المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الدليل الخامس: إمكانية الابتداء بالساكن في بعض اللغات الأخرى كالسريانية والعبرية - دراسات في علم اللغة

[كمال بشر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌المرحلة الأولى

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌الواو والياء

- ‌المدلول الأول

- ‌المدلول الثاني:

- ‌الألف والواو والياء دراسة لغوية تحليلية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌أولا: الهمزة

- ‌ثانيا: ألف المد

- ‌الواو والياء:

- ‌المبحث الثاني: همزة الوصل

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌المجموعة الأولى:

- ‌المجموعة الثانية:

- ‌المجموعة الثالثة:

- ‌المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية

- ‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة

- ‌المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة بين طلاب الجامعات

- ‌مدخل

- ‌الأخطاء "ومفردها "خطأ

- ‌الأخطاء الشائعة:

- ‌نظام الجملة

- ‌مدخل

- ‌أولا: الإعراب

- ‌ثانيا: الاختيار

- ‌ثالثا: الموقعية

- ‌رابعا: المطابقة

- ‌المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير

- ‌مدخل

- ‌التعريب اللغوي: مؤيدوه ومعارضوه:

- ‌المؤيدون:

- ‌المعارضون:

- ‌الترجمة

- ‌مدخل

- ‌ التعبير

- ‌المراجع والمصادر:

الفصل: ‌ ‌الدليل الخامس: إمكانية الابتداء بالساكن في بعض اللغات الأخرى كالسريانية والعبرية

‌الدليل الخامس:

إمكانية الابتداء بالساكن في بعض اللغات الأخرى كالسريانية والعبرية مثلا قد تؤخذ دليلا جديدا على احتمال خلو اللغة العربية من هذه الهمزة كذلك. وربما ينطبق هذا الأمر على هذه اللغة بصورة آكد في فتراتها التاريخية السابقة، حيث كان من الجائز الابتداء بالساكن في النطق آنذاك. ولعل مما يشير إلى صحة هذا الافتراض وقوع هذه الظاهرة -ظاهرة النطق بالساكن في ابتداء الكلام- في اللغة السريانية "وربما في العبرية كذلك" وفي بعض اللهجات الحديثة، كاللهجة اللبنانية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك1.

وإلى هذا الاتجاه الذي نتجه إليه ذهب أحد الدارسين المحدثين، حيث يقرر أن المرحلة "السابقة لهذه العربية الفصيحة كانت تجيز الابتداء بالساكن. والذي يقوي هذا الافتراض عندي قولهم: إن أمر الثلاثي في العربية همزته همزة وصل. والناطق المجيد لهذه البنية لا يحس بهذه الهمزة فلسانه ينطلق بالضاد كما في كلمة اضرب "الأمر" قبل أن ينطلق بشيء اسمه الوصل. وإجادة النطق تستدعي محو هذه الألف إطلاقا. وعلى هذا جاء نطق المغاربة في أيامنا هذه، فهم ينطلقون بالساكن في أفعال الأمر الثلاثية".

ويرى هذا الباحث أن هذه الظاهرة ليست مقصورة على الأفعال، بل هي كذلك تطبق على الأسماء، فيقول:"ومثل هذا ننطلق بالساكن إذا بدأنا بالأسماء التي نصوا على أن ألفاظها للوصل، كما في "ابن" و"اسم"، فأنت تنطلق بالساكن أو بشيء فيه سكون أو بنصف الساكن -إذا أسعفتنا لغة الاصطلاح- حتى يتم النطق بالكلمة على وجه اللازم. ووجود هذه الناحية ربما كان دليلا على الابتداء بالساكن في العربية التي سبقت هذه المرحلة الفصيحة، كما يقوي هذا القول استساغة الانطلاق بالساكن في سائر

1 انظر ص140-142.

ص: 125

اللغات السامية الأخرى، بل ربما كانت الآرامية السريانية أشد قبولا للبدء بالساكن من التحريك. ومن أجل ذلك صارت هذه الناحية من مميزاتها الظاهرة"1.

