الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقوله أن هناك أربعة أشياء أحدها البر والثاني النص الوارد بتحريم الربا فيه والثالث الحكم المستفاد من ذلك النص والرابع العلم به والحكم في الذرة ليس متفرعا عن البر من حيث هو بر وهذا هو واضح ولا عن الحكم من حيث هو حكم لأن تحريم الربا من حيث هو شيء واحد لا يختلف بالمحل وإنما إذا أخذ مضافا إلى محله فيمكن أن يقال إن الحكم في الذرة متفرع عن الحكم في البر ويمكن أن يقال إن الذرة مع ثبوت الحكم فيها يتفرع عن البر مع ثبوت الحكم فيه فالفقهاء نظروا إلى هذا والإمام نظر إلى الأول وهما متقاربان ونظر الفقهاء أقرب إلى الاصطلاح وأوفق لمجاري الاستعمال بين الجدلين ولقولنا القياس حمل معلوم على معلوم والمحمول المحل لا الحكم ولقول من قال القياس رد فرع إلى أصل لعلة جامعة والفرع والأصل هما المعلومان المذكوران في الحد ولو قال قائل إن المتفرع هو العلم بالحكم في الذرة عن العلم بالحكم في البر لكان أولى من قول الإمام وليس مخالفا لقول الفقهاء
وبيان الأولوية أن الحكم قديم في الأصل والفرع والنص الوارد دال عليه والعلم به هو الذي اقتضى تعديته من محل ورود النص إلى الفرع وينبغي أن يحقق أنه هل يتعقل تفرع حكم الذرة على حكم البر وهما قديمان أولا يعقل بل هما سواء والتفرع في عملنا والأدلة الدالة على ذلك هذا موضع نظر يحتاج إلى زيادة فكر ثم قال الإمام وبعد التنبيه على هذه الاصطلاحات نساعد الفقهاء على مصطلحهم لئلا يفتقر إلى تغييره ثم أن المصنف لما بين الأركان الثلاثة على سبيل الإجمال تصدى لتبينها مفصلة فعقد لذلك فصلين
في العلة وتعريفها
الطرف الأول: الطرق الدالة على العليلة
…
قال "الفصل الأول في العلة وهي المعرف للحكم قيل المستنبطة عرفت به فيدور قلنا تعريفه في الأصل وتعريفها في الفرع فلا دور "
إنما أفرد بيان العلة بفصل مقدم على بيان الأصل والفرع ومتعلقاتهما لكثرة تشعب الآراء عندها وعظم موقعها وتشتت المباحث فيها وقد اختلفت مقالات الناس في تفسيرها على مذاهب الأول وبه جزم المصنف واختاره الإمام.
وأكثر الأشاعرة أنها المعرف للحكم وقد يقال العلامة والإمارة واعترض على هذا بأن المستنبطة لم تعرف إلا من الحكم لأن معرفة كونها علة للحكم تتوقف على معرفة الحكم ضرورة فلو عرف الحكم لها لتوقف العالم بالحكم عليها وهو دور وإنما قيدنا السؤال بالمستنبطة لعدم توقف معرفة العلة المنصوصة على معرفة الحكم لكونها معروفة من النص وأجاب بأن تعريف الحكم للعلة بالنسبة إلى الأصل وتعريف العلة للحكم بالنسبة إلى الفرع فلا دور لاختلاف المحل وقضية هذا القول أن تكون العلة عبارة عن معرف حكم الفرع فقط ولا فدخل لها في تعريف حكم الأصل لكونه حينئذ معلوما بالنص أو دليل آخر وبهذا اعترض عليه صفي الدين الهندي
وقال يخدشه ما هو المشهور من قول أصحابنا من أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينها وبين الفرع مع كونه على هذا القول غير معرف بها والمذهب الثاني أنها الموجب لا لذاته بل يجعل الشارع إياه موجبا للأحكام وهو رأي الغزالي
وقال صفي الدين الهندي هو قريب لا بأس به والثالث وهو قول المعتزلة أنها المؤثر في الحكم بذاته وهو باطل لأنه مبني على التحسين والتقبيح ولأن الحكم قديم والوصف حادث فيستحيل تعليله به والرابع واختاره الآمدي وابن الحاجب أنها الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم وهو ضعيف لاستحالته في حق الله تعالى لأن من فعل فعلا لغرض فلا بد وأن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله وإلا لم يكن غرضا وإذ كان حصول الغرض أولى وكان حصول تلك الأولوية متوقفا على فعل ذلك الفعل كان حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير فتكون ممكنة غير واجبة لذاته ضرورة توقفها على الغير فيكون كماله تعالى ممكنا غير واجب لذاته وهو باطل لا يقال حصول ذلك الغرض ولا حصوله وإن كان مستويا بالنسبة إليه فمتفاوت بالنسبة إلى غيره لأن حصوله لهم أولى فيفعله تعالى لا لغرضه بل لغرضهم وحينئذ لا يلزم منه استكمال ذاته تعالى
بصفة ممكنة لأنا نقول فعله لذلك الفعل لتحصيل غرضهم إن كان أولى من لا فعله جاء حديث الاستكمال وإن لم يكن فتحصيل الغرض إن كان لتحصيل غرض آخر لهم كان الكلام فيه كالأول وتسلسل وإن لم يكن لغرض آخر لهم مع أنه ليس فيه أولوية استحال أن يكون غرضا
وقد نجز من القول في هذه المسألة ما لا يحتمل هذا الشرح أطول منه وبقي سؤال يورد الشيوخ وهو أن المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عن الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث وتوهم كثير منهم منها أنها باعثة للشرع على الحكم كما هو مذهب قد بينا بطلانه فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وما زال الشيخ الإمام الوالد والدي رحمه الله أطال الله عمره يستشكل الجمع بين كلاميهما إلى أن جاء ببديع من القول فقال في مختصر لطيف كتبه على هذا السؤال وسماه ورد العلل في فهم العلل لا تناقض بين الكلامين لأن المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو المكلف المحكوم به من جهة الشرع فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه لأنه قادر أن يحفظ النفوس بدون ذلك وإنما تعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لكونه وسيلة إليه فكلا المقصد والوسيلة مقصود للشارع وأجرى الله تعالى العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله به ووسيلة إلى حفظ النفوس كان لهم أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى
أحدهما بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ1}
والثاني إما بالاستنباط وأما بالإيماء في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ2} وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة ومن هنا يتبين أن كل
1 سورة البقرة "178"
2 سورة البقرة """179"
حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان أحدهما ذلك المعنى والثاني الفعل الذي هو طريق إليه وأمر المكلف أن يفعل ذلك الفعل قاصدا به ذلك المعنى فالمعنى باعث له لا للشارع ومن هنا يعلم أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من الحكم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفس لاحظ لها فيه فقد يكون أجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي ويعرف أيضا أن العلة القاصرة سواء كانت منصوصة أم مستنبطة فيها فائدة وقد ذكر الناس لها فوائد وما ذكرناه فائدة زائدة وهي قصد المكلف فعله لأجلها فيزداد أجره فانظر هذه الفائدة الجليلة واستعمل في كل مسألة ترد عليك هذا الطريق وميز بين المراتب الثلاث وهي حكم الله بالقصاص ونفس القصاص حفظ النفوس وهو باعث على الثاني لا على الأول وكذا حفظ المال بالقطع في السرقة وحفظ العقل باجتناب المسكر فشد يديك بهذا الجواب
قال "والنظر في أطراف الأول في الطرق الدالة على العلية الأول النص القاطع كقوله تعالى كيلا يكون دولة وقوله عليه السلام "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" وقوله إنما "نهيتكم عن لحم الأضاحي لأجل الدافة"
المراد بالنص كما قال الإمام وغيره ما كانت دلالته ظاهرة سواء كانت قاطعة أم محتملة وتقسيم المصنف النص إلى قاطع وظاهر يخالف ما تقدم منه في تقسيم الألفاظ من جعل الظاهر قسيما للنص لا قسما منه وحاصله ما ذكره هنا أن النص على قسمين الأول القاطع وعبر عنه الآمدي والهندي وغيرهما بالصريح وله ألفاظ منها كي كقوله تعالى في الفيء {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً1} أي إنما وجب تخميسه كيلا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء شيء ومنها لأجل كذا أو من أجل كذا كقوله عليه السلام "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر2" رواه البخاري ومسلم وقوله: " إنما نهيتكم من
1 سورة الحشر آية "7"
2 حديث صحيح أخرجه البخاري كتاب الإستئذان من أجل البصر "8/66" من حديث سهل ابن سعد الساعدي كما أخرجه الترمذي "تحفة الأحوذي" 7/488-490" كما رواه مسلم في صحيحه
أجل الدافة التي وفت فكلوا وادخروا1" رواه مسلم وأبو داود والنسائي أي لأجل التوسعة على الطائفة التي قامت المدينة أيام التشريق والدافة القافلة السائلة ومنها لعلة كذا أو لسبب أو لمؤثر أو لموجب وإهمال المصنف ذلك لكونه في معنى لأجل
قال والظاهر اللام كقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} فإن أئمة اللغة قالوا اللام للتعليل وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} وقول الشاعر
لدوا للموت وابنوا للخراب
للعاقبة مجازا وأن مثل ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة مبليا والباء مثل فبما رحمة من الله لنت لهم
الثاني من قسمي النص الظاهر وهو اللام وأن الباء أما اللام فكما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ2} فإن أهل اللغة نصوا على أنه للتعليل وإنما لم يكن صريحا لاحتمال الاختصاص أو الملك وغير ذلك قوله وفي قوله هذا جواب عن سؤال مقدار تقريره اللام ليست للتعليل كقوله تعالى: {لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ3} فإن ذلك ليس عرضا بالإجماع فإن الناس على قولين منهم من لم يعلل أفعال الله لشيء أصلا ومنهم من يعللها بالمصالح فأما تعليلها بالمضار والعقوبات فلم يقل به عاقل ولقول الشاعر 4
له ملك ينادي كل يوم
…
لدوا للموت وابنوا للخراب
1 أخرجه البخاري كتاب الأضاحي باب:ما يؤكل من لحوم الأضاحي "7/133-134" ومالك في الموطأ "1/321"ومسلم "6/80" باب:بيان ماكان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي والترمذي "تحفة الأحوذي5/99" باب:في الرخصة في أكل الضاحي والنسائي كتاب الأضاحي باب:النهي عن أكلها "7/205"
2 سورة الإسراء آية "78"
3 سورة الأعراف آية "179"
4 البيت لأبي العتاهية: إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان المتوفي سنة 210هـ وهو مطلع قصيدة له في الزهد "ديوان أبي العتاهية ص 23" ط بيروت سنة 1909م
وذلك ليس للعلية إذا الولادة والبناء ليس لغرض الموت والخراب وجوابه أن اللام في هذه الأماكن مستعملة على جهة التجوز للعاقبة فإن عاقبة كثير من المخلوقات جهنم وعاقبة الولادة الموت والبناء للخراب والعلاقة بين العلة والعاقبة أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في الحصول كترتب العلة الغائبة على معلولها واستعمالها على جهة المجاز لا ينفي كونها ظاهرة في التعليل الذي هو حقيقتها فإن قلت استعمالها في غير التعليل لا ينفي كونها ظاهرة فيه لو ثبت كونها حقيقة له لكن لم يثبت بعد فإنكم إنما استدللتم عليه بالاستعمال وعارضناه بمثله فليس الاستدلال بذلك الاستعمال على حقيتها في التعليل أولى من العكس
قلت الاستدلال بما ذكرناه من الاستعمال أولى لموافقته قول أهل اللغة أنها للتعليل ولكونه أسبق إلى الفهم وأما إن فكقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته "ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" أخرجاه في الصحيحين وفي هذا الحديث جهتان يدلان على التعليل أن كما تقرر وترتيب الحكم على الوصف كما سيأتي في كلام المصنف إن شاء الله تعالى وأما الباء ففي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ1}
