المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجموعة الثانية: وتضم هذه المجموعة عددا من النصوص المتناثرة هنا وهناك - دراسات في علم اللغة

[كمال بشر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌المرحلة الأولى

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌الواو والياء

- ‌المدلول الأول

- ‌المدلول الثاني:

- ‌الألف والواو والياء دراسة لغوية تحليلية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌أولا: الهمزة

- ‌ثانيا: ألف المد

- ‌الواو والياء:

- ‌المبحث الثاني: همزة الوصل

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌المجموعة الأولى:

- ‌المجموعة الثانية:

- ‌المجموعة الثالثة:

- ‌المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية

- ‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة

- ‌المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة بين طلاب الجامعات

- ‌مدخل

- ‌الأخطاء "ومفردها "خطأ

- ‌الأخطاء الشائعة:

- ‌نظام الجملة

- ‌مدخل

- ‌أولا: الإعراب

- ‌ثانيا: الاختيار

- ‌ثالثا: الموقعية

- ‌رابعا: المطابقة

- ‌المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير

- ‌مدخل

- ‌التعريب اللغوي: مؤيدوه ومعارضوه:

- ‌المؤيدون:

- ‌المعارضون:

- ‌الترجمة

- ‌مدخل

- ‌ التعبير

- ‌المراجع والمصادر:

الفصل: ‌ ‌المجموعة الثانية: وتضم هذه المجموعة عددا من النصوص المتناثرة هنا وهناك

‌المجموعة الثانية:

وتضم هذه المجموعة عددا من النصوص المتناثرة هنا وهناك في التراث اللغوي. وهذه النصوص تمثل غالبية الآراء وأشهرها فيما يتعلق بحقيقة السكون، وهي جميعا تتفق في خاصة واضحة، هي عدم تسمية السكون بالحركة وعدم وصفه بهذا المصطلح، ولكنها كلها -أو أجلها- تعامله على أنه شيء ينطق ويتلفظ به تحقيقا، وكثيرا ما يقارنون بينه وبين الحركات في هذه الخاصة التي نسبوها إليه.

وهذا الاتجاه -بكثرة نصوصه وتنوعها- تلخصه إشارات عابرة يلقي بها الدارسون من وقت إلى آخر ويمر بها كثير من القراء دون التمعن في حقيقة ما تنطوي عليه. من ذلك قولهم مثلا:

"السكون أخف الحركات" أو "أخف من الحركات"، أو نحو قولهم:"الفتح أقرب الحركات للسكون"، أو"الفتح يشبه السكون في الخفة" إلخ.

فهذه الإشارات ونحوها -وإن اختلفت في الأداء اللفظي- تنبئ عن معنى واحد، هو افتراضهم أن السكون شيء ينطق، ولكنه أخف الحركات أو أخف منها في ذلك. والفتح -في نظر علماء العربية والتقليديين من المحدثين- أقرب الحركات إلى السكون لأنه يقرب منه أو يشبهه في خفة النطق. وهذه المقارنة في الحالتين -بين الحركات في عمومها وبين السكون، وبين الفتحة وحدها وبينه- لا يمكن تفسيرها إلا على أساس التشابه الصوتي أو التقارب في عملية النطق الفعلية، وإلا ما كان هنا داعٍ لاستعمال المصطلحين "خفة"، "خفيف" في حالة السكون أو استعمال عكسهما في حالة الحركات كالتعبير "بالثقل أو ثقيلة". وهذه المصطلحات -كما ترى- تفيد التحقيق الصوتي أو إيجابيته، إذ لا يكون ذلك بجانبيه "الخفة والثقل" إلا في النطق والتلفظ بالشيء بداهة.

وقد جرهم إلى هذا الافتراض أو الوهم محاولتهم تسويغ قاعدة مشهورة، غير معتمدة هي الأخرى على الواقع اللغوي أو منطق اللغة نفسها. هذه القاعدة هي ما أشار إليها ابن مالك بقوله:

"والأصل في المبني أن يسكنا".

