الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع
سياق كلام أهل العلم حول القاعدة
قال ابن تيمية: "تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.
فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه.
والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ورسوله.
وذلك لأن الأمر والنهي مما شرع الله تعالى، والعبادة لا بد أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمور كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟
ولهذا كان أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله -تعالى- وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
والعبادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59].
ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136 - 138] فذكر ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات" (1).
وقال ابن القيم: "ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثَّم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دينًا إلا ما شرعه الله.
فالأصل في العبادات البطلان: حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.
والفرق بينهما: أن الله -سبحانه- لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله؛ فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو، ورضي به وشرعه.
(1) الفتاوى الكبرى (4/ 12، 13).
وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله -سبحانه- على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو -سبحانه- لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو" (1).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "القاعدة السادسة: الأصل في العبادات الحظر؛ فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.
والأصل في العادات الإباحة؛ فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
وهذه القاعدة تضمنت أصلين عظيمين، ذكرهما الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ودل عليهما الكتاب والسنة في مواضع؛ مثل قوله -تعالى- في الأصل الأول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وبيان ذلك أن العبادة هي ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فكل واجب أوجبه الله ورسوله أو مستحب فهو عبادة يعبد الله به وحده ويدان الله به.
فمن أوجب أو استحب عبادة لم يدل عليها الكتاب ولا
(1) إعلام الموقعين (1/ 344، 345).
السنة فقد ابتدع دينًا لم يأذن الله به، وهو مردود على صاحبه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق عليه.
وتقدم أن من شروط العبادة: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن البدع من العبادات، إما أن يشرِّع عبادة لم يشرع الله ورسوله جنسها أصلا، أو شرعها الله ورسوله على صفة أو في زمان أو مكان مخصوص، ثم غيرها المغير إلى غير تلك الصفة.
كمن أوجب صلاة أو صومًا أو غيرهما من العبادات بغير إيجاب من الله ورسوله.
أو ابتدع مبتدع الوقوف بعرفة أو مزدلفة أو رمي الجمار في غير وقتها.
أو استحب مبتدع عبادة في وقت من الأوقات أو مكان من الأمكنة بغير هدى من الله وحجة شرعية.
والله تعالى هو الحاكم لعباده على لسان رسوله، فلا حكم إلا حكمه ولا دين إلا دينه" (1).
(1) القواعد والأصول الجامعة ص (29، 30).