المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خطبة القاضي محيي الدين بن الزكي - الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة

[عز الدين ابن شداد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي

- ‌المقصد الأوّل فيذكر الشام واشتقاق اسمه

- ‌المقصد الثاني فيذكر أوّل من نزل به

- ‌المقصد الثالث فيذكر ما ورد من فضل الشام

- ‌المقصد الرابع فيذكر موضعه من المعمور وحدوده

- ‌القسم الأوّلأمر البلد وما اشتمل عليه بنيانه ظاهراً وباطناً

- ‌ الباب الأوّل في

- ‌ ذكر موضعها من المعمور

- ‌الباب الثاني فيذكر الطالع الذي بُنيت فيه ومن بناها

- ‌الباب الثالث فيذكر تسميتها واشتقاقها

- ‌الباب الرابع فيذكر صفة عمارتها

- ‌الباب الخامس فيذكر عدد أبوابها

- ‌الباب السادس فيذكر بناء القلعة الّتي بحلب والقصور القديمة

- ‌فصل في ذكر القصور

- ‌الباب السابع فيذكر ما ورد في فضل حلب

- ‌الباب الثامن فيذكر مسجدها الجامع وما بظاهرها من الجوامع

- ‌ذكر الصهريج الّذي في الصحن

- ‌ذكر المنارة

- ‌ذكر ما آل إليه أمر المسجد الجامع في عصرنا

- ‌ذكر ما مُدح به هذا المسجد

- ‌ذكر ما بظاهر حلب من الجوامع

- ‌الباب التاسع فيذكر المزارات الّتي في باطن حلب وظاهرها

- ‌ذكر ما كانت الأمم السالفة تعظّمه من أماكن بمدينة حلب

- ‌ذكر ما بظاهرها من المزارات

- ‌ذكر ما في قرى حلب وأعمالها من المزارات

- ‌الباب العاشر فيذكر المساجد الّتي في باطن حلب وظاهرها

- ‌المساجد الّتي بين أبواب المدينة

- ‌ذكر المساجد الّتي بأرباض حلب

- ‌مساجد الحاضر السليماني ّ

- ‌ذكر مساجد الرابية وجورة جفّال

- ‌ذكر المساجد الّتي بالظاهريّة

- ‌ذكر المساجد الّتي بالرمادة

- ‌ذكر مساجد بانقوسا

- ‌ذكر مساجد الهزّازة

- ‌ذكر المساجد الّتي بخارج باب إنطاكية

- ‌ذكر مساجد المضيق

- ‌ذكر المساجد الّتي كانت بالقلعة

- ‌الباب الحادي عشر فيذكر ما بباطن حلب وظاهرها من الخوانق والرُبُط

- ‌الخوانق الّتي للنساء

- ‌الخوانق الّتي بظاهر حلب

- ‌ذكر الرُبط

- ‌الباب الثاني عشر فيذكر ما بباطن حلب وظاهرها من المدارس

- ‌المدارس الشافعيّة الّتي بظاهر حلب

- ‌ المدارس الحنفيّة

- ‌شعر:

- ‌ المدارس الحنفيّة التي بظاهر حلب

- ‌ذكر ما بحلب من مدارس المالكيّة والحنابلة

- ‌ذكر أدر الحديث بحلب

- ‌الباب الثالث عشر فيذكر ما بحلب وأعمالها من الطلسمات والخواص ّ

- ‌ذكر الحمّات الّتي يُنتَفَع بمائها في أعمال حلب

- ‌الباب الرابع عشر فيذكر ما بباطن حلب وظاهرها من الحمّامات

- ‌حمّامات الدور بحلب

- ‌ذكر الحمّامات الّتي بظاهرها

- ‌الحمّامات الّتي بالمقام

- ‌الحمّامات الّتي بالياروقيّة

- ‌الحمّامات الّتي خارج باب إنطاكية

- ‌الحمّامات الّتي بالحَلْبة

- ‌الحمّامات الّتي بالبساتين

- ‌الحمّامات الّتي خارج باب الجنان:

- ‌الحمّامات الّتي بالرَمادة:

- ‌الباب الخامس عشر فيذكر نهرها وقنيّها الداخلة إلى البلد

- ‌ذكر القنيّ المتفرّعة عن القناة العظمى

- ‌الباب السادس عشر فيذكر ارتفاع قصبة حلب فقط

- ‌الباب السابع عشر فيذكر ما مُدحت به حلب نثراً ونظماً

- ‌القسمُ الثاني منَ الكِتاب فيذكر ما هُو خارج عن دمشق

- ‌الباب الأول فيذكر أنهارِهَا وقَنَوَاتِهَافي ذكر أنهارها

- ‌ذكْرُ القُنِيّ

- ‌الباب الثاني‌‌ في ذكْر ما بنواحي دمشق من الجبال

- ‌ في ذكْر ما بنواحي دمشق من الجبال

- ‌الباب الثالث فيذكر ما احتوى عليه جُنْدُ دمشق من الكور

- ‌ كورة البقاع:

