الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الواو والياء:
يطلق كل من الواو والياء على مدلولين صوتيين مختلفين. فهما اسمان للواو والياء في نحو ندنو، نرمي nadnuu، narmii، وهما كذلك يدلان على الواو والياء، في مثل وهب، يهب: wahaba، yahabu، وقوم، بيت: qawm، bayt.
والواو والياء في الحالة الأولى حركتان خالصتان، ونعني بهما الضمة والكسرة الطويلتين، ومن ثم كانتا عنصرين أو مثالين من أمثلة الحركات اللغة العربية، أما في الحالة الثانية فيعرفان في الدرس الصوتي الحديث "بأنصاف حركات" semi-vowels، ولكنهما ينضمان -من وجهة النظر الوظيفية- إلى تلك المجموعة من الأصوات المعروفة بالأصوات الصامتة Consonants.
ولكن السؤال الآن هو: كيف يمكن التمييز بين الحالتين؟ أو بعبارة أخرى: ما أسس التفريق بين هذين المدلولين؟ وما حدود كل منهما ووظائفه في اللغة العربية؟
نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة من زاويتين صوتيتين مختلفتين، زاوية فوناتيكية، تعنى بالنطق وآثاره المادية والسمعية، وزاوية فنولوجية، توجه اهتمامها نحو: الوظيفة اللغوية لهذه الأصوات في التركيب الصوتي للغة العربية.
حاول بعضهم التفريق بين الحالتين على أساس صوتي "فوناتيكي" صرف. فهما حركتان "طويلتان" في أدعو، أرمي؛ لانطباق خواص الحركات ومعايير الحكم عليهما. ذلك لأن الهواء عند نطقهما يخرج حرا طليقا دون
عائق أو مانع من أي نوع من وسط الفم، وهما صوتان مجهوران كذلك، فالواو في "أدعو" لها خواص الضمة "القصيرة" وتفترق عنها في الكمية فقط، ومدة النطق duration. إنها مثلها في الكيف ومختلفة عنها في الكم فقط. وهذه المعايير ذاتها تنطبق على الياء في "أرمي": إنها كسرة طويلة، أي: ضعف الكسرة القصيرة في الكم ولكنها مثلها تماما في الكيف.
ولكن الواو والياء صوتان صامتان consonants في نحو "وَعد، يَعد"؛ لأن الهواء الخارج من الرئتين عند نطقهما -وإن كان يخرج من وسط الفم- يقابله عائق من نوع ما، يضيق مجرى الهواء، بسبب اقتراب مؤخر اللسان من أقصى الحنك مع الواو، ومقدمه من مقدم الحنك عن النطق بالياء. وبذلك فقدنا بعض سمات الحركات الخالصة التي تتمثل في الحرية الكاملة للهواء عند نطقهما، فشابهتا الأصوات الصامتة، وأصبحتا مرشحتين لانضمامهما.
ولكن أصحاب هذا الرأي الذي يفرق بين الحالتين على أساس نطقي صرف أدركوا أن مجرى الهواء -وإن ضاق عند نطقهما في هذه الحالة- لم يصل إلى درجة الضيق التي نلاحظها عند نطق الأصوات الصامتة. ومن ثم رأوا في النهاية تسميتهما أنصاف حركات semi-vowels وأجازوا أيضا تسميتهما أنصاف أصوات صامتة semi-consonants، لشبههما نطقا بالفئتين: الحركات والأصوات الصامتة، وإن كان الشائع في الأوساط اللغوية في مجملها إطلاق المصطلح "أنصاف الحركات" على هذين الصوتين.
أما نحن فلسنا نأخذ بهذا المعيار النطقي وحده في التفريق بين حالتي الواو والياء، ونعتمد في الأساس على معيار أدق وأقرب إلى الحقيقة، وهو معيار الوظيفة ودورهما في البناء اللغوي الواقعي. إنهما حركتان خالصتان في نحو:"أدعو، أرمي" لوقوعهما موقع الحركات، واستحالة ضمهما إلى الأصوات الصامتة، لامتناع تحريكهما في هذين المثالين ونحوهما بحركات،
على عكس ما يحدث لهما في نحو "وَعد، يَعد" إذ جاءتا متلوتين بالحركات الممثلة في الفتحة في المثالين.
والواو والياء صوتان صامتان خالصان في نحو المثالين الأخيرين لوقوعهما موقع الأصوات الصامتة وجواز التبادل معها في كل مواقعهما. ففي حال التبادل نقول "نَعد، تَعد" بالنون في الأولى، والتاء في الثانية. ولا يمكن هنا أن نصنفهما حركات بحال، لأنهما متبوعتان بحركات، ومن المقرر -ويشهد له واقع اللغة- أنه لا يجوز اجتماع حركتين متتاليتين في أي موقع من مواقع الكلمة في اللغة العربية.
ربما يصعب على بعض الناس التفريق بين الحالتين وظيفيا، بسبب استخدام رمز واحد واسم واحد للواو والياء في أي موقع يقعان فيه. ويمكننا تيسير الأمر للباحثين عن الفرق بين القيمتين بالإشارة إلى بعض الأمارات التي ترشد الدارس إلى تعرف هذين الصوتين حال كونهما أصواتا صامتة وظيفيا، فنقول:
1-
الواو والياء صوتان صامتان وظيفيا إذا وقعتا في أول الكلمة، إذ من المحال عدهما حركتين، لامتناع بدء الكلمة العربية بالحركات.
