الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الألف
المرحلة الأولى
…
الألف:
فكرة تاريخية 1:
الألف اسم لمدلولات عدة، مرت -في نظرنا- بمرحلتين تاريخيتين مختلفتين.
المرحلة الأولى:
كانت الألف تطلق في الأصل -بحسب التاريخ المعروف لنا- على الألف، أو على ما عرف في مرحلة تاريخية متأخرة نسبيا باسم "الهمزة"، أي: ذلك الصوت الذي ندعوه حديثا الوقفة الحنجرية glottal stop، والرمز الأصلي لهذا الصوت هو "ا" بدون رأس العين الصغيرة "ء" فوقه أو تحته ومعنى هذا أن الألف -اسما ورمزًا- لم تكن في المراحل الأولى ما يسمى أخيرا بالألف المد أو ما ندعوه في اصطلاحنا الفتحة الطويلة "aa"، كما في نحو: قال. ويكاد يكون من المؤكد أن الفتحة الطويلة "ألف المد" لم يكن لها علامة كتابية في هذه المرحلة، شأنها في ذلك شأن الحركات القصيرة كلها "الفتحة والكسرة والضمة"، والحركتين الطويلتين الأخريين، الضمة والكسرة "= واو المد ويائه: uu و ii" كما تظهران في نحو: تقول وأبيع.
ولا يظنن ظان أن العرب في المراحل الأولى لم يكونوا يعرفون الهمزة بوصفها صوتا، أو أن الهمزة صوت حديث في اللغة العربية. إن الهمزة من أصوات العربية منذ التاريخ المعروف لنا. ولكن هذا الصوت لم يسم بالهمزة في المراحل الأولى، وإنما كان يسمى ألفا ورمزه "ا" كما سبق آنفا.
1 نشر هذا الجزء التاريخي الخاص بالألف في مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الثاني والعشرين سنة 1967.
أما أن الألف هي اسم الهمزة "الوقفة الحنجرية" في الأصل فأدلته كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1-
من خواص الأصوات العربية أن قيمها الصوتية يعبر عنها دائما بصدر أسمائها. فالاسم "كاف" مثلا يعبر صدره وهو "ك" عن الصوت "ك". وكذلك الاسم "ألف" يعبر صدره صوتيا عما سمي أخيرا الهمزة. وفي هذا المعنى يقول ابن جني: "إن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه. ألا ترى أنك إذا قلت: جيم فأول حروف الحرف "جيم". وإذا قلت: دال فأول حروف الحرف "دال" وإذا قلت: حاء فأول ما لفظت به "حاء"، وكذلك إذا قلت: ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة"1.
ويقول حفني ناصف: "للحروف العربية خواص لم تجتمع في غيرها من اللغات الأخرى. منها أن مسمياتها دائما في صدر أسمائها، فصدر كلمة ألف "ء" وصدر كلمة باء "ب" وصدر كلمة جيم "ج" وهكذا لآخر الحروف"2.
3-
وأصرح من هذا وأوضح في هذا الشأن ما قرره ابن جني في مكان آخر، وروي مثله عن أبي العباس المبرد "وإن كانت هذه الرواية في معرض الاعتراض على المبرد في مشكلة أخرى تتعلق بالهمزة"، انظر فيما بعد.
1 ابن جني: سر صناعة الإعراب، جـ1 ص47.
2 حفني ناصف: تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية ص28، ط2 سنة 1958 وانظر ابن يعيش، شرح المفصل جـ10، ص126.
3 انظر: حفني ناصف، المرجع السابق ص40-43.
يقول ابن جني: "إن أبا العباس كان يعد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا، وجعل الباء أولها ويدع الألف من أولها ويقول: هي همزة" أي أن الألف نطقا ورسما هي ما عرف بالهمزة في فترات متأخرة. وهذا القول فيما يتعلق بهذه المنطقة هو ما رآه ابن جني نفسه حيث يقول: "اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة"1.