ص: 150

قال أكثر الشراح: وإنما كان ذلك هو الأصل "لخفة السكون" و"لثقل الحركة"1. ولم يكتف صاحب المفصل بذلك بل عد البناء على السكون هو القياس. وعلل شارحه -ابن يعيش- هذا الادعاء بكلام طويل نكتفي منه بقوله: وإنما كان القياس في كل مبني السكون لوجهين: أحدهما أن البناء ضد الإعراب، وأصل الإعراب أن يكون بالحركات المختلفة للدلالة على المعاني المختلفة فوجب أن يكون البناء الذي هو ضده السكون. والوجه الثاني أن الحركة زيادة مستثقلة بالنسبة إلى السكون، فلا يأتى بها إلا لضرورة تدعو لذلك"2.

فهذا التعليل -بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من مغالطة منهجية- يصف الحركات بالثقل، إذا قورنت بالسكون وفي ذلك ما يعني إيجابية السكون ووجوده نطقا، غير أنه يتميز بالخفة في ذلك.

على أن غالبية النصوص التي تنتمي إلى هذا الاتجاه لا تكتفي بمجرد المقارنة بين السكون والحركات في بعض سمات النطق، وإنما تصرح -بل تؤكد

1 انظر حاشية الخضري على ابن عقيل جـ1 ص32 والتصريح على التوضيح جـ1 ص58.

2 راجع إحياء النحو للأستاذ إبراهيم مصطفى ص102-103 والقول بأن البناء على السكون هو القياس أمر غير مقبول ويتضمن مغالطة منهجية. وذلك لأن القياس ينبغي أن يكون مبنيا على الواقع اللغوي نفسه. وقد لاحظ الأستاذ إبراهيم مصطفى أن هذا الأساس مفقود، فليس الكلام المبني ساكنا كله أو أغلبه. وقد قام هو بالنظر في الكلم المبني كله فوجد أن عدد حروف المعاني سبعون حرفا "الساكن منها اثنان وعشرون والمتحرك ثمانية وأربعون" ومعناه، كما قال: إن الساكن "في لبناء اقل من المتحرك". م بالنسبة للاسم فوجد أننا "لسنا في حاجة إلى الإحصاء، وجلي أنه قل أن يبنى على السكون "أما الفعل فالماضي بناؤه على الفتح ما أمكن والمضارع أكثر بناؤه على الفتح وذلك حين يؤكد بإحدى النونين والأمر وحده يبنى على السكون "انظر المرجع السابق ص104-107" وخلاصة هذا أن المبني على السكون من الكلم أقل من المبني على غيره، وهذه الحقيقة الواقعة تفسد أساس هذا القياس الذي ذكروه. وقد أدرك الصبان هذا الذي قلناه، فيصرح -تعليقا على قول ابن مالك:"والأصل في المبني أن يسكنا"- بأن الأصل أي الراجح والمصطحب لا الغالب؛ إذ ليس أغلب المبنيات ساكنا".

ص: 151

هذا التصريح أحيانا- بأن السكون شيء يتلفظ به ويتساوى في هذه الخاصة مع الحركات.

جاء في كلام بعضهم قوله: "وأما البناء فعلى أنه لفظي هو الحركات والسكنات ونوابها اللازمة

" ويتأكد هذا المعنى من قول هذا الدارس نفسه: إن فعل الأمر مبني عند البصريين "على ما يجزم به مضارعه لو كان يجزم، من سكون في صحيح الآخر ملفوظ كاضرب، أو مقدر كرد واضرب الرجل".

ولم يقنع الخضري هنا بالحكم على السكون بأنه شيء يتحقق في اللفظ والنطق، بل منحه خاصة من أهم خواص الحركات عندهم وهي وجوب تقديرها إذا منع من ظهورها. ومعناه -بعبارة أخرى- أن للسكون نوعين من الوجود: وجود بالفعل ووجود في التقدير حين يصعب أو يستحيل تحققه في واقع النطق.

ومعاملة السكون معاملة الحركات في النطق وفي خاصة الظهور أحيانا والتقدير أحيانا أخرى، تبدو أصرح وأوضح في سياق آخر من عبارة الخضري نفسه حيث ينص على أن حركة البناء تكون ظاهرة أو مقدرة "كضرب وضربت وكذا السكون كمن وإذا؛ فإن إذا مبنية على سكون مقدر منعه السكون الأصلي في الألف، كما تمنع الحركة الحركة"1.

