الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحكام ثابتة بنصوص محتملة للاستثناء على وفق سؤال بعض الناس أو حاجتهم فلا يدل على التفويض ولك أن تجيب عما وقع في قضية النضر بأنه لم يصح وابن هشام لم يجزم القول به وقد قال الزبير بن بكار ما قدمته وسمعت والذي أيده الله تعالى يجيب عنه على تقدير صحته بأن النضر كان أسيرا والإمام مخير في الأسارى بين الفعل والاسترقاق والمن والفداء وعندي في هذا نظر فإن الإمام إن خير بين هذه الأشياء فلا خوف بين الأصحاب أنه يجيب عليه رعاية للمصلحة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه وجه المصلحة وما قتل النضر وإلا قد كان قتله مصلحة ولا تزول هذه المصلحة بإنشاد أخته أبياتها هذه ولا يقال لعل الحال كان مستويا لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك إذ لو فرض استواء لكان الواجب عدم القتل فإنه متى لم يظهر بوجه الصواب في الحال حبسهم الى حين يظهر نص عليه أصحابنا وأجيب عن قوله لو قلت نعم لوجب بأنها قضية شرطية لا تقتضي وقوع مشروطها وهو منقدح وعن قوله إلا الإدخر بأنه يحتمل نزول الوحي سريعا عليه والله أعلم
الكتاب السادس في التعادل والتراجيح
في تعادل الأمارتين في نفس الأمر
…
قال الكتاب السادس في التعادل والترجيح
وفيه أبواب الباب
الأول في تعادل الإمارتين في نفس الأمر منعه الكرخي وجوزه قوم وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه والتساقط عند بعض الفقهاء فلو حكم القاضي بأحديهما مرة لم يحكم بالأخرى أخرى لقوله عليه السلام لأبي بكر:"لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1"
"ش" التعادل بين القاطعين المتنافيين ممتنع كما ستعرفه إن شاء الله تعالى عقليين كانا أو نقليين وكذلك بين القطعي والظني لتقدم القطعي وأما التعادل بين الإمارتين في الأذهان فصحيح وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي والإمام أحمد وجمع من فقهائنا وجوزه الباقون هذا هو النقل المشهور وكلام الغزالي يدل على أن من قال المصيب واحد لم يجوز تعادل الإمارتين وأن الخلاف بين المصوبة حيث قال إذا تعارض دليلان عند المجتهد فالمصوبة يقولون هذا لعجزه وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض انتهى واختار الإمام أن تعادل
1 أخرجه النسائي: أدب القضاء 8/247 ولفظه: "لا يقضين أحد في قضاء بقضاءين ولا يقضي أحد بين خصمين وهو غضبان"
الإمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد لكون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة غير واقع شرعا أي غير جائز الوقوع شرعا يظهر ذلك بتأمل كلامه وأن تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهة القبلة
وقد احتج من منع من تعادل الأمارتين مطلقا بأنه لو وقع فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو ترجيح من غير مرجح أولا على التعيين بل على التخيير والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ترجيحا لأحد الإمارتين بعينها وقد وضح فساده وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يعمل بأحدهما على التعيين قوله ذلك ترجيح لإمارة الإباحة بعينها قلنا ممنوع وهذا لأن الإباحة في التخيير بين الفعل والترك مطلقا لا التخيير بينهما بناء على الدليلين الذي يدل أحدهما على الإباحة والآخر على الحظر إذ يجوز أن يقول الشارع للمكلف أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة أو بأمارة الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل أو بالحظر فقد حرمته وتصرح له بأن الفعل على أحد التقديرين إباحة وعلى الآخر حرام ولو كان ذلك للفعل لما جاوز ويؤكده أنه يجب عليه اعتقاد كل منهما على تقدير الأخذ بإمارته فلو كان ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين ولا يقال لما بين فعل الركعتين وتركهما كانتا مباحتين وكذلك الصلاة المعادة على الوجه الذاهب إلى أنها فرض وفي الدليل وجوابه مواقف أخر نطول بذكرها واحتج من جوز تعادل الإمارتين في نفس الأمر بالقياس على التعادل في الذهن وبأنه لو امتنع لم يكن امتناعه لذاته فلا يلزم من فرض وقوعه محال أو الدليل والأصل عدمه وأجيب عن الأول بأن التعادل الذهني لا يمنع إمكان التوصل فيه إلى رجحان إحدى الإمارتين فلا يكون نصبهما عبثا
