الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فألف الوصل إذن "صوت" جيء به لتسهيل النطق بالساكن الذي هو الأصل، لكن عدل عنه لصعوبته. وما كانت الهمزة -بوصفها همزة أو وقفة حنجرية- سلما أو تمهيدا إلى النطق بالساكن. إنها على العكس من ذلك، فهي حاجز ومانع في حقيقتها obstacle، وفي نطقها صعوبة ظاهرة تناقض استخدامها للتسهيل والتيسير.
وتسميتها همزة الوصل لا يناقض هذه الحقيقة. فهي همزة وصل، لا لأنها سهلة في النطق، أو لأنها تختلف -في النطق منعزلة- عما سموه همزة قطع. وإنما لأنها لا تسمع في درج الكلام، أو لأنها تصبح "لا شيء" من الناحية الصوتية في الكلام المتصل. وهذه ظاهرة صوتية فنولوجية phonological feature تَعْرِض لغيرها من الأصوات وبخاصة الحركات في وصل الكلام word-junction.
الدليل الثاني:
كون "ألف الوصل" همزة يوقعنا فيما أردنا التخلص منه. فالهمزة -وحدها- صوت ساكن خال من الحركة. فكيف إذن نبدأ بالساكن على حين نريد التخلص منه؟
لقد تنبه إلى هذا التناقض بعض الأذكياء منهم، كابن جني وغيره من اللغويين. فتساءلوا: أجاءت همزة الوصل ساكنة ثم حركت؟ أم أنها جاءت متحركة؟ اختلفت الإجابات عن هذا السؤال وتنوعت إلى اتجاهين:
أحدهما: يذهب إليه ابن جني وهو أن همزة الوصل "حكمها أن تكون ساكنة لأنها حرف جاء لمعنى، ولا حظ له في الإعراب. وهي في أول الحرف "يعني الكلمة" كالهاء التي لبيان الحركة بعد الألف في آخر الحرف في: وا زيداه، ووا عمراه ووا أمير المؤمنيناه. فكما أن تلك ساكنة فكذلك كان ينبغي في الألف "يعني همزة الوصل" أن تكون ساكنة. وكذلك أيضا نون
التثنية ونون الجمع ونون التنوين، هؤلاء كلهن سواكن. فلما اجتمع ساكنان، هي والحرف الساكن بعدها، كسرت لالتقائهما؛ فقلت: اضرب، اذهب. ولم يجز أن يتحرك ما بعدها لأجلها. من قبل أنك لو فعلت ذلك لبقيت هي أيضا في أول الكلمة ساكنة، فكان يحتاج لسكونها إلى حرف قبلها محرك، يقع الابتداء به. فلذلك حركت هي دون ما بعدها"1. وقد تبع ابن جني في رأيه هذا كل من الرضي وابن الحاجب، على ما يروي ابن كمال باشا2.
ويبدو أن ابن جني قد تأثر برأي أستاذه أبي علي الفارسي في ذلك، يروي الصبان عن السيوطي في الهمع أن البصريين اختلفوا في كيفية وضع همزة الوصل، "فقال الفارسي وغيره: اجتلبت ساكنة، لأن أصل المبني السكون، وكسرت لالتقاء الساكنين"3.
ويرى شمس الدين أحمد صاحب أحد شرحي المراح أن هذه الكيفية لوضع الهمزة تمثل رأي الجمهور، فهي -عندهم- اجتلبت ساكنة "لما فيه من تقليل الزيادة، ثم لما احتيج إلى تحريكها حركت بالكسرة لأنه أصل في تحريك الساكن"4.
ثانيهما: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنها اجتلبت متحركة "لأن سبب الإتيان بها التوصل إلى الابتداء بالساكن فوجب كونها متحركة كسائر الحروف المبدوء بها". وهذا رأي جماعة من البصريين على ما يفهم من كلام الصبان5، كما هو رأي ابن كمال باشا الذي يرفض اتجاه ابن جني السابق، ويذهب إلى أن ما قرره أبو الفتح "باطل لأنه يلزم العود إلى المهروب عنه. وهو الهروب عن
1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص127.
2 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص55.
3 الصبان على الأشموني جـ4 ص309.
4 شرح مراح الأرواح لشمس الدين أحمد ص55.
5 الصبان: المرجع السابق جـ4، ص209.
حرف ساكن إلى حرف آخر ساكن مثل الأول". وعنده أن "الحق زيادتها متحركة لئلا يلزم المحظور"1.
وهذا الخلاف يمثل -في رأينا- اضطرابا حقيقيا في إدراك كنه الصوت المجتلب لتسهيل عملية النطق بالساكن. ومن ثم عجزوا عن تحديده بالدقة: أهو الهمزة وحدها؟ أم الهمزة متلوة بحركة؟ والقائلون بالهمزة وحدها أحسوا بصعوبة جديدة تقابلهم عند افتراضهم هذا، إذ إن ذلك يقتضي الوقوع فيما أرادوا التخلص منه وهو البدء بالساكن. ولهذا تحايلوا على الموضوع بافتراض آخر، هو تحريك هذه الهمزة بعد اجتلابها.
وعندنا أن مجيء الصوت ساكنا أولا ثم تحريكه ثانيا عملية عقلية افتراضية، لجأ إليها اللغويون لتسويغ قواعدهم وتصحيح مبادئهم. أما المتكلم -وهو أهم عنصر في الدرس اللغوي- فلم يسلك هذا المسلك الذي يتضمن وقوع النطق على مراحل، والذي يعني كذلك أن هذا المتكلم كان يشغل نفسه بالتفكير في هذه القضية قبل النطق. إنه نطق هذا الصوت إما ساكنا -وبهذا يقع هؤلاء اللغويون فيما أردوا الهروب منه- وإما متحركا وبذا يلتقي هذا الرأي مع الاتجاه الثاني القائل بزيادة الهمزة متحركة من أول الأمر.
ومعنى ذلك في الحالتين أن المزيد حينئذ صوتان لا صوت واحد. أحدهما الهمزة والثاني الحركة التالية لها. وهذا الافتراض -وإن أمكن تصديقه عقلا- يبعد أن يكون قد وقع في حقيقة الأمر. إننا عندما نمارس نطق هذه الصوت الذي افترضوه وسموه همزة الوصل لا نحس بهذه الثنائية. وإنما نشعر بصوت واحد أو "بصويت" هو أقرب ما يكون إلى نوع من التحريك، يعتمد عليه اللسان حتى يصل إلى الساكن بعده، على ما يفهم من رأي الخليل الذي أشرنا إليه سابقا.
على أن هذا الافتراض نفسه قد واجه اللغويين بصعوبة أخرى اضطرتهم إلى الدخول في مناقشات جديدة، كان يغني عنها النظر في الموضوع من زاوية الواقع بدلا من الافتراض والتأويل. تلك الصعوبة تتمثل في تحديد نوع الحركة التي تصاحب الهمزة.
1 ابن كمال باشا: المرجع السابق، ص55.