الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريب:
وإذا لم يوفق الدارس إلى ترجمة مصطلحاته الأجنبية إلى ما يقابلها في العربية بالوسائل المشار إليها سابقا فلا ضير عليه، بل ربما يتحتم عليه، أن يلجأ إلى التعريب. والتعريب أسلوب مشروع، وله أحكامه وضوابطه التي تعني في الأساس إخضاع المصطلح الأجنبي لشيء من التعديل أو التغيير في بنيته، ليطابق النظم الصوتية والصرفية في العربية. فالتعريب في مجال المصطلحات تابع للترجمة وتال لها، متى كانت الترجمة الدقيقة عصية المنال، أو كانت تنتظم تضحية بدقائق المعاني ومفاهيم المصطلح الأجنبي.
نقل المصطلح الأجنبي لحاله:
التعريب بضوابطه وأحكامه المقررة قد يصعب الأخذ به أحيانا، ومن ثم لا مانع لدينا من نقل المصطلح الأجنبي بصورته الأصلية كاملة غير منقوصة، حتى يستقر مفهومه ويتضح بصورة لا لبس فيها ولا غموض. ولا ضير بعد أن يعود إليه الدارس لترجمته، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وليس في التعريب أو النقل الحرفي للمصطلح ضرر أو منقصة في حالة استحالة الترجمة. إنما الضرر والمنقصة في التضحية بحقائق العلوم والتورط في استخدام مصطلحات غامضة أو قاصرة عن
التعبير
العلمي الدقيق. ومهما يكن من أمر، فجواز التعريب والنقل الحرفي ينبغي أن يكون مشروطا وموقوتا، وعلى الدارسين من أهل الاختصاص واللغويين أن يتحملوا مسئولياتهم ويبذلوا ما وسعهم الجهد في سبيل سد النقص والتخلص منه. وليس يكفي في هذا المجال ترجمة المصطلحات أو تعريبها أو نقلها، وإنما الأوفق أن ننصرف إلى ذوات أنفسنا ونعمل على تنشيط التفكير العلمي المبدع بصورة عربية في المادة والمصطلحات معا.
وخلاصة الرأي في هذا الموضوع كله -موضوع تعريب العلوم ونقل المصطلحات الأجنبية - أو التعريب ينبغي أن يكون تعريبا فكريا ولغويا معا، وهو بهذا المعنى مطلب قومي وعلمي واجتماعي. أما من الناحية القومية فالتعريب من شأنه أن يردنا إلى ذوات أنفسنا فننظر في طاقاتنا وكفاياتنا، ونعمل على استغلالها أو توظيفها في بلورة هويتها وتأكيدها، بحيث يصبح لها وزن ونوع خصوصية تصونها من الضياع أو الذوبان أو التبعية وسط هذا الحشد الهائل من القوميات والأيديولوجيات المتصارعة على التفوق وانتزاع السيطرة على العالم. ولا يكون ذلك -بالطبع- إلا باكتمال العدد والأدوات التي تؤهلنا للوقوف على أرض صلبة، تحمي شخصيتنا أو تفرقها بين القبائل. وأولى هذه العدد والأدوات ومصدرها الحقيقي يتمثل في الفكر الأصيل ومشاركته الفعالة بسلاح العلم الذي يضمن لنا موقعا ذا خصوصية عربية.
والتعريب من الوجهة العلمية هو بمثابة المرآة الكاشفة عن شخصيتنا، وهو الدليل على أهليتنا لاكتساب موقع يحمي حقيقتنا ويمكنها من الانطلاق نحو عالم أوسع وأرحب من الفعالية والمشاركة الإيجابية. إن التعريب ييسر سبل التحصيل والاستيعاب والهضم للدارسين، وينشط محصولهم اللغوي، الذي -بدوره- يعمل على تنشيط الفكر وتعميقه، بحيث يخرج لنا زادا عربيا أصيلا نشارك به في المسيرة العلمية في العالم، وليس من اللائق علميا أن ندور في فلك الآخرين بالاعتماد على لغاتهم والتفكير بها، وهو في رأينا تفكير لا جذور له ولا عمق فيه، لأنه موظف في الأساس في التقليد أو مجرد النقل عنهم.
والانصراف عن تجربة التعريب الفكري واللغوي، بالاعتماد على المحصول المعرفي المصدر إلينا أو المستورد من الخارج لا بد أن يجرنا -عاجلا
أو آجلا -إلى تبعية ثقافية واجتماعية. وهي تبعية أشد خطورة وأعمق تأثيرا، لاتساع دائرتها وتعدد مناحيها، إذ سوف تجر إلى ساحتها جميع الطبقات والفئات، وتهدد بيئتهم الاجتماعية وتشوه هويتهم الثقافية.
تحقيق مطلب التعريب قوميا:
تحقيق التعريب وجعله حقيقة واقعة لا يجدي فيه رفع الصوت أو إطلاق الشعارات في جانبه، كما لا تغني فيه جهود أفراد أو جماعات منهم في محاولة شق الطريق إلى هذا الهدف المنشود. إن إطلاق الشعارات ورفع الصوت بالنداءات الداعية إلى ضرورته وحتميته لا تلبث أن تفنى في الهواء دون إحداث أي أثر لها، سوى رجعها الذي يحشو الآذان ويشغل الأدمغة بالضوضاء. وكذلك تبقى جهود الأفراد أعمالا متناثرة هنا وهناك، محرومة من المنهجية والتكامل، الأمر الذي يفقدها قوة الفاعلية ويعرضها للتضارب، وربما التناقض أحيانا.
تحقيق التعريب قوميا، وبصورة علمية جادة، يحتاج إلى نظرة شاملة مبنية على تخطيط مرسوم ذي حدود وضوابط تكفل له التطبيق السليم، حسب الأهداف والغايات المنوطة به.