أما أن أبا العباس قد ترك الألف "الهمزة" ولم يذكرها في الأبجدية؛ فذلك لأنها -كما تقول عبارته التي رواها ابن جني- "لا تثبت على صورة واحدة، وليست لها صورة مستقرة، فلا أعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة"2.
وهنا نرى أن المبرد قد وقع في خطأ واضح إذ هو قد خلط -بعبارته هذه- بين مستويين: مستوى النطق ومستوى الكتابة. إنه يعلل تركه للهمزة وعدم ذكره لها في الألفباء بتغير صوتها وعدم استقرارها على حالة واحدة. والواقع أن الذي يتغير إنما هي الصورة الكتابية للهمزة لا نطقها. فمن المؤكد أن الهمزة تنطق سواء أكتبتها على ياء أم واو، وبالطبع حين تكتب على صورتها الأصلية وهي الألف. وقد أدرك ابن جني بثاقب نظره هذا الخطأ الذي وقع فيه أبو العباس، فاعترض عليه بعبارة تنم عن ذكاء وعمق في فهم الحقائق، حيث استطاع أن يتذوق ما لم يستطع المبرد تذوقه من معرفة الفرق بين النطق والكتابة. يقول: "أما إخراج أبي العباس الهمزة من جملة الحروف واحتجاجه في ذلك بأنها لا تثبت صورتها فليس بشيء. وذلك أن جميع هذه الحروف إنما
1 ابن جني: المرجع السابق ص46، وانظر أيضا: ابن يعيش، شرح المفصل جـ10 ص126. وإطلاق الألف على الهمزة نلحظه كثيرا في كتاب العين للخليل بن أحمد، من ذلك مثلا ما جاء هناك من أنه حين أراد تأليف الحروف أعمل فكره فلم يمكنه "أن يبتدئ التأليف من أول أب ت ث وهو الألف". فالألف هنا يقصد بها الهمزة. ومع ذلك كان يطلق المصطلح الآخر وهو "الهمزة" على هذا الصوت نفسه، كما يبدو في قوله:"وأما الهمزة فمخرجها من أقصى الحلق". انظر كتاب العين للخليل بن أحمد، تحقيق د. عبد الله درويش: جـ1 ص52، 58.
2 ابن جني: المصدر السابق ص46.
وجب إثباتها واعتدادها لما كانت موجودة في اللفظ الذي هو قبل الخط. والهمزة موجودة في اللفظ كالهاء والقاف وغيرها، فسبيلها أن تعتد حرفا كغيرها"1.
وإذا كان المبرد يعني بعبارته السابقة تغير الهمزة نطقا كذلك، كما في حالة التخفيف مثلا فنحن ندفع هذا الظن بأن التخفيف في الهمزة لهجة، وذلك أمر ثابت لديهم. جاء في مراح الأرواح وشرحه، أن الهمزة "قد تخفف، لأنها حرف ثقيل إذ مخرجه أبعد من مخارج جميع الحروف لأنه يخرج من أقصى الحلق فهو شبيه بالتهوع المستكره لكل أحد بالطبع، فخففها قوم وهم أكثر أهل الحجاز وخاصة قريش. روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: "نزل القرآن بلسان قوم وليسوا بأصحاب نبر. ولولا أن جبريل نزل بالهمزة على النبي عليه السلام ما همزتها" وحققها آخرون وهم تميم وقيس"2.
وإذا ثبت أن التخفيف في الهمزة لهجة وجب علينا حينئذ أن ننظر إليه في إطار هذه اللهجة وحدها لا في إطار اللغة بعامة، حتى نتجنب الخلط الذي ينتج عن تداخل اللغات. وقد تنبه ابن جني إلى هذا الخلط في اعتراض له آخر وجهه إلى المبرد لتركه الألف "الهمزة" من الألفباء بسبب تغير صوتها، يقول: "وإنما كتبت الهمزة واوا مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف. ولو أريد تحقيقها ألبتة لوجب أن تكتب ألفا على كل حال. يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفها ولا تكون فيه إلا محققة، لم يجز أن تكتب إلا ألفا، مفتوحة كانت، أو مضمومة، أو مكسورة، وذلك إذا وقعت أولا نحو أخذ، وإبراهيم. فلما وقعت موقعا لا بد فيه من
1 ابن جني: المرجع السابق ص48.
