الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال "تنبيه قيل لا دليل على عدم عليته فهو علة قلنا لا دليل على عليته فليس بعلة قيل لو كان علة لتأتى القياس المأمور به قلنا هو دور"
هذان طريقان ظن بعض الأصوليين أنهما مقيدان للعلية فعقد المصنف هذه الجملة منبهة على فساد هذا الظن أحدهما أن يقال لم يقم الدليل على أن هذا الوصف غير علة فيكون علة لأنه إذا انتفى الدليل على عدم عليته ثبت كونه علة للزوم انتفاء المدلول بانتفاء الدليل وقد اختار الأستاذ أبو إسحاق هذه الطريقة كما هو محكى في مختصر التقريب والجواب أن يعارض هذا بمثله ويقال لم يقم الدليل على عليته فليس بعلة كما ذكرتم وقد بالغ القاضي في مختصر التقريب في الرد على من استدل بهذا الطريق وهذا الجواب هو حاصل ما ذكره
والثاني أن يقال هذا الوصف على تقدير عليته يتأتى معه العمل بالقياس المأمور به وعلى تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك فوجب أن يكون علة لتمكن الإتيان معه بالمأمور به وهذا إيضاح هذا الطريق على الوجه الذي ساقه المصنف ولو قال إذا كان علة بدل قوله لو كان لأحسن فإن عبارة هذه توهم أن هذا طريق في نفي العلية لا في إثباتها وقد فهم الشيرازي شارح الكتاب هذا ومشى عليه وليس بجيد وأجاب المصنف بأن هذا دور لأن تأتي القياس يتوقف على ثبوت العلة فلو أثبتنا العلة به لتوقف ثبوت العلة ولزم الدور والله أعلم
قال
الطرف الثاني فيما يبطل العلية
وهو ستة:
النقض وهو إبداء الوصف بدون الحكم مثل أن يقول لمن لم يبيت يعري أول صومه عن النية فلا يصح فينتقض بالتطوع.
هذا مبدأ القول في الأمور المبطلة للعلية وهي ستة النقض وعدم التأثير والكسر والقلب والقول بالموجب والفرق الأول النقض وهو عبارة عن إبداء الوصف الذي ادعى المستدل حجة عليته في بعض الصور مع تخلف الحكم عنه فيها وربما يعبر عنه معبرون بتخصيص العلة ومثاله قولنا من لم
يبيت النية تعرى أول صومه عنها فلا يصح لأن الصوم عبارة عن إمساك النهار جميعه مع النية فيجعل العراء عن النية في أول الصوم علة بطلانه فيقول الخصم ما ذكرت منقوض بصوم التطوع فإنه يصح من غير تثبيت وأمثلة هذا الفصل يخرج على حد الحصر فلا نطيل باستقصائها
قال "قيل يقدح وقيل لا مطلقا في المنصوصة وقيل حيث مانع وهو المختار قياسا على التخصيص والجامع جمع الدليلين ولأن الظن باق بخلاف ما لم يكن مانع"
الكلام في النقض من عظائم المشكلات أصولا وجدلا ونحن نتوسط في تهذيبه فلا نسهب ولا نوجز بل نأتي بالمقنع فنقول أعلم أولا أن الصور في النقض تسع لأن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم إما بمانع أو فوات شرط أو دونهما فصارت تسعا من ضرب ثلاثة في ثلاثة فالقائل بأن النقض قادح مطلقا قائل به في التسع ومقابلة مانع في جميع ذلك ولنذكر صورها الأولى القطعية المتخلف الحكم عنها لوجود مانع الثانية القطعية المتخلف الحكم عنها لفوات الشرط الثالثة القطعية المتخلف الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرط وإنما يكون ذلك بعض تعبدي أو إجماع مع عدم ظهور مانع أو شرط الرابعة والخامسة والسادسة الظنية كذلك السابعة والثامنة والتاسعة المستنبطة كذلك وعلى الفقيه طلب أمثلتها وسنذكر في أثناء الفصل من أمثلتها الكثير إن شاء الله تعالى
وقد اختلف الناس في النقد هل يكون قادحا في العلية
أحدها أنه يقدح مطلقا وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام وإليه ذهب أكثر أصحابنا
والثاني لا يقدح مطلقا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد
والثالث لا يقدح في المنصوصة مطلقا في صورها الست ويقدح المستنبطة مطلقا في صورها الثلاث
والربع واختاره المصنف لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا سواء كانت