وعن الثاني بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد وليس أولى من
عكسه وهو إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز وأما اختيار الإمام فعليه كلام طويل ولا نرى الاشتغال بذكره لأن صاحب الكتاب يعمل بحكايته واقتصر في المسألة كلها عن مجرد حكاية المذاهب فلنتبعه في الاختصار وقوله وحينئذ أي إذا قلنا بتجويز تعادل الأمارتين في نفس الأمر وتعادلهما فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم إلى التخيير فيعمل المجتهد في شأنه بما شاء ويخير العامي في الاستفتاء ويختار أحد الأمرين في الحكم للمتخاصمين ولا يخبرهما درأه للتخاصم وذهب قوم إلى أن حكمه التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى البراءة الأصلية
وقال قوم إن وقع هذا التعادل بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير إذ لا يمنع التخيير في الشرع بين الواجبات كما أن ملك مائتين من الإبل يجب عليه أن يخرج ما يشاء من الحقا وبنات اللبون عندما يجعل الخيرة للمالك من أصحابنا ومن دخل الكعبة استقبل ما شاء من جدرانها وإن وقع وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية قوله فلو حكم أي إذا اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى وقد استدل على ذلك بما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1" وهذا الحديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الذهبى فلم يعرفه ولا يكاد المجتهد يحيط علما بتعادل الإمارتين في نفس الأمر ويخير المسافر في الركعتين وكونهما مع جواز تركهما يقعان على وجه الوجوب إنما هو في ظن المجتهد ومن أين لنا أن الحال في نفس الأمر كذلك فمن يوجب القصر من العلماء لا يجوز فعلهما لا يوجبه لا يقطع بوقوعه على وجه الوجوب إذ القطع بوقوعه على وجه الوجوب فرع كونه جائز الوقوع وكذا القول في الصلاة المعادة وقد يعلل ما ادعاه المصنف في الحاكم بأنه لو حكم بخلافه مرة أخرى لا تهم والحاكم يتوقى مظان التهم ويجري مثل هذا في المفتي وفيما أن أعمل بأحد الأمرين في شأن نفسه واطلع عليه الناس كيلا يتناقض فعله فيتهمه العامي ولا يرجع إلى فتواه
1 تقدم تخريج الحديث وصوابه "لأبي بكر" بزيادة تاء التأنيث "سنن النسائي8/347"
قال "مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد يدل على توقفه ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر فهو مذهبه وإلا حكي القولان"
"ش" هذه المسألة في حكم تعارض قولين لمجتهد واحد وهو بالنسبة إلى المقلدين كتعارض الأمارتين عند المجتهدين فلذلك أعقبه بتعادله الأمارتين ومضمون المسألة أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في مسألة واحدة قولان متنافيان فإما أن يكون ذلك في موضع واحد أولا
الحالة الأولى إذا كان في موضع واحد بأن يقول في هذه المسألة قولان مثلا وهو قسمان أحدهما ولم يذكره في الكتاب أن يعقب ذلك بما يشعر بترجيح أحدهما ولو بالتقريع عليه فيكون ذلك قولان له لأن قول المجتهد ليس غير ما يترجح عنده
والثاني أن لا يفعل ذلك فيدل على توقفه في المسألة لعدم ترجيح دليل أحد الحكمين في نظره وقوله فيها قولان محتمل لأن يريد بالقولين احتمالين على سبيل التجوز أي فيها احتمال قولين لوجود دليلين متساويين ولأن يريد بهما مذهبين لمجتهدين وعلى التقديرين لا ينسب إليه قول في المسألة لتوقفه فيها وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله يدل على توقفه ويحتمل أي وهذا التوقف محتمل لأن يكونا احتمالين ولأن يكونا مذهبين