2 النبر هنا معناه الهمز ويؤخذ من بقية الكلام أن كلمة "الهمز""بمعنى الوقفة الحنجرية" كانت معروفة زمن علي بن أبي طالب. انظر مراح الأرواح في علم الصرف لأحمد بن علي بن مسعود وشرحه لابن كمال باشا ص98 طبعة 1937.
تحقيقها اجتمع على كتبها ألفا ألبتة. وعلى هذا1 وجدت في بعض المصاحف "يستهزأون" بالألف قبل الواو ووجد فيها أيضا "وإن من شيأ إلا يسبح بحمده"[الإسراء: 44] بالألف بعد الياء، وإنما ذلك لتوكيد التحقيق"2.
وهكذا يكشف لنا ابن جني العظيم في هذا الرد عن نقطة أخرى مهمة، لا في هذا المقام فحسب، بل في مناهج البحث اللغوي بعامة. ذلك أن عبارته السابقة تعني أننا في معاملتنا للهمزة نخلط بين لهجتين "بيئتين لغويتين" وبين مستويين كذلك: مستوى النطق ومستوى الكتابة. فنحن في النطق ننطق الهمزة وبذلك نتمشى مع اللهجة أو اللهجات التي تحققها، ولكننا في الكتابة نكتبها أحيانا على واو أو ياء "أما كتابتها بالألف فهو الأصل بالطبع" مراعين في ذلك تلك الصور التي تصير إليها الهمزة في لهجات التخفيف ومعناه أننا في النطق نتبع لهجة أو لهجات معينة، ولكننا في الكتابة نأخذ بحكم لهجة أو لهجات أخرى، تلك هي التي تخفف الهمزة.
وفي هذا العمل -في رأينا- خلط كبير تنتج عنه أحكام متناقضة أو متضاربة للظاهرة اللغوية الواحدة. أما سبب هذا الخلط فهو تعدد البيئة
1 الإشارة بهذا إلى مضمون ما تقدم. وهو أنها إذا لم تقع في أول الكلمة يخففها الحجازيون ويحققها غيرهم. ولذلك توجد في بعض المصاحف محققة مكتوبة على ألف على طريقة غير الحجازيين. هذا التعليق من عمل المحققين لكتابة سر صناعة الإعراب لابن جني، وهو في رأينا تعليق مهم! انظر سر صناعة الإعراب ص47.
2 ابن جني، المرجع السابق ص46-47. وورد مثل هذا القول عن ابن يعيش في شرح المفصل جـ10 ص126، حيث يقول: "والصواب ما ذكره سيبويه وأصحابه من أن حروف المعجم تسعة وعشرون حرفا، أولها الهمزة وهي الألف التي في أول حروف المعجم وهذه الألف هي صورتها على الحقيقة، وإنما كتبت تارة واوا وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف ولو أريد تحقيقها لم تكن إلا ألفا على الأصل. ألا ترى أنها إذا وقعت موقعا لا تكون فيه إلا محققة لا يمكن فيه تخفيفها -وذلك إذا وقعت أولا- لا تكتب إلا ألفا نحو: أعلم، أذهب، أخرج، وفي الأسماء: أحمد، إبراهيم، أترجة
…
وأمر آخر يدل على أن صورة الهمزة صورة الألف أن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه، ألا ترى أنك إذا قلت باء ففي أول حروفه باء، وإذا قلت ثاء ففي أول حروفه ثاء، وكذلك الجيم والدال وسائر حروف المعجم، فكذلك إذا قلت: ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة، فدل ذلك أن صورتها صورة الألف".
