الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك في: "ايمن وايم". ورجحان الكسر على الضم وذلك في كلمة: اسم، وجواز الضم والكسر والإشمام وذلك نحو: اختار، وانقاد مبنيين للمفعول، ووجوب الكسر وذلك فيما بقي وهو الأصل"1.
ومعنى هذا أن حركة همزة الوصل في جميع الحالات -باستثناء حالتي ال وايمن "وايم لغة فيها"- روعي فيها أن تكون متناسبة في النوع وأكثر الصفات مع الحركة التالية لها في الكلمة، سواء أكان ذلك بحسب أصل الكلمة أم بحسب الصورة التي توجد عليها. وفي هذا السلوك الصوتي الذي تسلكه هذه الحركة ما ينهض دليلا آخر على ما افترضناه من عدم وجود همزة وصل وتأكيد ما ادعيناه من وجود تحريك أو "صُوَيْت" تبدأ به الكلمة في مكان الهمزة التي أوجب اجتلابها علماء العربية. وهذا الصويت هو الذي يتشكل بشكل الحركة التالية له.
1 السابق جـ4 ص 208-209.
الدليل الرابع:
يبدو لنا أن هناك إحساسا من نوع ما بين اللغويين العرب بأن ما سموه همزة وصل ليس إلا "نقلة" حركية تختلف في طبيعتها وصفاتها عن كل من الأصوات الصامتة consonants والحركات vowels. يتمثل هذا الإحساس في جملة من تصريحاتهم ومناقشاتهم المتناثرة هنا وهناك في التراث اللغوي. من ذلك مثلا وصفهم للهمزة بأنها "للوصول" أو "الوصل".
أما الأول: "وهو كونها للوصول أو التوصل" فمعناه أنها تساعد المتكلم وتوصله إلى النطق بالساكن. وما كانت الأصوات الصامتة في رأيهم -باستثناء الهمزة- وسيلة أو موصلا سهلا إلى هذا الهدف. أما الهمزة -وهي ما خرجت عن هذه القاعدة في نظرهم- فنحن نشك في قيامها بهذه الوظيفة كذلك، إذ هي الأخرى صوت صامت له صفات الصوامت وخواصها.
فما ينطبق على هذه الصوامت ينطبق عليها، لاتحادها جميعا في المميزات الأساسية التي سوغت جمعها وضمها بعضها إلى بعض تحت باب واحد، هو باب الأصوات الصامتة. أما ما قد يدعيه بعضهم من أن الهمزة تنفرد ببعض مميزات معينة، كالتسهيل أو التخفيف أو الحذف إلخ فهو مردود بأن هذه الظواهر وغيرها ظواهر مستقلة، لا تنسب إلى الهمزة، وإنما تنسب إلى نفسها بوصفها أحداثا لغوية ذات كيان خاص وقعت في سياقات أو لهجات معينة، تقابلها سياقات أو لهجات أخرى تظهر فيها الهمزة.
أضف إلى هذا أن الهمزة بطبيعة نطقها -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- تناقض غرض التسهيل والتيسير في النطق. وهو الغرض الذي من أجله أوجبوا اجتلاب همزة الوصل، وقد أحس بهذا الذي نقوله بعض المدققين منهم. يقرر ابن كمال باشا أن الهمزة قد تخفف "لأنها حرف ثقيل، إذ مخرجه أبعد من مخارج جميع الحروف لأنه يخرج من أقصى الحلق. فهو شبيه بالتهوع المستكره لكل أحد بالطبع"1.
ولا يعترض على هذا بأن المقصود بهذا النص همزة القطع لا الوصل، إذ لا فرق عندنا في النطق بين الهمزتين، فالهمزة في كل الحالات همزة، وما الفرق بينهما إلا ظاهرة السقوط في درج الكلام لهمزة الوصل على الرأي القائل بوجودها. ولكن هذا السقوط ظاهرة سياقية contextual feature تخضع لظروف صوتية مختلفة، وقد تعرض لأصوات أخرى غير الهمزة، ومن أخصها الحركات.
