الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية
لكل لغة سماتها ومميزاتها الخاصة بها، ويستوي في ذلك أن تكون هذه الخواص صوتية أو صرفية أو نحوية أو أسلوبية أو على مستوى الألفاظ ودلالتها. ومن البديهي أن تكون هذه السمات هي جملة الفروق بين لغة وأخرى، وأن تكون الأساس الذي ينبني عليه تحديد اللغات والحكم على هوية كل واحدة منها، وإعطاؤها اسما خاصا بها تنفرد به ويتعرف إليها في كل الحالات.
وليست العربية بدعا في ذلك، فلها ملامحها وظواهرها التي مازتها من غيرها من اللغات، وجعلتها لغة ذات ضوابط وحدود معينة أهلتها للتسمية المعروفة بها منذ أزمان بعيدة، وهي اللغة العربية. وسمات عربيتنا هذه كثيرة كثرة فائقة، هي -في الحق- جملة القواعد والقوانين الضابطة لها ولاستعمالاتها. ولسنا بقادرين -في هذا المقام ونحوه- على أن نأتي بهذه القواعد والقوانين كلها أو جلها. ومن ثم سوف نكتفي هنا بإيراد أمثلة قليلة لشيء من هذه السمات والخواص التي تنفرد أو تكاد تنفرد بها العربية، إما لأنها خاصة بها ومقصورة عليها، وإما لأنه تشيع أو توظف فيها توظيفا يجري على وفق نظم ثابتة مطردة، تجعل هذا الشيوع وذاك التوظيف ملمحا مميزا للغة العربية. أضف إلى ذلك أن الأمثلة التي سقناها هنا محصورة في الجانب الصوتي المميز للغتنا.
فأول ذلك أن اللغة العربية استخدمت جهاز النطق عند الإنسان خير استخدام وأعدله. فقد جاءت أصوات هذه اللغة موزعة على مدارج النطق
توزيعا واسعا شاملا لكل نقاطه ومواضعه. فمن بداية هذا الجهاز -ونعني بذلك الحنجرة- جاءت الهمزة والهاء، ومن نهايته -وتتمثل في الشفتين- جاءت الباء والميم. ومن بين هاتين المدرجتين خرجت بقية الأصوات العربية مندرجة في شبه سلسلة متصلة الحلقات، بحيث لا يقع ازدحام في منطقة أو مناطق، ولا يحدث إهمال لبعضها. فهناك بعد الحنجرة، يقع الحلق ومنه العين والحاء، ثم اللهاة ومنها القاف ثم أقصى الحنك ومنه الغين والخاء والكاف والواو، ثم وسطه ومنه الياء، وهكذا من نقطة إلى أخرى، تخرج أصوات معينة، دون تجاوز لمبدأ التدرج المنتظم الخالي من ظاهرة التجمع عند منطقة وترك أخرى دون استغلال.
نحن لا ننكر أن جهاز النطق عند الإنسان لا يختلف في جملته أو تفصيله من أمة إلى أخرى، أو من فرد إلى آخر، ما لم يكن به عيب خلقي عند هذا أو ذاك. إنما الفرق بين الأمم في هذا المجال يرجع إلى طريق توظيف هذا الجهاز واستغلاله. وأسلوب هذا التوظيف وطريق هذا الاستغلال يؤديان حتما إلى فروق صوتية مميزة، تختلف في القلة والكثرة والصفة بحسب الأحوال. على أن التفاوت بين اللغات في استغلال جهاز النطق لا يعني أن لغة ما أفضل من أخرى؛ إذ إن مسألة الأفضلية هذه مسألة نسبية، إذ ربما يتدخل فيها الذوق الشخصي والنظر غير العلمي أحيانا. ولكن مما لا شك فيه أن نتائج الاختلاف في توظيف هذا الجهاز في النطق يؤدي -بالضرورة- إلى حصيلة من الملامح الصوتية التي تمتاز بها اللغات بعضها من بعض وهذا ما قصدنا إلى إثباته في هذا المجال.
ويرتبط بهذا التوظيف لجهاز النطق في العربية أمور أخرى تضاف إلى جملة الخواص الصوتية للغة العربية.
من ذلك مثلا أن جملة كبيرة من أصوات هذه اللغة يقع بعضها من بعض موقع التقابل أو التناظر. فهناك نلمح أن بعض الأصوات تصدر عن مخرج
نطقي واحد، ولكنها -على الرغم من اشتراكها في هذه الدائرة- تختلف فيما بينها بسمة أو بأخرى تجعل كل واحد منها صوتا مستقلا، له دور في تركيب المقطع أو الكلمة، وفي دلالة هذه الكلمة ووظيفتها.
فالهمزة والهاء منطقتهما النطقية واحدة، ولكن يختص كل واحد من الصوتين بملمح ينفرد به، يؤهله للاستقلال والكيان الخاص، فالهمزة وقفة انفجارية، أو صوت شديد في اصطلاحهم في القديم، والهاء احتكاكي أو رخو، ومن ثم سار كل صوت في طريقه يؤدي دوره في اللغة، فلدينا مثلا "آب" و"هاب" افترقت الكلمتان وصار لكل منهما معنى مستقل بسبب وجود الهمزة في الكلمة الأولى والهاء في الثانية.
وهناك أيضا العين والحاء وهما جميعا من منطقة الحلق، ويتفقان أيضا في كيفية مرور الهواء عند النطق بها، ولكن العين صوت تتذبذب الأوتار الصوتية عند نطقه، والحاء لا تحدث معه ذبذبة من أي نوع، فكان الأول مجهورا والثاني مهموسا. وهذه السمة فرقت بينهما ورشحت كلا منهما للاستقلال، بدليل أننا نقول:"عور" و"حور" بمعنيين مختلفين تماما. وذلك -كما هو واضح- إنما يرجع إلى وجود العين في الأولى والحاء في الثانية ومثل هذا الذي نقول ينطبق بتمامه على الذال والثاء: فهما مما بين الأسنان واحتكاكيان، ولكن الذال مجهور والثاء مهموس، ومن ثم كان الفرق في نحو:"ذاب" و"ثاب" بمعنيين مستقلين.