وإلى هنا يجوز لنا أن نسأل القائلين بهمزة الوصل: لم اختيرت الهمزة بالذات ليتوصل بها إلى النطق بالساكن؟ لِمَ لم يكن هذا الوصل صوتا آخر كالطاء أو الياء إلخ؟

يجيب ابن جني -بطريقته الفلسفية- عن هذا التساؤل بإجابتين اثنتين. يقول في إحداهما: "فإن قال قائل: ولم اختيرت الهمزة ليقع الابتداء بها دون غيرها من سائر الحروف، نحو: الجيم والطاء وغيرهما؟

فالجواب: أنهم أرادوا حرفا يتبلغ به في الابتداء، ويحذف في الوصل للاستغناء عنه بما قبله. فلما اعتزموا على حرف يمكن حذفه واطراحه مع الغنى عنه جعلوه همزة، لأن العادة فيها في أكثر الأحوال حذفها للتخفيف وهي مع ذلك أصل، فكيف بها إذا كانت زائدة؟ ألا تراهم حذفوها أصلا في نحو: خذ وكل ومر وويْلمِّه وناس والله، في أحد قولي سيبويه، وقالوا: ذَنْ لا أفعل، فحذفوا همزة إذن. وقال الآخر:

وكان حاملكم منا ورافدكم

وحامل المِينَ بعد المِينَ والألَفِ

أراد المئين، فحذف الهمزة2.

وفي هذا النص يعتل ابن جني لاختيار الهمزة بعلتين:

1 د: إبراهيم السامرائي: التطور اللغوي التاريخي ص66-67.

2 ابن جني: سر صناعة الإعراب جـ1 ص127-128. ويلمه = ويل أمه، أسقطت الهمزة وجعلت كلمة واحدة، وناس أصلها أناس، والله أصلها الإله عنده. والمقصود "بالألف" على وزن سبب، الألف، فحرك اللام للضرورة. و"لكن صاحب اللسان قال: أراد الآلاف" بالجمع، انظر المرجع المذكور، ص128، هامش8.

ص: 126

إحداهما: كونها -في رأيه- حرفا يتبلغ به في الابتداء. وذلك مردود بما سبقت الإشارة إليه من أن الهمزة -بصريح عبارتهم- "حرف ثقيل مستكره"، أو هي غصة في الحلق.

ثانيهما: هي أن الهمزة -دون غيرها من الأصوات- صوت يمكن حذفه مع الاستغناء عنه، سواء أكانت الهمزة أصلا أم زائدة. وهذا الاعتلال تمكن مناقشته مع جهتين:

الجهة الأولى: أن الخواص التي ذكرها تناسب الحركات وتنطبق عليها بصورة واضحة، إذ هي أكثر الأصوات تعرضا لمثل هذه الظواهر التي ذكرها في نصه. وقد بينا فيما سبق امتناع الابتداء بالحركات في العربية، وهو ما يتمشى مع ما قرروه.

الجهة الثانية: أن "حذف" الهمزة في نحو خذ وبابه ظاهرة صرفية لا صوتية تقتضيها بنية الصيغ في هذه الأفعال، كما هو معروف. ولنا أن نفترض أن تطورًا قد لحق بهذه الصيغ ونحوها، وربما يدل عليه تأويلهم لهذه الصيغ بنحو قولهم: خذ: أصلها أؤخذ إلخ. أما الأمثلة الأخرى من نحو "ناس" و"الله" إلخ فالحذف فيها لهجة من اللهجات، ولا يجوز الاستدلال بأحكام لهجة على لهجة أخرى، أو بعبارة أوضح، لا يجوز في البحث الحديث فرض ظواهر لهجة من اللهجات على لهجة أخرى، لأن لكل منهما خواصها المميزة لها.

على أنا نلاحظ أن الهمزة في كل الأمثلة التي ذكرها ابن جني همزات قطع. وهذا يعني أن استدلاله استدلال ناقص لعدم اتحاد جهتي التناظر إذ هم أنفسهم قد نصوا على اختلاف الهمزتين في طبيعتهما وخواصهما.