اللغوية أو عدم وحدة مصدر المادة المدروسة. وفي ظننا أن هذا الخلط وأمثاله كان من أكبر عوامل التعقيد والاضطراب في قواعد اللغة العربية، أصواتها وصرفها ونحوها. فكثيرا ما يحدث أن يضع علماء العربية قواعد مختلفة "متباينة أو متناقضة" للظاهرة اللغوية الواحدة. وذلك سببه أن هذه الظاهرة قد تكون مختلفة الخواص من لهجة إلى أخرى، أو أنها ذات مسلكين مختلفين فيهما. وربما يكتفون -في أحيان كثيرة- بوضع القاعدة العامة لهذه الظاهرة طبقا لما لاحظوه من خواصها في لهجة معينة، ثم يحكمون بالشذوذ أو عدم الصحة أو التأويل على خواصها الأخرى التي تتميز بها في لهجة أو عدد آخر من اللهجات. وهذا العمل من اللغويين العرب أمر معروف مشهور ويشيع تطبيقه بصفة خاصة على قواعد النحو.
والبحث اللغوي الحديث يوجب علينا منذ البداية "فيما يوجب" أن نحدد البيئة اللغوية للظاهرة المدروسة تجنبا للأحكام المتباينة لهذه الظاهرة. ورائدنا في هذا السبيل هو أن وحدة الحكم على الظاهرة اللغوية المعينة يجب أن تبنى على أساس وحدة الظاهرة نفسها في الذات والصفات، أو الخواص. فإذا ما تعددت أو اختلفت هذه الخواص وجب تعدد الأحكام، طبقا للمبدأ الذي ينص على وجوب تعدد الأنظمة في معالجة الظاهرة أو الظواهر التي تختلف خواصها. أما أن تخضع هذه الخواص المختلفة كلها لحكم واحد فهو عمل تعسفي ويعرض الدراسة للتعقيد والاضطراب. وإذا كان هذا هو الواجب اتباعه في وضع قواعد اللهجة الواحدة "البيئة اللغوية الواحدة" فما بالك حين تتعدد اللهجات أو البيئات؟
إننا حين تتعدد اللهجات يجب أن نضع قواعدنا طبقا للموجود في كل لهجة على حدة. ومعناه أننا إذا كنا من محققي الهمزة وجب أن نعطيها أحكام التحقيق على كل المستويات. وهذا يوجب علينا كتابتها بالألف دائما "وهو علامتها الأصلية" بقطع النظر عن موقعها وعن حركتها أو حركات ما قبلها وما بعدها. وواضح مما تقدم أن ابن جني يميل إلى هذا الرأي، وهو ما تؤيده
حقيقة الصوت وماهيته. فالهمزة كما سنعرف فيما بعد -من الأصوات الصامتة 1Consonants، "أو ما تسمى بالحروف الصحيحة في مقابل حروف العلة في نظر العرب".
1 الصوت الصامت "والجمع صوامت" هو ما يشار إليه بالمصطلح الإنجليزي Consonant، أي هو كل ما ليس "حركة" Vowel. ويسميه بعض الدارسين الصوت "الساكن" والتسمية بالساكن تسمية صحيحة مقبولة، إذ جرى العرف عليها منذ وقت ليس بالقصير. وقد حدد أصحاب هذا الاصطلاح ما يقصدون بهذا الاستعمال. ولكنا في هذا البحث "وأمثاله من كل ما نعرض فيه الألف والواو والياء" آثرنا استعمال المصطلح "الصامت" لسببين مهمين:
أولهما: أن الكلمة "ساكن" والجمع سواكن" قد تؤدي إلى لبس، إذ قد تؤخذ على أن المقصود بها هو الحرف المشكل بالسكون "على ما هي القاعدة العامة في البحوث الصرفية التقليدية"، على حين أن المراد هو كل صوت ليس حركة، سواء أكان مشكلا بالسكون أم بغيره من علامات الحركات.