فإن قلت أصل الباء للإلصاق فلم قلتم بأنها ظاهرة في التعليل قلت قال الإمام ذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هنا فحسن استعماله فيه مجازا لكن قال صفي الدين الهندي هذا مخالف لما ذكره غيره ولما أشعر به كلامه أيضا إذ صرح بأن دلالة اللام وأن والباء على التعليل ظاهرة من غير تفرقة بينها ثم إنه صرح بأن دلالة اللام حقيقة فأشعر بالتسوية في الدلالة ولأن دلالة المجاز لا تكون ظاهرة إلا بطريق علية الاستعمال أو القرينة فكان يجب عليه أن يقيد ظهور دلالته بغلبة الاستعمال لا في أصل الوضع
قال "الثاني الإيماء وهو خمسة أنواع"
1 سورة آل عمران آية "159"
الأول ترتيب الحكم على الوصف بالفاء ويكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع أو الراوي مثاله السارق والسارقة لا تقربوه طيبا زنا ماعز فرجم
الثاني من الطرق الدالة على العلية الإيماء والتنبيه قال الآمدي وصفي الدين الهندي دلالته على العلية بالالتزام لأنه يفهم التعليل فيه من جهة المعنى لا من جهة اللفظ قال الهندي إذ اللفظ لو كان موضوعا لها لم يكن دلالته من قبيل الإيماء بل كان صريحا وهذا الذي قالاه فيه نظر سنذكره وهو أنواع
الأول أن يذكر حكما ووصفا وتدخل الفاء على أحدهما وهو أقسام أولها دخول الفاء على الوصف في كلام الشارع كقوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا1"
الثاني دخولها في كلام الراوي ولم يمثل له المصنف
الثالث دخول الفاء على الحكم في كلام الشارع مثل {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا2}
الرابع دخولها عليه في كلام الراوي مثل زنا ماعز فرجم وقد تقدم الكلام على حديث زنا ماعز من التخصيص وليس فيه وقوع هذا اللفظ في كلام الراوي ومثاله أيضا سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد
قال الإمام يشبه أن يكون تقدم العلة على الحكم أقوى في الإشعار بالعلية من الثاني لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل دون العكس وعكس النقشواني الأمر معترضا على الإمام بأنه إذا تقدم الحكم تطلب نفس السامع العلة فإذا سمع وصفا معقبا بالفاء سكنت
1 حديث صحيح أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته فمات فقال صلي الله عليه وسلم "أغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا""التاج 2/114-115"
2 المائدة آية "38"
نفسه عن الطلب وركنت إلى أن ذلك هو العلة وأما إذا تقدم معنى لم يعلم بعد حكمه مثل والسارق والسارقة فالنفس تطلب الحكم فإذا صار الحكم مذكورا فبعد ذلك قد يكتفي في العلة بما سبق إن كان شديد المناسبة مثل السارق والسارقة وقد لا يكتفي بل يطلب العلة بطريق آخر بأن يقول إذا أقمتم الصلاة فاغسلوا وجوهكم تعظما للمعبود وأما فيما إذ تأخر ذكر العلة فلا يجوز ذكر علة أخرى قال ولو ذكر علة عد مناقضا فكان الإشعار بالعلية على عكس ما قاله الإمام كيف وترتيب الحكم على الوصف عند الإمام يقتضي العلة وإن لم يكن مناسبا ويلزمه أن يقول إشعار قول القائل أما الطوال فأكرموهم بالعلة أقوى من أكرموا هؤلاء فإنهم طوال وليس كذلك لإمكان قول القائل في الأول لم أجعل الإكرام علة دون الثاني وأما قول الإمام إشعار العلة بالمعلول أقوى فهذا لا يتأتى إلا في شيء عرف كونه علة قبل الكلام أو قبل الحكم أما ما كانت العلة فيه مستنبطة من ذلك الكلام فلا يتأتى فيه ما ذكر الثانية ما ورد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فهو أقوى دلالة على العلية من كلام الراوي لتطرق احتمال الخطأ إليه دون الله ورسوله وجعل الآمدي الوارد في كلام الله أقوى من الوارد في كلام رسوله والحق مساواتهما لعدم احتمال تطرق الخطأ قاله الهندي وهو صحيح وما كان من كلام الراوي الفقيه أقوى مما هو من كلام من ليس بفقيه.
الثالثة استدل الآمدي على إفادة هذا النوع من الإيماء العلية بأن الفاء للتعقيب ودخولها على الحكم بعد الوصف يقتضي ثبوت الحكم عقب الوصف ويلزم كون الوصف سببا إذ لا معنى لسببيته إلا ثبوت الحكم عقيبه
وقد ذكر الهندي هذا التعليل واعترض عليه بأنا نسلم أن كل سبب يعقبه الحكم لكن لا نسلم أن كل ما يعقبه الحكم سبب فإن القضية الكلية لا تنعكس كنفسها وهو اعتراض صحيح ثم هذا الدليل على ضعفه يختص بدخولها على الحكم بعد الوصف دون عكسه
وقد جعل ابن الحاجب دلالة الأقسام التي ذكرناها في هذا القسم من باب
الصريح دون الإيماء والحق عندي في هذا أن يقال ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية بوضع اللغة ولم تضع العرب ذلك دالا على مدلوله بالقطع والصراحة بل بالإيماء والتنبيه ولا بدع في مثل هذا الوضع وإنما لم نجعله من باب الصريح لتخلفه في بعض محاله عن أن يكون إيماء وهو حيث تكون الفاء بمعنى الواو فكانت دلالته أضعف وإذا وضح هذا علمت أن دلالته ليست إلتزامية كما زعم الآمدي والهندي وهذا هو النظر الذي أشرنا إليه أول الفصل وإنها ليست صريحة على خلاف ما ظن ابن الحاجب الرابعة قد يقال كيف يعتمد قول الراوي هنا مع جواز أن يكون ترتيبه للحكم على الوصف لفهمه أو ظنه ما ليس بعلة علة وقد قال الجمهور لا يعتمد قوله هذا منسوخ ولا عمله بخلاف ما رواه لاحتمال ذلك ولا قوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الأصوليين وقد يقال يعتمد قوله في فهم مدلولات الألفاظ كالرواية بالمعنى ويجاب بأن العمل بقوله هذا منسوخ يلزم منه رفع دليل ثابت بقول جاز أن يقوله عن اجتماد لا نراه بخلاف مثل قوله سها فسجد فإنه لا يلزم من إثبات هذا الحكم الذي جاءه به رفع دليل ثابت وكذا الآخذ بما رآه دون ما رواه وأما قوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا فالأكثرون على اعتماده والعمل به ومن لم يعتمده مستنده احتمال أن الحكم كان غير دائم وظنه دائما أو مختصا بواحد وظن عدم اختصاصه لا من جهة ظنه ما ليس بأمر أمرا فإن ذلك بعيد من العربي وحاصل هذا كله أن الراوي يرجع إليه في مدلولات الألفاظ لا في الاجتهاد والحق عندي في هذا أن يقال إن كان الراوي صحابيا اعتمد فهمه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم فقهاء ومن صميم العرب وإن كان غير صحابي فالظاهر أيضا اعتماده إذا كان كذلك وإن كان ممن قد يخفى عليه أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فلا يعتمد
"فرع ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وقيل إذا كان مناسبا لنا لو قيل أكرم الجاهل وأهن العالم قبح وليس لمجرد الأمر فإنه قد يحسن فهو لسبق التعليل قيل الدلالة في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في الكل قلنا يجب دفعا للاشتراك"
اختلفوا في اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه فذهب الأكثرون إلى عدم اشتراطه1
وقيل يشترط وتوجيه تفريع هذا الفرع على ما قبله أن يقال إذا ثبت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فهو يشترط مناسبة الوصف واستدل المصنف على أنه لا يشترط بأن القائل لو قال أكرم الجاهل وأهن العالم استقبح هذا الكلام منه عرفا وليس الاستقباح لمجرد الأمر بذلك فإن الجاهل قد يحسن إكرامه في الجملة لسبب أو دين أو غير ذلك
والعالم قد يحسن إهانته لفسق أو بخل أو غيره فثبت أن استقباح ذلك إنما هو لسبق الفهم إلى تعليل إكرام الجاهل بالجهل وإهانة العالم بالعلم لأن الأصل عدم غيره فيكون حقيقة في أن ترتيب الحكم على الوصف يقتضي العلية مطلقا واعلم أن عبارة الإمام أكرم الجهال وأهن العلماء وفهم علية الوصفين في هذه الصورة أسبق إلى الذهن من فهمه في قولنا أكرم الجاهل وأهن العالم لأنه قد يقال أنه في حالة الجمع يكون ناظرا إلى جهة الجهل والعلم دون الأفراد إذ يكون الشخص فيه مقصودا فإتيان المصنف بصيغة الإفراد أحسن إذ يلزم من ثبوته فيه ثبوته لك الصورة بطريق أولى
وهكذا فعل الآمدي وقد اعترض الخصم على هذا الدليل بأن دلالته الترتيب على العلية في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في جميع الصور لأن المثال الجزئي لا يدل على الكلية فيحتمل أن يكون ذلك لخصوصية هذه الصورة
1 في هامش النسخة المطبوعة ص "34""بناء علي أن العلة بمعني المعرف وعلي هذا فلا امتناع في جعل الجهل علامة علي الإكرام والعلم علامة علي الإهانة إذ لم يكن هو الباعث بل الباعث شيء آخر وأعترض بان هذا معارض لم علم في شروط العلة من أنه يشترط في الإلحاق بها اشتمالها علي حكمه تبعث المكلف علي الإمتثال وتصح لإناطة الحكم وأيضا فإن العلة تستلزم الحكم وكيف يتأتي هذا مع عدل المناسبة والجواب:أن المراد أنه لا يشترط مناسبة ظاهرة وإن كان لابد منها في نفس الأمر وقيل: يشترط في الإيماء مناسبة الوصف المومأ إليه للحكم بناء علي أن العلة بمعني الباعث يعني أنها الباعث للشارع علي شرع الخكم وليس المقصود مجرد التعريف بل مع بيان وجه مشروعية الحكم إذ له دخل في العلية فلابد من معرفته حتي يكونالإيماء صحيحا"أهـ مصححه
وأجاب بأنه إذا ثبت في هذه الصورة لزم في جميع الصور وألا يلزم الاشتراك في هذا النوع من التركيب ولقائل أن يقول الترتيب تركيب والمركب غير موضوع عنده فأين لزوم الاشتراك سلمنا أنه موضوع ولكن إنما يلزم الاشتراك أن لو قلنا إنه يدل في غير هذه الصورة على شيء وفرق بين الدلالة على العدم وعدم الدلالة والاشتراك لازم على الأول الممنوع دون الثاني المسلم ولا يقال الترتيب الدال في هذه الصورة لا بد أن يدل على شيء في غيرها لأن ذلك مجرد دعوى
قال "الثاني أن يحكم عقيب علمه بصفة المحكوم عليه كقول الأعرابي واقعت يا رسول الله فقال اعتق رقبة لأن صلاحية جوابه تغلب ظن كونه جوابا والسؤال معاد فيه تقديرا فالتحق بالأول"
الثاني من أنواع الإيماء أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم في محل عند علمه بصفة فيه فيغلب على الظن أن تلك الصفة علة لذلك الحكم مثاله ما روي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان عامدا فقال أعتق رقبة وأصل الحديث في الكتب الستة كلها لكن بغير صيغة أعتق رقبة وبهذا الصيغة في سنن ابن ماجة فيظن أن الوقاع في نهار رمضان سبب لوجوب عتق الرقبة لأن ما ذكره الرسول عليه السلام من الكلام يصلح أن يكون جوبا لهذا السؤال وصلاحيته لذلك تغلب على الظن كونه جوابا لأن الاستقراء يدل على أن الغالب فيما صلح للجواب أن يكون جوابا فإن قلت يحتمل أن يكون جوابا عن سؤال آخر أو ابتداء كلام أو زجرا له عن الكلام كقول السيد لعبده إذا سأله عن شيء اشتغل بشأنك قلت غلبة الظن توجب لحاق هذا الفرد بالأعم والأغلب ولأنه لو لم يكن جوابا لخلا السؤال1 عن الجواب ولزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وما يقال عليه لعله عليه السلام عرف أنه لا حاجة للمكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يلزم تأخير البيان عن وقت
1 جعله سؤالا باعتبار المقصود منه وإن لم يكن سؤالا بحسب الصورة أهـ مصححة