أما الإجابة الثانية التي قدمها ابن جني عن التساؤل حول تفضيل الهمزة دون غيرها من الأصوات فتتمثل في قوله: "وإن شئت فقل: إنما زادوا الهمزة

ص: 127

هنا لكثرة زيادة الهمزة أولا، نحو: أفكل وأيْدع وأيلُم وإصبع وأُترجّة وإزْفنّة. ولم يكثر زيادة غير الهمزة أولا كزيادتها هي أولا"1.

وهذا في الواقع تعليل ضعيف لا يعدو أن يكون تفسيرا، أو بالأحرى تسويغا متكلفا لما وقع بالفعل، أو لما يظنه هؤلاء اللغويون أنه قد وقع. وهو تعليل يقتضي كذلك أن المتكلم -وهو أهم عنصر في الموضوع كله- وقد أعمل فكره قبل الكلام فيما ينبغي أن يسلكه حتى اختار الهمزة بالذات للأسباب التي ذكرها أبو الفتح. ومعلوم بالطبع لكل أحد أن يتكلم ما حاول -ولن يحاول- هذا الذي ظنه ابن جني، لأنه دائما وأبدا يرسل الكلام إرسالا دون التفكير في قواعده الصوتية أو الصرفية إلخ.

كل هذا الذي قررناه يقودنا إلى نتيجتين اثنتين:

أولاهما: أن النطق بالساكن في ابتداء الكلام إمكانية صوتية يجوز وقوعها في اللغة العربية، وأغلب الظن أنها وقعت بالفعل في فترة من الفترات التاريخية لهذه اللغة، وربما كان ذلك قبل أن يتجه الناطقون بهذه اللغة إلى استحداث صوت أو "صُوَيْت" في أول أنواع معينة من الصيغ والكلمات، وهو ما سماه علماء العربية بهمزة الوصل.

ثانيهما: أن ما سماه هؤلاء العلماء همزة الوصل، ليس في حقيقة الأمر إلا نوعا من التحريك أو هو "نقلة" حركية لجأ إليها المتكلمون في فترة تاريخية من الزمن لتسهيل عملية النطق بالساكن.

ومن المهم أن نقرر أن هذا التحريك أو الصويت ذو صفة غامضة، فقد ينحو نحو الكسرة أو الضمة، وقد يكون بينهما، إلى آخر ما روى علماء العربية من وجوه خاصة بحركات همزة الوصل2. وهذه الوجوه -في بعض

1 ابن جني: سر صناعة الإعراب، جـ1 ص128، 128.

2 انظر ص153.

ص: 128

الروايات- سبعة، "نستثني منها حركة الفتحة وهي خالصة بال وايمن، كما سنبين فيما بعد" وقد أثبتنا أن هذه الحركات ليست إلا هذا التحريك متخذا لنفسه عدة صور بحسب السياق المعين.

كما يجب أن نقرر أن هذا التحريك إنما هو ظاهرة صوتية فنولوجية phonological feature، أو نوع من التطريز الصوتي prosodic feature الذي يتغير بتغير السياق. فهو مثلا ذو أثر سمعي في ابتداء الكلام، ولكنه غير موجود في درجه، أي: أنه حينئذ ليس له تحقيق نطقي phonetically nothing.

ومعنى ما تقدم أن هذا الصوت ليس حركة أو ليس جزءا من نظام الحركات في اللغة العربية. إنه لا يقع في أي حيز من أحياز الحركات الثلاث قصيرها وطويلها: فهو يختلف عنها جميعا في الصفات، كما يختلف عنها فيما هو أهم من ذلك وهو التوزيع الصوتي phonetic distrobution في اللغة العربية، وفي عدم التبادل معها في أي سياق. فهو إذن "وصلة" أي: وسيلة "إيصال" أو "وصل" على اختلاف ما رأوا في ذلك بالنسبة لهمزة الوصل.