وهذا مثال آخر يشرح صفة التقابل هذه بين أصوات العربية: التاء والطاء مثلا صوتان يتفقان في المخرج وفي صفة الوقف والانفجار والهمس، ولكن عملية فسيولوجية معينة تحدث عند النطق بالطاء فتجعلها صوتا مفخما، وهذا التفخيم له دور ووظيفة، إذ هو الملمح الوحيد الذي يميز الطاء من التاء، ويمنح هذه الطاء كيانا خاصا تستطيع أن تؤدي وظيفة لغوية تختلف عن تلك المدة التى
للتاء: قارن "طاب" و"تاب": كلمتان مستقلتان بمعنيين مختلفين، بسبب وجود الطاء المفخمة في الكلمة الأولى والتاء المرققة في الثانية.
ربما يوجد ما يشبه هذا التناظر أو التقابل في أصوات بعض اللغات كما يتمثل ذلك في الصورتين الأوليين من الكلمتين: this و three في اللغة الإنجليزية. ولكن من المهم أن ندرك أن هذا التقابل لا يجري على سنن مطرد في تكوين الكلمات وبنيتها، فهو إن وجد فإنما يكون ذلك في كلمتين أو كلمات معدودات دون أن يتخذ مسارا أو اتجاها مستقرا يؤهله لأن يكون قاعدة أو ما يشبه أن يكون كذلك.
وخاصة أخرى ترتبط بأسلوب توزيع الأصوات على مدارج النطق في العربية: تتمثل هذه الخاصة في نظام هذا التوزيع، بحيث تجيء الأصوات المؤلفة للكلمة منسجمة متناسقة خالية من الثقل، ليس بينها تنافر يؤذي السمع أو عدم انسجام يفقدها حلاوة النغم وحسن التلقي والقبول.
ولقد أدرك علماء العربية هذه الخاصة في لغتهم، واستطاعوا بفكرهم الثاقب ونظرهم الدقيق أن يضعوا ما يشبه أن يكون قواعد صوتية لما ينبغي أن يكون عليه تأليف الكلمة من أصوات، أخذا بنظام توزيع أصوات لغتهم على مدارج النطق ونظام التناسق والانسجام بين هذه الأصوات.
لقد قرروا أن العربية تتجنب جمع "الزاي مع الظاء، والسين، والصاد، والذال"، وجمع "الجيم مع القاف، والظاء، والطاء، والغين، والصاد"، وجمع "الحاء مع الهاء"، ووقوع الهاء قبل العين، والخاء قبل الهاء إلى آخر ما قرروا في هذا الباب على ما هو معروف للدارسين.
وقد أشار ابن جني إلى شيء من هذا في خصائصه، فيقول: أما إهمال ما أهمل مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة أوالمستعملة فأكثره متروك للاستثقال. وبقيته ملحقة به ومقفاة على أثره. فمن ذلك ما
رفض استعماله لتقارب حروفه نحو: سص وصس وطت وتط وصش وشص، لنفور الحس عنه والمشقة على النفس لتكلفه. وكذلك قج وجق وكق وقك وكج وجك. وكذلك حروف الحلق هي من الائتلاف أبعد لتقارب مخارجها من معظم الحروف، أعني حروف الفم. وإن جمع بين اثنين منها يقدم الأقوى على الأضعف نحو: أهل وأحد وأخ وعهد، وكذلك متى تقارب الحرفان لم يجمع بينهما إلا بتقديم الأقوى منها.
وهناك بالعربية أصوات تقل أو يندر وجودها في كثير من اللغات المعروفة لنا في الشرق والغرب على سواء. من ذلك مثلا الهمزة المعروفة لنا في التراث بهمزة القطع1، كما في الصوت الأول من نحو "أحمد" و"أعرف" و"أعلام" مثلا فهذه الهمزة ليس له وجود في كثير من اللغات الأوربية وغيرها وهي إن وجدت في بعض صور الكلام وأساليبه كما في لهجة "لندن" مثلا ليست تعدل أو تتساوى مع الصوت العربي في كل وجوهه وخصائصه: إن الموجود في لهجة "لندن" هذه ليس همزا حقيقيا، إنما هو نوع من "التهميز" أو هو منح النطق سمة من سمات الهمزة، وليست له قيمة الهمزة العربية من حيث كونه عنصرا في تكوين الكلمة ودلالتها. إن هذا الصوت "اللندني" لا يعدو أن يكون ظاهرة نطقية بحتة، وليس وحدة صوتية مميزة، ذات وظيفة في التفريق بين المعاني أو تحديد القيم الصرفية والنحوية للكلمة. وعلى العكس من ذلك كله تتمتع همزتنا باستقلال وكيان صوتي ودلالي معا.
1 الهمزة "واسمها الأصلي الألف" لها وجود في اللغات السامرية، كالعبرية والآرامية والسوريانية وهي في العبرية تنطق محققة "وقفة حنجرية كالعربية" إذا وقفت بعد سكون تام "كما في ياصاه بمعنى خرجت" أو بعد شدة أو في أول الكلام. ولكنها تنطق مسهلة أو مدا للحركة السابقة عليها "كما في نحو توامر Touamar بمعنى تقول أو تأمر فأصلها همزة لأنها من: أمَر" فلها وجود في هذه اللغة، ولكن توزيعها في الكلام مختلف.
وهناك في العربية كذلك صوت القاف الذي يندر أن تجد له نظيرا فيما نعرف من لغات، باستثناء الساميات التي تعد العربية واحدة منها، كما هو معروف، وإذا اضطر من تخلو لغته منها إلى نطقها حولها إلى صوت الكاف أو ما أشبه، حتى إنك لتسمع هذا النطق الخاطئ ذاته في نطق غير المثقفين من العرب أنفسهم عندما يحاولون استخدام كلمة فصيحة بعينها في كلامهم اللهجي العادي.
