميم والياء والواو والألف2.

1 العين جـ1 ص65.

2 التهذيب جـ1 ص41، واللسان جـ1 ص7.

ص: 72

فإذا ما فسرنا الألف هنا بألف المد -دون الهمزة- كان ذلك أنسب وأوفق، حيث أن وضع ألف المد مع الياء والواو له ما يسوغه، وهو كونها جميعا تشترك في خاصتي المد والعلة، كما يقولون. وهذا التفسير محتمل ولا شك، وبخاصة فيم يتعلق برواية صاحب اللسان الذي كان يعيش في وقت متأخر نسبيا، حيث كان الألف يغلب إطلاقه على ألف المد دون الهمزة. ومعنى هذا حينئذ أن الهمزة أهمل ذكرها في الألفباء الصوتية. وهو أمر يمكن فهمه بالنسبة لنظر العلماء إلى هذا الصوت في هذه المرحلة. وهي مرحلة شاهدت كتابة الهمزة بصور مختلفة. أي كتابتها على الألف أو الواو أو الياء أو مفرده. ومن ثم اختلط عليهم الأمر بالنسبة لهذا الصوت ذي الصور الكتابية المختلفة.

أما إذ فسر الألف في رواية اللسان "وغيره" بالهمزة وألف المد معا "على سبيل التوسع في مفهومه" فلا يزال الاعتراض على الخليل قائما.

وهنا رأي آخر في الترتيب الصوتي للحروف عند الخليل، رواه أبو الفرج سلمة بن عبد الله بن دلان المعافري الجزيري في قوله:

يا سائلي عن حروف العين دونكها

في رتبة ضمها وزن وإحصاء

إلى أن قال:

واللام، والنون، ثم الفاء، والباء

والميم، والواو، والمهموز، والياء1

فإذا ما فسر المهموز بالهمزة فيمكن الاعتراض عليه بمثل ما اعترض على الخليل نفسه. والمرجح أن يكون المقصود بالمهموز هنا ألف المد وحده، وإنما اقتضى النظم عدم ذكره، أو أن التعبير خان واضع الأبيات. وربما يؤيد هذا الظن أن أبا الفرج لم يشر إلى ألف المد إطلاقا في بقية الأبيات. وليس من المستساغ أن يترك النص عليه؛ إذ لم يفعل ذلك أحد من قبله أو من بعده. أما

1 المزهر للسيوطي جـ1 ص89-90.

ص: 73

إذا كان المقصود بالمهموز الهمزة وألف المد معا، فيكون موقفنا منه هو موقفنا من الاحتمال الثاني لرواية صاحب اللسان التي أشرنا إليها فيما سبق.

أم الأمر الثاني الذي يؤكد عدم الدقة في النظر إلى الهمزة فيظهر في الحكم عليها بأنها لا تنسب إلى أي جزء من اللسان أو الحلق أو اللهاة، وأنها تصدر من حيث تصدر الألف اللينة والواو والياء. ولقد ألح صاحب كتاب العين على هذا المعنى أكثر من مرة حيث جاء هناك مثلا:"قال الليث: قال الخليل: في العربية تسعة وعشرون حرفا، منها خمسة وعشرون حرفا صحاحا، لها أحياز ومخارج، وأربعة هوائية وهي الواو والياء والألف اللينة "والهمزة". فأما الهمزة فسميت حرفا هوائيا لأنها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان، ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة. إنما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف. وكان يقول كثيرا: "الألف اللينة والواو والياء هوائية، أي: أنها في الهواء"1. ويكرر هذا المعنى نفسه في سياق آخر، فيقول: "والياء والواو والألف والهمزة هوائية في حيز واحد، لأنها لا يتعلق بها شيء"2.

أما الأزهري صاحب التهذيب الذي يحرص على نقل آراء الخليل برمتها فيما يختص بالقضايا الصوتية في الأقل، فنلاحظ أنه يعرض لكيفية صدور

1 كتاب العين ص64. وذكر الهمزة في أول النص من عمل المحقق وهي زيادة يقتضيها السياق كما هو واضح من بقية الكلام.