2-
هما صوتان صامتان إذا أتبعتا بحركات إذ لا يمكن اجتماع حركتين متتاليتين في كلمة واحدة كما أشرنا إلى ذلك.
3-
الواو والياء صوتان صامتان إذا أصابهما التضعيف، نحو "قَوَّام، مَيّال" وقد أشار ابن جني إلى هذه السمة ذاتها، فقال:"إنهما ضارعتا أو ماثلتا أو شابهتا" الحروف الصحاح.
وعندنا أيضا أن الواو والياء صوتان صامتان وظيفيا في نحو: "حوض، بيت"، أي: إذا وقعتا ساكنتين مسبوقتين بفتحة، وقد وهم بعض المستشرقين "وتبعهم بعض الدارسين العرب العاملين في مجال اللغات السامية" فظنوا أن
الواو والياء في المثالين السابقين ونحوهما يكونان مع الفتحة السابقة عليهما حركة مركبة diphthong. وهذا وهم كبير، إذ ليس في هذين المثالين وما جاء على هيئتهما حركة مركبة، وإنما هناك وحدتان صوتيتان مستقلتان. الفتحة + الواو أو الياء. ودليل أن الواو والياء هنا وحدتان مستقلتان وليستا عنصرين من حركة مركبة، ظهورهما كذلك في تصرفات الكلمة كما في نحو "أحواض، أبيات" حيث تحققت طبيعتهما، وهي كونهما أصواتا مستقلة، وهما في هذا الاستقلال رشحتا نفسيهما لحسبانهما صوتين صامتين، إذ قد أتبعتا بحركة وهي الفتحة الطويلة "الألف"، كما هو واضح من المثالين المذكورين. ولكن هذا الذي نقول لا يمنعنا من إطلاق الاسم الشائع عليهما وهو "أنصاف حركتين"، اتباعا للتقاليد الجارية، ولشبهة التقارب في الأداء النطقي بين حالتيهما.
أما علاج اللغويين العرب القدامى "وبعض المحدثين" للواو والياء فقد جاء علاجا مضطربا، لا يكشف كشفا دقيقا عن طبيعتهما، ويخلط خلطا واضحا بين قيمتهما ودورها في البناء اللغوي. إنهم أولا خلطوا بين الرمز "الكتابي" والصوت، وركزوا ثانيا على ما يصيبهما من تغير في مواقع مختلفة من الكلمة، فأطلقوا عليهما المصطلح التقليدي "حروف علة".
نعم، إنهم في مجملهم أشاروا إلى أنهما حرف مد في نحو "أدعو، أرمي" الأمر الذي ينبئ عن إدراكهم أنهما حركتان "طويلتان" وقد صرح بعض الثقات منهم إلى هذه الحقيقة، حيث بينوا أن بينهما وبين الضمة والكسرة علاقة الكلية والجزئية. ولكنهم لم يعرضوا عرضا مناسبا لمدلوليهما الآخر، وهو كونهما من الأصوات الصامتة، باستثناء إشارات سريعة وقعت من بعضهم كابن جني الذي نبه إلى أنهما يضارعان "يشابهان" الحروف الصحاح إذا أصابهما التضعيف، كما أشرنا إلى ذلك قبلا. وهذا الذي قرره ابن جني
على الرغم من صحته وجودته لا يغني كثيرا ولا يفي بحاجة التفريق بين كونهما من حروف المد "الحركات" وكونهما من الأصوات الصامتة.
ولكنهم جميعا -على الرغم من هذه الإشارات الخاطفة المقبولة- لم يوفقوا من الناحية الواقعية في النظر إلى الواو والياء عندما يصيبهما شيء من التغير في تصاريف الكلمات إنهم مثلا يقررون أن "لم يقُل" أصلها "لم يقول": فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وهذا وهم منهم إذا المحذوف هو الرمز "و"، أما الواو نطقا "وهي الضمة الطويلة" فقد قُصرت، وصارت حركة قصيرة، هي الضمة، وذلك لأن التركيب المنطقي في اللغة العربية لا يسمح بطول الحركة في هذا السياق. فمن المعلوم أن المقطع:"ص ح ح ص"1 لا يقع في العربية إلا في حالتين اثنتين: عند الوقف، كما في "قال" بتسكين اللام، وعندما يكون الصامت الأخير مدغما في مثله، كما في "ضالين""ص ح ح ص".
وقد جاء تسويغهم لحذف الواو في المثال السابق، والياء في "لم يِبْع" على أساس أنهما حرفا علة، يصيبهما الحذف والتغيير والاعتلال إلخ. وهذه النظرة -وإن كانت تصلح مسوغا لهذه التسمية- لا تصلح أساسا للقول بأن الواو والياء قد حذفتا، وكان الأولى بل الصحيح أن يشار إلى أنهما قد أصابهما التقصير، كما قررنا نحن.
ومع ذلك كله، ما زلنا نحمد لأسلافنا جهودهم في خدمة العربية والحفاظ عليها، بالطريق الذي استطاعوا وبالمنهج المتواضع الذي اتبعوا.
1 ص = صوت صامت Consonant وح ح = حركة طويلة Long vowel.