- ‌ذكر بعلبك

- ‌كورة حورانوقصبتها بصْرى

- ‌قلعة صرخد

- ‌كورة البثينةومدينتها أذرعات

- ‌كورة الجبال ومدينتها عرندل

- ‌ومعان

- ‌ومؤتة

- ‌ومما هو مستحدث ذكره في هذه الكورة من البلادالكرك والشوبك

- ‌كورة الشراة

- ‌وأرض البلقاء

- ‌قلعة الصلت

- ‌قلعة عجلون

- ‌ذكرُ ما في هذا الجند من البلادِ الساحلية

- ‌جُبيل

- ‌صيدا

- ‌بيروت

- ‌أطرابلس

- ‌ما كان في يد الفرنج

- ‌الباب الرابع فيذكر بلاد جند الأردن ومن ملكها

- ‌بيسان

- ‌بانياس

- ‌ذكرُ حصون هذا الجندصفد

- ‌هونين وتبين

- ‌شقيف أرنون

- ‌شقيف تيرون

- ‌كوكب

- ‌قلعةُ الطور

- ‌ذكر ما في جند بلاد الأردن من البلاد الساحلية

- ‌عكا

- ‌حيفا

- ‌الباب الخامس‌‌ فيذكر بلاد جند فلسطين

- ‌ فيذكر بلاد جند فلسطين

- ‌إيلياء

- ‌لمعة من فضائله

- ‌فضل الصخرة

- ‌ذكر خراب بيت المقدس بعد بنائه ِ

- ‌المرة الأولى:

- ‌المرة الثانية:

- ‌مدينة بيت المقدس

- ‌ذكر فتحها وملوكها

- ‌ومن رسالة للقاضي الفاضل

- ‌خطبة القاضي محيي الدين بن الزكي

- ‌مدينة الخليل عليه السلام

- ‌ نابلس

- ‌قيسارية

- ‌أرسوف

- ‌يافا

- ‌عسقلان

- ‌ غزة

- ‌الباب السادس فيذكر ما بمجموع هذه الأجناد الثلاثة من المزاراتما يختص بلاد جند دمشق

- ‌ومما بنواحي حوران

- ‌جبلُ بني هلال

- ‌الطُّور - ومؤتة

- ‌مدينة نابلس:

- ‌ما في بلاد جُند الأردن من المزاراتمدينة طبرية

- ‌عكا:

- ‌زيارات جند فلسطين

- ‌ذكر الجزيرة

- ‌بسم الله الرحمن الرحيموصلى الله على سيدنا محمد وآله

- ‌ذكر من ولي الجزيرةبمجموعها من الأمراء والوزراء إلى حين تفرقت بلادها

- ‌ذكر ديار مضروقصبتها حرّان

- ‌ذكر بنائصوإلى من تنسب

- ‌ذكر ملوكها

- ‌ارتفاعها لمّا ملكها السلطان الملك الناصر صلاح الدين

- ‌جملين والموزر

- ‌ذكر الرقة

- ‌ذكر الرُّها

- ‌ذكر فتحها

- ‌سروج

- ‌ قلعة جعبر

- ‌ البيرة

- ‌ذكر ديار ربيعة من الجزيرة

- ‌ دارا

- ‌رأس العين

- ‌قرقيسيا

- ‌سنجار

- ‌ذكر فتح مدينة سنجار وملكها

- ‌ذكر من وليها بعد خروج الجزيرة عن أيدي

- ‌ذكر ولاية عماد الدين زنكي الموصل

- ‌ذكر استيلاء نور الدين على سنجار

- ‌ذكر ملك نور الدين الموصل وسنجار

- ‌ذكر تسليم حلب إلى عماد الدين من عز الدين صاحب الموصل

- ‌ذكر ملك صلاح الدين سنجار

- ‌ذكر وفاة عماد الدين زنكي بن مودود

- ‌ذكر حصار الملك العادل سنجار

- ‌ذكر وفاة صاحب سنجار وملك ابنه وقتله وملك أخيه

- ‌ذكر ملك الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل مدينة سنجار

- ‌ذكر حصار بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنجار

- ‌ذكر ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب دمشق

- ‌ذكر تمليك بدر الدين لؤلؤ سنجار

- ‌ذكر تملك الملك الصالح سنجار وترتيب ولده فيها

- ‌ذكر قصد التتار شمس الدين البزلي وكسرهم له

- ‌ذكر استيلاء التتار على سنجار

- ‌جزيرة ابن عمر

- ‌ذكر من ولي الجزيرة، جزيرة ابن عمر

- ‌ذكر وفاة عز الدين مسعود

- ‌ملك عماد الدين زنكي جزيرة ابن عمر

- ‌ذكر حمايته ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلها

- ‌ذكر ملك معز الدين سنجرشاه الجزيرة

- ‌ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمود

- ‌ذكر وفاة معز الدين محمود وتولية ولده الملك المسعود وشاهان شاه

- ‌ودخلت سنة تسع وأربعين وستمائة

- ‌ذكر ملك بدر الدين لؤلؤ الجزيرة

- ‌ذكر ما كان بيد الملك الناصر من بلاد الجزيرة

- ‌ذكر ديار بكر

- ‌المصر الأول من أمصار ديار بكرآمد

- ‌ميافارقين

- ‌ذكر ما جُدِّد فيها من العماير بعد الفتح

- ‌ذكر من فتح ميافارقين آمد ووليهما

- ‌ذكر من ولي ديار بكر بأسرها ومن ولي منها مكانا بمفرده

- ‌ذكر عصيان عيسى بن الشيخ بديار بكر

- ‌ذكر قصد المعتضد الجزيرة وديار بكر

- ‌ذكر ابتداء ملك بني حمدان لديار بكر

- ‌ذكر ولاية سيف الدولة ديار بكر من قبل أخيه ناصر الدولة

- ‌ذكر محاولة استيلاء الروم على آمد بحيله

- ‌عدنا إلى أخبار ميافارقين وسيف الدولة

- ‌ذكر حصار الروم آمد وميافارقين

- ‌ذكر قتل نجا غلام سيف الدولة وملك سيف الدولة خلاط

- ‌ذكر وفاة سيف الدولة بن حمدان

- ‌ذكر ولاية أبي المعالي شريف ولد الأمير سيف الدولة

- ‌ذكر ولاية عضد الدولة ديار بكر وديار ربيعه

- ‌ذكر ملك باد الكردي ميافارقين وآمد

- ‌ذكر ابتداء ملك ابن دمنة آمد

- ‌ذكر قتل عبد البر وتمليك ابن دمنة

- ‌ذكر تمليك أبي علي بن مروان

- ‌ذكر ملك ممهد الدولة أبي منصور بن مروان

- ‌ذكر قتل ممهد الدولة وملك شروة

- ‌ذكر ولاية نصر الدولة أبي نصر بن مروان

- ‌وفاة الأمير نصر الدولة

- ‌ذكر وفاة الأمير سعيد بن نصر الدولة

- ‌ذكر قتل سلار خراسان واخوة الأمير

- ‌ذكر قصد السلطان ألب أرسلان بن السلطان جغري بك الشام والسواحل

- ‌ذكر خروج عساكر الروم وكسرهم

- ‌ذكر وفاة السلطان ألب أرسلان

- ‌ذكر وفاة الأمير نظام الدين

- ‌ذكر توجه الوزير فخر الدولة بالعساكر وملك ميافارقين وآمد

- ‌الجميع بلور

- ‌ذكر ملك عميد الدولة ديار بكر

- ‌ذكر ملك ناصر الدولة ميافارقين

- ‌ذكر ملك تاج الدولة تتش ميافارقين وآمد

- ‌ذكر وفاة السلطان تاج الدولة تتش

- ‌ذكر وفاة الأمير ناصر الدولة

- ‌ذكر ميافاقينذكر ولاية شمس الملوك دقاق ميافارقين استقلالا بعد وفاة أبيه تاج الدولة

- ‌ذكر وفاة شمس الملوك دقاق

- ‌ذكر ملك السلطان قليج أرسلان بن سليمان ن قطر مش السلجوقي ميافارقين

- ‌ذكر ملك سقمان القطبي ميافارقين

- ‌ذكر وفاة سقمان القطبي

- ‌ذكر ملك قراجا الساقي ميافارقين

- ‌ابتداء ولاية نجم الدين إيلغازي بن سقمان بن أرتق وملكه ميافارقين

- ‌ذكر وفاة نجم الدين إيلغازي

- ‌ذكر ولاية ولده السعيد حسام الدين

- ‌ذكر قتل شرف الدين حبشي

- ‌ذكر وفاة الأمير داود صاحب حاني

- ‌ذكر وفاة السعيد حسام الدين

- ‌ذكر نُّوابه بميافارقين

- ‌ذكر ملك نجم الدين ألبي بن السعيد حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن سكمان

- ‌ذكرُ حصار الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ميافارقين وفتحها

- ‌ذكر ملك تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أخي صلاح الدين الملك الناصر