2 العين للخليل ص65. والكلام المذكور في صفحتي 64-65 من هذا الكتاب فيما يتعلق بهذه الأصوات الأربعة فيه خلط كبير. فقد جاء هناك مرتين نسبة هذه الحروف الأربعة إلى حيز واحد ووصفها جميعا بأنها هوائية، ولكنه مرة ثالثة يعزل الهمزة عن أخواتها ويقرر أن:"الألف والواو والياء في حيز واحد"، أما الهمزة فهي "في الهواء لم يكن لها حيز تنسب إليه". ففي هذا النص الأخير يأتي بالتفريق بين الهمزة والحروف الأخرى، ولكنه تفريق جاء في غير موضعه. إن الفرق بين الهمزة وهذه الحروف ليس في كونها -كما جاء في هذا النص- غير ذات حيز تنسب إليه، وإنما -على العكس من ذلك تماما- في كونها ذات حيز معين، هو الحنجرة، على حين يخرج هواء هذه الأصوات الثلاثة بوصفها حركات حرا طليقا بدون عائق، كما هو معروف.

ص: 74

حروف "العلة" ومخارجها ثلاث مرات في سياق واحد، ولكنه يهمل ذكر الهمزة في حالتين منهما، ويكتفي بذكرها مع هذه الحروف مرة واحدة. وقد جاء ذلك في نص له تكاد تتفق ألفاظه وعباراته مع ما رويناه عن كتاب العين وهذا هو النص:

قال الخليل بن أحمد: حروف العربية تسعة وعشرون حرفا، منها خمسة وعشرون حرفا لها أحياز ومدارج، وأربعة أحرف يقال لها: جوف. الواو أجوف، ومثله الياء والألف اللينة والهمزة، سميت جوفا لأنها تخرج من الجوف فلا تخرج في مدرجة، وهي في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف"1.

وهكذا نرى الخليل أو تلامذته الذين جمعوا آراءه في كتاب العين يخلطون خلطا واضحا في نقطتين اثنتين تتعلقان بمخرج الهمزة:

النقطة الأولى:

تتمثل في عدم نسبتها إلى نقطة أو مدرجة معينة من مدارج النطق، وإصرارهم على أنها في الهواء لا حيز لها. والهمزة -على ما هو مقرر الآن- لها مدرجة محددة لا سبيل إلى الشك في خروج الهمزة منها، وهي الحنجرة، ما سبق ذكر ذلك في موقعه2. ومن المؤكد أن الذي أوقعهم في هذا الخطأ هو نظرته إلى الهمزة كما لو كانت حرف "علة" "بحسب تعبيرهم" أو كما لو كانت حركة، كما نقول اليوم. أو لعلهم ركزوا على حالة من الحالات التي ظنوا أنها تعتريها، وهي حالة التخفيف أو التسهيل. وهذه الحالة في رأينا -كما ألمحنا إلى ذلك سابقا أكثر من مرة -ليست من حالات الهمزة في شيء، إذ المنطوق في هذه الحالة ليس همزا، وإنما هو شيء آخر قد يكون ألفا أو واوا أو ياء. وهذا المنطوق وحده -لا الهمزة- هو الذي يؤخذ في الحسبان.

1 التهذيب جـ1 ص48.

2 انظر ص91.

ص: 75

النقطة الثانية:

التي تتصل بالاضطراب الحاصل منهم بالنسبة لمخرج الهمزة نعني بها ضمهم الهمزة إلى الألف والواو والياء ونسبتها جميعا إلى الهواء أو إلى الجوف. فهذه النسبة وإن صحت بالنسبة لحروف المد "والحركات عموما" لا تصح بالنسبة للهمزة على الإطلاق. فهواء الهمزة ليس منطلقا من "الجوف" إلى الخارج بدون عائق -كما هو الحال في نطق الحركات ومنها حروف المد بوصفها حركات طويلة- وإنما المعروف أن هواءها يقف وقوفا تاما في منطقة الحنجرة بسبب انطباق الوترين الصوتيين، ثم ينطلق هذا الهواء، فجأة وبسرعة إلى الخارج محدثا انفجارا، ومن ثم كانت تسميتها "بالوقفة الحنجرية" glottal stop أو "بالصوت الانفجاري الحنجري" glottal plosive.

