المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة - دراسات في علم اللغة

[كمال بشر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌المرحلة الأولى

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌الواو والياء

- ‌المدلول الأول

- ‌المدلول الثاني:

- ‌الألف والواو والياء دراسة لغوية تحليلية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية

- ‌مدخل

- ‌الألف

- ‌أولا: الهمزة

- ‌ثانيا: ألف المد

- ‌الواو والياء:

- ‌المبحث الثاني: همزة الوصل

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌المجموعة الأولى:

- ‌المجموعة الثانية:

- ‌المجموعة الثالثة:

- ‌المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية

- ‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة

- ‌المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة بين طلاب الجامعات

- ‌مدخل

- ‌الأخطاء "ومفردها "خطأ

- ‌الأخطاء الشائعة:

- ‌نظام الجملة

- ‌مدخل

- ‌أولا: الإعراب

- ‌ثانيا: الاختيار

- ‌ثالثا: الموقعية

- ‌رابعا: المطابقة

- ‌المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير

- ‌مدخل

- ‌التعريب اللغوي: مؤيدوه ومعارضوه:

- ‌المؤيدون:

- ‌المعارضون:

- ‌الترجمة

- ‌مدخل

- ‌ التعبير

- ‌المراجع والمصادر:

الفصل: ‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة

‌المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة

يمثل التعليم في المرحلة الأولى ركنا أساسيا من أركان إعداد المواطن للحياة، وتأهيله للتعامل مع البيئة بصورة تسمح له باكتساب خبراتها ومعارفها، وعلى وجه تجعل منه عضوا ذا دور فعال في مجتمعه الصغير أو الكبير على سواء.

ولا يتم ذلك في نظرنا إلا بتخطيط دقيق لما ينبغي أن يلقى إليه من علوم ومعارف في هذه المرحلة، آخذين في الحسبان نقطة البداية ونقطة النهاية في كل ما نرسم ونخطط، حتى نضمن للمتعلم تدرجا طبيعيا مناسبا لهاتين النقطتين كلتيهما، وحتى نأخذ بيده نحو الهدف المرسوم في تأن يتصف بالعمق والجدة.

وليس من شك في أن أية خطة دراسية لا يمكن لها أن تحظى بالنجاح إلا بإعداد وسيلة أو وسائل علمية واضحة، من شأنها أن تفي بأغراض هذه الخطة، وأن تمكن المتعلم من الإلمام بما تضمنته جوانبها من ألوان المعرفة وضروب الخبرة.

وتقع اللغة من هذه الوسائل موقعا فريدا فاللغة في المراحل الأولى من التعليم ليست مادة دراسية فحسب، ولكنها -في الوقت نفسه- الوسيلة الأساسية لدراسة المواد الأخرى واستيعابها. وإذا كانت بعض الخبرات يمكن

ص: 217

تحصيلها بالاعتماد على التفاعل مع البيئة الطبيعية، فإن هناك خبرات أخرى -وغير المباشرة منها بوجه خاص- لا يمكن اكتسابها إلا باللغة وبالقدرة على استخدامها استخداما ناجحا. وقد لاحظ المربون وعلماء النفس أن هناك ارتباطا وثيقا بين النجاح في تحصيل المواد المختلفة والقدرة اللغوية، ذلك لأن اللغة تلعب الدور الأكبر في استقبال الأفكار واستيعابها والتعبير عنها. فالتلميذ المتقدم في مادته اللغوية يفوق أقرانه في سرعة الفهم والتحصيل لما يقرأ، ويقوده هذا في النهاية إلى نجاح محقق في دارسته، بل في الحياة بجملتها.

وليس يقتصر دور اللغة على تيسير التحصيل والاستيعاب للمواد الدراسية. إنها بالإضافة إلى ذلك -تمد المتعلم بعامل مهم من عوامل النجاح في الحياة العامة، إذ تمنحه القدرة على أن يتعامل بالكلمة تعاملا لبقا ذكيا،، فيتحدث ويناقش بوضوح وتركيز، ويقرأ ما تقع يده عليه ويفهمه في جلاء وعمق. وهذا الضرب من استغلال اللغة وفنونها من شأنه أن يفتح للإنسان في الحياة مجالا أوسع ويسير به في دنيا الثقافة إلى مدى أرحب.

إذا كان هذا هو دور اللغة في المدرسة وخارجها أصبح من الضروري إعطاؤها حقها من الاهتمام والعناية. ولقد اتجهت أنظار الباحثين العرب في السنوات الأخيرة إلى هذا الموضوع ومحاولة دراسته من شتى جوانبه. وأخذوا في تصنيف مشكلات تعليم اللغة العربية بالمرحلة الأولى بوجه خاص آملين بذلك أن يصلوا إلى خطة محددة مبنية على أسس علمية جادة.

وكان من الطبيعي أن يواجهوا أول الأمر في هذا المجال بموضوع قديم حديث، هو تحديد "نوعية اللغة" أو "الصيغة اللغوية" التي ينبغي أن يؤخذ بها في هذه المرحلة أو التي يمكن أن تكون المنطلق لما ننتوي تقديمه للتلاميذ في السنوات الأولى من التعليم.

ص: 218

وتحديد "نوعية اللغة" يخضع في نظرنا لمبدأين اثنين متصلين غير منفصلين هما:

1-

المبدأ التربوي المقرر الذي ينص على وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول في عملية التعليم بعامة، ويضمن لنا هذا المبدأ أن ينطلق المتعلم من أرض صلبة تمكنه من الترقي والتدرج في رحلته التعليمية في تأن ونجاح مؤكد. كما يحميه من الوقوع في متاهات أو آفاق مجهولة تعوق مسيرته وتحرمه من استغلال طاقاته وقدراته الذاتية في اكتشاف طريقه نحو اكتساب مزيد من الخبرات والمعارف.

2-

المبدأ التقليدي العام أو المقرر بين الأمم الذي جرى -وما يزال يجري- على أن تكون اللغة التي تقدم للتلاميذ في أية مرحلة هي اللغة القومية، تلك اللغة التي تخلو أو تكاد تخلو من الطابع المحلي أو البيئي، والتي تنسب إلى القوم بعامة وتستخدم في تسجيل معارفهم وثقافتهم الأصلية، وتربط حاضرهم بماضيهم وتأخذ بيدهم نحو مستقبل أكثر ازدهارا وتقدما.

ومن الواضح أن الأخذ بالمبدأ الأول وحده يقتضي أن تكون اللغة المختارة في المرحلة الأولى من التعليم هي العامية، لأنها هي الصيغة المألوفة للتلاميذ في هذه المرحلة، كما أن الانحياز نحو المبدأ وحده يعني أن تكون تلك اللغة هي العربية الفصحى، لأنها لغة القوم أو الأقوام المعروفين بالعرب. أما التمسك بالمبدأين معا "كما هو المفروض"، ففيه صعوبة ظاهرة، ويحتاج إلى تخطيط دقيق ودراسة عميقة لأنه ينتظم أمرين يبدوان متناقضين، أو متباعدين غير متقابلين، أحدهما يذهب بنا شمالا والآخر يتجه بنا نحو اليمين أو العكس بالعكس، ومعنى هذا أننا أمام "معادلة صعبة" كما يقولون.

وربما كانت هذه المعادلة واحدا من الأسباب الرئيسية التي قد تغري

ص: 219

الباحثين بالأخذ بواحد من المبدأين السابقين دون الآخر، حتى لا يقعوا في محظور "التناقض" وحتى يصلوا إلى أهدافهم في سهولة ويسر.

القول بالمبدأ الأول:

اختيار المبدأ الأول "مبدأ وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول" قد يحتج له بأن اللغة العامية هي الصيغة اللغوية المناسبة، لأنها لصيقة بالأطفال، يتعاملون بها هنا وهناك في كل مجالات النشاط التي تسود مجتمعهم، إنهم يسمعونها في كل مكان يحلون به أو يذهبون إليه، وهم يفهمونها جيدا، ويتحدثون بها ويعبرون بها عن ذوات أنفسهم وعن معارفهم وخبراتهم والوقوف على هذه المعارف والخبرات أمر مهم في عملية التعليم، ما في ذلك شك. فحرمانهم من اللغة العامية "وهي التي يدركونها جيدا" يحرمنا من الكشف عن طاقاتهم وقدراتهم، وبذلك نفقد أهم عامل من عوامل التعليم الناجح المثمر.