أما العين فهو صوت لا وجود له في اللغات الأوربية، وإذا حاول واحد من أصحاب هذه اللغات استخدامه انتقل إلى استخدام الهمزة بدلا منه. ومن الطريف أن نعلم أن بعض الدارسين في الغرب يرى أنه من الأنسب أن تسمى العربية "لغة العين" بدلا من قولنا "لغة الضاد" وهم في ذلك واهمون، لأن العين -وإن لم يوجد في اللغات الأوربية- صوت معروف مقرر في اللغات السامية.
ويأتي صوت "الضاد" على قمة السمات الصوتية التي تنفرد به اللغة العربية. وذلك أن هذا الصوت -بوصفه وحدة صوتية ذات قيمة ووظيفة في تركيب الكلمة ودلالتها- ليس له وجود على الإطلاق في أية لغة معروفة لنا على وجه الأرض1. نعم، ربما نسمع صوتا يشبهه أو يماثله في بعض الكلمات في لغات معينة، كما في نحو: bud و mud في اللغة الإنجليزية. ولكن هذا الذي نسمعه في مثل هذه الكلمات الإنجليزية ليس ضادا أو قل: ليست له قيمة الضاد العربية. إن الذي نسمعه في هاتين الكلمتين، إنما هو صوت "d" الدال، ولكنه نطق مفخما فأشبه ضادنا في النطق، ولكن شتان بين الصوتين في القيمة والوظيفة. فضادنا صوت مميز للمعاني، كما يظهر ذلك مثلا عندما
1 نعني بالعربية هنا العربية الشمالية والعربية الجنوبية معا. وإذا كان هناك أثر لهذه الضاد في اللغة الحبشية، فإنما هو من قبيل التأثير والتأثر أو الاقتراض اللغوي، كما في مثل "dahay بمعنى الشمس والضحى" والمثال نفسه دليل هذا الاقتراض.
نقارن بين "دل" و"ضل" فهاهنا كلمتان مستقلتان. ولكل منهما معنى مختلف، وذلك بسبب وجود الدال في الأولى والضاد في الثانية. وليس كذلك الأمر بحال في هذا الصوت المسموع في اللغة الإنجليزية في مثل ما ذكرنا من أمثلة.
هذا شيء من الخواص الصوتية التي تمتاز بها العربية من غيرها من اللغات، وهي أمثلة تتعلق بما يعرف في الدرس الصوتي الحديث بالأصوات الصامتة أو الساكنة "consonants" ونزيد القول إيضاحا الآن بذكر شيء من سمات الحركات في هذه اللغة، وبإشارة عاجلة أخرى إلى بعض الظواهر الصوتية ذات القيمة المميزة للغتنا.
الحركات في اللغة العربية قليلة العدد نسبيا، فهي ثلاث حركات أساسية هي الفتحة والكسرة والضمة، وكل منها قد تكون قصيرة أو طويلة فهي ست بهذا الوصف، أي: إن أخذت الطول والقصر في الحسبان.
هذه الحركات القليلة العدد ظاهرة بارزة، تستحق النظر والتأمل إذا قيست بما يناظرها في اللغات الأخرى، ففي اللغة الإنجليزية مثلا اثنتان وعشرون حركة، وعلى الرغم من هذا الفارق الكبير بين اللغتين في هذا المجال، نجد الحركات في العربية تقوم بوظائفها ودورها في تشكيل الكلام وبنائه على وجه لا يقل أهمية عن نظيراتها في اللغة الإنجليزية، بل تفوقها وتمتاز منها في بعض الوجوه.
نحن لا ننكر أن هذه الحركات الست قد تتعدد صورها وأمثلتها في النطق الفعلي للكلم، بسبب ما يجاورها من الأصوات الصامتة، فالفتحة مثلا قد تكون مرققة، أو مفخمة، أو بين بين، كما في نحو: دل -ضل -قل، بهذا الترتيب، وذلك بسبب وجود الدال في الكلمة الأولى والضاد "المفخمة" في الثانية والقاف "التي بين الترقيق والتفخيم" في الثالثة ولكن هذه السمات
الثلاث التي لحقت الفتحة في هذه الأمثلة ذات قيمة نطقية فقط، وليست ذات قيمة في الدلالة، أي في التفريق بين المعاني. والفرق في المعاني بين هذه الكلمات الثلاث إنما سببه الدال والضاد والقاف، وليس ترقيق الفتحة أو تفخيمها أو نطقها بين الحالتين. ومن ثم يقع الخطأ في المعنى والنطق أو اللبس فيهما إذا حدث خطأ في نطق هذه الأصوات الثلاثة "الدال والضاد والقاف" أي بالإتيان بها على وجه مخالف لطبيعتها النطقية المقررة من ترقيق أو تفخيم أو "وسطية".
ومعنى ذلك -كما قررنا- أن الحركات في العربية بوصفها وحدات مميزة للمعاني والقيم الدلالية في اللغة العربية ست فقط، وإن تعددت صورها النطقية الفعلية في السياقات المختلفة. وعد هذه الحركات ستا فقط هو المأخوذ به في النظر العلمي في النظام الصوتي للغة العربية، وهو المبدأ المتبع "باتفاق" عند محاولة وضع القواعد أو الضوابط الصوتية الوظيفية المميزة لهذه اللغة.
وقلة الحركات في لغة ما حسنة من حسنات هذه اللغة في النطق والأداء الفعلي للكلام. ذلك أن الحركات -في عمومها- أصعب من الأصوات الأخرى وأكثرها تعرضا للتغيير والتبدل. ومن الطبيعي أنه كلما زاد عدد الحركات كانت صعوبة النطق أقوى احتمالا وظاهرة التغير والتحول أكثر وقوعا. زد على ذلك أن كثرة الحركات تقود حتما إلى تداخلها والخلط بينها من حين إلى آخر، الأمر الذي نتج منه -لا محالة- خطأ في النطق أو خلط فيه، ويؤدي إلى الخطأ في المعنى أو اللبس فيه. واحتمال الوقوع في الخطأ في نطق هذه الحركات الكثيرة واضح كل الوضوح عندما يحاول أجنبي استخدام تلك اللغة الكثيرة حركاتها كما يبدو ذلك لنا عندما ينطق العربي اللغة الإنجليزية حيث يقع في أخطاء نطقية واضحة، كما يخلط بينها خلطا غير مقبول.