وهناك دليل آخر على اضطراب الخليل وتلامذته فيما يتعلق بمخرج الهمزة، يتمثل في تصريحهم أكثر من مرة بأنها صوت حلقي. ومن ذلك مثلا قول الخليل:"وأما الهمزة فمخرجها من أقصى الحلق"1 ويعيد الأزهري في التهذيب هذا الكلام نفسه بحروف الخليل، فيقول:"وأما مخرج الهمزة فمن أقصى الحلق". ثم يثني ثانية في سياق آخر فيسجل المعنى بإضافة العين إلى الهمزة، ويقرر أن:"الألف اللينة هي أضعف الحروف المعتلة والهمزة أقواها متنا، ومخرجها من أقصى الحلق من عند العين"2.

فهم هاهنا قد نسبوا الهمزة إلى مدرجة أو نقطة معينة من نقاط النطق، على حين نفوا هذه النسبة -في نصوص أخرى- كما نسبوها إلى الحلق هنا وإلى الهواء هناك.

وفي استطاعة البحث العلمي أن يقبل نسبة الهمزة إلى الحلق، ولكن على أساس واحد معين. وذلك عندما نفسر الحلق -في مفهومهم- بمعنى

1 كتاب العين ص58.

2 التهذيب جـ1 ص44، 51.

ص: 76

أوسع ليشمل ثلاث مناطق مختلفة، ولكنها متصلة بعضها ببعض اتصالا وثيقا. تلك المناطق هي:

1-

الحنجرة.

2-

الحلق "بالمفهوم الدقيق".

3-

أقصى الحنك.

وقد درج على نحو هذا التقسيم كثير من قدامى الدارسين العرب "كسيبويه وابن جني"، حيث قسموا الحلق إلى ما سموه: أقصى الحلق ومنه: "الهمزة والهاء"، وأوسطه ومنه:"العين والحاء"، وأدناه ومنه:"الغين والخاء". فأقصى الحلق عندهم إذًا يقابل الحنجرة في العرف الحديث، وبهذا يسوغ لهم ما فعلوا، ويتركز الفرق حينئذ في التسمية. على أن هذا الاعتذار الذي قدمناه لهم لا ينطبق على الرواية الثانية لصاحب التهذيب، حيث قرر بوضوح أن الهمزة تخرج من حيث تخرج العين. وهذا غير صحيح على الإطلاق سواء أفسرنا الحلق بالمعنى الضيق أم الواسع، فالهمزة في كلتا الحالتين أعمق من العين وأسبق منها مخرجا.

والحق أن الموضوع كما قدمه هؤلاء الرجال كله خلط واضطراب. وذلك مرجعه إلى أمرين رئيسين:

1-

معاملتهم للهمزة معاملة "حروف العلة".

2-

عدم قدرتهم على تحديد موضوع نطقها تحديدًا دقيقا، فهم تارة ينسبونها إلى ما تنسب إليه "حروف العلة"، وأخرى يعينون لها مخارج غير صحيحة.

ونتيجة هذا كله أن الخليل أو صانعي ذلك الكتاب الذي نسبوه إليه "وهو العين" لم يوفقوا في تعرف الخواص الصوتية للهمزة، كما لم يستطيعوا

ص: 77

تحديد مخرجها تحديدا واضحا. والقول بأن الخليل كان يدرك أن الهمزة هي أول الأصوات مخرجا قول يحتمل النظر والمناقشة. إن هذا الحكم قد استنتجه العلماء من رواية ابن كيسان التي أشرنا إليها سابقا والتي تقول: "سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة، لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف، لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء، لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني ومنه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين، فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف".