الحاجة فهو احتمال مرجوح لكونه نادرا إذا الغالب في السؤال كونه وقت الحاجة وإذا كان ما ذكره الرسول عليه السلام جوابا عن السؤال معاد في الجواب تقديرا1 فيصير تقدير الكلام واقعت فاعتق فيرجع إلى نوع ترتيب الحكم على الوصف بالفاء لكنه أضعف منه لأن الفاء وإعادة السؤال مقدر فيه والمقدر وإن ساوى المحقق في أصل الثبوت فلا يساويه في القوة وما وقع من هذا النوع في كلام الراوي فهو حجة أيضا لأن معرفة كون الكلام المذكور جوابا عنه أو ليس جوابا لا يحتاج إلى دقيق نظر وظاهر حال الراوي العدل لا سيما العارف أنه لا يجزم بكونه جوابا إلا وقد تيقن ذلك
قال "الثالث أن يذكر وصفا لو لم يؤثر لم يفد مثل إنها من الطوافين عليكم والطوافات ثمرة طيبة وماء طهور وقوله أينقض الرطب إذا جف قيل نعم فقال فلان إذن وقوله لعمر وقد سأل عن قبلة الصائم أرأيت لو تمضمضت بما ثم مججته"
إذا ذكر الشارع وصفا لو لم يؤثر في الحكم أي لم يكن علة فيه لم يكن لذكره فائدة دل على عليته إيماء وإلا كان ذكره عبثا ولغوا ينزه هذا المنصب الشريف عنه وهو على أربعة أقسام
الأول أن يدفع السؤال في صورة الإشكال بذكر الوصف كما روي أن عليه السلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة فقال عليه السلام: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات2" رواه الأربعة أصحاب السنن فلو لم يكن لكونها من
1 الداعي إلي هذا التقرير تحقق الإقتران بين الوصف والحكم في كلام واحد اذا لإقتران بينها في كلامين غير معقول "أهـ" مصححة
2 رواه أبو داود: كتاب الطهارة باب: سؤر الهرة "1/18".والترمذي باب: سؤر الهرة "تحفة الأحوذي 1/307"والنسائي كتاب الطهارة باب سؤر الهرة "1/48". وفي بعض الروايات: "أو الطوافات" قال صاحب مطالع الأنوار يحتمل أن تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث" "المجموع للنووي1/226"
لطوافات أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة
الثاني أن يذكر وصفا في محل حكم لا حاجة إلى ذكره ابتداء فتعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثرا في الحكم كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة الجن لابن مسعود: "ما في أداوتك" قال نبيذ قال: "تمرة طيبة وماء طهور" وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وابن ماجة قال القرافي في تعليقه على المنتخب وهذا المثال غير مطابق لأن ذكره عليه السلام طيب التمرة ليس إشارة إلى العلة في بقاء الطهورية بل إلى عدم المانع والمعنى لو كانت التمرة مستقذرة أمكن أن تكون نجسة كمنع من بقاء الطهورية لكن ليست كذلك
الثالث أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فيسأل عليه السلام عن وصف له فإذا أخبر عنه حكم فيه بحكم كما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس" قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم: "فلا إذن" رواه الأربعة وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم فلو لم يكن نقصانه علة في المنع لم يكن للتقديم عليه فائدة وهو يدل على العلية بوجهين آخرين من حيث الفاء ومن قوله إذن فهي من صيغ التعليل وقد عدها ابن الحاجب مما يدل بالنص على العلية مثل من أجل كذا وشبه
الرابع أن يسأل عن حكم فيتعرض لنظيره وينبه على وجه الشبه بينه وبين المسؤول عنه فيفيد أن وجه الشبه هو العلة كما روى أبو داود والنسائي أن عمر رضي الله عنه قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم قال: "أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم" قلت لا بأس قال: "فمه" قال النسائي هذا الحديث منكر وقال أحمد بن حنبل ضعيف1 فنبه عليه السلام بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة لمشابهتها للقبلة في أن كلا منهما وإن كان مقدمة للشرب والوقاع المفسدين فلم يحصل منه المطلوب من الشرب والوقاع وفيه إشارة إلى أركان القياس الأربعة لأنه عليه
1 أصله صحيح أخرجه البخاري كتاب الصيام باب القبلة في الصوم كما أخرجه مسلم "3/134" فقول النسائي "هذا الحديث منكر" غير مسلم
السلام جعل المضمضة أصلا والقبلة فرعا وكون كل منهما مقدمة المفسد جامعا وعدم الإفساد حكما واعترض الآمدي على التمثيل بهذا الحديث بأنه ليس من قبيل ما نحن فيه إذ ليس فيه ما تتخيل أن يكون مانعا من الإفطار بل غايته أن لا يفطر قال بل هو نقض لما توهمه عمر رضي الله عنه من إفساد مقدمة الإفساد قال الهندي وهو ضعيف لأن في قوله عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه تنبيها على الوصف المشترك بين المضمضة والقبلة وهو عدم حصول المقصود منهما وهو يصلح للعلية لعدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه
قال "الرابع أن يفرق الحكم بين شيئين بذكر وصف مثل القاتل لا يرث وقوله "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد"
إذا فرق الشارع بين شيئين في الحكم بذكر صفة كان إيماء إلى علية الصفة وإلا لم يكن لذكرها معنى وهو ضربان
أحدهما أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب بل في خطاب آخر مثل قوله عليه السلام "القاتل لا يرث" وقد تقدم الكلام على الحديث في الخصوص مع تقديم بيان إرث الورثة ففرق بقوله القاتل لا يرث بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي يجوز جعله في نفي الإرث
وثانيهما أن يذكر حكمهما في الخطاب وهو على خمسة أوجه اقتصر في الكتاب على الأول منها وهو أن يقع التفرقة بلفظ يجري مجرى الشرط كقوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد1" نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلا والثاني أن يقع التفرقة بالغاية مثل {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ2} والثالث بالاستثناء {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ3} والرابع بلفظ يجري
1 صحيح مسلم كتاب الربا:الصرف وبيع الذهب بالورق "4/66-100بشرح النووي"كما أخرجه ابن ماجة "2/15" والإمام أحمد في مسنده "4/131،5/2".
2 سورة البقرة آية "222"
3 سورة البقرة آآآية "237"
مجرى الاستدراك مثل {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ1} يدل على علية التعقيد للمؤاخذة والخامس استئناف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر صالحة للعلية كقوله عليه السلام: "للراجل سهم وللفارس سهمان2" وأعلم أن اعتماد هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من سبب ولذكر الوصف من فائدة وجعل الوصف سبب التفرقة فائدة
قال "الخامس النهي عن مفوت الواجب مثل وذروا البيع"
إذا نهى عن فعل يمنع الإتيان به حصول ما تقدم وجوبه علينا كان إيماء إلى أن علة ذلك النهي كونه مانعا من الواجب كقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ3} فإنه لما أوجب السعي ونهى عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عنه لمنعه من السعي الواجب لما جاز ذكره في هذه الموضع لكونه يخل بجزالة الكلام وفصاحته دل على إشعاره بالعلية وقد نجز القول في أقسام الإيماء الذي هو الثاني من الطرق الدالة على العلية ونعقبه إن شاء الله بالثالث وبالله التوفيق
قال "الثالث الإجماع كتعليل تقديم الأخ من الأبوين في الإرث بامتزاج النسبين"
إذا أجمعت الأمة على علية وصف الحكم ثبتت عليته له كإجماعهم على أن العلة في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث وهو امتزاج النسبين فيلحق به تقديمه في ولاية النكاح وصلاة الجنازة والحضانة والوصية لأقرب الأقارب والوقف عليه وتحمل الدية قياسا بجامع امتزاج النسبين فإن قلت قد وقع خلاف في المذهب في أكثر هذه الصور هل يستويان أو يقدم
1 سورة المائدة آية "89"
2 رواه أبو داود كتاب الجهاد باب فيمن أسهم له سهما واترمذي باب سهم الخيل "تحفة الأحوذي 6/163"
3 سورة الجمعة آية "9"
الأخ من الأبوين كولاية النكاح وصلاة الجنازة وتحمل العقل والوصية والوقف وإنما لم يقع في الحضانة لأن الأنوثة في بابها أقوى من الذكورة ولذلك قال بعض الأصحاب بتساوي الأخ للأم والأخ للأب فكيف ذلك مع الإجماع قلت لا يلزم من إجماعهم على علية وصف أن لا يقع خلاف معها لجواز أن يكون وجودها في الأصل أو الفرع متنازعا فيه أو يكون في حصول شرطها أو منعها نزاع وهذا على رأي من يجوز تخصيص العلة وإنما لا يتصور الخلاف إذا وقع الاتفاق على ذلك كله
قال "الرابع المناسبة المناسب ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا"
عرف المناسب بأنه الذي يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا وغيره قال إنه الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضرا وهما متغايران لأن المصنف جعل المقاصد أنفسها أوصافا وهذا التعريف هو قوله من يعلل أفعال الله تعالى بالمصالح1 والنفع عبارة عن اللذة وما كان طريقا إليها والضرر الألم وطريقه وقيل في حد اللذة إدراك الملايم والألم إدراك المنافي قال الهندي وهو لا يخلو عن شائبة الدور يعني لأن إدراك أحدهما يتوقف معرفته على إدراك الآخر وهذا فيه نظر إذ قد يدرك المنافي من لم يدرك الملايم ويعرفه وكذا العكس قال الإمام والصواب عندي أنهما لا يحدان لكونهما من الأمور الوجدانية أما من لم يعلل أفعال الله تعالى فقال المناسب الملايم لأفعال العقلاء في العادات
قال "وهو حقيقي دنيوي ضروري كحفظ النفس بالقصاص والدين
1 قال في التوضيح وما أبعد عن الحق قول من قال: إنها غير معللة بها فإن بعث الأنبياء لإهتداء الخلق وإظهار المعجزات لتصديقهم فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} وأيضا لو لم يفعل لغرض أصلا يلزم العبث ودليلهم أنه فعل لغرض فإن لم يكن حصول ذالك لغرض أولي به من عدمه امتنع منه فغله وأن كان أولي كان مستكملا به فيكون ناقصا والجواب أنه إنما يكون مستكملا به لو كان الغرض راجعا إليه وهنا راجع إلي العبد بإختصار مصححه
بالقتال والعقل بالزجر عن المكسرات والمال بالضمان والنسب بالحد على الزنا ومصلحي كنصب الولي للصغير وتحسيني كتحريم القاذورات واحروي كتزكية النفس وإقناعي بظن مناسبا فيزول بالتأمل فيه"
هذا تقسيم أول للمناسب المناسب إما حقيقي أو إقناعي الأول الحقيقي وهو إما لمصلحة تتعلق بالدنيا أو بالآخرة والمتعلق بالدنيا إما أن يكون في محل الضرورة وهو الضروري أو في محل الحاجة وهو المصلحي أولا في محل الضرورة ولا الحاجة بل كان مستحسنا في العادات فهو التحسيني فالضروري ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي اتفقت الملل على حفظها وهي النفس والدين والعقل والمال والنسب فحفظ النفس بمشروعية القصاص قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ1} وأما الدين فبقتال الكفار وعليه نبه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ2} وأما العقل فبتحريم المسكرات
وعليه نبه قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ3} وأما حفظ المال فبالضمان على الغاصب والاختلاس والسرقة وأما النسب فبوجوب الحد على الزاني فهذه الخمسة هي الضرورية ويلتحق بها ما كان مكملا لها كتحريم البدعة والمبالغة في عقوبة المبتدع إليها وفي تحريم شرب القليل من المسكر ووجوب الحد فيه وفي حفظ النسب بتحريم النظر والمس وترتيب التعزير على ذلك وأما المصلحي فكنصب الولي للصغير فيمكن من تزويج الصغيرة لأن مصالح النكاح غير ضرورية ولكن واقعة في محل الحاجة فإنها داعية إلى الكفء الموافق وهو لا يوجد في كل وقت فلو لم يقيد بالنكاح لأوشك فواته لا إلى بدل ومثله تجويز الإجاره فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة مالكها ببذلها عارية