والثاني: "وهو كونها للوصل" معناه أنها تصل ما قبلها بما بعدها لسقوطها في درج الكلام، وهذه الخاصة -في رأينا- تناسب الحركات، فهي التي تخضع لكثير من الظواهر الصوتية، كالتقصير والتطويل والحذف إلخ،
1 ابن كمال باشا: شرح مراح الأرواح ص98.
وهي التي تؤهلها طبيعتها لوصل الكلام. ونحن نعلم علم اليقين أن العربية تقرر وجوب وصل الكلام عند إظهار الحركات في أواخر الكلمات، وذلك مفهوم من قاعدتهم المشهورة:"لا يوقف على متحرك"؛ إذ معناه -بمفهوم المخالفة- وجوب الوصل عند التحريك.
ولسنا مع ذلك ندعي أن هذا الصوت الذي سموه همزة وصل حركة، وذلك لسببين:
أولهما: أن ذلك الصوت الذي يبدأ به النطق في نحو: "اضرب" و"اكتب" ليست له صفات الكسرة أو الضمة وخواصهما1. وذلك واضح تمام الوضوح لكل من له دراية بطبيعة هاتين الحركتين وطريقة تكوينهما في النطق الفعلي.
أما السبب الثاني: الذي يمنع افتراض كون هذا الصوت حركة فهو أن التركيب الصوتي للغة العربية يمنع ابتداء النطق بالحركات. وهذا يتمشى مع القانون الفنولوجي العام phonological rule لهذه اللغة: وهو عدم وقوع أي مقطع بها يبدأ بحركة.
وقد أدرك هذه الحقيقة بعض لغويي العرب، حيث نصوا على أن "الابتداء بالساكن إذا كان مصوتا أعني حرف مد ممتنع بالاتفاق. وأما الابتداء بالساكن الصامت أعني غير حرف المد فقد جوزه قوم. ولا شك الحركات أبعاض المصوتات
…
فكما لا يمكن الابتداء بالمصوت لا يمكن الابتداء ببعضه. ويمكن الابتداء بالصامت الساكن، فيجوز أن يقدم الصامت الساكن على الحركة، ولا يجوز أن تقدم الحركة على الحرف، وإلا يلزم الابتداء بالساكن الممتنع اتفاقا"2.
1 أما الهمزة المفتوحة في أداة التعريف وايمن قلنا فيها رأي خاص سيأتي بعد.
2 شمس الدين أحمد: مراح الأرواح ص120.
على أن القول بوجوب تحريك هذه الهمزة -قبل اجتلابها أو بعده- يقتضي سقوط صوتين لا صوت واحد في درج الكلام، هما الهمزة وحركتها كما يظهر في المثالين التاليين:
وإذا كانت همزة الوصل تتحمل الحركات -كما رأوا هم- فمعناه أنه صوت صامت consonant، له صفات الأصوات الصامتة، شأنها في ذلك شأن همزة القطع التي لم يختلفوا على كونها من هذه الأصوات. وقد جاء في كلامهم ما يؤيد هذه الحقيقة، حيث صرحوا بأن "حكم الهمزة كحكم الحرف الصحيح في جميع الأحكام"1 وفي عبارة بعضهم أن "حكم الهمزة كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"2.
ومتى ثبت أن همزة الوصل كهمزة القطع في كونها من الأصوات الصامتة وفي كونها تتحمل الحركات مثلها، كان من الواجب إعطاؤها
1 المرجع السابق ص98.
2 ابن كمال باشا، شرح مراح الأرواح ص98. ومما يذكر أن هذين العالمين استثنيا من شبه الهمزة بالحروف الصحيحة كونها تخفف "وذلك إذا لم يكن مبتدأ بها" لأنها حرف ثقيل. وعندنا أن هذا الاستثناء لا محل له، لأن التخفيف في نظرنا ظاهرة مستقلة عن الهمزة، تدرس ويقرر حكمها بحسب الحالة التي تبدو عليها بالفعل في الكلام المنطوق، وبمثل هذه الدراسة سوف يتضح لنا أن التخفيف ليس سوى لهجة أو ظاهرة تتعلق بالسياق.
أحكامها، في الأقل فيما يتعلق بهذه الحركات التي تشترك "الهمزتان" في تحملها. ولكنا مع ذلك نراهم يفرقون بينهما من هذه الناحية في حالات كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:
1-
أن البصريين نصوا على أنه "لا يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها" على حين "أجمعوا على جواز نقل حركة همزة القطع إلى الساكن قبلها نحو منَ ابوك"1.