فهذا النص في رأينا من صنع المتأخرين، وليس من كلام الخليل نفسه. فهناك في الآثار المروية عن الخليل وتلامذته ما يناقض مفهوم هذه الرواية ويضعها موضع الشك، وذلك من جهتين اثنتين تتعلقان بموضوع الحديث.

الجهة الأولى:

مفهوم هذا النص أن الخليل يعلم تماما أن الهمزة -دون غيرها- هي أول الحروف مخرجا، كما ذكرنا، على حين ينص هو نفسه في كتاب العين على ما يبطل ذلك وينقضه، حيث يقرر أن العين -لا الهمزة- هي أول الأصوات في المخرج. يقول:"وإنما كان ذواقه إياها "يعني الحروف" أنه كان يفتح فاه بالألف، ثم يظهر الحرف، نحو: أبْ، أتْ، أحْ، أعْ، أغْ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق، فجعلها أول الكتاب ثم ما قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها وهو الميم". ويؤكد هذا المعنى نفسه مرة أخرى فيقول: "قأقصى الحروف كلها العين"1. ثم يعقب هذ النص بترتيب الأصوات بحسب ذواقه إياها، فيضع العين أولها ثم الحاء ثم الهاء إلى أن يصل إلى "حروف العلة" فيضعها في نهاية الترتيب ومعها الهمزة2. ووضع

1 العين ص52، 64.

2 السابق ص65.

ص: 78

الهمزة في هذا الموضع إنما يرجع إلى معاملته لها معاملة حروف العلة، كما بينا سابقا، وهذه النظرة الخاطئة هي السبب الحقيقي في هذا الاضطراب الذي نتج عنه عدم معرفته بمخرجها الصحيح.

وهذا المسلك نفسه سلكه صاحب التهذيب حيث يروى عن الخليل أنه قال: "وأقصى الحروف كلها العين". ثم يؤلف الحروف فيبدأ بالعين فالحاء فالهاء، ويضع حروف العلة في نهاية الترتيب، ولكنه -بعكس ما جاء في العين- يغفل ذكر الهمزة1.

الجهة الثانية:

يفهم من رواية ابن كيسان السابقة أن الخليل كان يرى أن الهاء أسبق من الحاء، ولكنه أخرها لخفائها، على حين يفيد كلام الخليل في أكثر من موضع أن الهاء تعقب الحاء -لا تسبقها- أو هي قريبة منها في موقع عام واحد. قال الخليل:"فأقصى الحروف كلها العين ثم الحاء، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين. ثم الهاء ولولا هتة في الهاء، وقال مرة: "ههة"، لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حيز واحد، بعضها أرفع من بعض

"2. ثم يؤكد هذه النظرة بترتيب الألفباء -في أكثر من سياق- واضعا الهاء بعد الحاء. ولم يخرج كلام الأزهري في التهذيب عن هذا المعنى الذي ينقله عن الخليل بالألفاظ والعبارات ذاتها تقريبا، كما يتبعه في هذا الترتيب الذي أشرنا إليه3.

وليس يعني كل ما تقدم على أية حال أن العرب خانهم التوفيق في تعرف صوت الهمزة وخواصها المميزة لها. إنهم -باستثناء الخليل أو رواته وتابعيهم- استطاعوا الوقوف على أهم صفات هذا الصوت، وهي صفة

1 التهذيب جـ1 ص41، 48.

2 العين ص64.

3 التهذيب ص41، 48.

ص: 79

الانفجار، أو الشدة، بحسب تعبيرهم، كما استطاعوا أن يعينوا موضعا عاما من مواضع النطق.