ولعل هذا الذي قررنا من القلة العددية للحركات العربية وما يتبع ذلك من ضعف احتمال تعرض هذه الحركات للتغير والتبدل، يفسر لنا ذلك السر الفريد الذي تختص به عربيتنا الفصحى في ماضيها وحاضرها. ذلك أن هذه الحركات ما زالت هي هي ثابتة مستقرة بعددها وصفاتها لم يصبها تغير يذكر في تاريخها الطويل، وهذا بدوره ضمن بقاء اللغة العربية وساعدها على الاحتفاظ بخواصها الصوتية الأساسية على مر الزمن، حتى إنك لا تجد فروقا صوتية ذات شأن بين حالها في الماضي والحاضر. أما الفروق التي تلحقها في اللهجات العربية الحديثة في مجال الحركات فهي فروق فردية في أساسها ترجع إلى البيئة الجغرافية والثقافية، وهي مع ذلك فروق يسيرة في طبيعتها يمكن ردها كلها أو جلها إلى حركات اللغة الأم بصورة أو بأخرى، كما يمكن حصرها وضبطها بشيء من النظر والتأمل.
وعلى الرغم من هذه القلة النسبية في عدد حركات العربية، فإن لهذه الحركات دورا خطيرا في المادة اللغوية على كل المستويات. فهي -بالإضافة إلى دورها الصوتي المتمثل في كونها لبنات أساسية في البناء الصوتي للغة- تؤدي وظائف ذات أهمية فائقة على المستوى الصرفي والمعجمي والدلالي والنحوي جميعا. نستطيع أن نتبين هذا الدور وقيمته بذكر أمثلة قليلة توضح ما نقول.
فمن المعروف أن الكلمات العربية مادتها الأساسية تلك الأصوات المعروفة بالأصوات الصامتة أو الساكنة، كالباء، والتاء والثاء
…
إلخ، ولكن هذا الأصل يلحقه تعديل وتحويل أو تحوير وتغيير بوساطة الحركات، فينتج لنا عن هذا الأصل مجموعة من الأوزان أو الصيغ الصرفية لكل منها قيمة معجمية دلالية مختلفة فالأصل المتمثل في "ع ر ض" مثلا، يمكن أن نأتي منه بطريق التغيير في الحركات بالكلمات التالية: عَرْض "بفتح العين وسكون الراء" ومعناه ضد الطول أو هو مصدر عرض يعرض، وعِرْض "بكسر العين"
ومعناه الحسب والشرف، وعُرْض "بضم العين" ومعناه "الجانب" كما في قولنا: ألقى به عُرض الحائط، أو معناه "الوسط" كما في نحو "في عُرض البحر أي في وسطه". وهكذا نرى أن الوزن الصرفي مختلف، وكذلك الحال بالنسبة للدلالة المعجمية.
وأكثر من هذا، ليس من النادر أن نجد التبادل بين الحركات يؤدي إلى تفريق صرفي وظيفي، كأن تنتمي صيغة ما إلى جنس صرفي معين، وبتغيير إحدى حركات هذه الصيغة نصل إلى جنس صرفي آخر. قارن: إِعلام "بكسر الهمزة" بقولنا: أُعلام "بفتح الهمزة" فالصيغة الأولى مصدر الفعل "أعلم" والثانية جمع "علم". وهذا النوع من الأمثلة كثير الورود في العربية، نحو إنباء وأنباء، وإحكام وأحكام
…
إلخ.
أما وظائف الحركات على المستوى النحوي فهي ذات خطر وشأن. ويكفي أن ندرك أن الإعراب في جملته يقوم على الحركات، فهي علاماته الأصلية في كل الحالات، وهي كذلك دالته في الإعراب "النائب" في معظم الحالات، كما أن الاختلاف في حركات الإعراب دليل الاختلاف في الوظيفة النحوية للكلمة، والفتحة، كما هو معروف، علامة النصب، على حين أن الضمة علامة الرفع، والكسرة علامة الجر.
وليس هذا فقط، فللحركات في العربية دور في التفريق بين الأجناس الصرفية كما في حال المثنى وعلامته الألف وجمع المذكر السالم وعلامته الواو، كما هو مقرر معروف. وهذه الألف إن هي إلا فتحة طويلة، كما أن الواو لا تعدو أن تكون ضمة طويلة، وهما في الوقت ذاته علامتا حالة إعرابية، هي الرفع فيهما.
ولعله من الطريف أن نذكر في هذا المقام أن "سلب الحركة""المسمى عندهم بالسكون" هو الآخر ذو وظيفة صرفية نحوية ذات قيمة معينة في
النظام الإعرابي للغة العربية. فالسكون أو عدم الحركة دليل الجزم في بعض صور المضارع كما أنه علامة البناء في صيغ منوعة تنتمي إلى أجناس صرفية مختلفة، كما يظهر ذلك مثلا في بعض الأسماء والأفعال "فعل الأمر" والحروف على ما هو معروف لنا جميعا. وأكبر الظن أن هذه الوظيفة الإعرابية للسكون "وهو عدم الحركة" كانت السبب الذي دعا بعض النحاة إلى الحكم على السكون بأنه حركة وأنه رابع الحركات فيها. وربما كان لهم العذر في هذا الحكم، حيث رأوه يؤدي وظائف إعرابية تقارن في الأهمية بوظائف الحركات الحقيقية في هذا الشأن. والحق أن السكون هو عدم الحركة أو هو لا شيء "صفر" من الناحية النطقية، ومن ثم لا يدخل في عداد الحركات من هذه الناحية، إذ لا يشترك مع الحركات "أو أي صوت في اللغة" في أية خاصة من خواصها النطقية. ولكن هذا العدم أو اللاشيء له دور وظيفي في اللغة يظهر بصفة خاصة في الإعراب. وعلى هذا يمكن لنا، تجاوزا، عده عنصرا من عناصر النظام الإعرابي في اللغة العربية، أو قل هو "حركة وظيفيا وهو عدم الحركة أو اللاشيء نطقا".
