المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر - الإبهاج في شرح المنهاج - ط العلمية - جـ ٣

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الرابع في القياس

- ‌تعريف القياس

- ‌الباب الأول في بيان أن القياس حجة

- ‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك

- ‌التنصيص على العلة هل هو أمر بالقياس أو لا

- ‌ القياس أما قطعي أو ظني

- ‌ ما يجري فيه القياس

- ‌الباب الثاني في‌‌ أركان القياس

- ‌ أركان القياس

- ‌مدخل

- ‌في العلة وتعريفها

- ‌الطرف الأول: الطرق الدالة على العليلة

- ‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية

- ‌ الطرف الثالث في أقسام العلة

- ‌في الأصل والفرع

- ‌شروط الأصل

- ‌ شروط الفرع

- ‌قياس التلازم

- ‌الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه بابان

- ‌في المقبولة

- ‌الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم

- ‌ الاستصحاب

- ‌ الاستقراء

- ‌ الأخذ بأقل ما قيل

- ‌ المناسب

- ‌فقد الدليل بعد التفحص البليغ

- ‌في الدلائل المردودة

- ‌الاستحسان

- ‌ قول الصحابي

- ‌الكتاب السادس في التعادل والتراجيح

- ‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌تعريف الترجيح

- ‌ لا ترجيح في القطعيات

- ‌تعارض الدليلين

- ‌تعارض النصين

- ‌ الترجيح بكثرة الأدلة

- ‌في ترجيح الأخبار

- ‌طرق ترجيح الأخبار

- ‌بحال الراوي

- ‌ بوقت الرواية

- ‌ بكيفية الرواية

- ‌ بوقت ورود الخبر

- ‌ باللفظ

- ‌ بالحكم

- ‌ بعمل أكثر السلف

- ‌في تراجيح الأقيسة

- ‌بحسب العلة

- ‌ بحسب دليل العلية

- ‌ بحسب دليل الحكم

- ‌ بحسب كيفية الحكم

- ‌بموافقة الأصول في العلة

- ‌الكتاب السابع‌‌ في الاجتهادوالافتاء

- ‌ في الاجتهاد

- ‌تعريفه

- ‌في المجتهدين

- ‌يجوز الاجتهاد للرسول صلى الله علية وسلم

- ‌اجتهاد غير الرسول صلى الله علية وسلم

- ‌شروط المجتهد

- ‌في حكم الحتهاد

- ‌القول بالتصويب والتخطئة

- ‌في الإفتاء

- ‌يجوز الإفتاء للمجتهد

- ‌يجوز الستفتاء للعامة

- ‌ما يجوز فيه التقليد وما لايجوز

الفصل: ‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

الأحكام ثابتة بنصوص محتملة للاستثناء على وفق سؤال بعض الناس أو حاجتهم فلا يدل على التفويض ولك أن تجيب عما وقع في قضية النضر بأنه لم يصح وابن هشام لم يجزم القول به وقد قال الزبير بن بكار ما قدمته وسمعت والذي أيده الله تعالى يجيب عنه على تقدير صحته بأن النضر كان أسيرا والإمام مخير في الأسارى بين الفعل والاسترقاق والمن والفداء وعندي في هذا نظر فإن الإمام إن خير بين هذه الأشياء فلا خوف بين الأصحاب أنه يجيب عليه رعاية للمصلحة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه وجه المصلحة وما قتل النضر وإلا قد كان قتله مصلحة ولا تزول هذه المصلحة بإنشاد أخته أبياتها هذه ولا يقال لعل الحال كان مستويا لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك إذ لو فرض استواء لكان الواجب عدم القتل فإنه متى لم يظهر بوجه الصواب في الحال حبسهم الى حين يظهر نص عليه أصحابنا وأجيب عن قوله لو قلت نعم لوجب بأنها قضية شرطية لا تقتضي وقوع مشروطها وهو منقدح وعن قوله إلا الإدخر بأنه يحتمل نزول الوحي سريعا عليه والله أعلم

ص: 199

‌الكتاب السادس في التعادل والتراجيح

‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

قال الكتاب السادس في التعادل والترجيح

وفيه أبواب الباب

الأول في تعادل الإمارتين في نفس الأمر منعه الكرخي وجوزه قوم وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه والتساقط عند بعض الفقهاء فلو حكم القاضي بأحديهما مرة لم يحكم بالأخرى أخرى لقوله عليه السلام لأبي بكر:"لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1"