بل نزيد على ذلك فنقرر أن منهم من يدركون هذا الموضع أو المخرج إدراكا دقيقا، غير أنهم لا يملكون التعبير الفني الحديث. من هؤلاء مثلا الزركشي صاحب "البرهان" الذي يصرح بأن "الهمزة من الرئة" وأنها "أعمق الحروف"1. فكونها أعمق الحروف مخرجا "ومعها الهاء، على ما هو معروف" حكم دقيق بارع، وأما التعبير عن مخرجها بالرئة بدلا من الحنجرة، فسببه -فيما نعتقد- شعوره القوي بالحفز الواضح والواقع على هذا الجزء من الإنسان، نتيجة لضغط الهواء وانحصاره في الحنجرة وما تحتها، بسبب انطباق الوترين الصوتيين الواقعين في هذه الحنجرة. وهو شعور صحيح ووصف سليم لما يحدث بالفعل عند النطق بالهمزة. غير أن هذا العالم لم يستطع التعبير عن موضع النطق بالمصطلح "حنجرة" لاحتمال عدم معرفته بهذا المصطلح الذي لم يكن مشهورا بين لغويي العرب، بل كان مجهولا تماما لكثير من متقدميهم.

على أن هناك عالما عربيا فذا قدم لنا وصفا لكيفية حدوث الهمزة، أتى فيه بمعظم خواصها كما يراه البحث الصوتي الحديث. هذا العالم هو الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالة صغيرة له تسمى "أسباب حدوث الحروف". يقول الشيخ في هذا الشأن:

"أما الهمزة فإنها تحدث من حفز قوي من الحجاب وعضل الصدر لهواء كثير ومن مقاومة الطرجهاري الحافز زمانا قليلا لحفز الهواء ثم اندفاعه إلى الانقلاع بالعضل الفاتحة وضغط الهواء معا"2. فهذا الوصف ينتظم خاصتين

1 البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ1 ص168، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

2 أسباب حدوث الحروف لابن سينا ص9.

ص: 80

من خواص الهمزة1. الأولى، كيفية نطقها وهو مكون من مرحلتين، ونعني بذلك سد طريق الهواء في الحنجرة بانطباق الوترين الصوتيين، ثم خروج هذا الهواء منفرجا إلى الخارج بعد ذلك فجأة وبسرعة. وقد عبر ابن سينا عن الحالة الأولى بالحفز القوي في الحجاب وعضل الصدر، وهو حفز نحس به بقوة عند بداية نطق الهمزة، بسبب انضغاط الهواء وحصره الناتجين عن انطباق الوترين، كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير كلام الزركشي. أما الخطوة الثانية "وهي الانفجار" فقد أشار إليها الشيخ الرئيس "باندفاع الهواء" الذي ينقلع بالعضلات الفاتحة أي: ينحيها بعضها عن بعض فتنفتح الحنجرة "أي ينفرج الوتران" مصحوبا ذلك كله بخروج الهواء المضغوط.

أما الخاصية الثانية التي ينتظمها هذا الوصف البارع فهي تتعلق بالمنطقة التي تصدر منها الهمزة. إنها الحنجرة بصريح عبارة ابن سينا. فليس "الطرجهاري" المذكور في الصوف السابق إلا ما نسميه اليوم بالغضروف الهرمي arytenoid، وهما في الواقع غضروفان هرميان، وسميا كذلك لأن كلا منهما يشبه الهرم2. وهذان الغضروفان يكونان جزءا رئيسيا من غضاريف

1 الخاصة الثالثة والمكملة لخواص الهمزة هي حالتها من حيث وضع الأوتار الصوتية، أي من حيث الجهر والهمس، ولم يشر إليها ابن سينا هنا.