ومادمنا في مجال ذكر شيء من الخواص الصوتية للغتنا، جاز لنا أن نشير إلى تلك الخاصة المميزة، المعروفة "بالتنوين" فالتنوين من الناحية الصوتية نون ساكنة، ولكنها تختلف عن بقية النونات في العربية من حيث الموقع والتوزيع في بناء الكلمة. إن موقعه الصوتي محدد وثابت، حيث لا يقع إلا في آخر نوع أو نمط معين من الكلمات.
أما من الناحية الصرفية والنحوية فللتنوين جملة مهمة من الوظائف. من ذلك مثلا أنه دليل "التنكير أو الإبهام في النكرات" كما في "رجل" ودليل "الشيوع" في بعض الأعلام، مثل:"محمد"، ولهذا يجب حذف هذا التنوين عند الإضافة، والإضافة من شأنها إزالة هذا التنكير وذاك الإبهام، كما أن من شأنها تعيين العلم وتحديده، فينتفي الشيوع أو شبهته. وليس من الغريب إذن
حذف هذا التنوين عند وصف العلم المنون بكلمة "ابن" كما في نحو "محمد بن عبد الله" حيث قام الوصف بدور التخصيص أو التعيين، ومن ثم لا حاجة إلى التنوين.
وما قلناه هنا على التنوين ينطبق بتمامه على النون في المثنى وجمع المذكر السالم. فهذه النون في رأينا "ورأي غالبية النحاة" هي التنوين، غير أنه كتب هنا بالنون لاستحالة استخدام رمز التنوين المعروف في هذا الموقع. وهذه النون كما هو معروف واجب حذفها عند الإضافة، لأنها رفعت الإبهام والشيوع المفهومين بالتنوين "أي: النون" قبل الإضافة. أما أن هذه النون في المثنى والجمع تبقى ولا تحذف عند اتصالهما بالألف واللام "الرجلان المسلمون" فتلك قضية أخرى. ذلك أن الألف واللام هنا للتعريف أي: تأهيل الكلمة لأن تقع موقعا نحويا معينا كالابتداء مثلا، وليست هذه الأداة للتعيين أو التخصيص والتحديد، إذ مازالت فكرة التعميم والشيوع قائمة بالمثنى والجمع بسبب التعدد. والتعدد يناقض التحديد أو التعيين كما هو واضح، ومن ثم ثبتت النون. وحذف التنوين في المفرد المعرف باللام لا يتناقض مع ما قلنا، لأن هذا الحذف في هذه الحالة هو الأصل أولا، ولأن "مفردية الكلمة ساعدت على إزالة الإبهام أو الشيوع ثانيا، فلا حاجة إذن إلى التنوين"1.
وتحريك التنوين "أي النون" في المثنى والجمع، على العكس منه في المفرد إنما كان لسبب صوتي ظاهر، ذلك أنه وقع في موقع يوجب تحريكه، منعا لالتقاء الساكنين، ومع ذلك قد يأتي ساكنا كما في حالة الوقف، وهي قاعدة مقررة منصوص عليها في النظام الصوتي والنحوي، على ما هو معروف لدى أهل النظر.
1 يفسر بعضهم ثبوت النون في المثنى والجمع مع وجود أداة التعريف بتفسير آخر، هو أن النون هنا عوض عن الإعراب بالحركات في المفرد. ومن ثم بقيت. أما النون في الأفعال الخمسة. نحو: يكتبان، يكتبون، إلخ، ففيها شبهة تحتاج إلى بحث مستقل، ربما أتينا عليه في فرصة أخرى، إن شاء الله.
ولا ننسى في هذا المجال أن نشير إلى أن التنوين أيضا هو علامة صرف الكلمة نحويا، وحذفه دليل منع الكلمة من الصرف، والممنوع من الصرف باب كبير متشعب الجوانب، تنبنى قواعده على ضوابط عدة، من بينها وجود ظاهرة التنوين أو عدم وجودها، على ما هو معلوم لنا جميعا. أما وجود النون "أي التنوين" في المثنى والجمع المذكر الذي لا ينون مفرده "أي الممنوع من الصرف" كإبراهيمون مثلا، فذلك لأن تنوين ما لا ينصرف مقدر، فقامت النون "أي التنوين" مقامه في الجمع والمثنى.
ويمكن لنا بعد ذلك أن نشير إلى أمثلة أخرى من تلك الظواهر الصوتية التي تمتاز بها اللغة العربية إذا قورنت بكثير من اللغات المعروفة لنا، والتي لا يدركها كثير من المثقفين العرب، ولا يعيرها التفاتا ذا بال بعض الدارسين المتخصصين. هذه الظواهر قد تختص بصوت أو مجموعة معينة من الأصوات.
فأول ذلك ما يعرف بالتاء المربوطة. هذه التاء اتفق على رسمها بالرمز "ة" أي بصورة "هاء" فوقها نقطتان. هذا الرمز يتحقق في النطق الفعلي للغة بصورتين أساسيتين مختلفتين في الصفات والسمات وفقا للسياق الذي تقع فيه. فهي تنطق تاء خالصة في وصل الكلام، ولكنها هاء صرفة في الوقف، تقول في الفصحى: فاطمة بنت أخي "بتاء متلوة بضمة" ولكن "هذه فاطمة""بهاء ساكنة" ومن ثم يمكن عد نطقها تاء دليلا على وصل الكلام، كما أن تحقيقها هاء علامة من علامات الفصل أو الوقف. ومعنى هذا إذن أن نطق "التاء المربوطة" في الوصل يؤهلها لأن تكون مثلا أو صورة من صور تلك الوحدة الصوتية المعروفة بالتاء "ت"، على حين يرشحها تحقيقها في الفصل لأن تنتمي إلى الوحدة الصوتية الأخرى المرسومة بالهاء "هـ، بدون نقطة" وهي في الحالة الأولى كذلك لها ما للتاء من صفات، كما أنها في الفصل والوقف تنتظم ما للهاء من سمات.