القول بالمبدأ الثاني:

والقول بالمبدأ الثاني وحده لا تُعْوِزُه الأدلة التي تقف إلى جانبه وتغري بقبوله. وهذه بعض الأدلة التي يمكن أن يحتج بها في هذا المجال.

1-

اللغة القومية هي اللغة الفصحى، لغة القرآن الكريم ولغة التراث وكنوز الثقافة العربية الأصيلة. وهي بهذا جديرة أن تقع موقع الصدارة من المستويات اللغوية الأخرى. وعدم الأخذ بهذه الفصحى في مراحل التعليم يسلمنا إلى ضياع فكري ثقافي، حيث يفصل حاضرنا عن ماضينا المجيد. هذا بالإضافة إلى ما يعقب هذا الإهمال من نتائج منذرة بالخطر، إذ ينحرف بنا الأمر بمرور الزمن إلى الانعزال عن لغة القرآن والبعد عنها بعدا يفقدنا أهم أساس وأكرمه من أسس ديننا الحنيف.

2-

اللغة الفصحى هي أساس القومية العربية ومحورها الذي تدور حوله

ص: 220

مقومات هذه القومية. إنها الرابطة الوثقى التي تربط العرب بعضهم ببعض سياسيا وثقافيا واجتماعيا كذلك. إن تفضيل أية صيغة لغوية أخرى عليها يعرض الوَحدة العربية للانهيار. ويجعل من هذه الأمة مجموعات من الدول المتنافرة المتضاربة في أهدافها وآمالها.

3-

اللغة الفصحى هي السجل الحي لحضارة عربية عريقة، تضرب بعيدا في أعماق التاريخ، ولسنا نملك أن نقطع الواصلة بين هذه الحضارة وواقعنا الراهن، وإلا كان علينا أن نبدأ من جديد، ونحتاج إلى أحقاب طويلة لا يعلم مداها إلا الله كي نبني حضارة أخرى جديرة بأمة عريقة تحاول أن تأخذ موقعها اللائق بها في مجتمع حديث زاخر بألوان شتى من مناحي الفكر والتقدم الإنساني. وهيهات أن تصمد حضارة من هذا النمط أمام التيارات الفكرية والثقافية في العالم المعاصر ما لم يكن لها سند واتصال وثيق بأصول حضارية عريقة عميقة كتلك التي نعم بها العرب في تاريخهم الطويل.

4-

وقد يضيف بعضهم إلى ذلك عاملا أو دليلا آخر يتصل بذات الفصحى، وخواصها أنها -في نظرهم- لغة غنية في وسائل التعبير، ألفاظا وعبارات، وهي بذلك تمد المتعلم بزاد لا ينفد من وسائل الإفصاح عن النفس، كما تعينه على الأخذ بنصيب وافر من ألوان المعرفة والخبرة.

مناقشة القولين:

وفي رأينا أن كلا من الاتجاهين السابقين -إذا أخذنا بأيهما وحده على إطلاقه دون تحديد- تقف في طريقه عقبات، وتقابل تطبيقه مشكلات قومية وتربوية وعملية.

فالبدء بالعامية في المراحل الأولى من التعليم على الرغم من اتساقه الظاهري مع مبدأ وجوب الانطلاق من المعلوم إلى المجهول، يثير على الفور هذا السؤال:

ص: 221

أية عامية تختار؟

هنا احتمالان -لا ثالث لهما- للإجابة عن هذا السؤال.

الاحتمال الأول:

قد يرى بعضهم أن ينطلق كل بلد عربي من لهجته الخاصة به، فهي أطوع لأبنائه، وأكثر ألفة، وأقرب منالا من الصيغ اللغوية الأخرى. وهي بذلك تمده بوسائل التعبير عن ذاته وتكشف عن معارفه وخبراته، ومن ثم يقدر لنا أن نستغل طاقاته وقدراته بتقديم المزيد من المعارف والخبرات، كلما تدرجنا به في سلم التعليم والتثقيف.

وهذا الاحتمال -إذا أخذ على إطلاقه- مردود وغير مقبول في نظرنا لأسباب متعددة مترتب بعضها على بعض، منها:

1-

اللهجات العامية في البلاد العربية يختلف بعضها عن بعض اختلافا واضحا على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية -واستخدامها في أية مرحلة من مراحل التعليم من شأنه أن يوسع من دائرة هذا الاختلاف، ويمنحها عوامل قوية تؤدي إلى التفريق والتنويع بصورة أشد وأكثر عمقا. وليس من البعيد -في هذه الحالة- أن تأخذ كل لهجة طريقها الخاص بها وتثبت قواعدها ونظمها حتى تستقل بنفسها وتصبح لغة قائمة بذاتها على مر الزمن. وليس هذا الأمر مستحيلا أو خيالا بالنسبة للتطور اللغوي وطبيعته. لقد حدث هذا في عديد من اللغات، كاللاتينية التي ساعدت الظروف السياسية والثقافية على التباعد بين لهجاتها حتى صارت لغات مستقلة ذات خواص مميزة تبعد قليلا أو كثيرا عن اللغة الأم.

2-

يترتب على هذا الموقف انعزال الفصحى وإبعادها عن مسرح الحياة، وقد يؤدي إلى إضعافها أو القضاء على مقوماتها الأساسية بصورة أو بأخرى.

ص: 222

3-

هذا الذي يحدث للفصحى ينتج منه القضاء على مقومات الوحدة الثقافية والفكرية والسياسية بين العرب. وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا بكل تأكيد.

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد. إن اختيار العامية للأخذ بها في مراحل التعليم الأولى "وغيرها بالطبع" يوقعنا في محظور آخر، فالبلد العربي الواحد لا يقتصر التعامل اللغوي فيه على لهجة واحدة. وإنما هناك عدد من اللهجات التي تختلف فيما بينها، بسبب العوامل الجغرافية أو الثقافية أو غيرها، فلدينا في مصر مثلا لهجة أو عدة لهجات بالوجه البحري، وكذلك الحال في الصعيد، وهناك من جانب آخر في أي من هاتين المنطقتين الجغرافيتين الكبيرتين ألوان من الكلام وأنماط الحديث التي يستطيع الباحث المدقق أن يصنفها إلى ما يمكن أن نسميه بلهجة العوام ولهجة المتنورين ولهجة المثقفين.

وهنا نجد أن الآخذ بمبدأ اللهجات نفسه في متاهة واضطراب حيث لا يستطيع علميا أن يحسم الأمر، فيفضل لهجة على أخرى، لأن أسس الاختيار أو التفضيل تساعده والقول باختيار العناصر العامة أو المشتركة بين هذه اللهجات قول نظري، يحتاج قبل الإقدام على تطبيقه إلى دراسات طويلة شاقة، وهو أمر -بطبيعة الحال- يحتاج إلى وقت طويل ومال كثير حتى نستطيع إنجازه بصورة علمية مقبولة. والحق أن هذا الاتجاه يعد في نظرنا خطوة على الطريق السليم نحو إصلاح تعليم اللغة العربية من شتى جوانبه، ومن هذه الجوانب تحديد نوعية اللغة في المراحل الأولى، ذلك لأن الكشف عن العناصر المشتركة أو النماذج اللغوية الشائعة في البيئة المعينة عامل من عوامل تحديد النطاق الذي ندور فيه نحو تعيين الصيغة اللغوية المناسبة لهذه المراحل. كما سوف يتبين لنا فيما بعد.

ص: 223

الاحتمال الثاني:

قد يتصور بعضهم أن في مقدورنا أن نختار لهجة عربية معينة بقطع النظر عن بيئتها الجغرافية، لتكون نقطة البدء في تعليم العربية بالوطن العربي كله. وقد يبنون تصورهم هذا على أساس ما لهذه اللهجة من سعة الانتشار، وما تتسم به من خواص ومميزات تؤهلها للقبول. قد يظنون أن لهجة مثل لهجة القاهرة أو بغداد أو بيروت أو غيرها صالحة للقيام بهذا الدور الذي يتصورون، لما تحظى به كل واحدة منها من مقومات جغرافية وثقافية ولغوية خاصة.