وفي هذا النص الأخير -كما ترى- إغراق في الوهم والخلط حيث عد الخضري الألف في "إذا" سكونا، وأن هذا السكون منع السكون الآخر من الظهور. وكلا التقديرين -في رأينا- أمر غير مقبول. أما أن الألف في "إذا" سكون فهو خطأ صوتي وقع فيه علماء العربية منذ القديم، مخدوعين

1 الخضري على ابن عقيل جـ1 ص30، 32-33.

ص: 152

في ذلك -على ما نعتقد- بغياب رموز الحركات القصيرة، وهذا الغياب في نظرهم يعني السكون، بقطع النظر عن طبيعة الصوت المعين.

وقولهم: إن سكون الألف في "إذا" منع السكون الآخر من الظهور أمر لا يمكن تفسيره إلا على أساس أن المقدر هو رمز السكون "هـ" لا صوته؛ إذ السكون "بمعنى غياب الحركات" شيء لا يتعدد. أما الحركات فهي تختلف عن السكون في ذلك، فهي متعددة في طبيعتها وصورها، فهناك الفتحة، والكسرة، والضمة. وفي هذا الذي يذهب إليه هؤلاء العلماء دليل واضح على أنهم قد خلطوا بين الرموز والأصوات أو المكتوب والمنطوق، وهو ما أدى إلى وقوعهم في بعض الأخطاء الصوتية، كما في هذه الحالة مثلا.

وليس ينفرد الخضري بهذه النظرة تجاه السكون، فقد شاركه فيها غيره مستخدما مصطلحات وعبارات لا تخرج في جملتها عما فعله الدارس الأول. يقول صاحب التصريح في التعليق على كلام الموضح بأن الإعراب أثر ظاهر أو مقدر:"والمراد بالأثر الظاهر أو المقدر نفس الحركات الثلاث والسكون وما ناب عنها. والمراد بالظاهر ما يتلفظ به من حركة أو حرف أو سكون. "والمراد بالمقدر ما ينوى من ذلك"1.

وجدير بالذكر أن بعضهم قد أدرك ما في هذه الآراء من مغالاة وبعد عن الحقيقة، ففسرها -أو بعبارة أدق فعارضها- في صورة تأويلات أو تخريجات تقليدية. من هؤلاء المعارضين الشيخ يس في تعليقه على الكلام السابق الذي نقلناه عن خالد الأزهري، فيقول: "قال الدنوشرى: عد السكون من الإعراب اللفظي فيه تسامح. وكأنهم أرادوا باللفظي ما يتعلق باللفظ، والسكون عدم الحركة الملفوظة أو ما يلفظ به. وقال أيضا: جعلهم السكون

1 التصريح على التوضيح جـ1 ص59-60.

ص: 153

وهو عدم الحركة والحذف وهو إسقاط حركة أو حرف لفظيا تسمح واللفظ إنما هو متعلقهما وهو الحركة والحرف"1.

وفي هذا المنقول عن الدنوشري ما يدل على وعي بطبيعة "السكون" وقيمته الصوتية2، وفيه كذلك ما يتضمن الرد البليغ على أولئك الخالطين الذين استغلق عليهم الأمر، فلم يستطيعوا التفريق بين الحركات، وبين ما سموه بالسكون من ناحية النطق.

وفي ظننا أن هناك سببين آخرين قد أوقعا هؤلاء العلماء في وهمهم الزاعم "نطقية" السكون ومساواته بالحركات في هذه السمة وفي غيرها من الخواص الصوتية. وينطبق هذا القول الذي نقوله على كل أولئك الذين تبنوا أحد الاتجاهين السابقين أو كليهما معا.

لعل السبب الأول يرجع إلى ما رآه علماء العربية من أن "تلك الظاهرة" التي سموها سكونا تمثل إمكانية رابعة فيما يختص بنهايات الكلمات في الجمل؛ فقد تنتهي بفتحة أو كسرة أو ضمة، أو بعدم هذه الإمكانيات الثلاث.