العلة منصوصة أم مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح مطلقا وإلى المذهبين الأخيرين أشار بقوله وقيل في المنصوصة وقيل حيث مانع وتقديره وقيل لا يقدح في المنصوصة وقيل لا يقدح حيث مانع ولم يصرح بالنفي لأنه معطوف على منفي وحكى القاضي أبو بكر في التلخيص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب والإرشاد مذهبا خامسا عن بعض المعتزلة أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوهما مما لا يكون خطرا قال وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى وحكى ابن الحاجب مذهبا سادسا أنه لا يقدح في المستنبطة ويقدح في المنصوصة عكس الثالث واختار مذهبا سابعا وهو أنه يجوز في المستنبطة في صورتين فلا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما وأما المنصوصة فإذا كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز ولا يجوز في القطعي في صوره الثلاث أي لا يمكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أن يكون قطعيا لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا ولا ظنيا لأن الظني لا يعارض القطعي وهذا الذي اختاره ابن الحاجب نحو ما اختاره الآمدي والمنع في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط ظاهر
وأما إذا كان مانع أو فات شرط فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل لأنه حينئذ يكون ذلك الدليل مخصصا للنص القطعي اللهم إلا أن تقدر دلالة النص على جميع الأفراد قطعية فيصح ما قاله لأنه حينئذ لا يمكن التخلف وحاصله أنه في النص القطعي لا يمكن ورود النقض وفي الظني يمكن وقال إنه يقدر مانع ولا حاجة إلى ذلك فقد يكون تعبديا بالدليل الدال على التخصيص من غير ظهور معني فيمكن النقض ولا يكون قادحا وفي المستنبطة يجوز حيث مانع أو فقدان شرط ولا يجوز فيما سواهما ففيما سواهما يكون قادحا ولا يكون النقض قادحا في شيء من المواضع إلا في هذا المكان وهو إذا استنبطت علة وتخلف الحكم عنها إلا لمانع أو لفوات شرط فيستدل حينئذ بالتخلف على فسادها فينبغي أن يختصر الكلام
ويقال النقض يقدح في العلية إذا كانت مستنبطة ولم يكن مانع ولا فوات شرط ولا يقدح فيما سواه
وإما إمام الحرمين فذهب إلى رأي ثامن فقال في المستنبطة أن انقدح من جهة المعنى فرق بين ما ورد نقضا وبين ما نصبه المستنبطة علة بطلت علته لأنه يتبين بهذا أنه ذكر في الابتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة وإن لم ينقدح فرق فإن لم يكن الحكم فيها مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت علته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده وإن طرد مسألة اجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهذه موضع الآباء والامناء فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقصة علة التعلل معللا بعلة معنوية جارية فوردها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضتها بفقه وإن كانت المسألة قاطعة للطرد ولا فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقيهة فهذا موضع التوقف هذا رأيه في المستنبطة وحاصله أن النقض قادح فيما إذا انقدح فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض معنى يعارض العلة التي ذكرها المستدل ويمنعها من الجريان وإن لم يكن كذلك فالتوقف
وأما المنصوصة فإن كان بنص ظاهر فيظهر أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك من مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عمم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرق العلة فيها فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ونص الشارع لا يصادم وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمتنع ذلك ولا معترض عليه تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجز في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يأول ولا على التخصيص بمواقع مخصوصة فهذا عام ولا يمتنع فيه تخصيص العلة
وأما حجة الإسلام الغزالي فذهب إلى مقالة تاسعة فقال تخلف الحكم عن
العلة بفرض على ثلاثة أوجه الأول أن يفرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقصا وهو قسمان
أحدهما ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استثناء القياس فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى ويكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة مثال الأول إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإن علة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء والشرع لما أوجب ذلك لم ينقص هذه العلة إذ عليها تعويلنا في الضمانات لكن استثنى هذه الصور فهذا الاستثناء لا يبين المجتهد فساد هذه العلة ولا ينبغي أن يكلف الناظر الاحتراز عنه حتى نقول في علته تماثل الأجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل لأن هذا تكليف قبيح