هذا التصور في رأينا ضرب من الخيال، أو هو وهم من الأوهام، لو نحن حاولنا أن نفرضه فرضا؛ إذ اللغات لا تفرض على الناس إلا على يد محتل يبغي السيطرة على مقدراتهم وحياتهم.

وعلى فرض قبول هذا التصور الجانح في الخيال، فإن الأمر يحتاج إلى جهود جبارة، ودراسات مضنية، الأولى بها كلها أن توجه نحو الفصحى ومشكلاتها، ذلك لأن هذه الفصحى في أي شكل من أشكالها لها مكان معترف به في كل البلاد العربية، ولها سند من الواقع العملي، حيث تستخدم هنا وهناك في صورة من الصور في النشاط الكتابي أو الأدبي على أقل تقدير.

يتبين لنا من هذا كله أن اللهجة أو اللهجات العامية لا ترشحها ظروفها الاجتماعية والقومية لأن تكون الصيغة اللغوية المختارة للتعليم في المراحل الأولى، إذا أخذت على إطلاقها، دون تعرف كامل على خواصها، وإدراك دقيق لمقوماتها، حتى نستطيع الحكم على مدى الاستعانة بها أو اختيار بعض عناصرها الصالحة لتكون بمثابة التمهيد أو التقديم لما ينبغي الإلقاء به للمتعلمين في هذه المراحل من مستوى لغوي مقبول من النواحي التربوية والقومية والثقافية جميعا.

ص: 224

أضف إلى ذلك أن هناك عاملا آخر مهما يقف في طريق الأخذ باللهجات العامية أخذا مطلقا. لم تحظ العامية حتى الآن بتراث أدبي مقبول على المستوى العربي كله. وكل أو جل ما قدم بها من أدب أو سجل من معرفة إنما هو لون من ألوان الثقافة الفردية أو البيئية الضيقة التي لا تصلح مسوغا للانحياز إليها من الوجهتين الثقافية والقومية. ويفقد هذا الأدب وتلك المعرفة بذلك عامل الاستمرار والشمول والتصوير الحقيقي للفكر العربي والحضارة العربية بالمعنى الصحيح.

والانحياز إلى الفصحى والتمسك بفرضها في المراحل الأولى من التعليم اتجاه قد يقابل هو الآخر بمجموعة من الاعتراضات أو التساؤلات. قد يقال مثلا:

1-

إن الفصحى في جملتها غريبة أو مجهولة الحدود بالنسبة لتلاميذ هذه المراحل المبكرة، ومن ثم كان فرضها عليهم مناقضا للمبدأ التربوي المقرر والمشار إليه سابقا وهو "وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول".

2-

فرض المجهول على التلاميذ يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ المتوقع بل الحادث بالفعل أن يمل التلاميذ دروس اللغة ولا يقبلوا عليها. وهم إن أقبلوا طوعا أو كرها يقضون وقتا طويلا في فهمهما واستيعابها، الأمر الذي يعوق تقدمهم اللغوي المنشود، ومما يزيد في نفورهم وإعراضهم عنها حرمانهم من القدرة على استخدامها استخداما مثمرا في حياتهم العامة، حيث يقل هذا الاستخدام أو ينعدم، باستثناء دروس اللغة ذاتها.

3-

إن مصطلح "الفصحى" إذا أخذ على إطلاقه دون تحديد قد يغري بعض القائمين على شئون اللغة بتقديم مادة لغوية مغرقة في البعد في معناها ومبناها عن مدارك المتعلمين في هذه السن، بسبب انتساب هذه المادة إلى مراحل تاريخية قديمة ليست في إطار خبرة التلاميذ أو معارفهم، أو بسبب

ص: 225

احتوائها على خواص لفظية وتركيبية وإعرابية يشق عليهم أن يتعاملوا معها تعاملا إيجابيا. ومن ثم ينشأ حاجز قوي بين التلميذ واللغة يحرمه من قدرة التعبير عن نفسه. ويعوق انطلاق تفكيره ونمو معارفه وخبراته، إذ قد سلب أهم وسيلة من وسائل هذا الانطلاق وذاك النمو، وهذه الوسيلة هي اللغة بالطبع.

4-

اللغة الفصحى في الأغلب الأعم لغة كتابة، وهيهات أن تؤخذ اللغة المأخذ الصحيح من المادة المكتوبة، لأنها جامدة ساكنة، محرومة من دفء الواقع وصدق الحقيقة. واللغة -في أساسها- نشاط فسيولوجي يقتضي:"مرسلا"، و"مستقبلا"، و"موقفا مناسبا"، أو سياق حال يعين على الفهم والتذوق، وأنى لنا العثور على هذه العناصر الثلاثة في النص المكتوب.

هذا الذي قيل -ويقال دائما- قد يقف عقبة في طريق الأخذ بالفصحى في بداية التعليم، ويقتضي منا نظرا وتأملا قبل الإقدام على الطريق، وقبل أن ننساق مع العواطف إلى الوقوع في متاهات وبعد عن جادة الصواب.

الرأي:

من كل ما تقدم يتضح لنا أنه لا العامية وحدها ولا الفصحى على إطلاقهما بصالحة للبدء بها في المراحل الأولى من التعليم، إذن ما الصيغة اللغوية المناسبة، أو ما نوعية اللغة التي يمكن أن تتخذ منطلقا للتعليم اللغوي في هذه المراحل؟

إن تحديد هذه "النوعية" -كما قررنا من قبل- ينبغي أن يجيء على وفق المبدأين المقررين اللذين أوجبنا الأخذ بهما معا، وهما "البدء من المعلوم إلى المجهول، وأن تكون اللغة المختارة هي اللغة القومية".

ص: 226

وبالرغم من أن هذين المبدأين ينتظمان معادلة صعبة "تتمثل في وجوب الأخذ بالعامية وحدها وفقا للمبدأ الأول وبالفصحى فقط تمشيا مع المبدأ الثاني" فإن النظر المتأني الفاحص يستطيع أن يمدنا بخطة تسلمنا إلى صيغة لغوية مقبولة.

في مقدور البحث العلمي الدقيق أن يقرر أن هناك في البيئة العربية الواحدة مستويات لغوية ذات سمات وخواص مختلفة. أهم هذه المستويات وأقربها إلى الواقع وأكثرها شمولا واتساعا ثلاث هي:

1-

العامية.

2-

الفصحى المعاصرة.

3-

فصحى التراث.

العامية:

هي لغة الحديث اليومي الدارج ولغة الحياة العامة بكل ما فيها من أوجه النشاط الإنساني على مستوى الجماهير العريضة. وهذه صيغة لغوية معروفة مستقرة في كل بلد عربي.

والفصحى:

المعاصرة صيغة لغوية تستخدم في الكتابة في الأغلب الأعم. فهي لغة التأليف في شتى مناحيه وفنونه. وهي بالإضافة إلى ذلك لها وجود من نوع ما في الكلام المنطوق والاستعمال الفسيولوجي الحي، كما يبدو مثلا في المحاضرات الجامعية الجيدة، والخطب السياسية الجادة، وفي الندوات العلمية ذات المستوى اللائق، وفي نشرات الأخبار في الإذاعة "بوسيلتيها الراديو والتليفزيون".

وهذه الفصحى تنتظم -فيما تنتظم- خواص اللغة العربية الأساسية، فهي تراعي قواعد الإعراب في جملتها، وتسير -بصورة عامة- على قوانين نظم الكلام العربي. كما ألفناه في عصور العربية الأصيلة. ولكنها -في الوقت نفسه- طورت لنفسها وسائل حديثة من التعبير.

ص: 227

لقد ضمت إلى ثروتها اللفظية أعدادا هائلة من الكلمات والصيغ، اقتضتها -وتقتضيها- مظاهر الحضارة المتجددة على مر الأيام. كما استحدثت هذه اللغة أنماطا من نظم الكلام وتأليفه، جاءت على ضرب غير معهود في العربية، بحسب المنصوص عليه في كتب اللغة، ولسنا نعدم أن نعثر على صور جديدة من النطق، لحقت ببعض الأصوات أو مواقع النبر أو أنماط التنغيم في الجملة والعبارة، حين تستخدم هذه اللغة في الكلام الفعلي.