كما أنها احتمال رابع في بعض المواقع بالصيغ الصرفية، فالنموذج: فعل قد يكون مفتوح العين أو مكسورها أو مضمومها أو "ساكنها". وعلى مستوى الأصوات من الناحية الوظيفية at the phonological، لاحظ

1 حاشية الشيخ يس على التصريح جـ1 ص60.

2 ما قرره الدنوشري بالنسبة للسكون "وهو كونه ليس لفظيا أو كونه عدم الحركة" قول صحيح مقبول، كما قلنا. ولكن ما ذكره فيما يتعلق بحذف الحرف أو إسقاطه ليس دقيقا لأن حذف الحرف أو إسقاطه له أثر نطقي، يتحقق في صورة حركة قصيرة. نقول مثلا: يرمي، بوجود الحرف وهو رمز الحركة الطويلة وهي الكسرة، ولكن لم يرم بإسقاط الحرف، وبالرغم من هذا بقي أثر منطوق هو الكسرة القصيرة. ويبدو أن الدنوشرى متأثر بطريقة الكتابة "غير مدرك لناحية النطق" فقد لاحظ حذف الحرف في الكتابة "في لم يرم مثلا" فظن ألا أثر للنطق تبعا لذلك في حين أن الأثر النطقي موجود وهو محقق في الحركة القصيرة. ومعنى ذلك أن حذف الحرف في الكتابة ارتبط به تقصير الحركة في النطق.

ص: 154

هؤلاء العلماء أن "السكون" قد يكون نهاية المقطع، كما في نحو: ضربت: ضَ/ رَبْ/ ت. ولم يغب عن أذهانهم بالطبع ما تلعبه هذه الظاهرة من دور بارز في التفاعيل العروضية إلى غير ذلك من الوظائف الصوتية الخاصة بموسيقا الكلام، كما في الوقف مثلا.

فمن المحتمل أن تكون هذه الوظائف وغيرها قد خدعت هؤلاء العلماء فساووا بين السكون والحركات من جهات أخرى، فظنوه شيئا ينطق، كما تنطق الحركات، وسموه حركة كذلك، على حين أنه "لا شيء" من الناحية النطقية كما أنه ليس حركة من هذه الناحية أيضا وإنما هو عدمها، كما سنعرف فيما بعد.

أما السبب الثاني: فهو وجود رمز خاص بالسكون في نظام الكتابة العربية. فربما أوحى هذا التخصيص إلى بعضهم بأن مدلول هذا الرمز "هـ" لا بد أن يكون شيئا ينطق ويتلفظ به بالفعل، شأنه في ذلك شأن الحركات المختلفة التي خصص لكل واحدة منها رمز مستقل كذلك. ولعل هذا نفسه هو السر في حكم بعض آخر على السكون بأنه حركة ومنحه أهم خواصها عندهم: فهو شيء تجتلبه العوامل، ويظهر كما تظهر الحركات ويقدر كما تقدر إذا لم يكن ظهوره مستطاعا.

وقد جرهم هذا الخلط في فهم الرموز الكتابية ووظيفتها إلى إطلاق المصطلح "ساكن""وما اشتق منه" على كل "حرف" خلا من علامات الحركات الثلاث: الفتحة والكسرة والضمة. وهذا "الحرف" يتحقق في صورتين رئيسيتين:

إحداهما تتمثل في كل حرف "صحيح" لم تصاحبه هذه العلامات، وقد ابتكروا هم لهذه الحالة علامة مميزة هي "هـ"، وسموها السكون، ودعوا مدلولها الحرف الساكن كالباء في نحو لم يضرب.

ص: 155

أما الحالة الثانية فيقصدون بها كل حروف المد في نحو دعا، أدعو، أرمي، فهذه الحروف عندهم "لا يكنَّ إلا سواكن، لأنهن مدات والمدات لا يتحركن أبدًا"1.

وما سميت هذه المدات سواكن -على ما نفهم من كلامهم- إلا لخلوها من علامات الحركات الثلاث "الفتحة والكسرة والضمة القصيرات"، وإلا فمن المستحيل تسميتها سواكن، على أي وجه فسرت السكون ومعناه، أي سواء أعددته حركة ملفوظة، أم أخذته على أنه حذف الحركة أو عدمها، لعدم انطباق هذه المعاني جميعا على حروف المد من الناحية النطقية.

