الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - الرأي الراجح ودليل الترجيح
يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو ما اختاره الإمام الشاطبي، وهو:"التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل"(1).
ومستند هذا الترجيح أمران:
أولهما: أن في هذا القول جمعًا بين أدلة الفريقين، كما أن فيه توفيقًا بين القولين.
وثانيهما: أن الشاطبي قد اعتمد في اختيار هذا الرأي على استقراء الشريعة وتتبُع نصوصها وأحكامها (2).
وبيان ذلك على النحو الآتي:
أما أمور العبادات فمما يدل على أن الأصل فيها الالتفات إلى التعبد دون التعليل:
أن الصلوات خُصَّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات.
(1) الموافقات (2/ 396).
(2)
انظر: الموافقات (2/ 300 - 306).
وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب.
وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره، وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية، يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر.
وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما.
فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عند ما حُدَّ دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات فكان أصلا فيها.
فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبني عليه وركنًا يلجأ إليه.
وأما أمور العادات فمما يدل على أن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني والتعليل، دون التعبد:
أنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، وأن الأحكام العادية وجدناها تدور مع المصلحة حيثما دارت؛ فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز.
فمن أمثلة ذلك: أن الدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض.
ومن ذلك: نهيه عن الخذف (1)، وتعليل ذلك بأنه:«يفقأ العين ويكسر السن» (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (3).
وفي القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] إلى غير ذلك مما لا يحصى.
وجميعه يشير بل يصرِّح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت؛ فدل ذل على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.
(1) الخذف: هو رمي الحصاة ونحوها بطرفي الإبهام والسبابة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 16)، والمصباح المنير ص (165).
(2)
رواه البخاري (10/ 599) برقم (6220)، ومسلم برقم (1547).
(3)
رواه ابن ماجة (2/ 784) برقم (2341) والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 443) برقم (250).