قال إمام الحرمين فمن قال الإجارة خارجة عن مقتضى القياس فليس على
1 سورة البقرة آية "179"
2 سورة التةبة آية "29"
3 سورة المائدة آية "91"
بصيرة من قوله فإنها إن خرجت فخروجها عن الاستصلاح فهي خارجة على مقتضى الحاجة والحاجة أصل والاستصلاح بالإضافة إليه فرع انتهى ومراده بالاستصلاح كما نبه هو عليه الحمل على الأصلح والأرشد كاشتراط مقابلة الموجود بالموجود فليست الإجارة من الأقيسة الجزئية التي هي الاستصلاح لأنها مقابلة موجود بمعدوم
قال إمام الحرمين وليس المراد بكونه قياسا جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة ثم الحاجة والاستصلاح في الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في المصالح والضوابط الكلية انتهى وكالإجارة المساقاة لاشتغال بعض الملاك عن تعهد أشجاره والقراض وذكر بعضهم البيع في ذلك هذا القسم
وقال إمام الحرمين تصحيح البيع آيل إلى الضرورة فإن الناس لم يبذلوا ما بأيديهم لجر ذلك إلا لضرورة ظاهرة فيلتحق بمشروعية القصاص واعلم أنه قد يتناهى بعض جزئيات هذا القسم فيخرج عنه إلى حد الضرورة كتمكين الولي من شراء الطعام والملبوس للصغير الذي في معرض التلف من الجوع والبر واستئجار المرضعة له ويلتحق بقسم المصلحي ما كان مكملا له كرعاية الكفاءة ومهر المثل في التزويج فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن حصلت أصل الحاجة بدون ذلك وأما التحسيني فقسمان أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف ما يقع على غير معارضة قاعدة معتبرة كتحريم القاذورات فإن نفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها حثا على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ومن هذا إزالة النجاسات فإنها مستقذرة في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمرآت ولهذا يحرم على الصحيح أن يتضمخ المرء بالنجاسة من غير حاجة
قال إمام الحرمين في البرهان والشافعي نص على هذا في الكبير ثم إنه في النهاية عند الكلام في وطئ المرأة في دبرها قال لا يحرم ويحرم أيضا على الصحيح لبس جلد الميتة ولا يجوز أن يلبس دابته جلد الكلب أو الخنزير وقال بعض الأصحاب بمنع الاستصباح بالدهن النجس وأما إيجاب الوضوء
فليس ينكر العاقل ما فيه من إفادة النظافة والأمر بالنظافة على استغراق الأوقات يعسر الوفاء به فوظف الشرع الوضوء في أوقات وبنى الأمر على إفادته المقصود وعلم الشارع أن أرباب العمل لا يعتمدون نقل الأوساخ والادران إلى أعضائهم البادية منهم فكان ذلك النهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين تحصيل أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع التضييق في التدنس والتوسخ إذا حاول المرء ذلك
قال إمام الحرمين ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا من النظافة الكلية المترتبة على الوضوء من حيث أن الجبلة تستقذرها والمروءة تقتضي اجتنابها فهي أظهر من اجتناب الشث والغبرات قال ولهذا خص الشافعي رضي الله عنه الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات الدينية ومن هذا القسم التحسيني أيضا سلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والعبد نازل القدر والجمع بينهما غير ملائم
وأما سلب ولايته فهو محل الحاجة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بخدمة سيده فتفويض أمر طفله إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى قال الغزال وقول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقولنا سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فان ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانظام لو صرح به الشارع وليس تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك نقض على المناسب إلى أن يعتذر عنه
والمناسب قد يكون منقوضا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تعبد وكذلك تقييد النكاح بالولي فلو علل بقصور رأيها في انتفاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان مصلحيا في محل الحاجة ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفوء فهو رتبة التحسيني لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال وذلك غير لائق بالمروءة ففوضه الشرع إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو علل بالإثبات عند النزاع لكان واقعا في محل
الحاجة ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة والثاني من قسمي التحسيني ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كالكتابة فإنها من حيث كونها مكرمة في العوائد مستحسنة احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعارضة ولم يجز ذلك في الصرف المتقدم ولكن اختص ذلك الضرب بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على السيد على رأي معظم العلماء وحكى صاحب التقريب قولا أنها تجب إذا طلبها العبد ووجد السيد فيه خيرا وهذا تمام القول في المتعلق بالدنيا وأما المتعلق بالآخرة فكتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدي إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي الموصل إلى رضا الرحمن سبحانه وتعالى
وبقي قسم ثالث لم يورده المصنف تبعا للإمام وهو ما يتعلق بمصالح الدارين معا وذلك ما يحصل برعياته بعض ما تقدم من مصالح الدنيا والآخرة كإيجاب الكفارات إذ يحصل بها الزجر عن تعاطي تلك الأفعال التي وجبت الكفارة بسببها ويحصل تلاقي التقصير وتكفير الذنب الكبير الذي حصل من فعلها واعلم أنه قد يقع في كل قسم من هذه الأقسام ما يظهر كونه منه وما يظهر كونه ليس منه وما يستوي الأمران فيه
أما الأول فوجوب القصاص بالمثقل إذ يظهر أنه من المصالح الضرورية في حفظ النفوس لأنه لو لم يجب به القصاص لفات المقصود من حفظ النفوس لأن من يريد قتل إنسان والحالة هذه يعدل عن المحدد إلى المثقل درءا للقصاص عن نفسه والمثقل ليست فيه زيادة مؤنة على المحدد حتى يقال لا يكثر به القتل بسبب تلك المؤنة كما يكثر في المحدد فعدم وجوب القصاص فيه لا يفضي إلى الهرج والمرج بل المثقل أسهل من المحدد لوجوده غالبا من غير عوض
وأما الثاني فكإيجاب القصاص على أحد الوجهين عندنا بالثقل بغرز الإبرة في غير مقتل بحيث لا يعقب ألما وورما ظاهرا وكذا إبانه فلقة خفيفة من
اللحم على ما ذكره إمام الحرمين ونظائر ذلك فإنه يظهر منه أنه ليس من قبيل رعاية المصالح الضرورية إذ لا يفضي ذلك إلى الهلاك إلا نادرا فاشبه السوط الخفيف
وأما الثالث فكإيجاب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لاحتمال الحاقة بالمصالح الضرورية إذ لو لم نوجب ذلك لاستعان كل من أراد قتل إنسان بصديق يشاركه فتبطل فائدة شرعية القصاص واحتمال خروجه عنه لاحتياجه إلى مشاركة غيره والظاهر أن ذلك الغير لا يشاركه فلم تساو المصلحة هنا المصلحة في وجوب القصاص في المنفرد ولنزول هذا القسم عن الأول كان في المذهب قول استنبطه أبو حفص بن الوكيل من كلام الشافعي أن الجماعة لا يقتلون الواحد
وقول آخر عن القديم أن ولي الدم يقتل واحدا يختاره من الجماعة ويأخذ حصة الآخرين ولا يقتل الجميع ولا خلاف عندنا في وجوب القصاص بالمثقل ولتعاليه عن الثاني كان الخلاف فيه أضعف منه في الثاني وقد نجز القول في تقسم الحقيقي وأما الاقناعي فهو الذي يظن مناسبته في بادئ الرأي وإذا بحث عنه حق البحث وضح أنه غير مناسب مثل تعليل بعض أصحابنا تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرقين عليها قال لأن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض فهذا وإن تخيلت مناسبته أولا فليس الأمر كذلك لأن المعنى بكونه نجسا منع الصلاة معه ولا مناسبة بين بيعه واستصحابه في الصلاة كذا ذكره ولقائل أن يقول لا نسلم أن المعنى بكونه نجسا منع الصلاة معه بل ذلك من جملة أحكام النجس وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة تناسب الإذلال ليس بإقناعي نعم مثال هذا استدلال الحنفية على قولهم إذا باع عبدا من عبدين أو ثلاثة يصح غرر قليل تدعو الحاجة إليه فأشبه خيار الثلاث فان الرؤساء لا يحضرون السوق لاختيار المبيع فيشتري الوكيل واحدا من ثلاثة ويختار الموكل ما يريد فهذا وإن تخيلت مناسبته أولا فعند
التأمل يظهر أنه غير مناسب لأنا نقول لا حاجة إلى ذلك لأنه يمكنه أن يشتري ثلاثة في ثلاثة عقود بشرط الخيار فيختار منها ما يريد
قال "والمناسبة تفيد العلمية إذا اعتبرها الشارع فيه كالسكر في الحرمة أو في جنسه كامتزاج النسبين في التقديم أو بالعكس كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط الصلاة أو جنسه في جنسه كإيجاب حد القذف على الشارب لكون الشرب مظنة للقذف والمظنة قد أقيمت مقام الظنون
هذا تقسيم ثان للمناسب من جهة شهاب الشرع لاعتباره وعدم اعتباره فنقول المناسب إما أن يعتبره الشارع أو لا الضرب الأول ما علم اعتبار الشارع له والمراد بالعلم هنا ما هو أعم من الظن وبالاعتبار إيراد الحكم على وفقه لا التنصيص عليه ولا الإيماء إليه وإلا لم تكن العلية مستفادة من المناسبة وهو أربعة أحوال لأنه إما أن يعتبر نوعه أو في جنسه أو جنسه في نوعه أو جنسه
الحالة الأولى أن يعتبر نوعه في نوعه ومثل له المصنف بالسكر في الحرمة أي أن حقيقة السكر إذا اقتضت حقيقة التحريم فإن النبيذ يلحق بها لأنه لا فارق بين العلتين وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحاليين ومثاله أيضا قياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص بجامع كونه قتلا عمدا محضا عدوانا وأنه عرف تأثير نوع كونه قتلا عمدا عدوانا في نوع الحكم الذي هو وجوب القصاص في النفس في المحدد
الحالة الثانية أن يعتبر نوعه في جنسه وإليه الإشارة بقوله أو في جنسه الإخوة من الأب والأم لما اقتضت التقدم في الميراث قيس عليها التقدم في النكاح وما أشبهه والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست مثل ولاية الإرث ولكن بينهما مجانسة في الحقيقة وهذا القسم دون الأول لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المقارن بين نوعين مختلفين
الحالة الثالثة أن يعتبر جنسه في نوعه وإليه الإشارة بقوله أو بالعكس
إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض إذا قيس على إسقاط الركعتين الساقطتين عن المسافر في الرباعية تعليلا بالمشقة فالمشقة جنس وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد يشتمل على صنفين إسقاط قضاء الكل وإسقاط قضاء البعض وقد ظهر تأثيرها في هذا النوع ضرورة تأثيرها في إسقاط قضاء الركعتين ولو فرض ورود النص بسقوط قضاء الصلاة على الحرائر الحيض وقسنا عليهن الإماء لكن ذلك من الحالة الأولى لظهور تأثير نوعه في نوع الحكم ومثال هذا القسم أيضا قولنا قليل النبيذ حرام وإن لم يسكر قياسا على قليل الخمر وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير نوعه لكن ظهر تأثير جنسه إذ الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع بتحريم الزنا وهذا القسم والذي قبله متقاربان لكن ذلك أولى لأن الإبهام في العلة أكثر محذورا من الإبهام في المعلول