"ش" التعادل بين القاطعين المتنافيين ممتنع كما ستعرفه إن شاء الله تعالى عقليين كانا أو نقليين وكذلك بين القطعي والظني لتقدم القطعي وأما التعادل بين الإمارتين في الأذهان فصحيح وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي والإمام أحمد وجمع من فقهائنا وجوزه الباقون هذا هو النقل المشهور وكلام الغزالي يدل على أن من قال المصيب واحد لم يجوز تعادل الإمارتين وأن الخلاف بين المصوبة حيث قال إذا تعارض دليلان عند المجتهد فالمصوبة يقولون هذا لعجزه وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض انتهى واختار الإمام أن تعادل

1 أخرجه النسائي: أدب القضاء 8/247 ولفظه: "لا يقضين أحد في قضاء بقضاءين ولا يقضي أحد بين خصمين وهو غضبان"

ص: 199

الإمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد لكون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة غير واقع شرعا أي غير جائز الوقوع شرعا يظهر ذلك بتأمل كلامه وأن تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهة القبلة

وقد احتج من منع من تعادل الأمارتين مطلقا بأنه لو وقع فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو ترجيح من غير مرجح أولا على التعيين بل على التخيير والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ترجيحا لأحد الإمارتين بعينها وقد وضح فساده وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يعمل بأحدهما على التعيين قوله ذلك ترجيح لإمارة الإباحة بعينها قلنا ممنوع وهذا لأن الإباحة في التخيير بين الفعل والترك مطلقا لا التخيير بينهما بناء على الدليلين الذي يدل أحدهما على الإباحة والآخر على الحظر إذ يجوز أن يقول الشارع للمكلف أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة أو بأمارة الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل أو بالحظر فقد حرمته وتصرح له بأن الفعل على أحد التقديرين إباحة وعلى الآخر حرام ولو كان ذلك للفعل لما جاوز ويؤكده أنه يجب عليه اعتقاد كل منهما على تقدير الأخذ بإمارته فلو كان ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين ولا يقال لما بين فعل الركعتين وتركهما كانتا مباحتين وكذلك الصلاة المعادة على الوجه الذاهب إلى أنها فرض وفي الدليل وجوابه مواقف أخر نطول بذكرها واحتج من جوز تعادل الإمارتين في نفس الأمر بالقياس على التعادل في الذهن وبأنه لو امتنع لم يكن امتناعه لذاته فلا يلزم من فرض وقوعه محال أو الدليل والأصل عدمه وأجيب عن الأول بأن التعادل الذهني لا يمنع إمكان التوصل فيه إلى رجحان إحدى الإمارتين فلا يكون نصبهما عبثا

وعن الثاني بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد وليس أولى من

ص: 200

عكسه وهو إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز وأما اختيار الإمام فعليه كلام طويل ولا نرى الاشتغال بذكره لأن صاحب الكتاب يعمل بحكايته واقتصر في المسألة كلها عن مجرد حكاية المذاهب فلنتبعه في الاختصار وقوله وحينئذ أي إذا قلنا بتجويز تعادل الأمارتين في نفس الأمر وتعادلهما فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم إلى التخيير فيعمل المجتهد في شأنه بما شاء ويخير العامي في الاستفتاء ويختار أحد الأمرين في الحكم للمتخاصمين ولا يخبرهما درأه للتخاصم وذهب قوم إلى أن حكمه التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى البراءة الأصلية

وقال قوم إن وقع هذا التعادل بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير إذ لا يمنع التخيير في الشرع بين الواجبات كما أن ملك مائتين من الإبل يجب عليه أن يخرج ما يشاء من الحقا وبنات اللبون عندما يجعل الخيرة للمالك من أصحابنا ومن دخل الكعبة استقبل ما شاء من جدرانها وإن وقع وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية قوله فلو حكم أي إذا اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى وقد استدل على ذلك بما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1" وهذا الحديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الذهبى فلم يعرفه ولا يكاد المجتهد يحيط علما بتعادل الإمارتين في نفس الأمر ويخير المسافر في الركعتين وكونهما مع جواز تركهما يقعان على وجه الوجوب إنما هو في ظن المجتهد ومن أين لنا أن الحال في نفس الأمر كذلك فمن يوجب القصر من العلماء لا يجوز فعلهما لا يوجبه لا يقطع بوقوعه على وجه الوجوب إذ القطع بوقوعه على وجه الوجوب فرع كونه جائز الوقوع وكذا القول في الصلاة المعادة وقد يعلل ما ادعاه المصنف في الحاكم بأنه لو حكم بخلافه مرة أخرى لا تهم والحاكم يتوقى مظان التهم ويجري مثل هذا في المفتي وفيما أن أعمل بأحد الأمرين في شأن نفسه واطلع عليه الناس كيلا يتناقض فعله فيتهمه العامي ولا يرجع إلى فتواه