يقتضي الأمر في نظرنا تأسيس هيئة علمية تلقي إليها مسئولية النظر والدرس والتخطيط ووضع مناهج التنفيذ ومكانه وزمانه، وكيفياته. تشكل هذه الهيئة بحيث تنظم أعضاء من ذوي الاختصاص والخبرة والمعرفة الواسعة بالعلوم واللغة، وبحيث تكون مبرأة من الألوان السياسية أو الانحياز إلى اتجاهات أيديولوجية غير قومية أو إلى مرام شخصية أو نفعية. هدفها الأول والأخير خدمة العلوم في الإطار القومي العام.
ولقد أحسن "السودان" الشقيق صنعا حين أقدم في سبتمبر 1990م على تأسيس ما سموه "الهيئة العليا للتعريب"، متضمنا هذا التأسيس
القرارات واللوائح المنظمة لأعمالها ومسئولياتها تجاه أهدافها وغاياتها في إطار المصلحة القومية. والملاحظ أن هذه الهيئة السودانية قد قصرت مسؤلياتها على التخطيط ورسم السياسات العامة للتعريب ومتابعة إنجاز ما رسم وخطط في الجهات المعنية وهي الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث. فهي متابعة ضابطة داعمة، وليست متابعة تأمر أو تفرض أو تتدخل إلا في حدود المرسوم بلوائح الهيئة. إن وظيفتها التنسيق وتقديم الدعم الأدبي والمادي، ضمانا لإنجاح العمل وحمايته من الفوضى والاضطراب والتدخل والتكرار، وضمانا لاستمرارية العمل وتأكيد مسيرته بدفع عجلته بمنحه الأدوات والوسائل اللازمة من مال ومراجع ومكتبات ومستلزمات النشر، إلخ.
ومن شواهد هذا التنسيق والانضباط ما رأته الهيئة من قيام وحدات للتعريب بكل جامعة وكل كلية وكل قسم، مع الربط بينها جميعا، حتى تنساب المعلومات من القسم مرورا بالكلية والجامعة حتى مركز التنسيق الممثل في الهيئة ذاتها، وبالعكس.
والملاحظ كذلك أن هذه الهيئة قد توسعت في مفهوم التعريب، بحيث يشمل الترجمة والنقل من الآثار الأجنبية. وهذا النهج مقبول في هذه المرحلة البادئة التي يرجى لها أن تنتهي إلى تأصيل الفكر العربي، بحيث يسهم في النشاط العلمي العالمي بالابتداع والمشاركة الفعالة التي قد تصقلها وتعمقها الترجمات الضرورية حسب الحالة والظرف المعين.
وفي رأينا أن موقعنا العلمي والأدبي يفرض علينا أن نكف عن الجدل وننطلق إلى خطوة عملية يجسدها إنشاء هيئة أو تعيين جهة معينة تتولى هذه المسئولية وتبدأ في الإعداد والتخطيط لها، على أن يكون التطبيق الفعلي
بالتدريج زمانا ومكانا وتخصصا، حتى تكتمل العدد والأدوات ونقف على أرض صلبة، ويصبح الأمل واقعا، والحلم حقيقة.
وهذه العدد والأدوات كثيرة منوعة يدركها أهل الاختصاص، ولكن لا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أمرين هما بمثابة حجر الأساس في هذا البناء القومي المأمول إقامته، حتى نلجأ إليه ونلوذ به، حماية لشخصيتنا ووقاية لها من التطفل والازدحام على موائد الآخرين.
أول هذين الأمرين يتمثل في محاولة تنشيط الفكر العربي، بتخليصه من التبعية بالتدريج، وذلك بإمداده بالوسائل والعناصر التي تحفزه إلى التدريب والتجريب في ميدان الابتداع، والاعتماد على الذات. ولا يعني ذلك بحال أننا ننادي بالانكفاء على أنفسنا والاكتفاء بما لدينا، إذ المعارف إنما تنمو وتتأصل بتبادل الخبرات والثقافات والاحتكاك المباشر وغير المباشر المبني على منهج الأخذ والعطاء معا.
والأمر الثاني الذي ينبغي أن نأخذه منذ البدء في عملية التعريب -تفكيرا وإنجازا- هو ضرورة التوجه إلى لغتنا القومية، فنوفيها حقها ونمكنها من أداء دورها في هذا الميدان. ويكون ذلك -في رأينا- بالعمل على محورين: محور التجريب بتوظيفها في العلوم بالتأليف المنشئ أو النقل بالترجمة، ومحور النظر في أدواتها التعبيرية وثروتها اللفظية، والأسلوبية، بهذف الوصول إلى مادة طيعة قادرة على تشكيل الأفكار العلمية وصبها في قوالب دقيقة تتسم بالسهولة النسبية وتمثل روح العصر وحاجاته المتطورة المتجددة.
وهذا بالقطع يجرنا إلى قضية جوهرية، وهي قضية اللغة العربية وتوظيفها في الحياة العامة والخاصة. إن إخضاعها للتجريب في ميدان العلوم
يجرنا فورا إلى النظر في أدوائها ومشكلاتها بشكل علمي دقيق. وفي صلاح اللغة العربية صلاح الفكر العربي الذي يمثل قطب الرحى في عملية التعريب.
وجدير بالذكر أن "الهيئة العليا للتعريب" بالسودان، قد ضمنت نظام العمل عقد دورات متخصصة في علم اللغة العربية وفقهها للعاملين في مجال التعريب، حتى يكون العمل عربيا متكاملا فكرا ولغة. وهذا ما نحلم به ونرجو تحقيقه في الوطن العربي بأجمعه.