- ‌ذكر ملك الملك الأشرف ميافارقين

- ‌ذكر تمليك شهاب الدين غازي أرزن

- ‌ذكر مقتل جلال الدين وتفرُّق عسكره

- ‌ذكر حصار عسكر حلب ميافارقين

- ‌ذكر كسر عسكر حلب شهاب الدين غازي

- ‌ذكر نزول التتر على ميافارقين

- ‌ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين

- ‌ذكر نزول التتر على ميافارقين ثاني مرة ورحيلهم عنها

- ‌ذكر توجه الملك الكامل إلى منكوقاآن

- ‌ذكر عود صاحب ميافارقين من عند منكوقاآن

- ‌ذكر أخذ صاحب ميافارقين آمد

- ‌ذكر ما اعتمده صاحب ميافارقين بعد عوده

- ‌ذكر نزول التتر على ميافارقين

- ‌ذكر توجُّهي رسولاً من التتر الذين على ميافارقين

- ‌ذكر ما جرى لي مع نواب صاحب ميافارقين

- ‌ذكر عودي إلى حلب

- ‌ذكر استيلاء التتر على ميافارقين

- ‌ذكر ما لقي أهل ميافارقين م الشدة في الحصار

- ‌ذكر آمد

- ‌ذكر مُلك الأمير صادر آمد

- ‌ذكر ملك الملك الناصر صلاح الدين آمد وإقطاعها لنور الدين قرا أرسلان

- ‌ذكر وفاة نور الدين محمد بن قرا أرسلان

- ‌ذكر ملك الملك الكامل ناصر الدين آمد

- ‌حصن كَيفَا

- ‌أرْزَن

- ‌ذكر فتحها

- ‌ذكر ملك شهاب الدين غازي أرزن

- ‌مارِدين

- ‌ذكر فتحها ومن مَلَكَها

- ‌ذكر قتل الملك المنصور أرتق صاحب ماردين

- ‌ذكر حصار التتر ماردين واتفاقهم مع الملك السعيد صاحبها

- ‌ذكر وفاة صاحب ماردين وتولي ولده

- ‌ذكر توجُّه الملك المظفر إلى التتر إلى عند هولاكو

الفصل: ‌خطبة القاضي محيي الدين بن الزكي

وقدم المنجيقات التي تتولى عُقُوبات الحصون عصيها وحبالها. وأوتر لهم قسيها التي تضرب ولا تفارقها سهامها، ولا تفارق سهامها نصالها. فصافحت السور فإذا سهامها في ثنايا شرفاتها سواك. وقدم النصر نسراً من المنجنيق يُخلد إخلاده إلى الأرض، ويعلُو علوه إلى السماك. فشج مدارع أبراجها. وأسمع صوت عجيجها " صم أعلاجها ". ورفع مثار عجاجها. فأخلى السور من السيارة. والحرب من النظارة. فأمكن النقاب. أن يسفر للحرب النقاب. وأن يعيد الحجر إلى سيرته " الأولى " من التراب. فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله. وحل عقدهِ بضربهِ الأخرق الدال على لطافة أنمُلِه. وأسمع الصخرة الشريفة حنينة باستقالته. إلى أن كادت ترق لمقالته. وتبرأ بعض الحجارة من بعض. وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن يبرح الأرض. وفتح في السور باباً. سدَّ منْ نجاتهم أبوابا. " وأخذ يفت في حجره فقال عنده الكافر: يا ليتني كنت ترابا ". فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور. كما يئس الكفار من أصحاب القبور. وجاء أمر اللهِ وغرهم بالله الغرور..

وفي الحال خرج طاغية كفرهم. وزمام أمرهم. ابن بارزان - لعنه الله - سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة. وبالأمان لا بالسطوة. وألقى بيده إلى التهلكة. وعلاهُ ذُل الملكة بعد عزّ المملكة. وطرح جنبه على التراب وكان جنباً لا يتعاطاه طارح. وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليه طرف آمل طامح. وقال: ها هنا أسارى مسلمون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنه إن هُجمتْ عليْهم الدَّار. وحملت الحرْبُ على ظهورهمُ الأوزار. بُدى بهم فعجلوا. وثني بنساء " الفرنج وأطفالهم " فقتلوا. ثم استقلوا بعد ذلك فلم يقتل خصم إلاّ بعد أن ينتصف. ولم يفل سيفٌ منْ يد إلا بعدْ أن تنقطع أو تنقصف.

فأشار الأمراء " بالأخذ " بالميسور. من البلد المأسور. فإنه لو أخذ حربا فلا بدَّ أن يقتحم الرجل الأنجاد. وتبذل نفوسها في آخر أمر قد نيل من أوله المراد. وكانت الجراحُ في العساكر قد تقدم منها ما أعتقل الفتكات. واعتاق الحركات. فقبل منهم المبذول عنْ يدٍ وهمْ صاغرون. وانصرف أهل الحرب عن قدرةٍ وهم ظاهرون.

وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان. فخدمها الكُفر إلى أن صارت روضة جنان. لا جرم أن الله " أخرجهم منها وأهبطهم. وأرضى أهل الحق وأسخطهم. فإنهم خذلهم الله " حموها بالأسل والصفاح. وبنوها بالعمد والصفاح. وأودع الكنائس بها وبيوت الديوية " والاسبتارية " منها كل غريبة من الرّخام الذي يطردُ ماؤه. ولا ينطرد لألآؤه. قد لطف الحديد في تجزيعه. وتفنن في توشيعه. إلى أن صار الحديد. الذي فيه بأس شديد. كالذهب الذي فيه نعم عتيد.

فما ترى إلاّ مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراقْ. وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق.

وأوعز الخادم بردّ " الأقصى " إلى عهده المعهود. وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود.

وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شعبان فكادت السماوات يتفطرن للسجوم لا للوجوم. والكواكب منها تنتشر للطرب لا للرجوم. ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة. وطهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة.

وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها. وجهرت الألسنة بالله أكبر، وكان سحر الكفر يعقدها. وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر. فرحب به ترحيب من بر لمن برّ وخفق علماه في حفافيه. فلو طار سروراً لطار بجناحيه.

وكتابُ الخادم وهو مجدُّ في استفتاح " بقية " الثغور. واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور. فإن قوى العساكر قد استنفدت مواردها. وأيام الشقاء قد أوردت مواردها.

هذا ما وقع عليه اختيارنا من الرسالة، على أننا أتينا بخبر الفتح على سياقاته وألحقنا فيها طليعة الكلام بساقته.

‌خطبة القاضي محيي الدين بن الزكي

اقتضبتُ من الخطبة التي خطب بها القاضي محيي الدين بن الزكي، حين فتح البيتْ المقدس شذوراً. وفيتُ بها من وعودي نذوراً. إذ هي والكتابُ الفاضليّ رضيعا لبان البراعة، وحليفان أطالا على السيف لسان البراعة.

قال بعد أن ذكر ما في الكتاب العزيز من التحميد.

ص: 98

الحمد لله معز الإسلام بنصره. ومُذل الشرك بقهره. ومُصرَّفِ الأمور بأمره. ومديم النعم بشكره. ومستدرجِ الكافرين بمكره. الذي قدر الأيام دولاً بعدله. وجعله العاقبة للمتقين بفضله وأفاء على عباده من ظله. وأظهر دينه على الدين كله. القاهر فوق عباده فلا يمانع. والظاهر على خليقته فلا ينازع. والآمر بما يشاء فلا يراجع. والحاكم بما يُريد فلا يدافع.

أحمدهُ على إظهارهْ. وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره. وتطهير بيته المقدّس من أدناس الشرك وأوظاره. حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره.

وأشهد أن لَا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه. وأرضى بها ربه.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك. وداحض الشرك وراحض الإفك. الذي أسري به من المسجد " الحرام إلى هذا المسجد " القصى، وعُرج به منه إلى السماوات العُلي. إلى سدرة المنتهي. عندها جنة المأوى. ما زاغ البصرُ وما طغى.

صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان. وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البلد شعار الصلبان. وعلى أمير المؤمنين عثمان " بن عفان " ذي النورين جامع القرآن. وعلى أمير المؤمنين علي بنْ أبي طالب مُزلزل الشرك ومكسّر الأوثان. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

أيها الناس.

أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى. والدرجة العُليا. لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة. من الأمة الضالة. وردها إلى مقرها من الإسلام. بعد ابتذا لها في أيدي المشركين قريبا ًمن مائة عام. وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه. وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليه رواقه واستقر فيه رسمه. ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه. وبالتقوى فانه أسس على التقوى منْ خلفه ومن بين يديه.

فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام. وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام. وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء. ومقرٌ الرسل ومهبط الوحي. ومنزل ينزل " به " الأمر والنهي. وهو في أرض المحشر. وصعيد المنشر. وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين. وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله عليه وسلم بالملائكة المقربين. وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه " عيسى " الذي شرف الله برسالته. وكرمه بنبوته. ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته. فقال تعالى:) لَنْ يَسْتَنْكفَ المسَيحُ أنْ يَكُونَ عَبْداً لله (. وقال:) لقد كَفَر الّذين قالوا إِن الله هو المسيحُ ابنُ مَرْيَم (.

وهو أول القبلتين. وثاني المسجدين. وثالث الحرمين. لا تشدّ الرحالُ بعد المسجدين إلاّ إليه. ولا تعقدُ الخناصر بعد المواطَنيْن إلاّ عليه. ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده. واصطفاه منْ سكان بلاده. لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار. ولا يباريكم في شرفها مبار. فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية. والوقعات البدرية. والعزمات الصديقية. والفتوحات العمرية. والجيوش العثمانية. والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية. والوقعات اليرموكية. والمنازلات الخيبرية. والهجمات الخالدية.

فجازاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء. وشكر لكم ما بذلتموه من مُهجكُم في مقارعة الأعداء. وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مُهراق الدماء. وأثابكم الجنة فهي دار السعداء. واقدروا - رحمكم الله - هذه النعمة حق قدرها. وقوموا لله تعالى بواجب شكرها. فلهُ الفضل والنعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة. وترشيحكم لهذه الخدمة. فهذا هو الفتح الذي فتحت لهُ أبواب السماء. وتبلت بأنواره وجوه الظلماء. وابتهج به الملائكة المقربون. وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون. فإذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان. والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من الرسل قواعد الإيمان. فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء.

ص: 99

أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه. ونصَّ عليه في خطابه. فقال تعالى:) سُبحان الذي أسْرى بِعَبْده لَيْلاً مِنَ الَمسجِد الحَرَام إلى الَمسْجدِ الأَقْصَى الّذي بَاَرَكْنَا حَوْلَهُ (.

أليس هو البيت الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسُل. وتُليتْ فيه الكُتُبُ الأَربعة المنزَّلة من إِلهكم عز وجل.

أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل فيه الشمس على يوشع لأجله أن تغرب. وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب.

أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أنْ يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلاّ رجلان. وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبةً للعصيان.

فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين. ووقفكم لما خذل " فيه " من كان قبلكم من الأمم الماضين. وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى. وأغناكم بما أمضته كأن وقد عن سوف وحتى.

فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده. وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده. وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد. ونشر التقديس والتحميد. وما أمَطْتُم عن طُرُقِهِم فيه من أذى الشرك والتثليث. والاعتقادِ الفاسد الخبيث. فالآن تستغفر لكم أملاك السماوات. وتصلي عليكم الصلوات المباركات.

فاحفظوا - رحمكم الله - هذه الموهبة فيكم واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم. ومن اعتصم بعُروتها نجا وعُصم. واحذروا من اتباع الهوى، وموافقة الرَّدى. ورجوع القهقري والنكول عن العدَى. وخُذوا في انتهاز الفُرصة. وإزالة ما بقي من الغصة. وجاهدوا في الله حق جهادِه. وبيعوا، عباد الله، أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من عباده. وإياكم أن يستزلكم الشيطان. وأن يتداخلكم الطغيان. فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد. وبخيولكم الجياد. وبجلادكم في مواطن الجلاد. والله ما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم.

واحذروا - عباد الله - بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزِيل. وخصكم بهذا النصر المبين. وأعلق أيديكم بحَبْلِهِ المتين. أن تقترفوا كبيراً من مناهيه. وان تأتوا عظيماً من معاصيه. فتكونوا) كالَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً (، والذي) آياَتنا فاْنْسَلَخ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ منَ الْغَاوين (.

والجهاد الجهاد، فهو من أفْضَل عِباداتكم. وأشرف عاداتكم. انصروا الله ينصركم اذكروا أيام الله يذكركم. اشكروا الله يزدكم ويشْكُركم. خذوا في حسم الداء. وقطع شأْفَة الأعْداء. وتطهير بقية الأرض التي أَغْضبتِ الله ورسوله. واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله. فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية. والملة المحمدية. الله أكبر. فتح ونصر. وغلب الله وقهر. أذل الله من كفر.

واعلموا - رحمكم الله - أن هذه فرصةٌ فانتهزوها. وفريسةٌ فناجزوها. وهمهٌ فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها. وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها. فالأمور بأواخرها. والمكاسب بذخائرها. فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون. فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون. وقد قال الله تعالى:) إن يكن منكم عشرونَ صابرون يغْلبُوا مائتين (أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره. وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده:) إن ينْصُرْكم اللهُ فلَا غالب لكُم، وإن يخذُلكم فمنْ ذا الذي ينْصُرُكم منْ بعْده (.