لهذا لم يكن غريبا ولا شاذا عدم تخصيص رمز لها قائم بذاته في الألفباء التقليدية، تلك الألفباء التي تعني في الأساس برموز الوحدات الصوتية التي من شأنها أن تفرق بين المعاني للكمات "قارن: باب × ناب"، ولا تهتم بالإشارة إلى الاحتمالات النطقية للوحدة الصوتية المعينة، كنطقي الدال مثلا في عدت وعدنا، فهي تاء أو أشبه بها في الكلمة الأولى، ولكنها دال خالصة في الثانية، ومع ذلك فالدال وحدة صوتية واحدة.
وعدم ذكر رمز خاص للتاء المربوطة في ألفباء الوحدات الصوتية لا يعني إهمالها أو عدم الاعتداد بها في النظام الصوتي للغة العربية، لأنها -كما يتضح من المناقشة- تنضم إلى التاء "ت" حينا وإلى الهاء "هـ" حينا آخر، ومن ثم لم يكن هناك مسوغ علمي للنص على رمز خاص بها في هذه الألفباء، ومع ذلك، فقد أدرك علماء العربية بثاقب نظرهم أن التاء المربوطة -على الرغم من دخولها في باب التاء مرة وفي باب الهاء مرة أخرى -تختلف عن هاتين الوحدتين "التاء والهاء" في جملة من الصفات الصوتية والصرفية والنحوية. ومن ثم أتوا برمز لها يدخل في عداد الرموز الثانوية للألفباء العربية، كرمز الهمزة "ء" ورمز التشديد "ّ" ورمز السكون "هـ" هذا الرمز هو رمز "ة" الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من قواعد الكتابة الإملائية للغتنا، والخطأ فيه خطأ إملائي صريح.
وإنه لمن الذكاء والعمق حقا أن كتبوها بهذا الرمز بالذات "ة" إذ هو في الأساس صورة الهاء "وهذه حالتها في بعض المواقع الصوتية" وتوجوها بنقطتين إشارة إلى قيمة التاء. كما هو الحال في بعض مواقعها، ووضع نقطتين بالذات "أي لا نقطة أو ثلاث" دليل واضح على هذه القيمة الصوتية الثانية.
فهذا الرمز الثانوي أو الإضافي "ة" للتاء المربوطة حقق لها نوعا من الكيان الذي تستحقه، ونبه غير العارفين إلى خواصها التي تمتاز بها في
النظام اللغوي للعربية، فهي صوتيا -مثلا- تختلف عن كل من التاء والهاء في الموقعية وفي تحديد نطق معين لا يتخلف في كل من سياقيها المعروفين: الوصل والوقف، إنها لا تكون إلا في آخر الكلمة، وفي كلمات ذات طبيعة صرفية معينة، وهي تاء فقط في الوصل وهاء في الوقف".
أما من الناحية الصرفية والنحوية فالتاء المربوطة دليل التأنيث في أجناس خاصة من الكلم، ووجودها "مع علل أخرى" يمنع الصرف في أجناس أخرى، إلى غير ذلك من الخواص الصرفية والنحوية، كما يتمثل في عدم جواز جمع ما اشتمل عليها جمع المذكر السالم، على ما هو مقرر.
ونأتي بعد ذلك إلى ظاهرة صوتية مهمة تتعلق بمجموعة معينة من أصوات العربية، وهي ظاهرة التفخيم. والتفخيم في أيسر عبارة -أثر سمعي تدركه الأذن نتيجة لعملية فسيولوجية معقدة، تتعاون في تشكيلها مجموعة من العوامل أظهرها وأقربها إدراكا:
تقعير اللسان، بمعنى انخفاض وسطه نسبيا عند النطق بالصوت المفخم، ويتبع ذلك حتما ارتفاع الجزء الخلفي من اللسان نحو الحنك الأعلى.
حدوث شيء من التوتر في أعضاء النطق وبخاصة في أوردة الرقبة، ويتصل بذلك أو ينتج منه تعديل في تجويف الفم والنطق بشدة أو قوة نسبية.
والأصوات المفخمة في العربية على ضربين رئيسيين: أصوات مفخمة تفخيما كليا، وأصوات تفخيمها بين بين. أما أصوات النوع الأول فهي الصاد والضاد والطاء والظاء وهي المسماة في القديم "أصوات الإطباق" وهذه الأصوات الأربعة -في رأي الجميع بلا استثناء- مفخمة في كل موقع تقع فيه في اللغة العربية، وذلك بقطع النظر عما يسبقها أو يلحقها من الأصوات وهي النظير المفخم للسين والدال والتاء والذال. ومن ثم كان تفخيمها ذا قيمة دلالية، له دور في التفريق بين المعاني، بالإضافة إلى قيمته الصوتية.
ومن ثم كان الخطأ في نطق هذه الأصوات بترقيقها خطأ من ناحيتين: خطأ صوتي وهو أمر معيب غير مقبول للخروج بالصوت المفخم عن طبيعته وسماته، وخطأ دلالي يؤدي إلى اللبس في المعنى وغموضه. ونستطيع أن ندرك ذلك من الأمثلة الآتية:
صاد × ساد، ضل × دل، طاب × تاب، ظل × ذل.