الحالة الرابعة وإليها الإشارة بقوله أو جنسته في جنسه اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم
مثل ما روي أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف فقال أرأى أنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترض وأوجب عليه حد القذف إقامة لمظنة الشيء مقامه قياسا على الخلوة فإنها لما كانت مظنة الوطئ أقيمت مقامه في الحرمة ولقائل أن يقول كان الوفا بإقامة المظنة مقام المظنون أن يوجب الحد بالخلوة ولا قائل به وبتفريغ مظنة القذف على مظنه الوطئ أن يقال بتحريم ما هو مظنة القذف
كما هو الواقع وكما هو في الأصل ولا يوجب الحد فإن فيه زيادة في الفرع على الأصل الذي هو إلحاق الخلوة بالوطئ إذ لم يلحق به في غير الحرمة ثم اعلم أن للجنسية مراتب فأعم الأوصاف كونها حكما ثم ينقسم الحكم إلى أقسامه من تحريم ومن إيجاب وغيره والواجب إلى عبادة وغيرها والعبادة إلى صلاة وغيرها وتنقسم الصلاة إلى فرض ونفل فما ظهر تأثيره في الفرائض أخص مما ظهر في الصلاة وهكذا وكذا في جانب الأوصاف أعم أوصافه كونه وصفا يناط به الأحكام حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغيرها
وأخص منه المناسب الضروري وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس وبالجملة فإنما يلتفت إلى الأوصاف بعد ظن التفات الشرع إليها وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى وكل ما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد فيكون مقدما على ما هو أعم منه
قال "لأن الاستقراء دل على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح لعباده تفضيلا وإحسانا فحيث ثبت حكم وهناك وصف ولم يعلم غيره ظن كونه علة"
هذا دليل على أن ما تقدم من المناسب يفيد العلية وتقريره أنا استقرينا أحكام الشرع فوجدناها على وفق مصالح العباد وذلك من فضل الله تعالى وإحسانه لا بطريق الوجوب عليه خلافا للمعتزلة فحيث ثبت حكم وهناك وصف صالح لعلية ذلك الحكم ولم يوجد غيره يحصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم والعمل بالظن واجب وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد قال وذلك إما بطريق الوجوب عند المعتزلة أو الإحسان عند الفقهاء من أهل السنة وهذه الدعوى باطلة لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام بالمصالح لا بطريق الوجوب ولا الجواز وهو اللائق بأصولهم وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة جماهير المتكلمين والمسألة من مسائل علمهم وقد قالوا لا يجوز أن تعلل أفعال الله تعالى لأن من فعل فعلا لغرض كان حصوله بالنسبة إليه أولى سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أم إلى الغير وإذا كان كذلك يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره ويتعالى الله سبحانه عن ذلك
قال "وإن لم يعتبر فهو المناسب المرسل اعتبر مالك"
تقدم الكلام في المناسب إذا اعتبره الشارع وإن لم يعتبره فوراء ذلك حالتان
إحداهما أن لا يعلم أن الشارع اعتبره ولا الفاه وفيها كلام المصنف
وذلك هو المناسب المرسل وقد قال به مالك بن أنس وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى مبسوطا في الكتاب الخامس فإن صاحب الكتاب هناك ذكره
والثانية ولم يذكرها المصنف أن يلغيه الشارع فهذا لا يجوز التعليل به باتفاق القياسيين ومثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بالاعتاق مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر عتق رقبة في قضاء شهوته فكانت المصلحة عندي في إيجاب الصوم لينزجر فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بما اعتقده مصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصه بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم يحصل الثقة بقولهم للمستفتين ويظن الظان أن فتياهم بتحريف من جهتهم بالرأي فإن قلت قولكم آنفا هذه الحالة لم يذكرها المصنف مدخول لأنها داخلة في عموم قوله وإن لم يعتبر ولا يقال هي وإن دخلت في كلامه فلم يردها لعدم الاختلاف في بطلانها لأن ابن الحاجب قد جعل المرسل هو ما لم يعتبر سواء علم إلغاؤه أم لا ونقل بعضهم القول بالمرسل عن مالك فيعلم من ذلك إن كان مالكا يخالف فيما علم إلغاؤه أيضا قلت هذا التركيب غير صحيح لأن الذي نقل عن مالك أنه اعتبر المرسل لم يقل أن المرسل ما لم يعتبر سواء أعلم إلغاؤه كابن الحاجب صرح بوقوع الاتفاق على ما علم إلغاؤه
وقد قال إمام الحرمين في باب ترجيح الأقيسة من كتاب الترجيح ولا نرى التعليق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء قال ومن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ انتهى فإذا كان مالك لا يرى التعليق بكل مصلحة مع أن من جملة ذلك ما لم يعلم إلغاؤه فكيف يقول بما علم إلغاؤه
قال "والغريب ما أثره هو فيه ولم يؤثر جنسه كالطعم في الربا والملائم ما أثر جنسه في جنسه أيضا والمؤثر ما أثر جنسه فيه"
هذا تقسيم للضرب الأول من المناسب وهو ما علم أن الشارع اعتبره وقد قسمه المصنف إلى غريب وملائم ومؤثر وعبارات المصنفين في التعبير عن
هذه الأقسام مضطربة والأمر فيه قريب لكونه أمرا اصطلاحيا ونحن نأتي بما ذكره المصنف ونشير إلى قليل من كلام غيره فنقول الوصف إما أن يؤثر نوعه في نوع الحكم ولا يؤثر جنسه في جنسه أو يكون كذلك
والأول هو الغريب وهو معدول عند جماهير القياسيين وسمي بذلك لأنه لم يشهد غير أصله المعين باعتباره وذلك كالطعم في الربا فإن كل واحد من نوع الطعم يؤثر في نوع من الأحكام وهو حرمة الربا إذا بيع ذلك النوع بمثله كالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر ولا يؤثر جنس هذه الأنواع وهو الطعم في جنس الربا وهو زيادة أحد العوضين على الآخر بدليل جواز بيع بعض الأنواع كالشعير مثلا ببعض آخر كالبر مثلا متفاضلا مع وجود الطعم فيهما
والثاني أن لا يكون كذلك فإما أن يكون أثر نوعه في نوع الحكم وجنسه أيضا في جنس الحكم أولا والأول الملائم وقد اتفق القياسيون على قبوله كالقتل العمد لعدوان في وجوب القصاص إذا أثر نوعه في وجوب القصاص الذي هو نوع من الحكم وكذلك جنسه وهي الجناية التي هي أعم من القتل حيث أثرت في جنس المؤاخذة وجوبا أو جوازا وذلك أعم من وجوب القصاص
والثاني أن يكون جنسه مؤثرا في نوع الحكم لا غير كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط قضاء الصلاة على ما تقدم بيانه وكقياس الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر على الجمع في السفر بجامع الحرج فإن جنس الحرج مؤثر في نوع الحكم وهو إباحة الجمع وكقياس من شذ من أصحابنا وجوز الجمع للمرض فهو المؤثر عند صاحب الكتاب وسماه غيره بالملائم وقال قوم المؤثر هو ما دل نص أو إجماع على عليته سواء كان مناسبا كما تقدم من الأمثلة أو غير مناسب كالمني لايجاب الغسل واللمس لنقض الوضوء وقالوا إنما يسمى بذلك لأنه ظهر تأثيره فلم يحتج مع ذلك إلى المناسبة وأما الإمام فإنه قال في تعريف الغريب والملائم ما قاله المصنف وقال في المؤثر عكس مقالته فجعله ما يكون الوصف فيه مؤثرا في جنس الحكم دون غيره كامتزاج النسبين مع تقديم الأخ من الأبوين وكالبلوغ
فإنه يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثر في رفعه عن النكاح دون الثيابة فإنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحكم ثم قال الإمام إن ذلك إنما يتم بالمناسب أو السير
قال "مسألة المناسبة لا تبطل المعارضة لأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعة لا يصير نفعه غير نفع لكن يندفع مقتضاه"
إذا تضمن الوصف المشتمل على مصلحة مقتضية لمناسبته مفسدة هل يكون تضمنه لها موجبا لبطلان مناسبته فيه مذهبان
أحدهما واختاره صفي الدين الهندي وابن الحاجب نعم
والثاني وبه جزم في الكتاب تبعا للإمام أنها لا تبطل واحتج عليه بأن الفعل إذا تضمن مصلحة ومفسدة فإما أن تترجح مصلحته على مفسدته فالراجح لا يبطل بالمرجوح أو تكون مساوية لها فيلزم الترجيح من غير مرجح أو انقص منها فالفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه لا يصير نفعه بذلك التضمن غير نفع ولا يخرج عن حقيقته غاية الأمر أن مقتضاه لا يترتب عليه وذلك غير قادح في المناسبة لأن انتفاء المانع شرط في ترتب المقتضى والمانع هنا موجود وقد اقتصر المصنف على هذا القسم الثالث لأن المناسبة إذا لم تبطل فيه بمعارضة المفسدة الراجحة لم تبطل في غيره بطريق أولى
واعترض على هذا الدليل بأنا على تقدير كونها مساوية لها لا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح وهذا لأن إبطال مناسبة المصلحة بأعمال مناسبة المفسدة أولى لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ولقائل أن يقول تقديم درء المفاسد على جلب المصالح عند التعارض إنما هو فيما إذا تساويا من حيث المصلحة والمفسدة أما لو ترجح جانب المصلحة مثل إن عظم وقعها وجل خطبها على جانب المفسدة فإن حقر أمرها وقل فلا نسلم هنا أن درء هذه المفسدة أولى من جلب تلك المصلحة ولعل هذه الحالة هي المرادة بالمساواة في الدليل وإلا فعلى تقدير مطلق كونها مصلحة مع كونها مفسدة أين المساواة مع ترجح درء المفاسد واعترض عليه أيضا بأن العقلاء يعدون فعل ما فيه مفسدة
مساوية للمصلحة عبثا وسفها فإن من سلك مسلكا يفوت درهما ويحصل آخر مثله وأقل منه عد عابثا وسفيها وأعلم أن كل من قال بتخصيص العلة يقول ببقاء المناسبتين للمصلحة والمفسدة لأن القول بإحالة انتفاء الحكم على تحقق المانع مع موجود المقتضي إما أن يكون مناسبته راجحة أو مساوية أو مرجوحة فإن كان الأول أو الثاني فقد لزم منه تحقيق مناسبة المقتضى المرجوحة أو المساوية وإلا فقد كان الحكم منتفيا لانتفاء المقتضى لا لوجود المانع فإن المقتضى إذا لم يكن مناسبا لم يكن مقتضيا فكان الانتفاء مضافا إليه لأن إضافة انتفاء الحكم إلى عدم المقتضى أولى من إضافة انتفائه إلى وجود المانع ولكنه خلف إذ التقديران انتفاء الحكم إنما هو لوجود المانع وإن كان الثالث فلأنه لا بد أن يكون المانع مناسبا لانتفاء الحكم إذ لو جاز انتفاء الحكم بما ليس بمناسب للانتفاء لجاز ثبوته بما ليس مناسب للثبوت مع عدم جهة أخرى للعلية ويلزم من ذلك القول ببقاء المناسبة المرجوحة مع المعارضة إذ الغرض أن مفسدة المانع مرجوحة وأما من لم يقل بتخصيص العلة فهم المختلفون في المسألة
قال الخامس الشبه القاضي المقارن للحكم إن ناسبه بالذات كالسكر للحرمة فهو المناسب أو بالتبع كالطهارة لاشتراط النية فهو الشبه وإن لم يناسب فهو الطرد كبناء القطرة للتطهير وقيل ما لم يناسب إن علم اعتبار جنسه فهو المناسب وإلا فالطرد
اسم الشبيه ينطلق على كل قياس فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه فهو إذن تشبيه ولكن اصطلح على تسمية بعض الأقيسة به وقد اختلف في تعريف الشبه المصطلح على مقالات ذكر منها المصنف مقالتين
