الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
أدلة القاعدة
لقد تكاثرت الأدلة الدالة على أن الأصل في العبادات المنع، وتنوعت جهات الاستدلال عليها، بل إنها بلغت مبلغ التواتر المعنوي.
حيث تضافرت على تقرير هذه القاعدة: نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الهدى والدين.
كما دلت عليها طائفة من القواعد الشرعية ومقاصد التشريع.
وبهذا النظر فإن ثبوت هذه القاعدة بات ضرورة شرعية لا محيد عنها، وأمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.
وإليك فيما يأتي شذرات يسيرة من هذه الأدلة:
أولاً: الأدلة الدالة على أن الحكم والتشريع لله وحده؛ إذ لا يجوز إثبات حكم شرعي بغير الأدلة الشرعية التي جعلها الله طريقًا لمعرفة أحكامه وهذا أصل عظيم من أصول هذا الدين (1).
(1) انظر: إعلام الموقعين (1/ 50، 51)، وأضواء البيان (7/ 162، 173).
قال ابن تيمية: "
…
فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله" (1).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده:
قوله -تعالى-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، وقوله -تعالى-:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [يوسف: 67]، وقوله -تعالى-:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقوله -تعالى-:{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، وقوله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ
(1) مجموع الفتاوى (22/ 226).
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله -تعالى-:{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، والآيات بمثل ذلك كثيرة" (1).
ثانيًا: الأدلة الدالة على وجوب اتباع الوحي، والعمل بالنصوص، والاعتصام بالكتاب والسنة، بل إن هذا مقتضى توحيد الله والإيمان به:
قال ابن تيمية: "وجماع الدين أصلان: ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع.
كما قال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره" (2).
وقال ابن القيم: "إذا عرف هذا فلا يكون العبد متحققًا بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4] إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول.
والثاني: الإخلاص للمعبود: فهذا تحقيق إياك نعبد" (3).
(1) أضواء البيان (7/ 48).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 234).
(3)
مدارج السالكين (1/ 83).
وقال شارح الطحاوية: "
…
فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره" (1).
والأدلة على ذلك لا تكاد تحصر فمن ذلك:
1 -
قوله -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3].
2 -
قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
3 -
قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [النساء: 59].
4 -
قصة الرهط الثلاثة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال-: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص (217).
وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» " (1).
5 -
أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم فقال:"ما لها لا تكلم؟ " قالوا: حجَّت مصمته. قال لها: "تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية" فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: "امرؤ من المهاجرين" قالت: أي المهاجرين؟ قال: "من قريش" قالت: من أي قريش أنت؟ قال: "إنك لسؤول، أنا أبو بكر"(2).
وقد علق ابن تيمية على هذا الأثر فقال: "ومعنى قوله: "من عمل الجاهلية" أي مما انفرد به أهل الجاهلية، ولم يشرع في الإسلام.
فيدخل في هذا: كل ما اتُخذ عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام" (3).
ثالثًا: الأدلة الدالة على تحريم القول على الله بغير علم:
فمن ذلك:
(1) أخرجه البخاري (9/ 104) برقم (5063).
(2)
أخرجه البخاري (7/ 147) برقم (3834).
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 327).
1 -
قوله -تعالى-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
2 -
وقال -سبحانه-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
3 -
وقال -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
4 -
وقال -سبحانه-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
5 -
قال الشافعي: "لا أعلم أحدًا من أهل العلم رخَّص لأحد من أهل العقول والآداب في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالمًا بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، لتفصيل المشتبه"(1).
6 -
وقال ابن قدامة: "نعلم بإجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له الحكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة"(2).
7 -
وقد خصص ابن القيم فصلا لهذه المسألة في كتابه القيم "إعلام الموقعين" فقال: "ذكر تحريم الإفتاء في دين الله
(1) إبطال الاستحسان (37).
(2)
روضة الناظر (1/ 409، 410).
بغير علم وذكر الإجماع على ذلك" (1).
رابعًا: الأدلة الدالة على ذم الابتداع في الدين، فمن ذلك (2):
1 -
قول الله -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين على الصراط المستقيم وهم أهل البدع.
وعن مجاهد في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال: "البدع والشبهات".
2 -
قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
قال ابن عطية: "هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام".
3 -
حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث
(1) إعلام الموقعين (2/ 184)، وانظر (1/ 83، 44) منه.
(2)
انظر الاعتصام (1/ 53، 89).
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
هذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية.
4 -
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله؟ كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولي الأمر وإن كان عبدًا حبشيًا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» "(1).
5 -
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"(2).
(1) أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له (4/ 201) برقم (4607)، وابن ماجة (1/ 15) برقم (42)، والترمذي (5/ 44) برقم (2676)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم ص (17) برقم (27).
(2)
أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها ص (17)، واللالكائي في أصول السنة (1/ 86)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 327)، والبغوي في شرح السنة (1/ 214).