على أنه من الممكن القول بشيء من التساهل: إن هذا "الصُوَيْت" كان في الأصل هو ذلك التحريك الذي أشرنا إليه. ولكن ربما بالغ بعض الناس في نطقه حتى قارب أن يكون همزة، أو أنه أصبح همزة محققة، وهذا ما نلاحظه الآن بالفعل بين العوام وأنصاف المثقفين، حيث ينطقون هذا الصوت همزة، بل هم يرسمونه في الكتابة همزة كذلك.

غير أن هذا الأمر لا يفسد الاحتمال الذي رأيناه، لأن ما يفعله هؤلاء الناس إنما هو نوع من التطور اللغوي linguistic change الذي يجب أن ينظر إليه بهذا الوصف، وقد يعد خطأ في نظر بعض الدارسين.

وهذا التحريك الذي رأينا أنه يقوم مقام همزة الوصل التي افترض وجودها علماء العربية له قيمتان:

ص: 129

الصامتة، وإنما هو مجرد عنصر مقطعي اقتضاه نظام المقاطع للغة العربية على الرأي الذي ذهبنا إليه في هذه الدراسة.

بقي علينا أن نشير هنا إلى أن كل ما قررناه فيما سبق لا يطبق على همزتي ال وايمن، إذ يمكن حسبانهما همزتي قطع لا وصل. ونستطيع أن نؤيد وجهة نظرنا هذه بمجموعة من الحقائق العلمية التي نلخصها فيما يلي:

1-

نطق الهمزتين في ابتداء الكلام هو نطق الهمزة محققة، ولهما صفات ما سموه "همزة القطع" أو الوقفة الحنجرية. أما سقوطهما في درج الكلام، فهو ظاهرة اقتضاها وصل الكلام بعضه ببعض. وخضوع الأصوات بعامة لشيء من التغير في وصل الكلام أمر عادي مألوف، لا يقتصر على مجموعة من الأصوات دون غيرها.

2-

لزوم الهمزة في أداة التعريف و"ايمن" حركة واحدة "بالاتفاق في الأولى وعلى الراجح في الثانية" وعدم تغير هذه الحركة بتغير السياق دليل يقوي الادعاء بأن هذه الهمزة ليست للوصل، وبخاصة إذا أخذنا في الحسبان ما قرره علماء العربية من أنواع الحركات المصاحبة لهمزة الوصل. فهذه الحركات في نظرهم تبلغ ستا أو تظهر في ست صور مختلفة.

فعدم تغير الحركة في هاتين الصيغتين وتغيرها إلى هذه الصور المتعددة في الصيغ الأخرى يشير إلى أن هناك فرقا من نوع ما بين الحالتين. هذا الفرق -على ما نرى- هو أن الهمزة في "ال" و"ايمن" صوت صامت consonant أتبع بحركة محددة، على حين أن الموجود بالصيغ الأخرى إنما هو تحريك أو انزلاق حركي يتشكل بصور مختلفة طبقا للسياق الصوتي الذي يقع فيه.

3-

كون الحركة اللازمة فتحة لا كسرة علامة أخرى على الطريق إلى هذا الاتجاه. فلو كانت الهمزة هنا للوصل حقيقة لأوجبوا كسرها، تمشيا مع

ص: 133

قاعدتهم الأساسية التي تنص على أن الكسرة هي الحركة الأصلية لهذه الهمزة، أما غيرها من الحركات فهو خروج عن هذا الأصل.

وقد أدرك علماء العربية أنفسهم هذا الشذوذ. ومن ثم حاولوا تفسيره بما لا يخرج -في نظرنا- عن كونه مجرد تبرير أو تعليل عقلي افتراضي لما حدث بالفعل. جاء في مراح الأرواح وشرحه ما يلي:

"وفتح ألف ايمن أي: همزته

مع كونه للوصل بدليل سقوطه في الدرج والأصل في ألف الوصل الكسر

لأنه جمع يمين وألفه للقطع لأنه ألف أفعُل وألفه مفتوحة، ثم جعل للوصل أي عومل معاملة ألف الوصل بأن سقطت في الدرج لكثرته أي: لكثرة "ايمن" استعمالا، وكثرة الاستعمال تقتضي التخفيف

وفتح ألف التعريف مع كونه للوصل بدليل سقوطه في الدرج لكثرته استعمالا أيضا"1.