وتمامْ الخُطبة والخُطبة الثانية قريب مما جرت به العادةُ من الدعاء للخليفة والسلطان.

رجعنا ولم يزال القدس في يد الملك الناصر، بعد أن فتحه، إلى أن أقطع البلاد بين أولاده. فكان للملك الأفضل منْ دمشق إلى العريش، خلا الكرك والشورك، فإنهما كانا للملك العادل. فأقطع القدس عز الدين جُرديك النوري.

ثم حصل بينه وبين أخيه العزيز شنأن، ونفرت أكابر الأمراء الصلاحية، فخرج فارس الدين ميمون القصري، وسنقر الكبير فقطعا نابلس مع غيرهما فلحقوا بالعزيز وحرضوه على قصد الأفضل.

فخرج من مصر بعد أن أقطع القدس علم الدين قيصر وذلك في سنة تسعين، يريد دمشق، فطرأ بينهما ما حكيناه في " أمراء دمشق ".

ثم وقع الاتفاق على أن تبقى فلسطين للعزيز، والأردن للأفضل، وعاد العزيز إلى مصر.

ص: 100

ولما صارت فلسطين في يده، أقطع القدس لأبي الهيجاء السمين، فعصى عليه في سنة اثنتين وتسعين، فقصده. وفيها الملك العزيز دمشق، وسلّمها لعمه الملك العادل، ونزل له عن القدس، واسترجعه من أبي الهيجاء، وأقطعه سنقر الكبير، ثم استعاده منه، وأقطعه ميمون القصري سنة أربع وتسعين.

ومات العزيز في سنة خمس وتسعين، وجعل الأفضل أتابكاً لوالده الملك المنصور بمصر.

فلما ملك الملك العادل مصر مع ما كان بيده من البلاد أقطع دمشق والأردن وفلسطين لولده الملك المعظم شرف الدّين عيسى، واستمرت في يده إلى أن توفي الملك العادل في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.

وبقيت البلاد في يده إلى أن قصدت الفرنج دمياط واستولوا عليها فاستنجده أخوه الملك الكامل صاحب مصر، فلما وصل إليه شكا ما الفرنج عليه من القوة، وسأله أن يعطيه القدس، وكوكب، والطور، ليعطيها للفرنج عوضاً عن دمياط، فأسرها في نفسه ووعده فيها بما طاب به قلبه.

ولما تضايق بالملك الكامل الأمر في حصار " دمياط " بعث أخاه الملك المعظم إلى أخيه الملك الأشرف يستنجده، وهو بحران، فأخرب القدس في طريقه وكوكب، حتى لا ينتفع بهما الفرنج، ولا يرغبون فيهما. وبقي في يده خرابا إلى أن توفي سنة أربع وعشرين وستمائة.

فخرج الملك الكامل إلى الشام في شوال سنة خمس وعشرين فولى في بلاد فلسطين، وكان الانبرطور قد وصل إلى عكا، والملك الكامل في بنابلس، فكتب إليه الإمبراطور أن يسلم القدس وجميع ما فتحه صلاح الدين ويلقاه. وتردّدت الرسل بينهما في ذلك، وكان للملك الكامل غرض في تملك دمشق، فجمع الأمراء واستشارهم فكلّ منهم أشار بالعود إلى " تل العجول " خلا الأمير سيف الدين ابن أبي زكري فانه قال:" أبق دمشق على ابن أخيك الملك الناصر، واطلبه، واطلب أخاك الملك الأشرف وعسكر حلب. ونقاتل هذا العدوّ فإما لنا وأمّا علينا، ولا يقال عن السلطان أنه أعطى الفرنج القدس ". فامتعض لذلك وقبض عليه وسيره إلى فحبسه فيها.

وعاد إلى " تل العجول " واستدعى الملك الأشرف من دمشق، وكان قد وصل إليها ليدفعه عنها، فلما غلب على الملك رغبته في تملك دمشق في تملك دمشق أذعن لتسليم القدس للإمبراطور، فتسلمه في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين.

واستمر القدس في أيدي الفرنج إلى أن توفي الملك الكامل في سنة خمس وثلاثين بدمشق وملك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود ابن الملك العادل بعده، فقايض الملك الصالح نجم الدين أيوي ابن الملك الكامل عن دمشق بسنجار وغيرها، فوصل إلى دمشق، ثم خرج منها إلى نابلس في سنة سبع وثلاثين قاصداً مصر، وفيها أخوه الملك العادل، فاستولى على دمشق الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. وقبض الملك الناصر على الملك الصالح بنابلس إسماعيل، وحبسه في الكرك، وجمع عسكرا عظيماً ونزل به على القدس، يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى من السنة، وكان الفرنج قد عمروا به برجاً يعرف " ببرج داوُد " وحصنوه، فنصب عليه المجانيق وضايقه إلى أن تسلمه يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة.

وملك بيت المقدس وولى فيه منْ قبله.

وكتب كتاباً بيده إلى الخليفة المستنصر من إنشائه نُسختهُ: أدام الله ظل الديوان العزيز النبوي ما دامت الأيام والسنون. وفتح بعزمه مستغلق الحصون. وأذاع ببركته سر النصْر المصُون. وأطلع البشائر بابه يانعةَ الثمار، ناضرة الغُصون. وقضى لأوليائه بنيل الُمنى، ولأَعدائه بنيل المُنون. العبدُ يُقبل العتبة الشريفة التي تسر بتقبيلها القلوب، وتقر بتقريبها العيون. وتودّ لو اكتحلتْ بإثمد تُرابها الجُفون. ويصف شوقه إلى الخدمة التي تحقق في نعمها الآمال وتصدق في كرمها الظنون. ومواظبته على الطاعة التي هو وأسلافه عليها يحيون. وعليها يموتون وعليها يُبْعثُون.

