الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة
ما شرع من العبادات على وجه العموم لا يدل على مشروعيته على وجه الخصوص
(1)
هذه قاعدة جليلة، وهي ذات أهمية بليغة في التمييز بين ما هو من البدع في باب العبادات.
وقد عبر ابن تيمية عن هذه القاعدة بقوله:
"شرعُ الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد
…
" (2).
وقد بيَّن رحمه الله فائدة هذه القاعدة، فقال: "وهذه القاعدة إذا جُمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هو البدع من العبادات التي يشرع جنسها من الصلاة والذكر والقراءة، وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله أو محرمة؛ كصوم يومي العيدين والصلاة في أوقات النهي.
كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة؛ كالصلوات الخمس والسنن والرواتب" (3).
وقد تعرض الشاطبي لبيان هذه القاعدة فقال: "لأن
(1) انظر الاعتصام (1/ 249، 252)، (2/ 11، 21).
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 196).
(3)
المصدر السابق (20/ 198).
الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل، فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص.
وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك حتى يثبت التفصيل بدليل صحيح ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح" (1).
والمعنى الإجمالي لهذه القاعدة:
أن ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات على وجه العموم والإطلاق إنما يدل على ثبوت أصل هذه العبادة ومشروعيتها.
ثم إن هذا النص العام المطلق لا يدل على تقييد العبادة بمكان أو زمان معين أو هيئة معينة.
فلهذه القاعدة إذن جانبان متلازمان: جانب إثبات، وجانب نفي:
أما جانب الإثبات فهو: أن النص من الشارع متى كان عامًا مطلقًا فإنه يدل على ثبوت العبادة مطلقة عامة؛ مثل الحث على مطلق صلاة الليل، وفضل الصوم مطلقًا، وفضل الإكثار من الذكر بإطلاق. فهذا يكفي في ثبوته النص العام.
وأما جانب النفي فهو: أن النص من الشارع متى كان
(1) الاعتصام (1/ 229).
عامًا مطلقًا فإنه لا يدل على ثبوت العبادة المقيدة، بل إن إثبات العبادة المقيدة يفتقر إلى دليل خاص معين، ولا يكفي في ثبوتها العام.
ومن الأمثلة على العبادة المقيدة التي لا يصح إثباتها بالنص العام المطلق:
فضل صلاة معينة في زمن معين أو في مكان معين، وفضل صوم يوم معين من الأسبوع، أو من الشهر، أو من السنة، وفضل ذكر معين في زمن معين أو بمقدار معين، وعلى ترتيب معين، فهذا النوع من العبادات المقيدة لا يكفي في ثبوته مجرد النص العام، بل لا بد في ثبوته من نص خاص معين.
ولا يصح أن يقال: إن هذه العبادة المقيدة من قبيل الخاص، والخاص فرد من أفراد العام، فهو داخل تحت دلالة العموم؛ بناء على أن العام يتضمن الخاص وزيادة.
بل الصواب أن العبادة المقيدة لا يصلح إثباتها بالنص العام المطلق:
والدليل على ذلك أمور ثلاثة:
الأول: أن العبادة الخاصة المقيدة من جهة خصوصها وتعيينها غير داخلة تحت دلالة النص العام؛ حيث إن هذا التخصيص والتعيين قدر زائد لم يرد به النص العام وإلا لم
يكن عامًا، وإنما يدل النص العام على إفراده دلالة عامة مطلقة فحسب.
الثاني: أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكمًا شرعيًا فيه على الخصوص؛ كما ثبت لعاشوراء مثلا أو لعرفة مزية على مطلق التنفل بالصيام، فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية العبادة النافلة؛ لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة، وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يُكفِّر السنة التي قبله، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية (1).
فإذن هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة، فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة.
وبهذا يظهر أن هذا التخصيص رأي محض بغير دليل، ضاهى به المكلف تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص تشريعًا بغير مستند (2).
الثالث: أن إثبات العبادة الخاصة المعينة بمجرد النص العام يلزم منه ويترتب عليه فتح باب الاختراع والإحداث في باب العبادات من غير انضباط.
(1) انظر: الاعتصام (1/ 230).
(2)
انظر: الاعتصام (2/ 12).
فمن ذهب مثلا إلى تخصيص أول يوم وآخره من السنة الهجرية بالصيام أمكنه أن يستدل لذلك بعموم النصوص الدالة على فضل الصيام، كقوله -تعالى-:
{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: 33]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» (1).
وكذا من ذهب إلى مشروعية الأذان للعيدين أمكنه أن يستدل بعموم قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].
وهكذا .. فما من بدعة في باب العبادات، إلا ويمكن الاستدلال لها بالنصوص العامة؛ فينفتح باب الابتداع على مصراعيه، ولا ينغلق.
ومآل ذلك ألا توجد بدعة إضافية أصلاً؛ فإن جميع البدع الإضافية إنما تقع في العبادات الثابتة من جهة أصلها، والتي تستند إلى النصوص العامة.
فكل من وقع في بدعة إضافية أمكنه الاحتجاج بالنص العام والتمسك به في خصوص بدعته، والله المستعان.
(1) أخرجه مسلم (1153).