ومثال الثاني مسألة العرايا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنف
وثانيهما ما لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على المنصوصة أو المظنونة فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة ويتبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة مثاله قولنا خارج فينقض الطهر أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بان إنه لم يتوضأ من الحجامة فيعلم أن العلة ليس مطلق كونه خارجا بل خارج عن المخرج المعتاد فكان ما ذكر بعض العلة فإن لم يكن كذلك فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل أو يراد به التعليل لكن لا لذلك الحكم المذكور قال الله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ1} ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ2} وليس كل من شاقق الله ورسوله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة ولا يمكن أن يقول إنه علة في حقهم خاصة لأن هذا يعد تهافتا في الكلام فإذن الحكم المعلول بذلك ليس هو التخريب المذكور بل هو لازمه أو جزؤه الأعم وهو كونه عذابا ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه معذب أما بخراب البيت أو غيره
1 سورة الحشر آية "2"
2 سورة الحشر آية "3"
وهذا وإن كان خلاف الظاهر وتأويلا للنص لكي يتعين المصير إليه رعاية لعدم انتقاض الكلام وإن ورد على العلة المظنونة وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإحالة إن كانت العلة محيلة أو من طريق الشبه إن كان تشبيها فهذا يبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقض أما إذا كانت العلة محيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن كون النقض دليلا على فساد العلة وكونه معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبيهة بفصلها عن غير مجراها فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمناظر لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقده في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصص هذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد وغلب على ظنه
ومثاله قولنا إن صوم رمضان يفتقر إلى تبييت النية لأن النية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة يسبب التطوع ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل فإن الشرع قد يسامح في النقل بما لا يسامح به في الفرض فالمحيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة موقعها ويكون ذلك وصفا شبهيا اعتبر في استعمال المحيل وتمييز مجراه عن موقفه ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي فأكثر العلل المحيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة وهذا التردد وإنما ينقدح في معنى مؤثر لا يحتاج إلى شهادة الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثرة بالاتفاق من قولنا إن كل الصوم واجب وأن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية فإن كانت العلة مناسبة بحيث يفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد لصحتها ثبوت الحكم في موضع واحد على وفقها فتنقض هذه الشهادة
بتخلف الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع إليه فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع عنه
وقول القائل أني اتبعته إلا في أعراض الشرع بالنص ليس بأولى من قول خصمه أعرض عنه إلا في اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم وعلى الجملة يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون لتخصيصها فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإن كانت مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحكم على وفقها في موضع فينقطع هذا الظن بأعراض الشرع عن إثباتها في موضع وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة التبييت كان ذلك في محل الاجتهاد