1 تقدم تخريج الحديث وصوابه "لأبي بكر" بزيادة تاء التأنيث "سنن النسائي8/347"

ص: 201

قال "مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد يدل على توقفه ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر فهو مذهبه وإلا حكي القولان"

"ش" هذه المسألة في حكم تعارض قولين لمجتهد واحد وهو بالنسبة إلى المقلدين كتعارض الأمارتين عند المجتهدين فلذلك أعقبه بتعادله الأمارتين ومضمون المسألة أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في مسألة واحدة قولان متنافيان فإما أن يكون ذلك في موضع واحد أولا

الحالة الأولى إذا كان في موضع واحد بأن يقول في هذه المسألة قولان مثلا وهو قسمان أحدهما ولم يذكره في الكتاب أن يعقب ذلك بما يشعر بترجيح أحدهما ولو بالتقريع عليه فيكون ذلك قولان له لأن قول المجتهد ليس غير ما يترجح عنده

والثاني أن لا يفعل ذلك فيدل على توقفه في المسألة لعدم ترجيح دليل أحد الحكمين في نظره وقوله فيها قولان محتمل لأن يريد بالقولين احتمالين على سبيل التجوز أي فيها احتمال قولين لوجود دليلين متساويين ولأن يريد بهما مذهبين لمجتهدين وعلى التقديرين لا ينسب إليه قول في المسألة لتوقفه فيها وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله يدل على توقفه ويحتمل أي وهذا التوقف محتمل لأن يكونا احتمالين ولأن يكونا مذهبين

وذهب قوم إلى أن إطلاق القولين يقتضي التخيير وهو ضعيف واعلم أن وقوع ذلك في مجلس واحد من دون ترجيح قليل نقل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن القاضي أبي حامد المروذي لأنه ليس للشافعي مثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعا ستة عشر أو سبعة عشر وقد وقع في المحصول بدل القاضي أبي حامد المروذي الشيخ أبو حامد الإسفرايني وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد ووقع فيه الجزم بأن المواضع سبعة عشر وهو وهم والذي نقله الشيخ أبو إسحاق ما ذكرناه وقال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب قال المحققون إن ذلك لا يبلغ عشرا

ص: 202

الحالة الثانية أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين بأن ينص في كتاب أو في وقت على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه فهو قسمان أحدهما أن يعلم المتأخر منهما فهو مذهبه ويكون الأول مرجوعا عنه وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا بد وأن ينص على الرجوع فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعا حكاه الشيخ أبو إسحاق والثاني أن يجهل الحال فيحكي عنه القولان من غير الحكم على أحدهما بالترجيح

قال "وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك وهي دليل على علو شأنه في العلم والدين"

ش وقد وقع الحالان المتقدمان للإمام المطلبي قدوتنا أبي عبد الله الشافعي ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك من الأدلة الواضحة على علو شأنه في العلم والدين في الحالتين أما الدليل على العلم في الأولى فإنه كلما زاد المجتهد علما وتدقيقا وكان نظره أتم تنقيحا وتحقيقا ووقوفا على الأدلة المزدحمة مستقيما وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيما تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه

وأما في الدين فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمم على مقالته الأولى ولا قام بنصرتها وشال بضبعها حتى ينادي أولى لك فأولى بل صرح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر

وأما الحالة الثانية وهي تنصيصه على القولين في موضعين فدليل على علمه أيضا لأنه مبني على اشتغاله طول عمره القصير بالنظر والمباحث واشتماله على التدقيق في الوقائع والحوادث وعلى دينه لإظهاره الشيء إذا لاح له غير مبال بما صدر منه أولا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه إلى التناقض في المقال ولا مرجوح لمذهبه وإن كان ذا القدرة العظمى على ما يرومه واليد الطولى فيما يحاوله وقد عاب القولين على الشافعي من لا خلاق له وأتى بخرف من القول زكاة ونمقة والله لا سواه ولا عدله وذلك لنقصان وقصور وحسد كامن في الصدور