2 الغضروف الهرمي aryteniod أشير إليه "بالطرجهاري" مرة و"بالطرجهالي" مرة أخرى في رسالة ابن سينا المذكورة. ويبدو أن كلا الاستعمالين صحيح، على ما يفهم من القاموس المحيط، إذ جاء فيه "طرجهارة" شبه كأس يشرب فيه، وفي مكان آخر يقول:"الطرجهالة بالكسر الفنجانة كالطرجهارة". ويقول الدكتور أنيس "أصوات اللغة عند ابن سينا: مجموعة بحوث مؤتمر مجمع اللغة العربية يناير 1963، ص180": الطرجهاري "من الكلمة الفارسية طرجهارة أي: كأس للشرب". ثم يقول: "ويبدو أن هذا الغضروف قد ظهر لأطباء العرب القدماء على هذه الصورة على حين أنه بدا للإغريق القدماء على شكل المغرفة لأن معنى aryteniod الشبيه بالمغرفة. ويرى الدكتور شرف أن هذا الغضروف في الحيوان يشبه فم الإبريق. ولذا سماه ابن سينا بالطرجهاري". أما نحن فقد سميناه بالهرمي لأنه يشبه الهرم إلى حد ما. وهذه التسمية هي المشهورة الآن، كما يبدو مثلا من عبارة "هيفنر" "علم الأصوات العام ص16": roughly pyramid-shaped arytenoid artilages. ومما يذكر أن بعض الباحثين يسميه "الطرجهالي" ويدعوه آخرون "الطهرجلياني". والتسمية الأولى ذكرها إلياس أنطون إلياس في قاموسه المعروف، والثانية للدكتور عبد الرحمن أيوب أصوات اللغة ص48 ط2".

ص: 81

الحنجرة، ولهما قدرة على الحركة. فقد يقترب أحدهما من الآخر أو يبتعد عنه، وقد يشتد الاقتراب بينهما حتى تلتقي قمتاهما فينسد فراغ الحنجرة. وهذا هو ما يحدث بالفعل عند النطق بالهمزة، حيث يؤدي هذا الالتقاء إلى انطبق الوترين الصوتيين انطباقا تاما.

والمصطلح "حنجرة" نفسه ليس غريبا عن ابن سينا، كما هو معروف. وقد قدم لنا في رسالته المذكورة وصفا بارعا مفصلا لهذا العضو وأجزائه المختلفة "وهي الغضاريف" مشيرا إلى ما يطرأ على هذه الأجزاء أثناء عملية إصدار الكلام وغيرها.

اقتصرنا في كل ما سبق على وصف الهمزة ومناقشة مشكلاتها من وجهة النظر الصوتية الصرفة، فبنينا هذه المناقشة على أساس أنها صوت مفرد منعزل، ونظرنا إليها في ذلك من ناحيتين اثنتين.

1-

الناحية العضوية أو الفسيولوجية physiological، وهي تتعلق بكل ما يتصل بأعضاء النطق وأوضاعها وحركاتها المختلفة.

2-

ناحية التأثير السمعي audible effect، من حيث تلك الآثار السمعية التي تحدثها الذبذبات الصوتية المنتشرة في الهواء والتي تؤثر في أذن السامع تأثيرا معينا والتي تنتج -في وقت نفسه- عن ميكانيكية النطق.

وهذه النظرة بجانبيها نظرة صوتية محضة، أي: جاءت على مستوى الفوناتيك at the phonetic level.

أما دراسة الهمزة من الناحية الصوتية الوظيفية at the phonological level أي على مستوى الفنولوجيا، بالنظر إلى قيمتها ووظيفتها في التركيب الصوتي للغة العربية؛ نقول أما هذه الدراسة فلم نعرض لها هنا لسببين.

ص: 82

أولهما: أنها دراسة واسعة تحتاج إلى بحث مستقل، لتشعب الكلام فيها تشعبا لا تحتمله هذه الدراسة.

ثانيهما: "وهو الأهم" أن دراسة أي صوت دراسة وظيفية لا يمكن أن تتم بدون دراسة جميع أصوات اللغة المعينة، لأن هذا الصوت أو ذاك لا قيمة له إلا بوصفه جزءا من نظام معين، وفيه تظهر قيمته ويبرز معناه الصوتي.

ص: 83