أما فصحى التراث:

"وهو مصطلح لسنا من أنصاره، ولكنه يشيع بين الدارسين" فهي لغة كنوز الثقافة والحضارة العربية الأصيلة وترجمان الفكر العربي في العصور الزاهرة. وهي اللغة التي دونت قواعدها ونظمها واستقرت في كتب اللغة والنحو والبيان. وعلى وفق هذه القواعد وطرائق هذا النظم جاء التراث وآثاره العلمية المعهودة للمتخصصين وأضرابهم من الناس. وهذه اللغة بمميزاتها المعروفة لدى أهل الاختصاص قل أن يستخدمها كاتب أو أديب أو عالم في إنتاجه المعاصر. ولست أظن أن أحدا يستعملها في حديثه أو في أي لون من ألوان نشاطه اللغوي المنطوق، اللهم إلا في بعض الخطب المنبرية وما إليها، تلك الخطب التي لا تعدو أن تكون اقتباسا مباشرا من نصوص قديمة، لم يشهد أصحابها عصرنا الذي نعيش فيه.

هذا التصنيف الثلاثي لمستويات العربية يرشدنا في الحال إلى طريق اختيار الصيغة اللغوية المناسبة للمراحل الأولى من التعليم في الوطن العربي كله.

إننا نختار أن تكون الفصحى المعاصرة هي محور العمل في هذه المراحل وهدفنا الأول فيها، على ألا يقف بنا الأمر عند هذا الحد، بل لا بد من الالتجاء إلى المستويين الآخرين والتماس العون منهما، بحسب الحاجة، وبحسب الحال ومقتضياته التربوية والثقافية والقومية.

ص: 228

أما الفصحى المعاصرة هي أساس العمل ومحوره، فلأسباب منوعة نرشحها للقبول أكثر من الصيغ اللغوية الأخرى.

السبب الأول:

أن هذه الفصحى -بالأوصاف السابق ذكرها وموقعها في سلسلة التدرج اللغوي المشار إليه فيما مضى- هي "اللغة القومية" للعرب في عصرنا الحديث. إنها حين تستخدم في الكتابة أو الحديث يفهمها العرب أينما كانوا وأينما حلوا، وإن كان ذلك بدرجات تتفاوت قليلا بحسب السن أو الثقافة أو درجة التعليم. إن المؤلف أو البحث أو المقال المعين يكتب بها في القاهرة أو في بيروت أو بغداد أو غيرها من العواصم العربية فيلتقطه الناس ويتناولونه بالقراءة، ويدركون ما فيه في سهولة ويسر، ويستوعبون مادته إلى حد كبير.

وإن استمع إليها العرب منطوقة في أي موقع في بلادهم استجابوا لها، وانفعلوا بها وأدركوا ما تحمله من معان وأفكار، بدون معاناة أو بذل مجهود خاص، وسبيلك إلى التأكد من هذا الذي نقول أن تستمع إلى خطاب سياسي جيد أو حديث علمي جاد أو إلى نشرة أخبار مبثوثة على الهواء من إذاعة هذا العربي أو ذاك.

إن العربية الفصحى -بهذا الموقع وتلك الخواص والسمات- تفي بأغراض المبدأ الثاني الذي قررنا وجوب اتباعه فيما سبق، وهو "كون اللغة التي تقدم في المراحل الأولى من التعليم هي اللغة القومية".

والأخذ بهذه الصيغة من الفصحى لا يعني انعزالنا عما سمي "بفصحى التراث" أو بعدنا عنها أو إهمالها بحال من الأحوال، إن الفصحيين كلتيهما حلقتان متصلتان اتصالا وثيقا، ليس بينهما انعزال أو حدود فاصلة فصلا تاما. إنهما أشبه بجانبين من جوانب شيء واحد اختص كل جانب منهما

ص: 229

بمجموعة من السمات التي لا تلبث أن تتلاشى أو تقل بمجرد الانتقال من وإلى هذه الصيغة أو تلك. على أنا قد قررنا منذ البداية وجوب الاستعانة بفصحى التراث والتدرج إليها، حتى نصل في النهاية "وهذا أمل كبير" إلى أسلوب عربي موحد، لك فيما بعد أن تسميه "اللغة المشتركة" أو "الفصحى" بدون نعوت أو أوصاف مميزة.

السبب الثاني:

الفصحى المعاصرة -كما نعهدها ونستخدمها الآن- ليست مجهولة تمام الجهل للمتعلمين، وإن شق عليهم التحدث بها أو استخدامها في التعبير عن ذوات أنفسهم، وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تقابل تلاميذ المراحل الأولى، حيث إنه من المقرر وجوب البدء معهم بما يعرفون وبما يستطيعون استخدامه في الحديث، وبما يألفونه ويقع تحت خبرتهم من ثروة لغوية. وهنا ينبغي أن نقف وقفة متأنية لنتدبر الأمر.

علينا في هذا الموقف أن نلجأ إلى طريقين اثنين متصلين غير منفصلين.

أولهما: استغلال ما لديهم من معرفة بعناصر الفصحى المعاصرة، تلك المعرفة التي حصلوا عليها بطريق الاستماع إلى الأحاديث الجيدة من الإذاعة وغيرها من وسائل الإعلام والتثقيف. إن هذه العناصر - على الرغم من قلتها -تمثل خطوة على الطريق.

ثانيهما: "وهو الأهم" سبيلنا إلى استغلال هذه العناصر الفصيحة وتنميتها هو اتخاذنا العامية "في الوطن العربي المعين" مدخلا إلى الفصحى ومعبرا إليها. وربما يسهل علينا ذلك ما نلمسه من تداخل بين الفصحى المعاصرة وبعض عناصر العامية، وبخاصة فيما يتعلق بالثروة اللفظية. إننا -بقطع النظر عن قواعد الإعراب وبعض قواعد النظم- نستطيع الانتقال من العامية إلى الفصحى، كما نستطيع أن نعثر على عناصر فصيحة مهمة في

ص: 230

ثنايا العامية. إن العامية في الوقت الحاضر ليست بعيدة عن "الفصحى المعاصرة" بالقدر الذي يظنه بعض الناس. إن الدراسة الجادة والبحث العلمي الدقيق كفيلان بالعثور على عناصر مشتركة كثيرة. تصلح في نظرنا نقطة بدء موقوت لتعليم اللغة القومية في المراحل الأولى.

وهنا ينبغي أن نشير إلى أمرين مهمين:

1-

إن هذا المنهج ليس دعوة إلى العامية بحال من الأحوال. إنه على العكس من ذلك يرمي إلى خدمة لغتنا القومية، وذلك بسبب الوصول إليها والتمكن منها من طريق واقعي مألوف للمتعلمين، ومن ثم يقبل المتعلم على ما يلقى إليه ولا يمله أو يرغب عنه.

2-

إن الأخذ من العامية ليس أخذا مطلقا في المادة أو الفترة الزمنية. أما من حيث المادة فهذا الأخذ مشروط بعملية الانتقاء والاختيار، وهو من حيث الفترة الزمنية أخذ موقوت كما قررنا، فلا علينا إن نحن أخذنا -في البداية- بعناصر عامية مختارة لفترة محددة، محاولين التقليل أوالتخلص منها بالتدريج، حتى يقف التلميذ على أرض صلبة يستطيع الانطلاق منها نحو الفصحى بدرجاتها ومستوياتها المختلفة.

هذا الطريق بجانبيه يضمن لنا الوفاء بالمبدأ الأول المقرر الأخذ به في عملية التعليم بعامة. وهو مبدأ "وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول" ومعناه في النهاية أن الأخذ بالفصحى المعاصرة مع الاعتماد على عناصر مختارة من العامية والتدرج من هذه الفصحى إلى فصحى التراث يتمشى مع المبدأين المقررين والواجب اتباعهما معا في تعليم اللغة.

وهنا قد يتساءل الناس: كيف تتخذ العامية مدخلا إلى الفصحى ومعبرا إليها؟ والإجابة عن هذه التساؤل تتلخص في وجوب القيام بعملية اختيار وانتقاء. وهذا الاختيار في حاجة إلى دراسة شاملة واسعة للهجات، لتعرُّفِ

ص: 231

تلك العناصر التي يمكن أن تستقل في هذا الشأن. ولقد حاولت دراسات سابقة الإجابة بدورها عن هذا السؤال. ولكن أيا منها لم يخرج متكاملا، بحيث يمكن الاعتماد عليه جملة وتفصيلا. إنها في عمومها دراسات ضيقة المجال، محدودة الإطار، قنعت بالنظر في الثروة اللفظية لعدد محدود من التلاميذ أو المدارس في بيئات معدودة، وألقت بنتائج الأخذ بها أخذا مطلقا في هذا المجال المنذر بالخطر.