الأولى مقالة القاضي أبي بكر وهو مقتضى إيراد إمام الحرمين في البرهان أن الوصف المقارن للحكم إما أن يناسبه بالذات فهو المناسب كالسكر للتحريم إذ السكر مناسب بالذات لتحريم المسكر أولا فإما أن يناسبه بالتبع أي بالالتزام فهو الشبه كالطهارة لاشتراط النية فإن الطهارة من حيث هي لا يناسب اشتراط النية لكن يناسبها من حيث أنها عبادة والعبادة مناسبة
لاشتراط النية أو لا يناسبه مطلقا فهو الطرد وهو حكم لا يعضده معنى ولا شبه كقول بعضهم الخل مايع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تزال النجاسة به كالدهن فكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبني القنطرة على جنسه واحترز عن الماء القليل وإن كان لا تبنى القنطرة عليه لأنه يبنى على جنسه فهذه علة مطردة لا نقض عليها وليس فيها خصلة سوى الاطراد ويعلم أنها لا تناسب الحكم ولا تستلزم ما يناسبه فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة بخاصة وعلل وأسباب يعلمها الله تعالى وإن لم نعلمها ويعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها وقد علم من هذا التقسيم أن الشبه هو الوصف المقارن للحكم المناسب له بالتبغ دون الذات وإن شئت قلت المستلزم لما يناسبه وهو الذي نقلوه عن القاضي كما عرفت والذي رأيته في مختصر التقريب والإرشاد من كلامه أن قياس الشبه إلحاق فرع بأصل لكثرة أشباهه للأصل في الأوصاف من غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع فيها الأصل علة حكم الأصل
"المقالة الثانية" أن الوصف الذي لا يناسب الحكم إن علم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو الشبه لأنه من حيث كونه غير مناسب يظن عدم اعتباره ومن حيث أنه عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم مع أن غيره من الأوصاف ليس كذلك لظن أنه أولى بالاعتبار وتردد بين أن يكن معتبرا أو لا يكون وإن لم يعلم اعتبار جنسه القريب في الجنس للحكم فهو الطرد وعلم من هذا التقسيم أن الشبه هو الوصف الذي لا يكون مناسبا للحكم المعلوم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب للحكم
ومثال هذا إيجاب المهر بالخلوة على القديم فإن الخلوة لا تناسب وجوب المهر لأن وجوبه في مقابلة الوطىء إلا أن جنس هذا الوصف وهو كون الخلوة مظنة للوطىء معتبر في جنس الوجوب وهو الحكم بتحريم الخلوة بالأجنبية واعلم أن تعبير المصنف عن ما ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد موافق لعبارة الإمام وأتباعه ومن قبلهم إمام الحرمين والغزالي وغيرهما
وعبر عنه الآمدي بالطردي بزيادة الياء وهو أحسن فإن الطرد عند المصنف من جملة طرق العلة كما سيأتي إن شاء الله تعالى
قال "واعتبر الشافعي رضي الله عنه المشابهة في الحكم وابن علية في الصورة والإمام ما يظن استلزامه ولم يعتبر القاضي مطلقا"
المختار أن قياس الشبه حجة والخلاف فيه مع القاضي أبي بكر والصرفي وأبي إسحاق المروزي وأبي إسحاق الشيرازي فإنهم لم يعتبروه وأنكروا حجيته ولكن النقل عن الصيرفي وأبي إسحاق المروزي في مختصر التقريب والإرشاد أه هو عند القاضي صالح لأن يرجح به كما ذكر في باب ترجيح العلل من التقريب ثم القائلون بأنه حجة اختلفوا في أنه فيماذا يعتبر فاعتبر الشافعي رضي الله عنه المشابهة في الحكم ولهذا الحق العبد المقتول بسائر المملوكات في لزوم قيمته على القائل بجامع إن كل واحد منهما يباع ويشتري ومن أمثلته أن نقول في الترتيب في الوضوء عبادة يبطلها الحدث فكان الترتيب فيها مستحقا أصله الصلاة فالمشابه في الحكم الذي هو البطلان بالحدث ولا تعلق له بالترتيب وإنما هو مجرد شبه ومنها الأخ لا يستحق النفقة على أخيه لأنه لا يحرم منكوحة
أحدهما على الآخر فلا يستحق النفقة كقرابة بني العم واعتبر ابن علية المشابهة في الصور دون الحكم ومقتضى ذلك قتل الحر بالعبد وهذا ما نقله إمام الحرمين في البرهان عن أبي حنيفة في الحاقة التشهد الثاني بالأول في عدم الوجوب حيث قال تشهد فلا يجب كالتشهد الأول فكذلك قوله يقتل الحر بعبد الغير وعن أحمد أيضا في الحاقة الجلوس الأول بالثاني في الوجوب حيث قال أحد الجلوسين في الصلاة فيجب كالجلوس الأخير
وقال الإمام المعتبر حصول المشابهة فيما يظن أنه مستلزم لعلة الحكم أو علة للحكم فمتى كان كذلك صح القياس سواء كانت المشابهة في الصورة أو المعنى واعلم أن صاحب الكتاب لم يصرح بذكر قياس علية الأشباه وهو أن يكون الفرع مترددا بين أصلين لمشابهته لهما فيلحق بأحدهما لمشابهته في أكبر
صفات مناط الحكم ولعله ظنه قسما من قياس الشبه أو هو هو وهو ظن صحيح فالناس فيه على هذين الاصطلاحين ولم يقل أحد أنه قسم للشبه بل أما قسم منه أو هو هو وحينئذ يكون قضية كلام المصنف بقوله ولم يعتبر القاضي مطلقا أن الخلاف جار فيه
وهذا الذي اقتضاه كلام المؤلف صحيح واقتضاه كلام غيره وقد صرح به القاضي في مختصر التقريب والإرشاد لإمام الحرمين والذي تحصل لي من كلامه في هذا الكتاب أن في قياس الشبه مذاهب أحدها بطلانه والثاني اعتباره ثم قال إن ذلك يؤثر عن الشافعي رضي الله عنه ولا يكاد يصح عنه مع علو رتبته في الأصول وهذا الذي قاله القاضي قاله الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وقال كلام الشافعي متأول محمول على قياس العلة فإنه ترجح بكثرة الأشباه ويجوز ترجيح العلل بكثرة الأشباه ثم قال القاضي وأجمع القائلون بقياس الشبه على أنه لا يصار إليه مع إمكان المصير إلى قياس العلة والثالث أنه لا يعمل بالشبه إلا بشرطين
أحدهما ما ذكرناه من عدم إمكان المصير إلى قياس العلة والثاني أن يجتذب الفرع أصلان فيلحق بأحدهما بعلية الأشباه قال ومما اختلفوا فيه أن قال بعضهم الأشباه الحكيمة أولى ثم الأشباه الراجعة إلى الصفة وذهب آخرون إلى أنه لا فرق بينهما وهذا مذهبان لم يتقدم لهما حكاية لأن الذي تقدم أن الشافعي يعتبر الحكم وغيره الصورة والإمام ما يظن استلزامه وهذان القولان متفقان على اعتبار الحكم والصفة وإنما الخلاف عند القائلين بهما في أن الحكم أولى وأنهما مستويان ولهما يحصل في قياس الشبه سبعة مذاهب
أحدهما بطلانه والثاني اعتباره في الحكم ثم الصورة والثالث اعتباره فيها على حد سواء والرابع اعتباره في الحكم فقط والخامس اعتباره في الصورة فقط والسادس فيما يظن استلزامه للعلة والسابع اعتبار قياس عليه الأشباه دون غيره ورأيت نص الشافعي رضي الله عنه عليه في الأم في باب اجتهاد الحاكم وهو باب الأفضية وقيل باب التثبيت في الحكم وغيره قال رضي
الله عنه ما نصه والقياس قياسان أحدهما يكون في معنى فذاك الذي لا يحل لأحد خلافه ثم قياس أن يشبه الشيء بالشيء من الأصل والشيء من الأصل غيره فيشبهه هذا بهذا الأصل ويشبه غيره قال الشافعي وموضع الصواب فيه عندنا والله أعلم أن ينظر فأيهما كان أولى بشبهة صيره إليه أن أشتبه أحدهما في خصلتين والآخر في خصلة ألحقه بالذي هو أشبه في خصلتين انتهى هذا لفظه بحروفه وهذا الباب في مجلد ثامن من الأم من أجزاء تسعة واعلم أن القاضي بين قياس الشبه على أن المصيب واحد من المجتهدين أو كل مجتهد مصيب وقال إن كنت تذب عن القول بأن المصيب واحد من المجتهدين
فالأولى بك أبطال قياس الشبه وإن قلنا بتصويبهم فلو غلب على ظن المجتهد حكم من قضية اعتبار الأشباه فهو مأمور به قطعا عند الله تعالى قال إمام الحرمين وأول ما يعني القاضي إلى أن رد قياس الشبه والقول به لا يبلغ إلى القطع وهو من مسائل الاحتمال قال وهذا فيه نظر عندنا فإن الأليق بما مهده من الأصول إن يقال كلما آل إلى إثبات دليل من الأدلة فيطلب فيه القطع قال على إن ما قاله من أن المجتهد مأمور بما غلب على ظنه سديد فيما رامه فأنار بما نقول أن المجتهد المتمسك بضرب من القياس إذا غلب على ظنه شيء وفي الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور قطعا بما أدى إليه اجتهاده وإن كان القياس في مخالفة النص مردود انتهى قلت وحاصل هذا أن إمام الحرمين لم يوافق القاضي على أن المسألة ظنية ووافقه على البناء على مسألة تصويب المجتهدين على تقدير ثبوت كونها ظنية وفي هذا البناء على هذا التقدير أيضا نظر فإن قياس الشبه إن كان باطلا فكيف يغلب على ظن المجتهد حكم مستند إليه مع كونه عنده باطلا وكيف يجوز له العمل بما هو مبني على باطل وإن فرض حصول ظن مستند إليه فلا عبرة به لبنائه على فاسد وإن كان قياس الشبه صحيحا فهو معمول به كسائر الأدلة من غير تعلق بتصويب المجتهدين وقول إمام الحرمين إذا غلب على ظنه شيء وفي الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور به وإن كان القياس في مقابلة النص مردودا من غير ما نحن فيه لأن الذي غلب على ظنه حكم مستند إلى اجتهاده ولم يبلغه النص فغلب على
ظنه أن الاجتهاد الذي جاء به دليل يجب عليه العمل به بخلاف قياس الشبه فإنه يظن بطلانه فكيف يستند إليه أو يبني اجتهاده عليه
قال "لنا أنه يفيد ظن وجود العلية فيثبت الحكم قالوا ما ليس بمناسب فهو مردود بالإجماع قلنا ممنوع"
واحتج على أن قياس الشبه حجة بأنه يفيد ظن وجود العلية إما على تفسير المنقول عن القاضي فلأنه مستلزم للمناسب وإما على الثاني فلأنه لما أثر جنس الوصف في جنس الحكم دون غيره من الأوصاف أفاد ظن إسناد الحكم إليه وإذا ثبت كونه مفيدا لظن وجب العمل به واحتج القاضي بأن الشبه ليس مناسبا وغير المناسب مردود بالإجماع فلا يعتبر وأجاب بالمنع فإن ما ليس بمناسب ينقسم إلى الشبه وغيره والشبه غير مردود بالإجماع وهو محل النزاع وذكر القاضي من وجوه الاحتجاج للقائلين ببطلان الشبه إن الأشباه التي الحق الفرع بها إن كانت علة في الأصل فذاك إذا كان قياس علة لا شبه وإن لم يكن فما وجه إلحاق الفرع بأشباه لم يجب لها في الأصل ولو ساغ ذلك لساغ أن يجمع بينهما من غير وصف أصلا
"فروع" الأول الظهار لفظ محرم وهو كلمة زور فيدور بين القذف والطلاق ويبنى على هذا مسائل منها لو قال عينك طالق طلقت كيدك وجسمك وجميع الأجزاء ولو قال لرجل زنت عينك وما أشبه ذلك من الأعضاء دون الفرج فإنه في هذا الباب صريح فالمذهب أنه كناية وقيل صريح أيضا ولو قال لامرأته أنت علي كعين أمي فإن أراد الكرامة فليس بظهار وأن أراد الظهار فظهار على المذهب وإن أطلق فعلى أيهما يحمل وجهان أرجحهما أنه يحمل على الإكرام ويتجه أن يقال إنما جرى الوجهان هنا في حالة الإطلاق لتردد الظهار بين مشابهة الطلاق والقذف فقضية مشابهته للطلاق أن يحمل الإطلاق هنا على الظهار ومقتضى مشابهته للقذف أن يحمل على الإكرام ولا يجعل صريحا في الظهار
والثاني زكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة
الثالث الكفارة تردد بين العبادة والعقوبة
الرابع الحوالة تردد بين الاستيفاء والاعتياض فإذا تناقض حكم الشائبتين ولم يمكن إجلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل ترجيح إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في أحد الطرفين ينبغي أن يحكم بالأغلب الأشبه وأما ما يتفرع على تردد هذه الأبواب بين معانيها فكثير لا نطيل بذكره وفي كتابنا الأشباه والنظائر تممه الله تعالى منه ما لا مزيد على حسنه ولا مطمع للطالب في الإحاطة بأكثر منه