ص: 203

وقال في العلماء قولا كبيرا وفاه بألسنة حداد سيصلى سعيرا وأضمر في نفسه من الزابين عن مسألة سيد المرسلين عقيدة لا يغسل السيف عارها ولا يواري الليل غوارها ونحن لا نحفل بكلمة ولا نقول بكلامه ولا نرى أن يشتمل مثل هذا الشرح على مثل هذا الهذيان الذي هو خيال طرق ذا الخيال في منامه ويكتفي بما صنفه أصحابنا قديما وحديثا في نصرة القولين ويخيل العطن على ذهنه والبليد على الوقوف عليها ولكنا نورد أسئلة قد تختلج في الصدور وتعتور بني الزمان فيجد بها الغبي نفثة مصدور فيقول قد علمت صنعة القولين وكيفية وقوعهما فإن قلت التردد في القولين ينبئ عن نقصان النظر عن إدراك الأرجح قلت معاذ الله بل يخبر عن حال ذلك لأن قوة النظر كلما زادت توالت عليها التشكيكات كما عرفت فإن قلت من سبق الشافعي إلى ذلك من المجتهدين وقد كان قبله أبو بكر الصديق وهو أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبيين

قلت الفاروق الذي أعز الله به الإسلام بدعوة النبي عليه السلام حيث نص في الشورى على ستة وحصر الخلافة فيهم تنبيها على أن الاستحقاق منحصر فيهم وأن غيرهم ليس أهلا لذلك ولم يعترض أحد عليه بل اتبعوا رأيه واقتفوا أثره فإن قلت فما فائدة ذكر القولين قلت التنبيه على أن الحق لا يعدوهما وقصر نظر المتمذهب له على التدقيق فيها وعدم الالتفات إلى غيرهما

فإن قلت من جملة أقواله أن يذكر قولين مع الإشارة إلى ترجيح أحدهما وأي فائدة مع التنبيه على الراجح في ذكر المرجوح قلت ليعلم طرق الاجتهاد والاستنباط والتمييز بين الصحيح والفاسد ومخافة أن يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا يتنبه لفاسده فيتخذه مذهبا وقد عد الأصحاب لأبي حنيفة رضي الله عنه أمثال ذلك فلطالما قال القياس كذا لكني تركته استحسانا وليس لأحد أن يعيب عليه ذلك ولا أن يقول ما فائدة ذكرك القياس مع عدم اعتمادك إياه فإن قلت أي معنى في إطلاق القولين في وقت واحد من غير ترجيح قلت هذا هو الذي لم يوجد معه سوى النذر اليسير

وقد قلنا إنه فيه متوقف وأنه دليل على غزارة العلم والمنتهى في الديانة وفيه

ص: 204

من الفوائد التنبيه على المآخذ وفحص جهتها في ذينك القولين ولذلك جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه وكان قصده أن الخلافة لا تعدوهم ولو لم يفاجئه هادم اللذات لميز الأصح عن غيره فإن قلت فلا معنى لقولكم في هذا القسم للشافعي في هذا المسألة قولان إذ ليس له ما على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قول واحد ولا قولان بل هو متوقف غير حاكم بشيء قلت قال إمام الحرمين في التلخيص هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما وقد كان الشافعي رضوان الله عليه حديث السن لم تتسع مهلته كثيرا لآلام لم تطل راحته ولا يشغله ذلك عما هو فيه من حياطة الدين والنظر المتين والانجماع على طريق المتقين

وقد سئل بعضهم ما السبب في قصر عمر الشافعي فقال حتى لا يزالون مختلفين ولو طال عمره لرفع الخلاف ولأمعن القول فيما لا يحصره مختصرا ولا معزل من مناقب هذا الخبر ولكن العالم استطرد ووجد للمقال مجالا

فقال ونختم الفصل بما هو من توابع أبواب الترجيح وأمور المقلدين فنقول إن قصر نظر بعض المصنفين عن فهم مراتب المجتهدين فلا عليه لو اقتدى بقوله صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش1" وقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشا ولا تذموها2" ولم يكن أحد من أصحاب المذاهب معزيا إلى صليبة قريش بالمسلك الواضح إلى الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذلك وأنه المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم عالم قريش يملأ طباق الأرض علما لأنه الذي طبق طباق الأرض وتخلق بالطيب ورد ليلها المسود وجبين نهارها المبيض وصار اسمه في مشارقها ومغاربها وعلا على أنجم السماء طوالعها وغواربها

1 رواه النسائي في السنن الكبري "تحفة الأشراف للمزي 1/102"كما رواه الإمام أحمد في المسند 3/129،4/431 ط الحلبي

2 رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا بلفظ: "قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا ولا تعلموها" كما رواه ابن عدي والطبراني، والبزار بطرق مختلفة، قريبة من هذا المعني أنظر الجامع اصغير 2/86