ولسنا نزعم أننا قدمنا بمثل هذه الدراسة أو ننتوي القيام بها وحدنا. ولكنا نستطيع أن نضع أمام المهتمين بشئون تعليم العربية عدة مبادئ يمكن الاسترشاد بها أو الإضافة إليها أو تعديلها.

يمكن الاستعانة بالعامية في مجالين اثنين:

المجال الأول: مجال الألفاظ

ألفاظ اللغة هي اللبنات التي يتكون منها البناء الكبير، ومن ثم كان الاهتمام بحصرها وجمعها الشغل الشاغل للغويين في القديم والحديث، لأنها تمثل الثروة اللفظية للغة المعينة. غير أنه ينبغي في مقامنا هذا الاهتمام بحصر الألفاظ التي تسعفنا في هدفنا هذا، والتي تمدنا بالعون في الأخذ بيد المتعلم في هذه المراحل المبكرة.

وينبغي أن نخضع هذا الحصر لمبدأ الشيوع في الاستعمال، أي: أن نوجه العناية أول ما نوجه نحو جمع الألفاظ التي يشيع ذكرها ويكثر ترددها على ألسنة الأطفال القادمين إلى المدارس أو المقيدين بمراحلها الأولى بالفعل. والاهتمام بمبدأ الشيوع جد مهم، لأن كثرة استعمال المتعلمين للكلمة المعينة تعني أنها مألوفة لهم وتقع تحت خبرتهم المباشرة ومن ثم يصبح استغلالها استغلالا مثمرا ناجحا. والمفروض أن تحديد الشيوع أو عدم الشيوع أمر يخضع لعمليات إحصائية، مسبوقة بمسح شامل للقطاع اللغوي المعين

ص: 232

والكلمات أو الألفاظ التي يمكن الاستعانة بها في هذا المجال ذات أنواع وأنماط متعددة. أهمها في نظرنا "آخذين في الحسبان اللهجة المصرية وحدها" ما يلي:

أ- كلمات فصيحة:

بالعامية كلمات فصيحة صرفة، جاءت على أوزان منوعة أو أجناس من الكلم المختلفة، وتنتمي إلى مجالات متعددة من ألوان الثقافة والخبرة. وقد تستعمل هذه الكلمات في مدلولاتها الأصلية أو فيما يقرب منها، وقد تبعد عن هذه المدلولات بصورة أو بأخرى.

وهذه نماذج يكثر ورود أمثلتها في العامية المصرية.

1-

أسماء: وقد تكون ذات دلالات حسية أو معنوية مجردة، من ذلك: باب، شارع، ولد، بنت، شمس، حب، حس، عدل، حرية، أمل

إلخ.

2-

أفعال: والفعل الماضي بالذات أشهرها وأكثرها استعمالا. أما المضارع فقد أصابه تطور ملحوظ، فقد تدخل الباء على صيغة بوصفها سابقة ذات دلالاة معينة، أو الحاء متلوة بفتحة للإشارة إلى زمن معين:

"باكل، بيشرب""حاكل، حيشرب"

وكذلك فعل الأمر، بعدت أمثلة كثيرة من أوزانه وصيغه عن قواعد الفصحى، بسبب عدم مراعاة قواعد البناء وما ينتج عن ذلك من تغيير في مكونات الصيغة أو الوزن. ويظهر هذا بوجه خاص في الأفعال الجوف والناقصة، حيث يقولون:

روح، بيع، وأرمي، غني "للمفرد المذكر".

أما الأمثلة الماضية فهي كثيرة جدا ومنها:

ص: 233

ضرب، كتب، فتح، نادى، غنى، راح، باح1

إلخ.

3-

أوزان بذواتها:

وزن "أفعل" -دالا على لون أو عيب- جاءت أمثلته كلها تقريبا على وفاق الفصحى بدون تغيير:

أحمر، أخضر، أبيض، وأعمى، أعود

إلخ.

"أفعل التفضيل متلوا بمن، هو الآخر كثير الورود والاستعمال على نظام الفصحى""أسرع، أحسن، أفضل، أكبر".

أسماء الفاعلين والمفعولين على وزن "فاعل ومفعول""ما عدا ما صيغ من فعل أجوف أو ناقص"، يكثر ورودها على صورها الفصيحة، بدون تغيير:

اسم الفاعل اسم المفعول

فاهم مفهوم

عارف معروف

كاتب مكتوب

كما نلاحظ أن كثيرا من أسماء الزمان والمكان من الثلاثي ذات حظ كبير من الاستعمال على وفق ما ورد في الفصحى: مكتب، مدخل، ملعب، مرمى

إلخ.

وينتسب إلى هذا الباب "باب الكلمات الفصيحة الصرفة" كلمات تستعمل على وجهها الصحيح ويظن الناس أنها عامية خالصة، من هذه الكلمات:

1 لم نذكر شيئا من الحروف لأنه لا قيمة لاستعمالها وحدها.

ص: 234

خر = في القاموس: خر الماء سقط من علو إلى سفل بصوت.

خام = في القاموس: الخام الجلد لم يدبغ.

رف = في القاموس: الرف شبه الطاق عليه طوائف البيت.

سك "الباب" = في القاموس: السك: سد الشيء.

ولعل "سك" أصلها "صك" بالصاد وفي القاموس: صك الباب أغلقه. والمعنيان كما ترى متقاربان، كما أن النطق فيهما أيضا متقارب.

خش = في القاموس: خششت فيه دخلت.

داس = في القاموس: الدوس الوطء بالرجل، وفي المختار: داس الشيء برجله.

المداس = في القاموس: المداس الذي يلبس في الرجل.

شاف = في القاموس: شاف الشيء شوفا جلاه.

وهكذا نستطيع أن نأتي بمئات من الكمات من هذا القبيل، لو نحن كنا بصدد الحصر، ولكنا نعني هنا بالتمثيل فقط1.

ب- كلمات يمكن تفصيحها:

نقصد بالتفصيح محاولة إرجاع الكلمة إلى أصل فصيح، إما بالإشارة إلى ما أصابها من تغيير أو تطور في الوزن أو في بعض الأصوات، وإما بردها إلى لهجة قديمة. وهذا النوع من الكلمات ذو أمثلة فائقة الحصر والعد، ومن ثم سوف نعني هنا بإيراد أمثلة لنماذج مختلفة فيها:

1-

كلمات ذات أصل فصيح ولكن أصاب بعض أصواتها الصامتة شيء من التغيير في النطق، مثل:

1 يمكن الاستعانة في هذا الباب "باب الكلمات الفصيحة ويظن الناس أنها عامية" بكثير من الدراسات الجادة، مثل "تهذيب الألفاظ العامية" للشيخ محمد على الدسوقي و"معجم الألفاظ العامية ذات الأصول العربية" للدكتور عبد المنعم سيد سالم.

ص: 235

"زعق، زقاق""تنطق القاف همزة في القاهرة ونحوها من المدن المصرية".

"جمل، جميل""ينطق الجيم الفصيحة المركبة "جيما انفجارية خالصة على أن هذا النطق الثاني نفسه يروى أنه لهجة قديمة فصيحة".

"تلاته، سوره""ينطق الثاء تاء في الأولى وسينا في الثانية".

"زكي، زليل""ينطق الذال فيهما زايا".

"ظلم، ظلام" ينطق الظاء فيهما زايا مفخمة".

كلمات أصاب بعض حركاتها تغيير:

شباك "بكسر الشين والفصيح ضمها".

شتيمة "بكسر الشين والفصيح فتحها".

فتك "بكسر الفاء والتاء والفصيح "فتك" بفتح الفاء وكسر التاء".

فيهم يسمع "بكسر الأول والثاني فيهما والفصيح فتح الأول وكسر الثاني، وهذا الوزن من الأفعال كثير جدا".

ومن المفيد أن نعلم أن هذا التغيير في الحركات أدى بطبيعة الحال إلى تغيير الأوزان، وهذا التغيير بصورتيه ملحوظ في الأفعال المضارعة إلى حد كبير، كما نعلم جميعا.