فمن الواضح أن ما سموه حروف المد ليس إلا تعبيرا قديما عما يعرف في الاصطلاح الصوتي الحديث بالحركات الطويلة: الفتحة والكسرة والضمة الممثلة كتابة بالألف والياء والواو بهذا الترتيب. فكيف إذن تكون هذه المدات حركات، ثم نسميها سواكن أو ننعتها بصفة السكون؟

إن هذا الذي رأوه بالنسبة لهذه المدات ليس إلا تناقضا صريحا أوقعهم فيه عدم قدرتهم على التفريق بين الصوت والرمز الكتابي الذي يشير إلى هذا الصوت. وكثيرا ما اختلط الأمر على بعضهم فبنوا قواعدهم على النظر إلى الرموز دون الأصوات الحقيقية، الأمر الذي أدى إلى وقوع اضطراب مصحوب بعدم دقة فيما وصلوا إليه من قوانين صوتية وغير صوتية.

فمن المألوف مثلا قولهم: الفعل في لم يرم مجزوم بحذف الياء، على حين أن المحذوف إنما هو الرمز الكتابي، لا الصوت، وإنما الصوت الممثل في الحركة الطويلة "ii" قد قصر وصار "i" فقط، إذ التصوير الصوتي للفعل قبل الجزم هو "yarmii"، ولكن بعد الجزم أصبح "yarmi".

1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص31.

ص: 156

وإذا قيل إنهم يقصدون بالياء هنا الحركة لا الرمز؛ إذ هي مدة والمدة -كما هو معروف ومفهوم من كلام بعضهم- حركة طويلة إذا قيل هذا، ظل الاعتراض قائما وهو أن الياء بوصفها حركة لم تحذف وإنما أصابها القصر فقط. ومعنى هذا كله أن التعبير بحذف الياء على أن من التفسيرين تعبير غير دقيق.

ولكنا مع هذا لا ننكر بحال أن بعضهم يدرك تماما ما لهذه المدات من قيم صوتية، وأن بينها وبين الحركات علاقة هي علاقة الكل بالجزء أو العكس، ويفهم هذا بوضوح من قول ابن جني:

"اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو. فكما أن هذه الحروف ثلاثة فكذلك الحركات ثلاث، وهي الفتحة والكسرة والضمة. فالفتحة بعض الألف والكسرة بعض الياء والضمة بعض الواو. وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة والكسرة الياء الصغيرة والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة"1.

ولكنهم على الرغم من هذا الفهم الواعي الدقيق لم يسلموا من البعد عن جادة الصواب أحيانا، فنظروا إلى هذه المدات نظرتهم إلى "الساكن" وعاملوها معاملته في كثير من الأحكام الصوتية والصرفية. وذلك يرجع -كما قلنا- إلى انخداعهم بغياب علامات الحركات الثلاث القصار، متأثرين في ذلك بالرموز الكتابية.

أما هذه المعاملة فتظهر في كثير من الحالات، نكتفي بالإشارة إلى أمثلة منها لتوضيح ما نقول. وأكثر ما جاء من هذا الباب قصد به تفسير قاعدتهم المشهورة: وجوب "التخلص من التقاء الساكنين". ويقع هذا التخلص في حالة السكون "بمعنى عدم الحركة" بتحريك الساكن، ولكنه يتم في حالة المدات بحذفها، كما رأوا هم في نحو المثال التالي:

1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص19.

ص: 157

"لم يقل" أصلها: عندهم "لم يقوْلْ" التقى ساكنان "الواو واللام"، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. أما حقيقة الأمر -كما نراها نحن- فهي أن الواو هنا رمز للضمة الطويلة "uu"، وليست صوتا ساكنا، وفي هذا السياق قصرت هذه الضمة فصارت "u" فقط؛ لأن التركيب المقطعي للعربية الفصحى يمنع وجود حركة طويلة، متلوة بصوت غير متحرك إلا في حالة الوقف، وفي باب دابة ونحوها مما كان الأول من "الساكنين" فيه حرف مد والثاني مدغما في مثله. أو بعبارة أخرى قريبة إلى الاصطلاح الصوتي، نقول: إن التركيب المقطعي ص ح ح ص1 ممنوع في اللغة العربية إلا في هاتين الحالتين المذكورتين.

