الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
المعنى الإجمالي للقاعدة
يمكن بيان معنى قاعدة: (الأصل في العبادات المنع) إجمالا بأن يقال:
الحكم المستصحب والأصل المطرد في التقرب إلى الله هو: المنع والحظر، والرد والبطلان، إلا ما جاء به الشرع وأذن فيه من العبادات فإنه لا يأخذ حكم المنع، كما قال -سبحانه-:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي: مردود باطل.
وتوضيح ذلك: أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرع، وهذا مقتضى توحيد الله والإيمان به، وهو توحيد الاتباع، وهو أحد شرطي العمل الصالح؛ إذ لا بد لقبول العمل من شرطين: الإخلاص والمتابعة.
فهذه القاعدة تختص بالشرط الثاني، وهو شرط المتابعة.
فمن ادعى عبادة من العبادات طولب بإقامة الدليل على ثبوت هذه العبادة، وهذا الدليل لا بد أن يكون نصًا من الكتاب أو السنة.
قال ابن تيمية: "والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان:
أحدهما: ألا يعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا بغير ذلك من البدع.
قال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال -تعالى-:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، وقال -تعالى-:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات، والحسنات هي: ما أحبه الله ورسوله وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب.
فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لا يجوز كالفواحش والظلم ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح.
وأما قوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، وقوله:{أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فهو إخلاص الدين لله وحده، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله
لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا" (1).
وقال الفضيل بن عياض في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] قال: "أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"(2).
تنبيهات:
التنبيه الأول: قولهم: "الأصل في العبادات المنع" فيه اختصار، وهو يحتاج إلى إكمال؛ فيقال:"الأصل في العبادات المنع إلا ما شرعه الله"، وهذا ما دلت عليه ألفاظ أخرى للقاعدة كما سيأتي.
التنبيه الثاني: قوله "الأصل في العادات الحل" فيه اختصار أيضًا، فيحتاج إلى إكمال؛ فيقال:"الأصل في العادات الحل إلا ما حرمه الله".
التنبيه الثالث: من مجموع القاعدتين بعد إكمالهما يتضح المعنى بصورة جلية، فيقال:"الأصل في العبادات المنع إلا ما شرعه الله، كما أن الأصل في العادات الحل، إلا ما حرمه الله".
(1) مجموع الفتاوى (10/ 172).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 172، 174).
ومعنى هذا: أن الأفعال التي يتقرب بها إلى الله محصورة، وهي مقصورة على مصدر واحد، فهي إنما تؤخذ من الشرع وحده، فلا يجوز لأحد أن يتعبد الله بما لم يشرعه سبحانه.
وما عدا ذلك من الأفعال العادية فهي باقية على أصلها وهو الحل والإباحة؛ فلا يجوز لأحد أن يحرم شيئًا منها.
التنبيه الرابع: أن العمل بهاتين القاعدتين مستند إلى العمل بدليل الاستصحاب، وهو المعبر عنه أحيانًا بقاعدة:(اليقين لا يزول بالشك)(1).
وهذا يقتضي في باب العبادات الحكم بانتفاء جميع العبادات ومنعها؛ استبقاء للأصل، وهو عدم مشروعيتها، ويقتضي أيضًا في باب العادات الحكم بحل جميع العادات والإذن فيها؛ استبقاء للأصل، وهو جواز الإقدام عليها.
هذا هو حكم الاستصحاب وهو البقاء على الأصل، ولما كان هذا الأصل متيقنًا كان التمسك بالأصل تمسكًا باليقين وعملا به.
ثم إن شرط الأخذ بالاستصحاب الذي هو التمسك بالأصل واستبقاؤه ألا يرد ناقل عن هذا الأصل ومزيل لحكمه.
(1) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (50).
التنبيه الخامس: في العمل بهذه القاعدة يظهر جليًا سعة هذه الشريعة وإحاطتها بأفعال المكلفين وتروكهم؛ إذ الشرع: ما شرعه الله، والحرام: ما حرمه الله.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء -رحمة لكم من غير نسيان- فلا تبحثوا عنها» (1).
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 183) برقم (42) من كتاب الرضاع، والحديث حسَّنه النووي في الأربعين النووية، الحديث الثلاثون.