ومن أشهر أمثلة تغيير الحركات بسبب التطور الصوتي تحويل الفتحة المتبوعة بياء ساكنة إلى حركة طويلة أمامية نصف ضيقة وتحويل الفتحة المتبوعة بواو ساكنة إلى حركة طويلة خلفية نصف ضيقة، مثل بيت "bayt" في العامية "beet" يوم "yawm" في العامية "yoom".

3-

كلمات أو أوزان جاءت على وفق لهجة قديمة، وهذا النوع أمثلته كثيرة

ص: 236

وذات أشكال عدة، وبسبب هذه الكثرة سوف نشير إلى الظاهرة الأساسية، مع ذكر نماذج محدودة:

أ- تسهيل الهمزة: "فار، راس" وذلك معروف في لهجة عربية قديمة.

ب- كسر حرف المضارعة: "يفهم، يفتح"، وهو لغة بهراء.

جـ- حذف نون "من" الجاره: ملآن "من الآن" وهو لغة خثعم وزبيد من اليمن.

د- حذف اللام والألف من "على" الجاره. علمفرس عللحته "على اللجنة" وهو لغة بلحارث.

وهذا السلوك في العامية أشبه بقانون مطرد. وهناك إلى جانب ذلك أمثلة متفرقة جاءت على أوزان وصور مختلفة، وكلها -أو جلها- يمكن ردها إلى أصل فصيح، بشيء من التعمق والنظر الدقيق، من ذلك:

"هو" بتشديد الواو.

"امبارح" بالميم بدلا من اللام في أداة التعريف، وهذه لهجة معروفة.

"مديون" بالتصحيح بدلا من الإعلال "مدين"، ويروى أنها لهجة تميم.

4-

كلمات حدث فيها تغيير بالزيادة أو القلب أو الإبدال.

"بحلق" وأصلها الفصيح "حملق".

"يطوح" وأصلها الفصيح "يتطوح".

"راجل" بزيادة ألف وتغيير في الأصوات.

جـ- كلمات معربة أو دخيلة:

وهذه كثيرة الاستعمال في العامية، وقد دخلتها "وغيرها" عن طريق الاتصال الثقافي والعلمي بلغات أجنبية مختلفة. وهي في معظمها تعبر عن

ص: 237

مظاهر الحضارة والتقدم العلمي في العصر الحديث. ولسنا هنا بصدد التمثيل لهذا النوع من الكلمات، فهي معروفة لنا جميعا، ونستخدمها في حياتنا العامة والخاصة في المجالات المختلفة. والأهم من ذلك كله أن نقرر أنه لا ضير علينا مطلقا إن نحن استخدمنا هذه الكلمات على المستويين العامي والفصيح، لأنها ذات مدلولات خاصة، ليس من السهل أحيانا التعبير عنها بألفاظ عربية. أو قل: إنه ينبغي -في أقل تقدير- أن نستعملها فترة معينة من الزمن حتى تستقر مدلولاتها في أذهان الناس، وحينئذ علينا أن نحاول ترجمتها بالتدريج، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

المجال الثاني مجال الجمل والعبارات:

يمكن أن نستعين كذلك بالعامية في مجال الجمل والتراكيب. والمعروف أن اللغة ليست كلمات أو ألفاظا مفردة، وإنما هي كلمات وألفاظ صنعت في نسق معين، وضم بعضها إلى بعض على نظام خاص، وفقا لقواعد اللغة المعينة في ذلك. وحصيلة هذا الضم والنظم في التراكيب التي يمثل لها عادة بالجمل أو العبارات.

والحق أن الاستعانة بالعامية في مجال الجمل والعبارات أجدى من الجري وراء الألفاظ، ولكن الواقع الملموس يمنعنا من هذه الإفادة على الوجه المأمول، ذلك لأن قواعد نظم الكلام في العامية خرج في عمومه عن قوانين الفصحى في ذلك إلى حد واضح، وبالرغم من هذا سوف نحاول رسم خطة موجزة يمكن جعلها مدخلا لدراسة شاملة لهذا الموضوع.

ينبغي أن تكون الاستعانة في هذا المقام مركزة على أنماط الجمل، لا على مكونات هذه الأنماط، ولكن لا ضير علينا إن نحن أخذنا في الحسبان هذه المكونات كذلك إذا كانت فصيحة أو قابلة للتفصيح على الوجه الذي بينا.

ص: 238

وأشهر أنماط الجمل في العامية التي يمكن الأخذ بها أو الانطلاق منها نمطان معروفان هما:

1-

مبتدأ + خبر

2-

فعل + فاعل

والنمط الأول أكثر ذيوعا واستعمالا في العامية، وليس بعيدا عن الفصحى، حتى إذا كان الخبر فعلا، غاية الأمر أنه قليل نسبيا، وشروط استعماله بمقامه المناسب له حسب قواعد البلاغة العربية.

والمكون الثاني لهذا النمط الأول قد يكون اسما مفردا أو جملة فعلية أو اسمية أو شبه جملة. ومكونات هذا النمط بجزأيه معروفة للتلميذ بحسب أنواعها سواء أكانت أسماء أم "بالنسبة للمكون الثاني وحده" أفعالا أم شبه جملة. ووظيفتنا استغلال هذه المعرفة السليقية بحشو هذا الموقع بكلمات فصيحة، أو كلمات لها أصل فصيح.

أما النمط الثاني "وهو الأقل ورودًا في العامية" فينبغي الأخذ به بطريق تدريجي حتى نصل بالمتعلم إلى درجة تقربه من سلوك الفصيحة في ذلك.

على أن هذين النمطين إنما يمكن العمل بهما في الإثبات بصورة أوسع وأشمل من زميليه الاستفهام والنفي.

ذلك لأن جمل الاستفهام الخاص، قد تغيرت قواعد نظمها إلى حد كبير، من ذلك مثلا أن أداة الاستفهام الخاصة تأتي عادة في نهاية الجملة في اللغة العامية، على العكس من المتفق عليه في الفصحى:

الولد فين؟ × أين الولد؟

هذا بالإضافة إلى أن واحدا من مكونات الجملة "وهو أداة الاستفهام"

ص: 239

قد يعد بعدا واضحا عن صيغه المقررة في الفصيحة، بالرغم من عدم استحالة تفصيحه بصورة أخرى.

أما جمل الاستفهام العام فيمكن الالتجاء إليها وينبغي استغلالها. فهي في عمومها ما زالت -في نظمها- تجري على قواعد العربية باستثناء أداة الاستفهام: الهمزة أو "هل".

الولد في البيت × آلولد في البيت؟

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن على المعلم واجبا ملحا في وجوب تصوير النطق تصويرا صادقا بحسب قواعد أنماط هذه الجمل. إن العامية هنا استعاضت بالتنغيم عن الأداة، وخاصة هذا التنغيم، إنه تنغيم صاعد للإشارة إلى عدم تمام الكلام، وتمامه إنما يكون بالإجابة عن السؤال.

وأنماط جمل النفي في العامية قد طورت لنفسها قواعد من النظم ليس من السهل "في هذه المراحل المبكرة" أن نفحصها، حيث إن ذلك يأخذ وقتا طويلا ويحمل المتعلم عنتا وجهدا:

الولد "أو الواد" مش فاهم "عامية" الولد ليس فاهما "فصيحة".

ما كتبتوش "عامية" × لم أكتبه "فصيحة"

إلخ.

ويمكن -بدلا من ذلك- بذل شيء من الجهد في سبيل تقديم أنماط منفية فصيحة يحتاج انتفاؤها إلى دقة فائقة من المعلم.

ومهما يكن من أمر فهذه إشارة إلى الطريق، وعلى المهتمين بشئون التعليم أن يعكفوا على دراسة هذا المجال. إنهم إن فعلوا ذلك بصدق وإخلاص لا بد واصلون إلى نتيجة يمكن الاعتماد عليها والانطلاق منها إلى خط تعليمي واضح سليم.

هذا الطريق الذي رسمناه يوضح لنا كيف يمكن أن نأخذ بيد التلميذ

ص: 240

منطلقين به من مادة يعرفها إلى مادة مجهولة أو تكاد تكون كذلك. وبالمثل نستطيع أن نتدرج به من الفصحى المعاصرة إلى فصحى التراث، وبذلك تكمل حلقات لغتنا القومية وندخل في مجال موحد هو مجال العربية في عمومها، بدون تصنيف جاد لمستوياتها.