ومن نحو ما تقدم كذلك قولهم في "لتكتُبنّ" مثلا، أصلها: لتكتبون "أي بعد حذف نون الرفع"، التقى ساكنان، الواو والنون فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. فإذا ما سئلوا: لم حذفت الواو بالذات؟ أجابوا بأن حذف النون يفوت غرض التوكيد، على حين أن حذف الواو لا يفوت غرضا، ولأنها لو لم تحذف التقى ساكنان، هذا بالإضافة إلى وجود ضمة قبلها تدل عليها عند الحذف. قال شارح المراح:

"وحذفوا واو ليضربوا، أي: حذفوا الواو من الجمع المذكر من الأمر الغائب عن زيادة نون التوكيد الثقيلة، وكذا من الأمر المخاطب نحو: اضربوا للتخفيف، اكتفاء بالضمة، ولأنه لو لم يحذف التقى ساكنان، مع أنه لا التباس. وحذفوا ياء اضربي، أي: وحذفوا الياء من المفرد المؤنث المخاطبة عند زيادة النون الثقيلة أيضا للتخفيف اكتفاء بالكسرة. ولا يرد أن يقال: إن الواو والياء علامتان والعلامة لا تحذف، لأن الحركتين اللتين قبلهما تدلان عليهما فكانا كأنهما لم تحذفا"2.

1 ص = صوت صامت consonant وح ح = حركة طويلة long vowel.

2 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص60.

ص: 158

وفي هذا النص ما يدل على الخلط بين الرمز الكتابي والصوت. فمن المؤكد أن الذي حذف إنما هي الواو أو الياء بوصفهما رمزا كتابيا لا بوصفهما صوتا.

أما الواو والياء بهذا الوصف الأخير فقد لحقهما التقصير، فصارتا ضمة "u" وكسرة "i" بعد أن كانتا واوا "uu" وياء "ii"بسبب امتناع التركيب المقطعي المشار إليه سابقا في هذا السياق1. ومعنى هذا أن الضمة والكسرة اللتين نصوا على أنهما تدلان على الواو والياء "المحذوفتين" ليستا أجنبيتين عن الواو والياء، أو ليستا غير متصلتين بهما، وإنما هو في حقيقة الأمر بعضهما، على ما نص عليه ابن جني وغيره من الواعين لهذه الظاهرة. وقد قام هذا البعض مقام الكل بسبب صوتي وظيفي phonological يتسق مع النظام المقطعي للغة العربية.

ومن أمثلة الخلط بين السكون بمعناه العام "وهو عدم الحركة" وبين حروف المد قولهم: إن "ذو" الطائية مبنية "على سكون الواو عند بعض طيئ".

والحقيقة -من وجهة النظر الصوتية- هي أن هذه الكلمة تلزم الواو أو الضمة الطويلة في جميع الحالات. وليست هذه الواو ساكنة إلا إذا فسر السكون بالخلو من علامة الحركات القصار، على ما يفهم من كلامهم وهو وهم آخر، كما ألمعنا إلى ذلك فيما سبق.

على أن هذا الذي نراه من وجوب القول بلزوم "ذو" الواو أو الضمة الطويلة، لا القول بأنها مبنية على سكون الواو يتمشى مع ما قرروه هم

1 هذ التفسير نفسه يتمشى مع قواعدهم الأخرى. فالمعروف أن الواو هنا فاعل، فالقول بحذفها يعني حذف الفاعل وهو غير جائز عندهم. أما القول بالتقصير "تقصير الضمة الطويلة الممثلة كتابة بالواو" فيعني وجود الفاعل ولكن بصورة أخرى هي الضمة القصيرة، لا الواو. وهذا يعني أن مورفيم morpheme الفاعلية في نحو: يكتبون له صورتان؛ إحداهما: الواو أو الضمة الطويلة، والثانية: الضمة القصيرة عند التوكيد بالنون.