ثانيهما: "وهذا هو المهم في هذا المقام بالذات" أن علماء العربية جروا على التوسع في مفهوم الكلمة "ساكن""وما تصرف منها" بإطلاقها -خطأ- على حروف المد: "الألف، والواو، والياء" أو ما تسمى الحركات الطويلة. وهذا -كما ترى- إطلاق مضلل، وبخاصة في هذا البحث وغيره، مما يعرض لهذه الحروف الثلاثة التي لا يصح بحال إطلاق اسم الساكن عليها في أي موقع كانت، اللهم إلا إذا قصد بالساكن -على ضرب من التوسع- الحرف الخالي من علامات الحركات. على أن هذه الحالة ذاتها مسألة تتعلق بنظام الكتابة، لا بواقع النطق والحقيقة الصوتية. وهما مدار العمل في هذا البحث وفي غيره من كل دراسة صوتية. ومن الجدير بالذكر أن استعمال المصطلح "صامت" ليعني كل ما ليس حركة أو حرف مد استعمال قديم. لقد جاء هذا الاستعمال واضحا في عبارة لبعضهم يقول فيها:"إن الابتداء بالساكن إذا كان مصوتا أعني حرف مد ممتنع بالاتفاق. وأما الابتداء بالساكن الصامت أعني غير حرف المد فقد جوزه قوم. فهو هنا يستعمل المصطلح "الصامت" بمعنى كل صوت ليس بحركة، طويلة "أي حرف مد" كانت، كما هو واضح من النص أو قصيرة، كما يظهر من بقية كلامه وهو: "ولا شك أن الحركات أبعاض المصوتات، فكما لا يمكن الابتداء بالمصوت لا يمكن الابتداء ببعضه" شرح مراح الأرواح للمولى شمس الدين أحمد المعروف بديكنقوز، مطبعة الحلبي سنة 1937 جـ2، ص120". وهذا المصطلح نفسه "الصامت" يستعمله ابن سينا في معرض الكلام على حالتي الواو، والياء، حيث سماهما الواو والياء الصامتتين في نحو، "ولد، يلد"، والمصوتتين في نحو "أدعو، أرمي" وهي تسمية موفقة. وتقسيم موفق كذلك لحالتي الواو والياء، فالواو والياء، كما سنعرف في مكانه بالتفصيل إما صوتان صامتان "Consonants" أو كما يقال أحيانا: أنصاف حركات "Semi-vowels" وإما حركتان هما الضمة والكسرة الطويلتان، أو واو المد وياؤه، أو ما أشير إليهما هنا بالمصوتين، على =
وقد صرح علماء العربية أنفسهم بهذا المعنى فحكم الهمزة عندهم "كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"1، فهي إذن في أحكامها الصوتية والكتابية مثل الباء، والتاء
…
وغيرهما من الصوامت، ومن ثم وجبت معاملتها معاملة هذه الأصوات من حيث كتابتها وتصويرها بالرسم فكما يكتب صوت الباء، والتاء، بالباء أو التاء دائما -أي: بقطع النظر عن موقعها الصوتي- وجبت كتابة الهمزة ألفا دائما كذلك2.
أما إذا كنا من أصحاب التخفيف في الهمزة دائما "كأن يكون ذلك من خواص لهجة معينة" أو أحيانا "كما قد يحدث في بعض الصيغ أو المستويات الكلامية"، فالأمر حينئذ مختلف تماما. إننا في هذه الحالة يجب أن ندرس الموجود بالفعل. سواء أكان ذلك الموجود ياء أم واوا أم ألف مد، لأنا حينئذ لا نتعامل مع الهمزة، وإنما مع شيء مختلف عنها تماما من الناحية الصوتية في الأقل. إن التخفيف في نظرنا تخفيف لا همز. ويجب أن ينظر إليه دائما بهذه الصفة، لأنا في منهج الوصف نعني بالموجود أو بما هو كائن لا بما كان، أو بما يفترض أنه كان.