ولكن الالتجاء إلى فصحى التراث تقتضي منا حذرا وعناية، ويوجب علينا النظر في الأمر بموضوعية غير مشوبة بالعواطف أو متبوعة بتسحر وأسى.

نستطيع أن نأخذ من فصحى التراث أسهل نماذجها، وأقربها إلى المعهود لدى المتعلم وأن نسير به في خطى متدرجة. وليس يعوزنا العثور على كثير من النماذج التي تفي بغرض التعليم السليم والحصول على قدر كاف من كنوز تراثنا وثقافتنا الأصيلة.

القرآن الكريم مملوء بالنماذج الرائعة في السهولة وقرب التناول.

ولذلك الحديث الشريف والأدب العربي -نثرا وشعرا- نستطيع أن نقتطف منهما نماذج كثيرة منوعة، تنطلق كلها بالسهولة والقرب من إدراك المتعلمين في أية مرحلة، ولكن الأمر يحتاج إلى عناية في الاختيار، وإلى دقة في رسم خطة الأخذ منهما، بحسب الحاجة ومقتضيات السن والمستوى الثقافي للطلاب.

هذا السبيل الذي رسمناه إن اتخذناه كفيل بأن يضع لنا أساسا سليما ومنطلقا صالحا لتعليم اللغة في المراحل الأولى، وجدير أن يربط حاضرنا بماضينا ويفتح أعيننا على مستقبل لغوي أغنى مادة وأكثر ثروة. ولكن هذا المنهج يحتاج إلى عمل متواصل ودراسات مستمرة، تتمثل في النظر الدائم في العامية لتعيين الصالح منها وتحديد القدر المناسب للأخذ به من حيث القلة والكثرة، بحسب الترقي في مراحل التعليم، كما تتمثل في الرجوع إلى

ص: 241

فصحى التراث لمراجعة آثارها وكنوزها واختيار ما يتسق مع هذا المنهج، بحيث يكون الانتقال إليهما انتقالا طبيعيا غير مصطنع، حتى تأتي في نهاية المطاف إلى صيغة لغوية عامة مقبولة تمثل ثقافتنا في كل العصور وتعبر عن حاجاتنا في مجتمع حديث، مملوء بمظاهر العلم والحضارة.

إرشادات إلى مبادئ الاختيار:

إنه من الخطأ والخطر أن تلتقط المادة اللغوية التقاطا وتقدم إلى التلاميذ دون درس ونظر دقيقين، بل ينبغي أن يقوم الأمر على أساس من الاختيار الذي تحدده مجموعة من المبادئ أو الذي يتحرك ضمن إطار عام في أقل تقدير. ولسنا بقادرين هنا أن نأتي على كل هذه المبادئ أو معظمها أو أن نحدد إطارا معينا يلتزم به الدارسون. ومن ثم سوف نقنع بذكر أمثلة من القواعد التي يمكن الاسترشاد بها عند اختيار المادة، وهي قواعد تهدف إلى تسهيل الأمر على التلاميذ ومساعدتهم على تقبلها بدون عناء أو بذل جهد كبير.

من المبادئ المقررة بين المربين وجوب الحرص على فكرة التوازن بين جوانب المادة، وبخاصة في حالتنا هذه، تلك الحالة التي تأخذ من الفصحى المعاصرة محورها الأساسي، مع امتدادها إلى العامية وفصحى التراث للأخذ منهما. فها هنا ينبغي ألا يطغى جانب على الآخر، وإنما تمثل الجوانب كلها تمثيلا مناسبا، وفقا لظروف الحال، ومقتضيات المستوى الثقافي للتلاميذ.

وعلينا في كل الحالات أن نأخذ في الحسبان تلك العناصر اللغوية المختلفة التي من شأنها أن ترشح المادة للاختيار. هذه العناصر ذات أنواع شتى منها ما يتصل بالكلمة المفردة ومنها ما يختص بالجملة.

ص: 242

أولا: في الكلمة

هناك صفات صوتية وصرفية ودلالية جديرة أن تجعل الكلمة مستساغة وأكثر قبولا.

أ- صفات صوتية:

1-

الأقرب إلى روح المنهج الصحيح أن تخلو الكلمة من الأصوات الصعبة في بداية الأمر، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا. من هذه الأصوات الصعبة بالنسبة للصغار: الثاء والذال والظاء، وحروف الإطباق: الصاد والضاد والطاء "والظاء". أما الجمع بينها أو تتابعها في كلمة واحدة فهو أمر يكلف المتعلم جهدا وعنتا، كما في نحو: اضطر، اصطبر، إلخ.

وترجع الصعوبة في نطق هذه الأصوات إلى طبائعها وإلى عدم إتيان الكبار لها على الوجه الصحيح1.

2-

الجمع بين أصوات أقصى جهاز النطق "الحنجرة وأقصى الحنك" يمثل صعوبة ظاهرة، كالجمع بين العين والهاء، أو العين والخاء.

3-

الكلمات إذا قلت مقاطعها وقصرت كانت أفضل، وأولى بالاختيار. على أن هناك أصواتا تألفها الأذن العربية ويكثر الناس من استعمالها لاحتوائها على عنصر الوضوح السمعي أو عنصر "الغنائية". من هذه الأصوات ما يعرف بأصوات الذلاقة2 التي يجمعها قولهم "مر بنقل" وكذلك أصوات الرنين أو ما تسمى بأشباه الحركات ويجمعها علماء

1 الصعوبة والسهولة أمران نسبيان، فالثاء والدال والظاء في بلد مثل الكويت لا تمثل صعوبة للصغار لكثرة ورودها على ألسنة الكبار من حولهم.

2 للتوسع في موضوع أصوات الذلاقة، اقرأ لنا بحث "الأصوات المتوسطة والأصوات الذلق، رأى في المفهوم وبيان للخواص" نشر بمجلة البحوث والدراسات العربية، العدد 25، يوليو/ تموز 1996، ص47-65.

ص: 243

العربية في قولهم "لن عمر"، أو "لم يروعنا" في رأي بعضهم وفي استطاعتنا استغلال هذه الخاصة لتلك الأصوات باختيار الكلمات التي تنتظمها.

ب- صفات صرفية:

1-

الأولى أن تكون الكلمات على وفق الأوزان السهلة المقبولة: "فعل" أولى من "أفعل"، وهذا أفضل من "افعلل" إلخ.

2-

الكلمات الخالية من اللواصق " " أفضل من تلك التي تشحن بهذه اللواصق، فأعطى مثلا أفضل من "أعطاكها" حيث جاء الفعل الأول مجردا من أية لاصقة على حين ورد الثاني بلاحقين " ".

جـ- من حيث الدلالة:

إن الاهتمام بالدلالة أو المعنى لا يقل عن الاهتمام بالشكل والصورة للكلمة، إذ لا خير في كلمة غمض معناها أو التبس على المتعلم. إن الاغتناء بالألفاظ دون مراعاة المعاني خطأ وخطر، إذ يجعل من التلميذ مجرد آلة يردد ما يسمع دون أن يعي شيئا.

ومن ثم ينبغي أن نقرر أن البدء بالكلمات ذات المعاني المحسة خطوة على الطريق السليم، أما الألفاظ ذات المعاني المجردة أو المفهومات الفلسفية أو الجدلية فهيهات أن يفيد منها المتعلم في هذه السن المبكرة.

وعلى هذا النهج ننصح المربين بالتقليل ما أمكن من استعمال الكلمات التي تؤدي إلى سوء الفهم أو الغموض، كالمشترك اللفظي والتضاد والمجاز، وما إلى ذلك من تلك الكلمات التي تحتمل أكثر من معنى، ولا يمكن التفريق بين معانيها إلا في سياقات معينة، ربما لا تقع تحت خبرة المتعلمين الصغار.