ص: 159

أنفسهم بالنسبة لهذه الصيغة، عندما رووا رأيا ثانيا ينص على أن بعضا آخر من طيئ "يعربها بالحروف حملا على ذي بمعنى صاحب"1. فهذا القول يعني أنها تعرب بالواو في حالة الرفع، وهذه الواو -كما هو واضح- ليست إلا مدة أو ضمة طويلة "uu" ولا أثر للسكون فيها على رأيهم أو رأي غيرهم على سواء. وإذا صح هذا بالنسبة لهذه الحالة، لزم كذلك القول بأن "ذو" تلزم الواو في حالة البناء، وأنها ليست مبنية على السكون إذ لا فرق بين الحالتين "حالة الرفع على القول بإعرابها وحالة البناء مطلقا" من ناحية النطق، فهي تنطق "thuu" فيهما. وإذا كان هناك من فرق بين الحالتين فإنما يتمثل ذلك فقط في اختلاف وجهات نظر اللغويين إلى هذه الصيغة، حيث يرى بعضهم بناءها ويقرر آخرون إعرابها. ولكن اختلاف الرأي في هذا الحكم لا يصلح مسوغا بحال من الأحوال لتغيير الحقيقة الصوتية المنطوقة بالفعل، تلك الحقيقة هي أن "ذو" تنطق بمدة واوية أو ضمة طويلة "uu" وأنها خالية مما سموه سكونا سواء أحكمت عليها بالرفع "في حالة الإعراب" أم اخترت بناءها في كل الحالات.

وهناك من التصريحات ما هو أدخل مما تقدم في الخلط بين السكون وطبيعة أصوات "المد""الحركات الطويلة المسماة الألف والياء والواو" وما يتضمن في الوقت نفسه خلطا بين الرموز الكتابية والأصوات.

ويتضح هذا بصفة خاصة في تلك العبارات المشهورة من نحو قولهم: "أحرف المد المسبوقة بحركة تجانسها" أو قولهم: "أحرف المد هي الألف والياء والواو الساكنة إذا سبقت بحركة من جنسها"، أي: أن تكون هناك فتحة قبل الألف وكسرة قبل الياء وضمة قبل الواو. ومن هذا القبيل تصريح

1 حاشية الخضري على ابن عقيل جـ1 ص35.

ص: 160

حفني ناصف بأن من صفات الأصوات "المد ويختص بالأحرف "وي ا" الساكنة المسبوقة بحركة مجانسة"1.

فهذه الأحرف في نظرهم مدات وهي في الوقت نفسه ساكنة، وهذه المدات كذلك مسبوقة بحركات مجانسة. حكمان لا صحة لأحدهما، ويدلان على اضطراب في فهم حقائق الأشياء. فكونهما مدات يعني بداهة كونها حركات طويلة "uu-ii-aa" وذلك يبطل كونها ساكنة، إذ السكون عدم الحركة. وعلى هذا لا يمكن فهم كلامهم هنا إلا على تفسير السكون بأنه خلو من علامة الحركات القصار. ولكن الخلو من هذه العلامة "وهي رمز كتابي لا صوت" لا يعني عدم الحركة في النطق دائما، فقد يتحقق هذا العدم في نحو لم يضرب، وربما لا يتحقق كما في نحو غزا، ويرمي، ويدعو، حيث تنتهي هذه الكلمات بحركات طويلة، هي أصوات المد التي نعتوها بالسكون خطأ بسبب خلوها من علامات الحركات القصار.

أما أن هذه المدات مسبوقة بحركات تجانسها فهو وهم آخر لا أساس له من الصحة؛ إذ ليست هناك حركات سابقة أو لاحقة، وإنما المدات نفسها هي الحركات وهي حركات طويلة ويرمز إليها في الكتابة بالرموز المعروفة "اوي = aa: قال، uu: يدعو، ii: أرمي". وقد ساقهم إلى هذا الاضطراب عدم قدرتهم على التمييز بين الرمز والصوت أو المكتوب والمنطوق.

فالواو مثلا بوصفها رمزا في نحو: أدعو، يمكن تسميتها "ساكنة" بمعنى أنها خالية من علامات الحركات القصيرة، ولكنها بوصفها صوتا حركة طويلة. ويبدو أن علماء العربية قد اعتمدوا على الاعتبار الأول دون الثاني، ومن ثم كان حكمهم عليها بالسكون وأنها مسبوقة بحركة تجانسها هي الضمة، مخدوعين في ذلك بالرسم الكتابي. وقد زاد في هذا الخداع ما عمد

1 حفني ناصف: أو تاريخ الأدب، أو حياة اللغة العربية ص21.