الخامس اللعان يشبه اليمين والشهادة ولفظهما فيه وهو مركب منهما فليس يمينا محضا فإن يمين المدعي لا يقبل والملاعن مدع وليس بشهادة محضة فإن الشاهد يشهد لغيره وهو إنما شهد لغيره وهو إنما يشهد لنفسه وينبني على ذلك لعان الذمي والرقيق فإنهما ليسا من أهل الشهادة وأن صحت منهما اليمين وقال الأصحاب بصحة لعانهما لأن المعروف عندهم أن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة وقيل هو يمين فيها شوب الشهادة
السادس الجنين يشبه بعض أعضاء الأم في الحكم لأنه يتبعها في البيع المطلق والهبة ونحوها ويشبه إنسانا منفردا في الصورة لأنه مستقل بالحياة والموت فإذا قال بعتك هذه الجارية إلا حملها فعلى الأول يبطل البيع كاستثناء عضو من الأعضاء وعلى الثاني يصح كما لو قال بعتك هذه الصيعان إلا هذا الصاع والمذهب فيما إذا استثنى حملها أنه لا يصح البيع وقيل وجهان
قال السادس الدوران وهو أن يحدث الحكم بحدوث وصف وينعدم بعدمه وهو يفيد ظنا وقيل "قطعا وقيل لا ظنا ولا قطعا"
عرف الدوران بحدوث الحكم بحدوث الوصف وانعدامه بعدمه فذلك الوصف يسمى مدارا والحكم دائرا والمراد بالحكم تعلقه عند من يجعل التعلق حادثا ومنهم المصنف ثم قول المصنف يحدث بحدوثه وينعدم بعدمه عبارة فيها نظر لأن ثبوت الحكم بثبوته هو كونه علة فكيف تستدل به على علية الوصف لثبوت الحكم وقد سبق الغزالي إلى هذه العبارة
وقال هذا هو الدوران الصحيح وأما ثبوته عند ثبوته وعدمه عند عدمه ففاسد واعترض عليه لما ذكرناه والعبارة المحررة ما زعم الغزالي فسادها ثم الدوران يقع على وجهين
أحدهما أن يقع في صورة واحد كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر بصيرورته خلا صار حلالا فيدل على أن العلة في تحريمه السكر ومثل الحب يجري فيه الربا وهو مأكول فإذا زرع صار قصيلا غير مطعوم لا ربا فيه فإذا عقد الحب فيه صار مطعوما وعاد الربا فيه فيدل على أن علية الربا فيه الطعم
والثاني أن يوجد في صورتين وهو كوجوب الزكاة مع ملك النصاب تام في صورة أحد النقدين وعدمه مع عدم شيء منها كما في ثياب البذلة والمهنة حيث لا يجب فيها الزكاة لفقد شيء مما ذكرناه واختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية فذهب الجمهور كإمام الحرمين وغيره ونقله عن القاضي أبي بكر بعضهم وليس بصحيح عنه إلى إفادته ظن العلية بشرط عدم المزاحم وهو اختيار الجدليين والإمام وأتباعه ومنهم المصنف فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد يقين العلة وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد ظن العلية ولا يقينها وهو اختيار الآمدي
قال إمام الحرمين وذهب القاضي أبو الطيب الطبري إلى أنه أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعي افضاه إلى القطع
قال لنا أن الحادث له علة وغير المدار ليس بعلة لأنه إن وجد قبله فليس بعلة للتخلف وإلا فالأصل عدمه وأيضا علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من الصور لا تجتمع مع عدم علية بعضها لأن ماهية الدوران إما أن يدل على علية المدار فيلزم عليه هذه المدارات أو يدل فيلزم عدم علية تلك للتخلف السالم عن المعارض
والأول ثابت فانتفى الثاني وعورض في مثله وأجيب بأن المدلول قد لا يثبت لمعارض
استدل على علية الدوران بوجهين
أحدهما أن الحكم لا بد له من علة على ما تقرر فتلك العلة إما المدار أو غيره
الثاني باطل لأن ذلك الغير إن كان موجودا قبل الحكم لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل وإن لم يكن موجودا قبله لم يكن علة لذلك الحكم إذ ذاك والأصل بقاؤه على ما كان عليه عدم من عليته فيحصل ظن عدم عليته باستصحاب هذا الأصل وبحصول هذا الظن يحصل ظن علية المدار إذ ليس غيره فإن قلت كما دار الحكم مع ذلك الوصف وجودا وعدما كذلك دار مع تعينه وحصوله في ذلك المحل فيحصل المزاحم حينئذ وتمتنع الإضافة إلى الوصف أو يقال مجموع الوصف مع التعين والحصول في المحل عملا بالدورانين وحينئذ لا يجوز تعديته عن ذلك المحل قلت التعين والحصول في المحل أمران عدميان إذ لو كانا وجوديين لزم أن يكون للتعين تعين آخر وللحصول في المحل حصول آخر فيتسلل ضرورة مشاركة التعيين حينئذ لسائر التعيينات في كونه تعينا وامتيازه عنها بخصوصية وكذا الحصول في المحل فإنه حينئذ يكون له حصول في المحل إذ ليس هو بجوهر قائم بنفسه وهو معلوم بالضرورة فيكون له حصول في المحل فثبت أنهما أمران عدميان حينئذ لا يجوز أن يكونا جزئي علة ولا مزاحما لها كذا ذكر السؤال والجواب ولك أن تقول المختار عند صاحب الكتاب كما صرح به في الطوالع أن التعين أمر وجودي فالسؤال وارد عليه وقد استدل على كونه وجوديا أنه جزء من المعين الموجود إذ الموجود ليس هو الماهية الكلية بل المعينة وكلما هو جزء الموجود فهو موجود ولقائل أن يقول إن أريد بالمعين معروض التعين فيمنع أن التعين جزؤه وإن كان المراد به المركب من العارض والمعروض فيمنع أنه موجود في الخارج على أن هذا العلم ليس موضع البسط في مسألة التعين واعترض النقشواني على هذا الدليل بأوجه أخر منه أنه لا يختص بصورة الدوران بل قيل ابتداء هذا الحكم لا بد له من علة حادثة وما كان موجودا قبل هذا الحكم لا يصلح علة له للتخلف المذكور فوضح أن العلة التي هي غير هذا الوصف لم تكن موجودة قبل هذا الحكم فوجب بقاؤها على العدم بالاستصحاب فتعين كون هذا الوصف
علة فهذه طريقة مستقلة لا يحتاج إلى الدوران ومنها أنه يمكن معارضته بأن يقال ليس هذا الوصف علة لأنه إن وجد قبل هذا الحكم لا يكون علة للتخلف وإن لم يوجد قبله لا يكون علة أيضا لأن الأصل استمراره على العدم
وهما اعتراضان صحيحان وأجاب عنهما بعض الشراح المحصول بما لا أرتضيه
الوجه الثاني مما يدل على علية الدوران أن علية بعض المدارات للحكم الدائر عنه في شيء من صور الدوران لا يجتمع مع عدم علية بعض المدارات للدائر ويلزم من انتفاء ثبوت علية جميع المدارات للدائر وذلك لأن ماهية الدوران من حيث هي إما أن تدل على علية المدار للدائر
أولا فإن دلت لزم علية المدارات التي فرضنا عدم عليتها الوجود ماهية الدوران فيها فيكون جميع المدارات علة لاشتراكها في وجود ماهية الدوران وإن لم تدل لزم علية البعض الذي فرضنا عليته وتخلف الدائر عنه في صورة من صور الوجود المقتضى لعدم العلية وهو تخلف الدائر عن المدار مع سلامته عن المعارض الذي هو دلالة ماهية الدوران على العلية إذ الغرض ماهية الدوران لا يدل على العلية فلا يعارض وهذا بخلاف ما لو دلت ماهية الدوران على العلية إذا كانت تعارض التخلف لاقتضائه عدم العلية فوضح أن علية بعض المدارات مع التخلف لا يجتمع مع عدم علية بعضها
لكن الأول وهو علية بعض المدارات مع التخلف في صورة من صوره ثابت فإن تناول السقمونيا علة للإسهال مع تخلفه عنه بالنسبة إلى بعض الأشخاص في بعض الأوقات فينتفي الثاني وهو عدم علية بعض المدارات للدائر وهو المطلوب وإنما قيد المصنف علية بعض المدارات بالتخلف المذكور ليحتج به على عدم علية تلك على التقدير الثاني وهو عدم دلالة ماهية الدوران على العلية قوله وعورض أي عورض هذا الدليل الثاني بمثله وتقرير المعارضة أن يقال علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من صوره مع عدم علية البعض مما لا يجتمعان
لأن ماهية الدوران إن دلت على العلية لزم علية ذلك البعض المفروض عدم عليته كما تقدم وإن لم يدل لزم علية البعض المفروض كونه علة كما عرفت
لكن الثاني ثابت وهو عدم علية البعض لأن الأبوة مع النبوة والعلم مع المعلوم والجزء الأخير من العلة المركبة مع المعلول ونظائرها من الأشياء المتلازمة تدور وجودا أو عدما ولا علة ولا معلوم وإذا ثبت الثاني انتفى الأول وهو علية البعض ويلزم منه عدم علية جميع المدارات للتنافي بين علية البعض وعدم علية البعض الآخر وذلك هو المطلوب
وأجاب عن هذه المعارضة بأن غاية ما يلزم مما ادعيناه من علية جميع المدارات للدائر مع التخلف في بعض الصور أن يوجد الدليل بدون المدلول وهذا أمر لا بدع فيه فإن المدلول قد يتخلف لمانع وأما ما قلتموه من عدم علية المدارات فيلزم منه أن يوجد المدلول بدون الدليل وهو محال
قال "قيل الطرد لا يؤثر والعكس لم يعتبر قلنا يكون للمجموع ما ليس لأجزائه"
هذه شبهة لمن منع الدوران وتقريرها أنه مركب من الطرد وهو ترتب وجود الشيء على وجود غيره والعكس وهو ترتب عدمه على عدم غيره وكل منهما لا يدل على العلية أما الطرد فلأن حاصله يرجع إلى سلامة الوصف عن النقص وسلامته عن مفسد واحد لا يوجب سلامته عن كل مفسد ولو سلم عن كل مفسد لم يلزم من ذلك صحته فإنه كما يعتبر عدم المفسد يعتبر وجود المقتضى للعلية والطرد من حيث هو طرد لا يشعر بالعلية بل بعدم النقص فلا يفيد العلية والعكس غير معتبر في العلل الشرعية فمجموعها أيضا كذلك
وأجاب بأنه لا يلزم من عدم دلالة كل واحد منهما على الانفراد عدم دلالة المجموع فإنه يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية ما ليس لكل واحد من الأجزاء ألا ترى أن كل واحد من أجزاء العلة ليس بعلة مع أن المجموع علة
وهذا ما أجاب به إمام الحرمين في البرهان بعد أن ذكر أن الشبهة المذكورة
من فن التشدق والتفيهق الذي يستدل به من لا يعد من الراسخين وقال من زعم أن مجموعها لا يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما فقد انتسب إلى العناد
قال "السابع التقسيم الحاصر كقولنا ولاية الاجبار إما أن لا تعلل بالبكارة أو الصغر أو غيرهما والكل باطل سوى الثاني والأول والرابع للإجماع والثالث لقوله صلى الله عليه وسلم:"الثيب أحق بنفسها1" والبر غير الحاصر مثل أن يقول علة حرمة الربى إما الطعم أو الكيل أو القوت فإن قيل لا علة لها أو العلة غيرها قلنا قد بينا أن الغالب على الأحكام تعليلها والأصل عدم غيرها" من طرق العلة التقسيم الحاصر والتقسيم الذي ليس بحاصر ويعبر عنهما بالسبر والتقسيم لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر صلاحية كل واحد منها للعلية والسبر في اللغة الاختبار ثم التقسيم إما أن يكون دائرا بين النفي والإثبات وهو التقسيم المنحصر أو لا يكون كذلك وهو التقسيم المنتشر وإليه أشار المصنف بقوله والسبر غير الحاصر أما الأول فهو لإفادته العلم حجة في العمليات والعمليات من غير اختلاف إن كان الدليل الدال على نفي علته ما عدا الوصف المعين فيه قطعيا أيضا وإلا فهو والقسم الثاني حجة في العمليات لإفادته الظن دون العلميات وطريق إيراد النوع الأول أن يقال الحكم إما أن يكون معللا بعلة أولا والثاني باطل فتعين الأول وتلك العلة أما الوصف الفلاني أو غيره والثاني باطل ونذكر على ذلك دليلا قاطعا وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا ومثل المصنف للتقسيم الحاضر في الشرعيات بقولنا ولاية الإجبار على النكاح إما أن تعلل أو لا تعلل وحينئذ فإما أن تكون العلة البكارة أو الصغر أو غيرهما وما عدا القسم الثاني من الأقسام باطل أما الأول وهو عدم تعليلها مطلقا والرابع وهو تعليلها بغير البكارة والصغر فبالإجماع
وأما الثالث فلأنها لو عللت بالصغر لثبت على الثيب الصغيرة لوجود الصغر
1 رواه مسلم كتاب النكاح باب إستئذان الثيب ‘كتاب النكاح باب الإستثمار‘والترمذي ‘باب خطبة النكاح "تحفة الأحوذي4/244" والنسائي كتاب النكاح ‘باب إستئذان البكر في نفسها "6/96".