وذهب قوم إلى أن إطلاق القولين يقتضي التخيير وهو ضعيف واعلم أن وقوع ذلك في مجلس واحد من دون ترجيح قليل نقل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن القاضي أبي حامد المروذي لأنه ليس للشافعي مثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعا ستة عشر أو سبعة عشر وقد وقع في المحصول بدل القاضي أبي حامد المروذي الشيخ أبو حامد الإسفرايني وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد ووقع فيه الجزم بأن المواضع سبعة عشر وهو وهم والذي نقله الشيخ أبو إسحاق ما ذكرناه وقال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب قال المحققون إن ذلك لا يبلغ عشرا
الحالة الثانية أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين بأن ينص في كتاب أو في وقت على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه فهو قسمان أحدهما أن يعلم المتأخر منهما فهو مذهبه ويكون الأول مرجوعا عنه وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا بد وأن ينص على الرجوع فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعا حكاه الشيخ أبو إسحاق والثاني أن يجهل الحال فيحكي عنه القولان من غير الحكم على أحدهما بالترجيح
قال "وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك وهي دليل على علو شأنه في العلم والدين"
ش وقد وقع الحالان المتقدمان للإمام المطلبي قدوتنا أبي عبد الله الشافعي ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك من الأدلة الواضحة على علو شأنه في العلم والدين في الحالتين أما الدليل على العلم في الأولى فإنه كلما زاد المجتهد علما وتدقيقا وكان نظره أتم تنقيحا وتحقيقا ووقوفا على الأدلة المزدحمة مستقيما وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيما تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه
وأما في الدين فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمم على مقالته الأولى ولا قام بنصرتها وشال بضبعها حتى ينادي أولى لك فأولى بل صرح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر
وأما الحالة الثانية وهي تنصيصه على القولين في موضعين فدليل على علمه أيضا لأنه مبني على اشتغاله طول عمره القصير بالنظر والمباحث واشتماله على التدقيق في الوقائع والحوادث وعلى دينه لإظهاره الشيء إذا لاح له غير مبال بما صدر منه أولا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه إلى التناقض في المقال ولا مرجوح لمذهبه وإن كان ذا القدرة العظمى على ما يرومه واليد الطولى فيما يحاوله وقد عاب القولين على الشافعي من لا خلاق له وأتى بخرف من القول زكاة ونمقة والله لا سواه ولا عدله وذلك لنقصان وقصور وحسد كامن في الصدور
وقال في العلماء قولا كبيرا وفاه بألسنة حداد سيصلى سعيرا وأضمر في نفسه من الزابين عن مسألة سيد المرسلين عقيدة لا يغسل السيف عارها ولا يواري الليل غوارها ونحن لا نحفل بكلمة ولا نقول بكلامه ولا نرى أن يشتمل مثل هذا الشرح على مثل هذا الهذيان الذي هو خيال طرق ذا الخيال في منامه ويكتفي بما صنفه أصحابنا قديما وحديثا في نصرة القولين ويخيل العطن على ذهنه والبليد على الوقوف عليها ولكنا نورد أسئلة قد تختلج في الصدور وتعتور بني الزمان فيجد بها الغبي نفثة مصدور فيقول قد علمت صنعة القولين وكيفية وقوعهما فإن قلت التردد في القولين ينبئ عن نقصان النظر عن إدراك الأرجح قلت معاذ الله بل يخبر عن حال ذلك لأن قوة النظر كلما زادت توالت عليها التشكيكات كما عرفت فإن قلت من سبق الشافعي إلى ذلك من المجتهدين وقد كان قبله أبو بكر الصديق وهو أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبيين
قلت الفاروق الذي أعز الله به الإسلام بدعوة النبي عليه السلام حيث نص في الشورى على ستة وحصر الخلافة فيهم تنبيها على أن الاستحقاق منحصر فيهم وأن غيرهم ليس أهلا لذلك ولم يعترض أحد عليه بل اتبعوا رأيه واقتفوا أثره فإن قلت فما فائدة ذكر القولين قلت التنبيه على أن الحق لا يعدوهما وقصر نظر المتمذهب له على التدقيق فيها وعدم الالتفات إلى غيرهما
فإن قلت من جملة أقواله أن يذكر قولين مع الإشارة إلى ترجيح أحدهما وأي فائدة مع التنبيه على الراجح في ذكر المرجوح قلت ليعلم طرق الاجتهاد والاستنباط والتمييز بين الصحيح والفاسد ومخافة أن يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا يتنبه لفاسده فيتخذه مذهبا وقد عد الأصحاب لأبي حنيفة رضي الله عنه أمثال ذلك فلطالما قال القياس كذا لكني تركته استحسانا وليس لأحد أن يعيب عليه ذلك ولا أن يقول ما فائدة ذكرك القياس مع عدم اعتمادك إياه فإن قلت أي معنى في إطلاق القولين في وقت واحد من غير ترجيح قلت هذا هو الذي لم يوجد معه سوى النذر اليسير
وقد قلنا إنه فيه متوقف وأنه دليل على غزارة العلم والمنتهى في الديانة وفيه
من الفوائد التنبيه على المآخذ وفحص جهتها في ذينك القولين ولذلك جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه وكان قصده أن الخلافة لا تعدوهم ولو لم يفاجئه هادم اللذات لميز الأصح عن غيره فإن قلت فلا معنى لقولكم في هذا القسم للشافعي في هذا المسألة قولان إذ ليس له ما على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قول واحد ولا قولان بل هو متوقف غير حاكم بشيء قلت قال إمام الحرمين في التلخيص هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما وقد كان الشافعي رضوان الله عليه حديث السن لم تتسع مهلته كثيرا لآلام لم تطل راحته ولا يشغله ذلك عما هو فيه من حياطة الدين والنظر المتين والانجماع على طريق المتقين
وقد سئل بعضهم ما السبب في قصر عمر الشافعي فقال حتى لا يزالون مختلفين ولو طال عمره لرفع الخلاف ولأمعن القول فيما لا يحصره مختصرا ولا معزل من مناقب هذا الخبر ولكن العالم استطرد ووجد للمقال مجالا
فقال ونختم الفصل بما هو من توابع أبواب الترجيح وأمور المقلدين فنقول إن قصر نظر بعض المصنفين عن فهم مراتب المجتهدين فلا عليه لو اقتدى بقوله صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش1" وقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشا ولا تذموها2" ولم يكن أحد من أصحاب المذاهب معزيا إلى صليبة قريش بالمسلك الواضح إلى الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذلك وأنه المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم عالم قريش يملأ طباق الأرض علما لأنه الذي طبق طباق الأرض وتخلق بالطيب ورد ليلها المسود وجبين نهارها المبيض وصار اسمه في مشارقها ومغاربها وعلا على أنجم السماء طوالعها وغواربها
1 رواه النسائي في السنن الكبري "تحفة الأشراف للمزي 1/102"كما رواه الإمام أحمد في المسند 3/129،4/431 ط الحلبي
2 رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا بلفظ: "قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا ولا تعلموها" كما رواه ابن عدي والطبراني، والبزار بطرق مختلفة، قريبة من هذا المعني أنظر الجامع اصغير 2/86