ص: 161

إليه بعضهم من وضع علامة لما ظنوه حركة قصيرة تسبق حروف المد، فوضعوا فتحة قبل الألف في "قال" وكسرة قبل الياء في "أرمي" وضمة قبل الواو في "أدعو".

وهذا -في رأينا- سلوك خاطئ تماما من وجهة النظر الصوتية، إذ الحروف هنا ليست ساكنة ولا مسبوقة بحركة، إنها نفسها هي الحركات "وهي طويلة" وقد أشير إليها كتابة بالألف والياء والواو. ومعنى هذا أننا لسنا في حاجة إلى وضع علامات الحركات القصار قبل هذه الحروف، أو ليس هناك من الأصوات ما تمثله أو تشير إليه. وانتفاء الأصوات يقتضي -ضرورة- انتفاء الرموز، إذ الرموز تابعة للأصوات لا العكس.

ومن هذا الضرب كذلك ما جاء في كلام بعضهم من حكمهم على الألف بأنها حركة وأنها ساكنة في الوقت نفسه. وهو في حقيقة الأمر تناقض صريح أوقعهم فيه الخلط بين السكون وبين القيم الصوتية لأحرف المد.

يرى صاحب المراح أن الفعل الماضي إنما بني على الفتح، لأن الفتح "أخو السكون ولأن الفتحة جزء الألف، والألف أخو السكون". ثم يعلق عليه شارحه بقوله: "يعني أن بين الفتح والسكون مناسبة، وبين الألف والسكون مناسبة أيضا، لأن الألف ملزوم السكون لأنه ساكن أبدا، فيكون بين الفتح والسكون مناسبة، وحيث تعذر السكون صير إلى ما يناسبه من الحركات عملا بالأصل بقدر الإمكان"1. فالألف في نظرهم حركة طويلة لأنه "مركب من فتحتين" وهو قول صحيح مقبول، ولكنه كذلك ساكن عندهم، وهو وهم واضح، والجمع بين هاتين الصفتين أمر ترفضه طبائع الأشياء.

ولقائل أن يقول: لعل علماء العربية أطلقوا المصطلح "ساكن" على الواو والياء والألف في نحو: أدعو وأرمي وقال، للتفريق بينها وبين الواو والياء

1 مراح الأرواح ص25.

ص: 162

والألف في مثل وعد، يعد، وأعد1؛ حيث جاءت متحركة أي: متلوة بحركة في هذه الأمثلة الأخيرة.

ورأينا أن هذا الاحتمال -على فرض صحته- يشير إلى أن هؤلاء القوم يدركون بصورة ما طبيعة الفروق بين حالتي هذه الحروف. ولكن هذا الاصطلاح الذي أطلقوه على هذه الحروف في الأمثلة الأولى ما زال يخالف الواقع اللغوي، فهي في هذه الأمثلة حركات طويلة أو مدات، وليست بساكنة ولا يصح تسميتها كذلك إلا على احتمال واحد هو: تفسير السكون بالخلو من علامات الحركات القصار. وهذا التفسير مرفوض من وجهة النظر العلمية، بسببين اثنين:

أولهما: أن في هذا النهج اعتمادا على الرموز لا الأصوات الفعلية في تقعيد القواعد، وهو ما لم يأخذ به أحد، لأن الرموز في عمومها وسائل كتابية ناقصة لا تفي بحاجة النطق في كثير من الأحيان.

ثانيهما: أن الاعتماد على الرموز دون الأصوات الحقيقية كثيرا ما يؤدي إلى الخلط والاضطراب، كما رأينا في تلك الأمثلة، التي أوردناها سابقا، للتدليل على وقوع علماء العربية في أخطاء صوتية وصرفية بهذا السبب نفسه.

1 الألف في العربية تطلق على الهمزة كما في نحو: أعد ويسميها بعضهم الألف المتحركة، وعلى ألف المد في نحو قال وتسمى عندهم بالألف الساكنة، أو اللينة. انظر مراح الأرواح ص60.

ص: 163