حيث نلحظ اختلافا في المعنى بين كل كلمتين متقابلتين. والسبب في ذلك واضح، وهو وجود صوت مفخم في إحداهما ونظيره المرقق في الثانية معنى هذا -بعبارة اللغويين- أن الصوت المفخم ليس صورة نطقية سياقية للصوت المرقق، وإنما هو نظيره، وله قيمته الخاصة به صوتيا ودلاليا. ومعنى ذلك أيضا أن نطق هذه الأصوات المفخمة مرققة يؤدي إلى الخلط واللبس بين الكلم في اللغة العربية، إذ حينئذ تصير الصاد سينا والضاد دالا والطاء تاء والظاء ذالا. وبهذا يضيع التفريق في المعاني كما تضيع القيمة الصوتية المميزة لهذا الصوت أو ذاك.
وأصوات الضرب الثاني من أصوات التفخيم هي القاف والخاء والغين وتفخيمها تفخيم "بين بين". و"البينية" هذه تظهر في سمتين متلازمتين هما أن تفخيمها أقل درجة من تفخيم أصوات النوع الأول، وأن هذا التفخيم "الضعيف" نسبيا إنما يظهر عندما يتلو هذه الأصوات ضم أو فتح "قصير أو طويل" ولكنه يختفي أو يكاد عند كسرها، إذ هي -حينئذ- إلى الترقيق أقرب.
والخطأ في نطق هذه الأصوات الثلاثة من حيث التفخيم أو الترقيق خطأ صوتي محض، لا يؤثر على المعنى ولا يؤدي إلى اللبس فيه، لانعدام نظائر مرققة لها في العربية، على العكس من أصوات الإطباق الأربعة السابقة "ص ض ط ظ" وعلى الرغم من ذلك فهذا الخطأ -بالإضافة إلى عده خطأ صوتيا
في نطق اللغة. -دليل على "تفاهة" المتكلم وسطحية ثقافته اللغوية، إذ هو عند ترقيقها في مواضع التفخيم يأتي بأصوات غير مألوفة للأذن العربية على الإطلاق، بخلاف أصوات الإطباق الأربعة، فقد يلجأ المتكلم إلى ترقيقها في مواقف اجتماعية أو درامية معينة، ويكون نطقه مقبولا في هذه المواقف بالذات، لأنه يرمي إلى إحداث تأثير خاص أو تصوير سلوك لغوي معين بقصد التندر أو الفكاهة أو السخرية. والملاحظ على كل حال أن النساء أكثر ميلا إلى ترقيق أصوات التفخيم بنوعيها، وهو أمر مازلنا نحكم عليه بالخطأ في إطار اللغة الفصحى.
وهذه الأصوات الثلاثة، مضمومة إلى أصوات الإطباق السابقة، تسمى جميعا بأصوات الاستعلاء في التراث العربي، وهي تسمية صحيحة دقيقة، إذ عند النطق بها جميعا في حال التفخيم تعلو مؤخرة اللسان نحو الجزء الخلفي من الحنك الأعلى.
أما بقية أصوات العربية فهي "باستثناء اللام والراء" مرققة بطبيعتها وإن كان يلحقها شيء من التفخيم بالمجاورة، أي بوقوعها في سياق صوت مفخم سابق أو لاحق. وينطبق هذا الذي نقول على الحركات جميعا، فهي بنفسها لا توصف بتفخيم أو ترقيق، وإنما يكون هذا أو ذاك بحسب سياقها الصوتي. لاحظ الأمثلة الآتية:
تاب × طاب وبت × بط
حيث جاءت الفتحة الطويلة "الألف" والباء مرققتين في الكلمة الأولى، ولكنهما مفخمتان في الثانية، وكذلك جاءت الباء وفتحتها مرققتين في الكلمة الثالثة على حين أصابهما التفخيم في الرابعة، وإنما كان هذا أو ذاك بسبب طبيعة الأصوات المجاورة من حيث التفخيم والترقيق.
أما اللام والراء فلهما حالات خاصة تستدعي نظرا مستقلا، لاختلاف أحوالهما من هذه الناحية عن كل ما سبق ذكره.
اللام صوت مرقق بطبيعته ولكنه ينفرد بأحكام خاصة من حيث الترقيق والتفخيم في لفظ الجلالة "الله" وحده، فهو في هذا اللفظ يفخم إذا سبق بضم أو فتح ولكنه يرقق إذا جاء بعد كسر نقول:{دَعَوُا اللَّهَ} و"باركَ اللهُ فيك" بالتفخيم، ولكن:"بسمِ الله الرحمن الرحيم" و {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} بالترقيق وإلى هذه الأحكام أشار واحد منهم بقوله:
وفخم اللام من اسم الله
…
عن فتح أو ضم كعبدَ الله1
والراء في اللغة العربية الفصحى صوت ينفرد بمجموعة من السمات النطقية التي تخفى على كثير من المثقفين وبعض المتخصصين، حيث يأتون بها على وجه غير صحيح من حيث التفخيم والترقيق، وذلك لأسباب نجمل منها ما يلي:
التأثر بما يجري في اللهجات العامية من خلط في نطق هذا الصوت واختلاف واضح في أدائه من لهجة إلى أخرى، بحسب البيئة أو الثقافة أو هما معا. فهناك قوم يرققون هذا الصوت حيث يجب التفخيم، وآخرون يفخمون حيث لا مسوغ له، وفرقة ثالثة يلتبس عليها الأمر، فتخلط بين الحالتين، وربما يأتي الواحد منهم بصورتين مختلفتين للراء في الكلمة الواحدة أو السياق الصوتي الواحد.
المروي لنا أنه كان هناك اختلاف بين القبائل العربية في القديم في نطق هذا الصوت من حيث التفخيم والترقيق.
روي خلاف واضح بين القراء أنفسهم في نطق الراء في مواقع معينة، كما يظهر ذلك في قراءة "ورش" و"حفص".
1 كلمة "عبد" هنا تقرأ بفتح الدال ليتحقق التفخيم في لام لفظ الجلالة وهي مخالفة نحوية جائزة في مثل هذه الحالة، إذ قصد بها التمثيل والتوضيح.