فهو هنا يعتل لفتح همزة "ايمن" بكونها صيغة جمع على أفعل "وهو رأي على ما سنرى فيما بعد"، وهمزة هذا الجمع همزة قطع بالاتفاق وهي مفتوحة كذلك. ولكنها هنا عوملت معاملة همزة الوصل بسقوطها في الدرج لكثرة الاستعمال. وهذا تعليل -كما نرى- يحمل بطلانه في طياته، لما يتضمنه من تحايل على الحقائق وتعسف واضح في تفسيرها.

أما بالنسبة لهمزة أداة التعريف فلم يجدوا ما يعتلون به سوى كثرة استعمال هذه الأداة، وفي رأيهم أن الفتحة أوفق من غيرها مع هذه الكثرة!!

واستمع إلى ابن جني في تفسيره لهذه الظاهرة -ظاهرة فتح الهمزة في "ال" و"ايمن"- حيث يقول:

"فأما لام التعريف فالهمزة معها مفتوحة، وذلك لأن اللام حرف، فجعلوا حركة الهمزة معها فتحة، لتخالف حركتها في الأسماء والأفعال، فأما

1 مراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود، وشرح هذا المرجع لشمس الدين أحمد، ص56.

ص: 134

ايمن في القسم ففتحت الهمزة فيها -وهي اسم- من قبل أن هذا اسم غير متمكن، ولا يستعمل إلا في القسم وحده. فلما ضارع الحرف بقلة تمكنه فتح تشبيها بالهمزة اللاحقة لحرف التعريف. وليس هذا فيه إلا دون بناء الاسم، لمضارعته الحرف

ويؤكد عندك أيضا هذا الاسم في مضارعته الحرف أنهم قد تلاعبوا به وأضعفوه. فقالوا مرة: "ايمن الله"، ومرة:"ايم الله" ومرة: "ايم الله"، ومرة:"مِ الله"، وقالوا:"مُ الله"، وقالوا: مُنُ ربي، ومِنِ ربي. فلما حذفوا هذا الحذف المفرط وأصاروه من كونه على حرف واحد إلى لفظ الحروف قوي شبه الحرف عليه، ففتحوا همزته تشبيها بهمزة لام التعريف"1.

فهذا التفسير -كما نرى- ليس إلا مثلا آخر من أمثلة الإغراق في التأويل والتماس العلل التي يولع بها ابن جني في كثير من مناقشاته. وهو إن دل على شيء فإنما يدل على المقدرة البارعة لدى أبي الفتح في تصوير الأمور بغير صورها الحقيقية. ففتح الهمزة المصاحبة للام التعريف لغرض المخالفة بين حركتها هنا وحركتها في الأسماء والأفعال أمر لا يقره منطق الواقع ولا منطق اللغة. إنما المنطق هو أن الهمزة وردت في كلام العرب مفتوحة، فيجب أن تؤخذ بهذه الصفة وتسجل أحكامها وفق ما تبديه من خواص واقعية دون تأويل أو تعليل. واختيار الفتحة لهمزة ايمن تشبيها لهذه الصيغة بالحرف لما يعتريها من ضعف أو نقص هو الآخر تفسير واه يبدو فيه التكلف واضحا.

وحقيقة الأمر أن الهمزة في أداة التعريف وايمن يمكن حسبانهما همزتي قطع، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، وكما يتبين كذلك من أدلة أخرى خاصة بكل حالة منهما. ففي "ايمن" نلاحظ اضطرابا بين النحاة في الحكم عليها وعلى همزتها. فهي عند البصريين اسم مفرد من اليمن، وهمزتها للوصل عندهم، بدليل سقوطها في درج الكلام، ووزنها على أفعل، ومثله جاء في العربية كآجُر وآنُك.