فيها وهو باطل لقوله صلى الله عليه وسلم:"الثيب أحق بنفسها" أخرجه مسلم ولفظه الأيم ومثل للتقسيم المنتشر وهو الذي ليس بحاصر بقولنا علة حرمة الربا فيما عدا النقدين من الربويات إما الطعم أو الكيل أو القوت والثاني والثالث باطلان فتعين أن تكون العلة الطعم والدليل على بطلان الثاني والثالث أنه علية السلم علق الحكم باسم الطعام في قوله الطعام بالطعام وهو مشتق من الطعم والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق وهذا دليل على أن غير الطعم ليس بعلة وهو صالح لأن يكون دليلا أصليا على علية الطعم من غير نظر إلى طريقة البر والتقسيم فإن قيل في الابراد على الاستدلال بالتقسيم المنتشر لا نسلم أن تحريم الربا معلل ولئن سلمنا أنه معلل فلا نسلم انحصار العلة فيما ذكرتم لجواز أن تكون العلة غير هذه الثلاثة
وأجاب المصنف عن الأول بأنا بينا فيما سبق أن الغالب أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد تفضلا منه وإحسانا فيلحق هذا الحكم بالغالب وعن الثاني بأن الأصل عدم علة آخرى غير الأمور المذكورة واستصحاب هذا الأصل كاف في حصول الظن بعلية أحدها وقد صرح إمام الحرمين في كتاب الأساليب بأن البر والتقسيم لا يحتج به إلا أن قام الدليل على أن الحكم معلل وأن العلة منحصرة في أحد أوصاف معينة ومتحدة ثم يبطل ما عدا الوصف المدعى علة فيثبت حينئذ علية ذلك الوصف وهذا هو المختار
قال "الثامن الطرد وهو أن يثبت معه الحكم فيما عدا التنازع فيه فيثبت فيه إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب وقد قيل يكفي مقارنته في صوره وهو ضعيف"
الطرد هو الحكم الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب وإذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع في حصوله فيه هذا هو المراد من الإطراد على قول الأكثر واختلف من قال بحجية الدوران في حجية الطرد فذهب المعتبرون من النظار إلى أن التمسك به باطل
قال إمام الحرمين وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط أحكام الله تعالى به وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة وإليه مال
الإمام وجزم به المصنف وقال الكرخي هو مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا الفتوى به وبالغ قوم وقالوا يكفي في علية الوصف الطردي أن يكون الحكم مقارنا له ولو في صورة واحدة قال صاحب الكتاب وهو ضعيف وسنبين وجه ذلك إن شاء الله تعالى
واحتج المصنف على أنه حجة بأن الحكم إذا ثبت فيما عدا صورة النزاع مع الوصف ووجه الوصف في صورة النزاع لزم ثبوت الحكم معه فيه إلحاقا للمفرد بالأعم الأغلب فإن الاستقراء يدل على إلحاق لنادر بالغالب وهذا معتصم ضعيف فإنه إن أريد بالاستقراء إلحاق كل نادر بالغالب في جميع الأشياء فهو ممنوع لما يرد عليه من النقوض الكثيرة ولأن من جملة تلك الصور محل النزاع ولو ثبت هذا الحكم في محل النزاع لاستغنى عن هذه المقدمة وإن أريد به أنه في بعض الصور كذلك فلا يلزم من تسليمه شيء وإن أريد به أنه كذلك فيما عدا محل النزاع فيصعب إثباته لما ذكرناه من النقوض ولو سلم فلقائل أن يقول لم يلزم فيما نحن فيه إلحاق النادر بالغالب وهل هذا إلا إثبات الطرد بالطرد ولو سلمنا أنا إذا رأينا حكما في أغلب صور وصف يغلب على ظننا أنه في جميع صور الوصف كذلك
فلقائل أن يقول المعلوم فيما نحن فيه في أغلب الوصف إنما هو مقارنة الحكم مع الوصف لا كون الحكم معللا بذلك الوصف فإن هذا غير معلوم لي ولا في صورة واحدة ولا يلزم من علية الاقتران كونه علة للحكم ولو لزم ذلك لما كان الوصف بكونه علة للحكم أولى من الحكم بأن يكون الوصف
واحتج من أبطله بوجوه أوجهها أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما تعلق بها الصحابة إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فإجماعهم على ذلك ومستند العمل بالأقيسة الصحيحة كما سبق والذي تحقق لنا من مسالكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتناق محاسن الشرع فأما الأحكام بطرد لا يناسب الحكم ولا يثير شبها فلم يثبت عنهم الاعتماد عليه بل نظرهم إلى ما ذكرناه دليل على أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد
مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه ولا عطلوه ولسنا نطيل بالرد على القائل بالطرد ففي هذا الدليل مقنع
وقد قال القاضي والأستاذ من طرد عن غيره فهو جاهل غبي ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهي هازئ بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد وإذا وضح بطلان القول بالطرد بأن فساد قول من يكفي ولو في صورة واحدة بطريق الأول
وقد قال المصنف إنه ضعيف مع قوله بالطرد وهذا صحيح لأن القائل بالطرد يستند إلى ضرب من الظن وهو حصول التكرار والصورة الواحدة لا تكرار فيها فمن أين الظن وأما الكرخي فقد ناقض لقوله كما قال إمام الحرمين فإن المناظرة مباحثة عن مأخذ أحكام الشريعة والجدال استياقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصح أن يكون مناطا لحكم وغاية المعترض أن يثبت ذلك فيما تمسك به خصمه فإن اعترف به فقد كفى المؤونة وعاد الكلام ونكدا وعنادا وأضحى لجاجا وخرج عن كونه حجاجا
قال "التاسع تنقيح المناط بأن يبين إلغاء الفارق وقد يقال العلة أما المشترك أو المميز والثاني باطل فثبت الأول ولا يكفي أن يقال محل الحكم أما المشترك أو المميز الأصل لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحكم"
إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق يسمى تنقيح المناط وهو أن يقال لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له ومثاله قياس الأمة على العبد في السراية في قوله صلى الله عليه وسلم: "من اعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي" بأنه لا فارق بين الأمة والعبد إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية وهذا هو الذي تسميه الحنفية بالاستدلال ويفرقون بينه وبين القياس بأن يخصوا اسم القياس بما يكون الإلحاق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا الظن والاستدلال بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد
القطع حتى اجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه فيجوز والزيادة عن النص به ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد والحق أن تنقيح المناط قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس وكل من القياسين أعني ما يلحق فيه بذكر الجامع وبالغاء الفارق قد يكون ظنيا وهو الغالب إذ قلنا يقوم القاطع على أن الجامع علة أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العلية وقد يكون قطعيا بأن يوجد ذلك نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من القسم الآخر لكن ليس ذلك فرقا في المعنى بل في الوقوع
وأعلم أنه قد يقال في إيراد تنقيح المناط هذا الحكم لا بد له من علة كما تقدم وهي إما المشترك بين الأصل والفرع كالرق في المثال الذي ذكرناه أو المختص بالأصل كالذكورة والثاني باطل لأن الفارق ملغى فتعين الأول فيلزم ثبوت الحكم في الفرع لثبوت عليته فيه فإن قلت هذه الطريقة بعينها هي طريقة السبر والتقسيم قلت كذا قال الإمام ولكن يمكن أن يفرق بينهما بأن السبر والتقسيم لا بد فيه من تعيين الجامع والاستدلال على العلية وأما هذا فلا يجب فيه تعيين العلة ولكن ضابطه أنه لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير مثل من أعتق شركا له في عبد كما أوضحناه كقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه1" فالمرأة في معناه وقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ2} فالعبد في معناها وقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشرطه المبتاع3" فالجارية في معناه وقوله صلى الله عليه وسلم في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد فإن العسل وكل جامد في معناه ولا يكفي أن يقال في إيراده هذا الحكم لا بد له من محل وهو إما المشترك أو مميز الأصل عن الفرع
1 رواه مالك وأبو داود "الجامع الصغير للالباني 2/395"
2 سورة النساء آية "25"
3 رواه الإمام أحمد بلفظ: "من باع عبدا وله مال فله ماله وعليه دينه وإلا أن يشترط المبتاع ومن أبرنحلا وباعه بعد تأبيره فله ثمرته إلا أن يشترط المبتاع""مجمع الزوائدللهيثمي 4/106-107ط بيروت"
والثاني باطل لأن الفرق ملغى فوجب أن يكون محله المشترك ويلزم ثبوت الحكم في الفرع ضرورة حصوله في الأصل وذلك لأنه لا يلزم من وجود المحل وجود الحال فيه ومثاله قول الحنفي وجوب كفارة الإفطار له محل وهو إما المفطر بالوقائع بخصوص الوقاع أو المفطر لا بخصوص الوقاع
والأول باطل لأن خصوص الوقاع ملغى كخصوص القتل بالسيف في وجوب القصاص فتعين الثاني فتجب الكفارة على من أفطر بالأكل فنقول سلمنا أن المفطر بالأكل يصدق عليه أنه مفطر لكن لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر وهذا كما أنه إذا صدق هذا الرجل طويل يصدق الرجل الطويل ضرورة كون الرجل جزء من هذا الرجل واستلزام حصول المركب حصول المفرد ولا يلزم منه صدق كل رجل طويل
فائدة قد اقتصر المصنف على ذكر تنقيح المناط دون تحقيق المناط وتخريج المناط ونحن لا نطيب قلبا بإخلاء هذا الشرح عن الكلام فيهما ليحصل التفرقة بينهما وبين تنقيح المناط فنقول أما تنقيح المناط فقد عرفت أنه الاجتهاد في تعيين السبب الذي ناط التنازع الحكم به وأضافه إليه ونصبه علامة عليه بحذف غيره من الأوصاف عن درجة الاعتبار وأما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بعض إجماع ويجتهد في وجودها في صورة النزاع كالاجتهاد في تعيين الإمام بعد ما علم من إيجاب نصب الإمام وكذا تعيين القضاة والولاة وكذا في تقدير التعزيزات وتقدير الكفاية في نفقة القريب
وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية وذلك معلوم بالنص إما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بقول المقومين وهو مبنى على الظن والتخمين وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين
أحدهما أنه لا بد من الكفاية
والثاني أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع
وأما الثاني فبالظن وكذا نقول يجب في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ1} فنقول المثل واجب والبقرة مثل فإذن هي الواجب فالأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم أما تحقيق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد وكذلك من أتلف على إنسان فرسا فعلية ضمانه والضمان هو المثل في القيمة أما كون مائة درهم مثلا له في القيمة فيعرف بالاجتهاد ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة فإنه يجب استقبال جهتها بالنص أما أن هذه هي جهة القبلة فيعلم بالاجتهاد عند تعذر اليقين وكذا العدالة فإن كونها مناط قبول الشهادة معلوم بالإجماع وتحققها في كل واحد من الشهود مظنون وكلما علم وجوبه أو جوازه من حيث الجملة وإنما النظر في تعيينه وتقديره
قال الغزالي وهذا لا خلاف فيه بين الأمة وهو نوع اجتهاد قال والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه وهي ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة الأشخاص وقدر كفاية كل شخص محال فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم
وأما تخريج المناط فهو الاجتهاد في استنباطه علة الحكم الذي دل النص والإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته لا بالصراحة ولا بالإيماء نحو قوله: "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلا بمثل2" فإنه ليس فيه ما يدل على أن علة تحريم الربا الطعم لكن المجتهد نظر واستنبط العلة بالطرق العقلية من المناسبة وغيرها فكأن المجتهد أخرج العلة من خفاء فلذلك سمى تخريج المناط بخلاف تنقيح المناط فإنه لم يستخرجه لكونه مذكورا في النص بل نقح المنصوص وأخذ منه ما يصلح للعلية وترك ما لا يصلح قال الغزالي وهذا هو الاجتهاد والقياس الذي عظم فيه الخلاف
1 سورة المائدة "95"
2 أخرجه مسلم "3/1211" بلفظ: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والمسلح بالمسلج مثلا بمثل سواء بسواء يد بيدفإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".