ص: 205

وقد قام إمام الحرمين مناديا بما لوح به جماعة من الأصحاب من وجوب تقليد الشافعي فقال في كتابه الترجيح بين المذهبين أنه يدعى أنه يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مذهب الشافعي بحيث لا يبغون عنه حولا ولا يريدون به بدلا والذي نقوله نحن إن كتابنا هذا شارح لمختصر أصول لا نرى أن نخرج عنه إلى ما لا يتعلق به من الترجيح بين المذاهب ولكن الذي نفوه به هو أنه يتعين على المقلد النظر بعين التعظيم إلى قدوته والإيماء بطرف التقديم نحو إمامه ونحن نراعي ذلك في حق إمامنا رضوان الله عليه ونقول بجمع الكلام فيما نحاوله أمور ثلاثة أولها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس فللمتأخر الناقد حق التهذيب والتكميل وكل موضوع على الافتتاح فقد يتطرق إلى مبادئه بعد التسبيح ثم يتدرج الناقد حق التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون

فإن قلت فيلزمكم على هذا أن توجبوا الإقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة قلت إن ثبت لأحد بعده رتبة الاجتهاد والتنحل وترتيب ما لم ينظم والإطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها فيلزم ذلك ولكنا لسنا نرى أحدا من الأئمة بعده بلغ هذا المحل كذا أجاب إمام الحرمين وتعالى غيره وقال لم يبلغ أحد بعد الشافعي منصب الاجتهاد المطلق فضلا عن الوصول إلى ما وصل إليه الشافعي وثانيهما أن المذاهب يمتحن بأصولها لأن الفروع تستند إليها وتستقيم بتقومها وتعوج باعوجاجها ولا يخفى على الساري في الظلم رجحان نظر الشافعي في الأصول التي هي أهم ما ينبغي للمجتهد وأنه أول من أبدع ترتيبها ومهد قوانينها وألف فيها رسالته ولم لا يكون ذلك وأعظم ما يستمد منه أصول الفقه اللغة والشافعي كان من صميم العرب العربا ممن تفقأت عنه بيضة بني مضر وأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الاقيسة بالإمارات المنصوبة علامات على الإجماع

ولهذه الأصول مراتب ودرجات فأما الكتاب فهو عربي مبين والشافعي إذا أنصف الناظر عرف أنه المميز عن غيره فيما يحاوله منه لأنه القرشي البليغ ذو

ص: 206

اللغة التي يحتج بها الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومعرفة الراويات وأما الحديث فلا ينكر منصف مقامه في الأخبار وإلقاءه الأحاديث من حفظه ولذلك ربما قال أخبرني الثقة ومن لا يحضرني اسمه الآن أن ذلك من آيات من آيات حفظه وشدة ضبطه وتحريه حتى قال أبو زرعة ما عند الشافعي حديث غلط فيه وقال أبو داود ما أعلم للشافعي حديثا خطأ وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل الليل بالنهار ينزل الأحاديث منازلها ويقبل كلما صح منها ويجعله مذهبه لا يفرق بين كوفي ومدني

ولذلك قال لأحمد أنتم أعلم بالحديث منا فقل لي كوفية وبصرية يعني أنكم يا أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة فقل لي حتى أنظر فإن كان صحيحا عملت به ولا يظن في ظان الاقتصار على أحاديث المدينة والحجاز من حيث أني من أصحاب مالك وأتى بصيغة الجمع في المخاطب والمخاطب بقوله أنتم ومنا ولم يرد الشافعي أن ابن حنبل أعلم منه بالحديث كما ظن بعض الأغبياء حاش الله وإنما أراد ما ذكرناه والملك العظيم أن أتاه رسول من أخيه الملك من بلدة أخرى يقول له أنتم أعلم بأخبار أخي مني يعني لكونكم في بلدته ولا يلزم من ذلك زيادتهم في القرب منه على أخيه ولا مساواته ولو أراد الشافعي ما زعمه بعض الأغبياء جبرا لأحمد وتأدبا معه وتعظيما لجانب تلميذه لجاز ذلك ولا لوم عليه أما فقه الحديث فهو سيد الناس في ذلك

وأما الإجماع فسيلقي من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهو المنهي في ذلك هذا بيان الأصول وأما تنزيلها منازلها فهو سوق الشافعي فإن قدم كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع نهاية التأدب والوقوف عندما ينبغي السوق عنه للناظر في الشريعة فإذا لم يجدها تأسا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليق بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة بأصولها ولم نر التعليق بكل وجه في الاستصواب ولا الاستحسان بما نهواه ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وما لا يعلل فانسحب على الإتباع فيما لا يعقل معناه

ص: 207