1 ابن جني: سر صناعة الإعراب، ص131-132.

ص: 135

وأغلب الظن أن هذا الكلام ليس إلا ترديدا لرأي شيخهم سيبويه في هذه النقطة ذاتها. فهذا هو الزجاجي يقول: وهمزة ايمن في نحو: قولهم: ايمن الله لأفعلن ذلك "ألفه ألف وصل، إلا أنها فتحت لدخولها على اسم غير متمكن، كذلك يقول سيبويه: واشتقاقه عنده من اليمن. واستدل على ذلك بقول بعضهم: ايمن الله بكسر الألف ولو كانت ألف قطع لم تكسر، ويقول الشاعر:

فقال فريق القوم لما نشدتهم

نعم وفريق ليْمُنُ لله ما ندري

فحذف الألف في الوصل"1.

أما عند الكوفيين فايمن جمع لا مفرد؛ إذ ليس في رأيهم اسم مفرد في العربية على وزن أفعل. أما آجر وآنك فأعجميان في نظرهم. وهمزتهما همزة قطع عندهم، ولكنها عوملت معاملة همزة الوصل فسقطت في الدرج لكثرة الاستعمال2. وهذا هو ما يروى عن الفراء كذلك. يقول الزجاجي في الجمل: قال الفراء: "ألف ايمن ألف قطع وهي جمع عنده"3.

وهكذا يقع الخلاف بين الفريقين ويلتمس كل منهما العلل والتأويلات لما ذهب إليه. وفي اعتقادنا أن الحق في جانب الكوفيين ومن تابعهم. وأما ما اعتل به البصريون من سقوط الهمزة في وصل الكلام فليس يكفي دليلا مقنعا للقول بأنها همزة وصل فهذا السقوط لا يعدو أن يكون ظاهرة فنولوجية اقتضاها السياق، لا لأنها "جعلت للوصل"، كما ادعوا.

وأما تحريك هذه الهمزة بالكسر -كما قرر سيبويه- فذلك يغلب أن يكون لهجة خاصة ينبغي ألا تنسحب أحكامها على غيرها من أساليب الكلام.

1 الزجاجي: الجمل ص85-86.

2 انظر: حاشية الخضري على ابن عقيل جـ2 ص181. وشرحي مراح الأرواح لشمس الدين أحمد وابن كمال باشا ص56.

3 الزجاجي: السابق ص85-86.

ص: 136

وهناك فيما يتعلق بهمزة أداء التعريف آراء ونصوص صريحة تؤكد لنا ما ذهبنا إليه فهذه الهمزة للقطع عند بعضهم، ومنهم شيخ اللغويين العرب الخليل بن أحمد. يقول ابن كمال باشا في شرح مراح الأرواح: "اعلم أنهم اختلفوا في آلة التعريف. فذكر المبرد في كتابه الشافي أن حرف التعريف الهمزة المفتوحة وحدها. وإنما ضم اللام إليها لئلا يشبه ألف التعريف بألف الاستفهام فيكون للقطع

وقال الخليل "ال" بكمالها آلة التعريف ثنائي نحو: هل فيكون همزته للقطع، وإنما حذفت في الدرج لكثرة الاستعمال"1.

وكذلك عاملوا همزة أداة التعريف معاملة همزة القطع في عدم حذفها عند سبقها بهمزة الاستفهام، وجواز إبدالها ألفا وتسهيلها في هذا السياق نفسه، شأنها في ذلك شأن همزة القطع تماما. تقول: آلحق قلت؟ كما تقول: آكرمت يا زيد عمرا؟ بإبدال الهمزة ألفا فيهما.

كل هذا الذي قررنا يقودنا إلى نتيجة واضحة، تلك هي أن همزة أداة التعريف وايمن يحسبان همزتي قطع، وأما ما تخضع له من سقوط في وصل الكلام أحيانا فهو ظاهرة صوتية سياقية تعرض للهمزة ولغيرها من الأصوات وبخاصة الحركات

1 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص56.

ص: 137