= عادة العرب في ذلك، كما هو واضح من النص السابق لشارح المراح وكما هو نص على ذلك أيضا ابن جني في خصائصه "جـ3 ص124"، وتنضم إليهما ألف المد في هذه الحالة الأخيرة. والتعبير "بصامت" ليعني كل صوت ليس بحركة تعبير دقيق إذ هو يصف خاصة من الخواص الأساسية لهذه الأصوات، وهي ضعف الوضوح السمعي إذا قيست بالحركات التي تتسم بقوة الوضوح السمعي نسبيا. ومن هذا نرى أيضا أن علماء العربية قد أجادوا في وصفهم حروف المد "الحركات الطويلة" بالحروف المصوتة، إشارة إلى ما فيها من وضوح سمعي، ولكن فاتهم أن يطلقوا هذا الوصف صراحة على الحركات القصيرة، إذ هي أبعاض الحركات الطويلة "= حروف المد"، فما أطلق على الكل يجوز تطبيقه على الجزء بداهة. على أن التوسع في إطلاق المصطلح "مصوت" ليشمل الحركات طويلها وقصيرها مفهوم من نص شارح المراح السابق "= الحركات أبعاض المصوتات" كما يفهم أيضا من كلام ابن سينا، عندما يقول مثلا: "والواو المصوتة وأختها الضمة
…
" انظر في هذا الموضوع. أسباب حدوث الحروف لابن سينا، بتحقيق محب الدين الخطيب، مطبعة المؤيد 1322هـ، ص13.
1 مراح الأرواح ص98.
2 وإنما تكتب بالألف بالذات لأنه صورتها الأصلية.
وفي الحق أن علماء العربية قد خلطوا في قواعد الهمزة "من تحقيق وتخفيف وقلب، وإبدال
…
إلخ" خلطا واضحا. وأساس هذا الخلط أنهم يعدون التخفيف وإخوته عارضا يعرض للهمزة، وربما يعدونه الهمزة بادية في صور مختلفة. وكان من نتيجة ذلك وجود عدد ضخم من الأحكام المتضاربة التي تتعلق بها وأحوالها، ولسنا لذلك مع ابن جني في قوله: أما انقلاب الهمزة "في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل فلا يخرجها من كونها حرفا، وانقلابها أول دليل على كونها حرفا"1 أي: حرفا مستقلا قائما بذاته هو همزة. فالهمزة -في رأينا- لم تقلب، وإنما الذي حدث هو أنها لم تنطق، وإنما نطق شيء آخر هو ياء، أو واو المد.
والذي عكر الصفو على ابن جني، وغيره من علماء العربية، هو اهتمامهم الكبير بالأصول الاشتقاقية للكلمات، وافتراضهم وجوب وجود هذه الأصول في كل الصيغ المتفرعة عنها. فوجود الهمزة في "خطيئة" مثلا كان يوجب وجودها في "خطايا". فعدم وجودها إذن إنما هو لعارض عرض لها، وقد تكلفوا هم بتوضيح هذا العارض وأمثاله في بحوثهم. على أن المسألة في حقيقتها أيسر من هذا بكثير: كلما وجدت الهمزة فهي همزة، وإلا فالموجود بالفعل هو الذي يؤخذ في الحسبان، أيا كانت صورته الصوتية.
كل ما تقدم خاص بالشق الأول من القضية، وهو أن الألف في الأصل هو الهمزة "الوقفة الحنجرية". أما الشق الثاني وهو أن الألف في المراحل الأولى لم يكن يعني ما يسمى ألف المد فيما بعد أو ما يسمى الآن الفتحة الطويلة "aa"، كما في نام مثلا، فسوف تتبين حقيقة الأمر فيه من المناقشة التالية التي سوف نتناول فيها المرحلة الثانية من مراحل استعمال "الألف" وتطور مدولاتها.
1 ابن جني، المرجع السابق ص48.