ص: 244

ثانيا: في الجملة

للجملة هي الأخرى صفات تتعلق بالنظم وطرائقه تجعلها أقرب منالا وأكثر قبولا لدى المتعلم الصغير. من هذه الصفات وأهمها:

1-

الجملة القصيرة أولى من الجملة الطويلة، لأن الطويلة تتطلب من التلميذ مجهودًا يتمثل في عملية الربط بين مكوناتها الداخلية. والقصر والطول من الأمور النسبية على كل حال، وهنا تظهر براعة المعلم في تحديد ما يختار. ومهما يكن من أمر ينبغي ألا تحشى الجملة بأعداد من المتعلقات أو المكلمات التي يمكن التعبير عنها في جمل أخرى مستقلة.

2-

الجملة البسيطة أولى من الجملة المركبة. ومن أمثلة الجمل المركبة تلك التي تشتمل على "أداة ربط" مثل "إن" و"إذا". إن الجملة من هذا النمط تحتوي على جملتين بسيطتين تنتهي كل واحدة منهما بنغمة موسيقية خاصة: الأولى "في حالتنا هذه" تنتهي بنغمة صاعدة إشارة إلى أن الكلام لم يتم، والثانية تنتهي بنغمة هابطة دلالة على انتهاء الكلام. وإنه لمن الصعب على المتعلم الصغير أن يأتي بنغمتين من نمطين مختلفين في منطوق واحد. نعم، قد يستطيع نطق هذه الجملة المركبة ولكنه سوف يخطئ في موسيقاها، دون شك.

3-

ينبغي أن تراعى قواعد التقديم والتأخير في الجملة، بحسب الشائع والأكثر استعمالا. فالمبتدأ الأولى به أن يكون في موقعه، لا أن يسبقه الخبر، والمفعول به ينبغي أن يأخذ مكانه حسب القواعد العامة، إذ تقديمه على الفاعل أو عليه وعلى الفعل معا يؤدي إلى تعقيد ظاهر.

تلك إشارات على الطريق أو نماذج مما ينبغي الأخذ به من صفات وسمات لغوية عند القيام بعملية اختيار المادة، سواء انتخبت هذ المادة من العامية أو من الفصحى بمستوييها.

ص: 245

على أن الأمر كله في حاجة ملحة إلى بحوث كثيرة، يضطلع بها المربون واللغويون معا، علنا في نهاية المطاف نصل إلى مستوى لغوي مقبول.

وسائل التقريب بين المستويات المختلفة:

يفترض أن اللغة التي يمكن أن تقدم إلى المتعلمين في هذه المرحلة هي اللغة العامية، أو ما يقرب أن يكون كذلك على أحسن تقدير.

ولكنا -كما يرى القارئ في الصفحات السابقة- لم نأخذ بهذا الافتراض على إطلاقه وإنما رأينا أن يكون محور عملنا هو الفصحى المعاصرة مع الامتداد بحدودها نحو العامية وفصحى التراث.

وموضوع التقريب بين المستويات اللغوية موضوع عام، يحتاج إلى بحث مستقل. ولكنا تتميما للفائدة -نستطيع أن نرسم خطوطا لجوانبه، ووسائله.

من أهم هذه الوسائل ما قمنا به بالفعل في بحثنا هذا. ونعني بذلك الاهتمام بالصيغة اللغوية الوسطى "الفصحى المعاصرة" مع الاتجاه نحو العامية لالتقاط فصيحها أو اختيار ما يمكن تفصيحه والسير بالتدريج نحو فصحى التراث، على الوجه الذي بيناه سابقا.

أما الوسائل أو العوامل الأخرى فهي كثيرة، وهي متدخلة متشابكة، تتعاون فيما بينها تعاونا وثيقا نحو الوصول إلى هدف محدد هو تكوين ما يمكن أن يسمى باللغة المشتركة أو اللغة القومية العامة، ويمكن تسميتها في الوقت نفسه "باللغة الفصحى أو الفصيحة".

وهذه الوسائل كلها يمكن ضمها تحت عامل واحد هو "التثقيف اللغوي القومي"، والنعت "بالقومي" جد مهم، لأنه يخرج العامية من الحسبان إذ هي ليست لغة قومية للعرب، وإنما هي صور من الكلام مختلفة، بحسب اختلاف البيئات والمستويات الثقافية الاجتماعية.

ص: 246

وأمثلة هذا التثقيف اللغوي القومي كثيرة، ولكنها تعتمد جميعا على التمسك بصيغة لغوية مقبولة ثقافيا وقوميا. تلك الصيغة أشبه بما يمكن أن يسمى "اللغة الأساسية" أو "اللغة النموذجية" إلخ.

من هذه الأمثلة:

1-

تثقيف الأسرة:

تثقيف الأسرة تثقيفا لغويا أمر ذو خطر وبال، حيث يتلقى الطفل مبادئ الكلام وأسسه في محيط هذه الأسرة. إنه يشب على وفق ما يسمع.

2-

وسائل الإعلام:

الإذاعة "بوسيلتيها الراديو والتليفزيون" والصحافة من أخطر الوسائل للتقريب بين المستويات اللغوية، إن هي اتخذت لنفسها سبيلا واضحا وخطة مرسومة في المجال اللغوي.

الإذاعة يسمعها الصغار والكبار، وكذلك يسمعها الناس على اختلاف طبقاتهم وحرفهم وصنائعهم. والكلام المسموع ذو تأثير فعال. فإذا جرت هذه الإذاعة على استعمال نمط من الكلام موحد وصحيح ألفه المستمعون، وأغلب الظن أنهم سيقلدونه ويسيرون على منواله.

وكذلك الحال بالنسبة للصحافة، وإن كان جمهورها أقل من جمهور الكلمة المسموعة، ولكنها لا بد أن تترك أثرها على القراء.

3-

الغناء والأدب بفنونه:

الغناء كلمات مسموعة تلقى بلحن مطرب مشوق. فإن جاءت صحيحة مقبولة فعلت فعلها في نفوس الناس. ولعلنا نذكر أن رجل الشارع يردد من وقت إلى آخر بعض الأغاني الفصيحة، كتلك القصائد المشهورة التي غنتها أم كلثوم، من أمثال "نهج البردة" ونحوها.

ص: 247

والأدب المكتوب والمسموع له دوره الملحوظ في عملية التقريب بين المستويات اللغوية. وقديما قامت أسواق عكاظ وغيرها من الأسواق المعروفة في تاريخنا الأدبي بدور ملموس في التقريب بين اللهجات العربية كان الشاعر يعند إلى قصيدته فيؤلفها بلغة مشتركة، حتى يفهمها الناس الذين يفدون إلى السوق من بيئات مختلفة ذات لهجات منوعة.

4-

المسرح والسينما:

يلعب المسرح والسينما دورا له أثره في حياة الناس. ويستطيع هذان الجهازان أن يقوما بوظيفة تثقيفية جماهيرية، أساسها اللغة الفصيحة، أو لغة مثقفة تصلح واصلة بين العامية الصرفة والفصحى.

5-

النشرات الحكومية:

الملاحظ أن المكاتبات الحكومية لا تعني العناية الكافية باللغة على العكس مما ينتظر الناس، لأن صدورها عن هذه الجهات الرسمية له أثره ويقيننا أن اهتمامها بالأسلوب اللغوي الصحيح سبيل من سبل التقريب وتكوين لغة قومية مشتركة.

6-

الكتب الثقافية:

يجدر بالمسئولين أن يعنوا بالكتاب العام من حيث المضمون والشكل، ذلك لأن مثل هذه الكتب لها جمهور عريض، ومن ثم يجدر بنا أن ننتهز هذه الفرصة فنعني بلغتها، وبذلك تصبح رافدا من روافد الصحة اللغوية. مع ضرورة ضبط هذه المواد بالشكل ضبطا كاملا.

وأن لا ننسى مجلات الأطفال. فهي واحدة من أهم وسائل التقريب، غاية الأمر أن تحرير هذه المجلات يحتاج إلى ذكاء وحسن تصرف في المادة اللغوية، حتى يستطيع الصغير الإفادة منها على الوجه المبتغى.

ص: 248

بهذه الوسائل وغيرها يتسنى لنا أن نقوم بإصلاح لغوي قومي، وما أشد حاجتنا إلى لغة موحدة "أو شبه موحدة" يستخدمها الناس في مجالات حياتهم العامة. والخاصة في مختلف البلدان العربية.

ذلك أمل ننشده، ونظن أننا سائرون إليه وواصلون إلى الدرب بإذن الله، متى صحت النية، وصدقت العزائم.

ص: 249