ص: 101

ويُنهي أنه طالع المقام الشريف بأمره الهدنة وانقضاء مُدتها. وانفساخ عُقدتها. وعند ذلك أخلى الفرنج - خذ لُهم الله - القدس الشريف من سكانه. وانتقل كل منهم عن وطنه إلى صيره منْ أوطانه. وأقام به كند من كُنُودهم. ومقدَّم من جُنودهم. وهو فارس مشهور من فرسانهم. وطاغية يُذكر من شُجعانهم. كان قد عمر قلعة القدس في مدّة الُهدنة وحصنها. وملأها بالعُدد والآلات وشحنها. ووصلها ببرج يقال له " برج داود " النبي عليه الصلاة والسلام ابتناهُ لنفسه مسجداً. واتخذه لخلوته معبداً.

وهو برج عظيم المقدار والحجم. مُبار في المنعة الجبل وفي الرفعة النجم. ينقلبُ البصر عن نظره خاسئاً وهو حسير. ويتهم الراوي في خبره ولو أنه به خبير. قد بُني بالصفاح والعمد. وتأنَّّق بانوه في إحكامه فما طال عليهم الأمد.

وهو من أَسفله إلى ثلاثة قد صب فيه الحجر والكلسُ صبا. ورُدم بقوَّة بحيث لو حضره يأجوجُ ومأجوج ما استطاعوا أن يُظهروه ولا استطاعوا له نقبا. فكأن الله قد أَلانَ لدَاوُدَ الصًّخر كما أَلان له الحديد في بنيانِه. أَوْ كأنه استعان في اتقانه بجنّ سليمانه. واستغرى اللَّعين معه طائفة من شجعان الأبطال وأبطال الشجعان. ومن المشهورين بالشدة والبأس إذ التقى الجمعان. قدْ ركُبوا في الغيّ رُؤوسهم. ووطَّنوا على القتل نفوسهم. يتهافتوُن على نار الحرب تهافُت الفراش. وَيَردُن حيِاضَ المنُون ورود الإبل العطاش. لا يلتقون سهام القسيِّ إِلَاّ بنحورهم. ولا حجارة المنجنيق إِلَاّ بصدورهم. وبايعوه على الموت وحالفُوا. وطاوعوه على الضلال فما عصوا ولا خالفوا.

ثم عمدوا إلى القلعة والبُرج فستروهما بالستائر المخلدة. والخشب المسندة. والعمد الممدّدة. وأوقدوا للحرب نار الشيطان الموصدة. لا بل نار الله الموقدة. فزل العبدُ عليهم بطائفة من عسكره. وراوحهم وغاداهم بالمناوشة في أصائل الحصار وبكره. ورجا بالمطاولة أن يسلموها من غير إراقة دم. أو قتل موحدٍ يفتدي من المشركين بأمم.

فتجمعوا على الضلال وتألبوا. وحادوا عن طريق الرشاد وتنكبوا. وتوثبوا لنصر اصليب وتصلبوا.

فقاتل العبد صليبهم بصليب من الرأي لا يعجم عوده. وقابل جأشهم بجيش من المصابرة لا يفل جنوده. وجرد لهم جماعة من عبيد الديوان تُرسل إليهم البوائق من نبالها. وتشهر عليهم الصواعق من نصالها.

ونصب عليها المناجيق التي تزحم الحصون بمناكبها. وتحرق شياطينها برجوم حجارتها بدلاً من نجوم كواكبها، ومن شأنها أنها إذا قابلتْ بلدةً أذتْ بكظمها. وقضت برغمها. وأنزلتها على حكمها. فرمتهم بثالث الأثافي من جبالها. وسحرت أعينهم إلا أن الله ما أبطل سحر عصيها ولا سحرَ حبالها.

وأحد النقابون في الأسوار نقوباً سفرت نقابها. ورمى الزراقون في الستائر نيراناً هتكت حجابها.

وكان الملاعين قد طمحت إلى الممانعة عيونهم. وغلقت بالمصابرة زهونهم. وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. وجزاهم بما كسبوا. ومكن أيدي المؤمنين من نواصيهم. وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب منْ صياصيهم.

وطلعت على الأسوار المنيفةُ، من الأعلام الشريفة، الرايةُ التي أعادت بسناها آية الليل لكن من آياته النهار إبصار. وأعظم من النيرين الشمس والقمر ضياء وأبداراً.

وأخذ العبد القلعة وتسلمها. وافترع ذروتها العُليا وتسنمها. وتبرجت له أبراجها المصونة وتجلت. ومُدتْ له أرضها فألقت ما فيها وتخلت.

ولجأت من الملاعين طائفة إلى " برج داود " ترجو حقن دمائها. وتقنع بسلامة ذمائها. وما علموا أنهم دخلوا منه سجْناً لا حصناً. ونزلوا به قبراً عجل لهم، وهم في قيد الحياة دفنا.

وسيروا رسولاً لهم الأمان على نفوسهم وأموالهم. والخروج بما يقدرون عليه من أسلحتهم وأثقالهم. فما سمع العبد لرسولهم كلاما. ولا شفا لغُلتهِ أو أما. ولا عرج على مخاطبته حتى يقول لجهالته سلاما. بل أمر الحجارين أن يحدوا في نقب جداره من جميع أقطاره. ويجتهدوا في قطع حدماره بقلع أحجاره. ويوقد على عدوّ الله ناراً تحرقه في الدنيا قبل أن يحرقه الله في الآخرة بناره.