وقد قام إمام الحرمين مناديا بما لوح به جماعة من الأصحاب من وجوب تقليد الشافعي فقال في كتابه الترجيح بين المذهبين أنه يدعى أنه يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مذهب الشافعي بحيث لا يبغون عنه حولا ولا يريدون به بدلا والذي نقوله نحن إن كتابنا هذا شارح لمختصر أصول لا نرى أن نخرج عنه إلى ما لا يتعلق به من الترجيح بين المذاهب ولكن الذي نفوه به هو أنه يتعين على المقلد النظر بعين التعظيم إلى قدوته والإيماء بطرف التقديم نحو إمامه ونحن نراعي ذلك في حق إمامنا رضوان الله عليه ونقول بجمع الكلام فيما نحاوله أمور ثلاثة أولها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس فللمتأخر الناقد حق التهذيب والتكميل وكل موضوع على الافتتاح فقد يتطرق إلى مبادئه بعد التسبيح ثم يتدرج الناقد حق التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون
فإن قلت فيلزمكم على هذا أن توجبوا الإقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة قلت إن ثبت لأحد بعده رتبة الاجتهاد والتنحل وترتيب ما لم ينظم والإطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها فيلزم ذلك ولكنا لسنا نرى أحدا من الأئمة بعده بلغ هذا المحل كذا أجاب إمام الحرمين وتعالى غيره وقال لم يبلغ أحد بعد الشافعي منصب الاجتهاد المطلق فضلا عن الوصول إلى ما وصل إليه الشافعي وثانيهما أن المذاهب يمتحن بأصولها لأن الفروع تستند إليها وتستقيم بتقومها وتعوج باعوجاجها ولا يخفى على الساري في الظلم رجحان نظر الشافعي في الأصول التي هي أهم ما ينبغي للمجتهد وأنه أول من أبدع ترتيبها ومهد قوانينها وألف فيها رسالته ولم لا يكون ذلك وأعظم ما يستمد منه أصول الفقه اللغة والشافعي كان من صميم العرب العربا ممن تفقأت عنه بيضة بني مضر وأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الاقيسة بالإمارات المنصوبة علامات على الإجماع
ولهذه الأصول مراتب ودرجات فأما الكتاب فهو عربي مبين والشافعي إذا أنصف الناظر عرف أنه المميز عن غيره فيما يحاوله منه لأنه القرشي البليغ ذو
اللغة التي يحتج بها الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومعرفة الراويات وأما الحديث فلا ينكر منصف مقامه في الأخبار وإلقاءه الأحاديث من حفظه ولذلك ربما قال أخبرني الثقة ومن لا يحضرني اسمه الآن أن ذلك من آيات من آيات حفظه وشدة ضبطه وتحريه حتى قال أبو زرعة ما عند الشافعي حديث غلط فيه وقال أبو داود ما أعلم للشافعي حديثا خطأ وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل الليل بالنهار ينزل الأحاديث منازلها ويقبل كلما صح منها ويجعله مذهبه لا يفرق بين كوفي ومدني
ولذلك قال لأحمد أنتم أعلم بالحديث منا فقل لي كوفية وبصرية يعني أنكم يا أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة فقل لي حتى أنظر فإن كان صحيحا عملت به ولا يظن في ظان الاقتصار على أحاديث المدينة والحجاز من حيث أني من أصحاب مالك وأتى بصيغة الجمع في المخاطب والمخاطب بقوله أنتم ومنا ولم يرد الشافعي أن ابن حنبل أعلم منه بالحديث كما ظن بعض الأغبياء حاش الله وإنما أراد ما ذكرناه والملك العظيم أن أتاه رسول من أخيه الملك من بلدة أخرى يقول له أنتم أعلم بأخبار أخي مني يعني لكونكم في بلدته ولا يلزم من ذلك زيادتهم في القرب منه على أخيه ولا مساواته ولو أراد الشافعي ما زعمه بعض الأغبياء جبرا لأحمد وتأدبا معه وتعظيما لجانب تلميذه لجاز ذلك ولا لوم عليه أما فقه الحديث فهو سيد الناس في ذلك
وأما الإجماع فسيلقي من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهو المنهي في ذلك هذا بيان الأصول وأما تنزيلها منازلها فهو سوق الشافعي فإن قدم كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع نهاية التأدب والوقوف عندما ينبغي السوق عنه للناظر في الشريعة فإذا لم يجدها تأسا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليق بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة بأصولها ولم نر التعليق بكل وجه في الاستصواب ولا الاستحسان بما نهواه ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وما لا يعلل فانسحب على الإتباع فيما لا يعقل معناه