صعوبة استيعاب القوانين والضوابط التي حددها أهل الثقة للإتيان بهذا الصوت مفخما أو مرققا، كما يتضح مما يلي:
جرى معظم الثقات على ذكر ضوابط الترقيق في الراء بشيء من التفصيل، دون النص على تفريعات أحوال التفخيم وإمكاناته السياقية المتعددة، وربما كان ذلك منهم لشيوع ظاهرة التفخيم في الراء وكثرة ورودها كثرة يصعب معها وضع ضوابط تفصيلية لها، حتى إن بعضهم يقرر أن الراء من طبيعتها التفخيم، ومعناه أن الترقيق نوع من الاستثناء.
المروي عن هؤلاء الثقات أن الراء يصيبها الترقيق في حالتين رئيسيتين هما:
-إذا جاءت مكسورة "أي متلوة بكسر" بقطع النظر عن طبيعة الصوت السابق أو اللاحق لها، كما في قوله تعالى:{وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} و {وَفِي الرِّقَابِ} و {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وكذلك في نحو: "بشرى" بالإمالة إذ حركة الإمالة تدخل في إطار الكسرة، أو هي أقرب إليها من الفتح على ما هو معروف.
- إذا وقعت ساكنة بعد كسر. وذلك بشرطين:
أولهما: أن تكون الكسرة أصلية، لا عارضة ككسرة همزة الوصل أو الكسرة التي يؤتى بها للتخلص من التقاء، الساكنين.
ثانيهما: ألا يقع بعدها صوت استعلاء "ص ض ط ظ خ غ ق" ويتحقق هذان الشرطان في نحو "فرعون" و"مرية".
فإن كانت الكسرة عارضت فخمت الراء، نحو:{ارْكَعُوا} {إِنِ ارْتَبْتُمْ} وكذلك تفخم الراء الساكنة المسبوقة بكسرة إذا وليها صوت استعلاء، مثل "فرقة، قرطاس، مرصاد".
ويلحق بهذه الحالة الثانية الراء الساكنة الواقعة بعد إمالة أو ياء ساكنة، حيث يصيبها الترقيق أيضا، كما في نحو:"نار" بالإمالة، "خبير، خير" وواضح أن الترقيق هنا واقع في حدود الصوتية، إذ الإمالة نوع من الكسر أو هي قريبة منه، والياء في "خبير" إن هي إلا كسرة طويلة "وسموها ياء ساكنة وفقا لاصطلاحهم". والياء الساكنة في "خيْر" فيها شبهة الكسرة، لأنها في هذا الموقع تتسم بشيء من صفات الكسر، وتقرب منه في المخرج.
وفي هذا المقام أيضا نصوا على ترقيق الراء الساكنة إذا وقعت بعد كسرة وفصل بينهما بساكن، كما في نحو "قدر "و"كبر" بكسر القاف والكاف وسكون الراء فيهما. وهذا الأمر واضح كذلك، يمكن فهمه وتفسيره، حيث إن الراء الساكنة، ما زالت مسبوقة بكسرة أصلية، والفصل بالساكن كلا فصل، فلا يحجب تأثير الكسرة السابقة وعملها أو دورها في الترقيق.
والملاحظ على أية حال أن الراء في كل هذه الصور الفرعية الملحقة بالحالة الثانية من حالات ترقيقها ذات وضع خاص: إنها في هذه الصور كلها لا تكون إلا في آخر الكلمة وفي حالة الوقف بالذات، إذ لا يمكن وقوعها ساكنة في هذا السياق الصوتي الذي وقعت فيه إلا منطوقة موقوفا عليها.
وتفسير ذلك أن التركيب المقطعي في اللغة العربية يمنع وقوع أي صوت ساكن "خال من الحركة" بعد حركة طويلة كما في "نار" بالإمالة، و"خبير" بياء المد أو الكسرة الطويلة، إلا في الوقف1. وكذلك يمنع التركيب المقطعي للغتنا توالي ساكنين، أي اجتماع صوتين صامتين "خاليين من التحريك" في أي موقع من مواقع الكلمة إلا في آخرها. ومن الطبيعي أن ذلك لا يتحقق إلا في حال الوقف كما في "خَيْر"، "قِدْر" و"كِبْر"، وهي الأمثلة المذكورة
1 وهناك حالة ثانية يجوز فيها وقوع الصوت الساكن بعد حركة طويلة "حرف مد" وهذا إذا كان هذا الصوت الساكن مدغما في مثله، كما في مثل "الضالين" حيث وقعت اللام الأولى ساكنة بعد حرف مد وهي مدغمة في اللام الثانية.
سابقا، ولعل عبارتهم المشهورة:"لا يجوز التقاء الساكنين" تفسر كل ما قلنا. أما جواز هذا الالتقاء في الوقف، فذلك لتحقيق وظيفة نحوية مهمة، هي "الوقف" وهو باب في قواعد اللغة معروف، وخاصة من خواص الأداء النحوي والصوتي في العربية.
ومن الواضح أن النص على ترقيق الراء، يعني -ضمنا- وقوع التفخيم في غير هذا المنصوص عليه، أو بعبارة أخرى، تفخم الراء إذا وقعت مضمومة أو مفتوحة مطلقا، وكذلك إذا وقعت ساكنة باستثناء السياقات الصوتية المذكورة في الحالة الثانية من حالات الترقيق وصورها الفرعية الملحقة بها.
وإلى هذا كله أشار بعضهم بصورة مجملة بقوله:
ورقّق الراء إذا ما كسرت
…
كذاك بعد الكسر حيث سكنت
ما لم تكن من قبل حرف استعلا
…
أو كانت الكسرة ليست أصلا
وإلى هنا يكفي أن نقرر أن ما أتينا به في هذه العجالة أشبه بحسوة طائر من بحر العربية الزاخر بالسمات والصفات الصوتية التي تمنحها نوعا من التفرد وضربا من الخصوصية، وأن ما ذكرناه هنا مجرد دلائل يسترشد بها الدارسون والراغبون في الوقوف على شيء من أسرار لغتهم العربية.