فعادوا بعدَ ذلك سألوا الأمان على نفوسهم. والخروج بمجرد نفوسهم. فأجابهم العبد إلى هذه المسألة الهينة الممكنة. وخرجوا وقد ضُربت عليهْمْ الذلةُ والمسكنة.

ص: 102

وصارت إلى العبد القلعة إرثاً عن أبيه، والبرجُ إرثاً من سميه. وهطل عليهم سحاب بركة الديوان العزيز بوسميه ووليّه. واجتمع شمل المساجد الثلاثة بما منح الله من التأييد. فاغترق شمل تثليث الشرك باجتماع ثلاثة التوحيد. وعطف الله على حزب الإيمان بالنصر. وعاد على حزب الطغيان بالكسر.. وأضحى الباطلُ وقد عاوده ذله. ورد الله الحق إلى نصابه وإليه يرجع الأمر كلّه.

والعبد يظن أن الله تعالى ما أعاد هذا البيت إلى العدوّ بعد فتوحه. ولا نقله عن الهداة من أُمة محمد إلى الغواة من عبده مسيحة. إلاّ ليسطر فتحه في سيرة مولانا أمير المؤمنين، كما سطره في سيرة أمير المؤمنين جده. ويجري على يد العبد وذويه فيكون قد جرى على يد عبد الديوان ويد جُنده.

وكلما يجدد الله للعبد من قصر عزيز. وظفر وجيز. فهو بعناية إمامه الذي يستخرج له التوفيق من وعائه. ويُمد في القرب بجيوش عساكرِه وفي البعد بجيوش دُعائه.

وقد سير العبد عبد الديوان " سرخاب " رسوله ليتلوا " سورة الفتح " من حفظه. ويشرح صورة الأمر من لفظه. فإنه كان للفتوح حاضراً. ولقتال العدو مُباشراً.

والعبد متردد بين أن يجعل عين هذه القلعة بالهدم أثراً. وعيانها بالردم خبرا. ليخمد سرر شرها. ويؤمن غائلة أمرها. وينقطع رجاء الكافر من نزلها وحصرها وبين أن يبقيها معقلا لهذا البيت الشريف. وموئلاً للمجاورين فيه من طائفة الدين الحنيف.

وأما برج داود فقد تقدم عزم العبد على أن يغض من طرفه. ويجدع من أنفه. ويقلل من ارتفاعه. ويُسهل من امتناعه. ويجعله مسجدا للركوع والسجود. لا معقلا للجموع والحشود. ومعبداً يُلتزم بمزاره. لا حْصناً يعتصم بأَسْوَارِهِ.

وهو يسترشد في ذلك هدي الديوان العزيز الذي عليه معتمده. وإليه مرجعه فيما يصدروه ويورده. والله تعالى يجعل حزب الديوان وعبيده حزب الله الغالب. وحزب عدوه وعدو دينه حزب الشيطان الهارب ويقضي له ولمن اعتلق به ببلوغ المطالب والمآرب.

رجعنا ولم يزل القدس في يد الملك الناصر داود إلى أن اتفق مع الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص على مصالحة الفرنج ليعينوهم على قتال الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر وأعطوهم صفد والشقيف والقدس وغيرها، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فدخل الفرنج القدس، ورفعوا الصليب على الصخرة وأخرجوا من فيه من المجاورين إلى الخليل، واستمر في ايدي الفرنج، إلى ان جاءت الخوارزمية إلى الشام، في سنة إحدى وأربعين باتفاق مع الملك الصالح نجم الدين.

وهجموا القدس وقتلوا من فيه من الفرنج، وطهروا الصخرة من أوضارهم، وذلك في سنة اثنين وأربعين.

ثم خرج إليهم من مصر عسكر مقدمه الأمير ركن الدين بيبرس الكنجي فقاتلوا الملك الصالح والملك المنصور، والفرنج على غرة فكسروهم وتبعوهم. وولي في القدس من قبل الملك الصالح، وأقطع بلاده الخوارزميه.

وما برحوا في تلك البلاد يدينون بالعيث والفساد، إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب على القصب، من أعمال حمص، سنة أربع وأربعين وستمائة.

وبقيت منهم شرذمة رجعت إلى القدس، وتغلبوا عليه فخرج عليهم عسكر من مصر مقدمة فخر الدين بن الشيخ، فأتى على بقيتهم، واستعاد القدس، وبقي في يد نوابة إلى أن انزل الملك الناصر إليه من الكرك، واستولى عليه في بقية سنة أربع وأربعين.

ثم استعاد الملك الصالح سنة خمس وأربعين، ولم يزل في يده إلى أن مات، وولي بعده ولده الملك المعظم توران شاه، ثم قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين.

وملك الملك الناصر حلب، دمشق والأردن وفلسطين، فلم يزل القدس في يده إلى أن صالح الملك المعز عز الدين أيبك صاحب مصر، فنزل له عنه، وذلك في سنة إحدى وخمسين.

وبقي في يده إلى قتل الفارس أقطاي التركي في شعبان سنة اثنين وخمسين، وخرج من مصر مماليك السلطان الملك الصالح البحرية إلى الملك الناصر يستنصرونه، فسير عسكراً إلى القدس فاستعاده.

ولم يزل في يده إلى أن خرج من دمشق فاراً من التتر في سنة ثمان وخمسين.

فلما استولى التتر على البلاد دخلوه وقتلوا به نويسا وبقي في أيديهم إلى أن كسرهم المظفر على " عين جالوت " ثم قتل.

ص: 103