2-
أنهم فرقوا بينهما وبين حركاتهما في الرسم؛ فقد جاء في صبح الأعشى أن المتقدمين كانوا يشيرون إلى الهمزة "همزة القطع"، "بنقطة صفراء ليخالفوا بها نقط الإعراب
…
ويرسمونها فوق الحرف أبدا. إلا أنهم يأتون معها بنقط الإعراب الدالة على السكون والحركات الثلاث بالحمرة
…
وسواء في ذلك كانت صورة الهمزة واوا أم ياء أم ألفا؛ إذ حق الهمزة أن تلزم مكانا واحدا من السطر، لأنها حرف من حروف المعجم. والمتأخرون يجعلونها عينا بلا عراقة، وذلك لقرب مخرج الهمزة من العين ولأنها تمتحن بها"2.
أما بالنسبة لهمزة الوصل فقد جاء في هذا المرجع نفسه أن المتقدمين كانوا يشيرون إليها برسم جرة بالحمرة "وأما المتأخرون فإنهم رسموا لذلك صادا لطيفة إشارة إلى الوصل، وجعلوها بأعلى الحرف دائما، ولم يراعوا في ذلك الحركات اكتفاء باللفظ"3.
فهذان النصان يقرران شيئين مهمين في هذا الباب، أولهما المخالفة بين الهمزتين في الرسم، وهو أمر يبدو ضروريا بالنسبة للقائلين بالفرق بينهما. ولكن يعكر الصفو عليهم ما قرروه هم من أن الهمزتين كلتيهما تتحملان
1 د. عبد الرحمن السيد: مدرسة البصرة النحوية "مخطوط مكتبة كلية دار العلوم" ص90.
2 القلقشندي: صبح الأعشى جـ3، ص163 "من مطبوعات: تراثنا".
3 المرجع السابق ص166.
الحركات، وهو ما يعني اتفاقهما أو وحدتهما من حيث النوع والصفات، وكان ذلك -بالطبع- يقتضي توحيد رسمهما وتصويرهما في الكتابة.
وإذا جازت المخالفة بين الهمزتين نفسيهما في الرسم، ما كان يجوز لهؤلاء العلماء أن يخالفوا بين حركاتهما؛ إذ لا فرق بين الحركات -وهذا أمر لا خلاف فيه- سواء أكانت تالية لهمزة القطع أم همزة الوصل: إن الحركة في أي سياق مهما يكن نوعه لا تخرج عن طبيعتها ومميزاتها الأصلية، وإن جاز تأثرها بوجه من الوجوه بالسابق أو اللاحق لها من أصوات، كما يظهر ذلك مثلا في تأثرها بالتفخيم أو الترقيق.
ولكن الذي حدث -وهو ما يدل عليه الأمر الثاني المستفاد من النصين السابقين- هو أن علماء العربية خالفوا بين الحالتين، حيث قرروا رموزًا خاصة بحركات همزة القطع، على حين أهملوا حركات همزة الوصل فتركوها عارية من الرموز "اكتفاء باللفظ".
ورأينا أن هذا السلوك الذي سلكوه تجاه الحركات هنا ربما يدل على أنهم أحسوا -وقد يكون إحساسا غامضا- بأن هناك فرقا بين الحركات في الحالتين، وهذا هو في الحقيقة ما نود توضيحه: ليست هناك حركات بالمعنى الدقيق، بل ليست هناك أيضا همزة وصل في تلك السياقات التي أوجبوا وجود هذه الهمزة فيها1. وإنما هناك تحريك يسير، حار علماء العربية في تحديده صوتيا وفي بيان حقيقته، ومن ثم خلطوا في وصفه وفي بيان أحكامه.
وقد يؤيدنا في هذا كذلك رأي البصريين السابق الذي نص على عدم جواز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها؛ إذ لا توجد هناك حركة تنقل، ولا همزة وصل "تسمح" بنقل حركتها إلى سابقها، على نحو ما يجري مع همزة القطع.
1 نستثني من ذلك همزة أداء التعريف وهمزة أيمن.