الوجه الثاني لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضته علة أخرى وافقة كما سيأتي تمثيله في كلام المصنف في أن علة رق الولد ملك الأم وتخلف في ولد المغرور فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم هنا كأنه حاصل تقديرا
الوجه الثالث أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجد في حق النباش فقيل تبطل بسرقة الصبي وسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز أو نقول والتبع علة الملك وقد جرى فلبثت الملك في زمن الخيار فيقال باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت المجتهد إليه لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس البحث عن المحل والشرط فيه اختلاف بين الجدليين والخطب فيه يسير والجدل شريعة وضعها أهلها فإليهم وضعها كيف شاءوا أو تكليف الاحتراز الجميع لنشر الكلام وذلك بأن يقول بيع صدر من أهله وصادف محله وجمع شرطه
فيفيد الملك أو سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه هذا إتمام كلام الغزالي رضي الله عنه
وهو عندنا كلام جيد مرضي فلذلك احتملنا طوله وأوردناه وفيما ذكرناه من تفاصيل المذاهب شفاء للعليل فلنلتفت إلى كلام صاحب الكتاب وقد علمت اختياره أن التخلف إن كان لمانع لا يقدح والاقداح سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن قلت كيف يتصور تخلف الحكم لا لوجود مانع أو لفوات شرط في محل فيه وصف نص الشارع قطعا أو ظاهرا على عليته أو استنبط ذلك استنباطا صحيحا
قلت هو لعمر الله بعيد الوجود والمجوز لذلك إنما مستنده جواز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة والتخصيص لا يكون بغير مخصص ذلك المخصص إن كان حيث يوجد مانع أو يفوت شرط لم يكن صورة المسألة وإن كان بدونها أمكن وهو محتمل على بعد بأن يحصل نص على عدم الحكم في محل الوصف فيه موجود وليس فيه معنى يدعى أنه مانع أو عدمه شرط وهيهات أن يوجد ذلك
وإذا عرفت هذا فقد استدل المصنف على ما اختاره بوجهين
أحدهما قياس النقض على التخصيص حيث لا يقدح في حجية العام في الباقي على ما سبق في مكانه والجامع الجمع بين الدليلين المتعارضين فترتب الحكم على العلة فيما عدا صورة وجود المانع إذ الوصف بالنسبة إلى موارده كالعام بالنسبة إلى أفراده والمانع المعارض للوصف كالمخصص المعارض للعام وهذا الوجه يختص بإحدى شقي المدعي وهو أن التخلف إذا كان لمانع لا يقدح
والثاني أن التخلف إذا كان لمانع فظن عليه الوصف باق والعمل بالظن واجب بخلاف ما إذا لم يكن التخلف لمانع فإن ظن العلية ينتفي وذلك لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لمانع يتعين أن يكون لعدم المقتضى فيكون التخلف لا لمانع قادحا في العلية
قال "رحمه الله قيل العلة ما يستلزم الحكم وقبل انتفاء المانع لم يستلزم قلنا بل ما يغلب على ظنه وإن لم يخطر المانع وجودا وعدما"
هذه حجة من حجج القائلين بأن النقض يقدح مطلقا وتقريرها أن العلة ما تستلزم الحكم وقبل أن ينتفي المانع أي مع وجوده لا يستلزم الحكم فلا تكون علة وحينئذ يكون تخلف الحكم مع وجود المانع قادحا في العلية وإذا كان كذلك كان التخلف لا لمانع قادحا بطريق أولى والجواب أنا لا نسلم كون العلة ما تستلزم الحكم بل هي ما يغلب على الظن وجود الحكم بمجرد النظر إليه وإن لم يخطر وجود المانع أو عدمه بالبال وهذا الجواب يستدعي تحديد العهد بالكلام في العلة وقد بنى المصنف كلامه على المختار من العلة المعرف
ولقائل أن يقول إن قلنا العلة مؤثرة أو باعثة فلا ريب في أنها تستلزم وإن قلنا معرفة نصبت أمارة فتعريفها للحكم يوجب ظن حصوله فصار مستلزما لحصول الظن والعمل بالظن واجب فهي مستلزمة على الأقوال جميعا وإن اختلفت جهة الاستلزام وحكمها
وقال أبو الحسين في المعتمد إن أقوى ما يحتج به هؤلاء أن يقال تخصيص العلة مما يمنع كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن كونها جهة المصلحة أو لا يظن ذلك لكن ذلك باطل لأن العلة فائدتها كونها توجب العلم أو الظن بثبوت الحكم في الفرع والأفقي الأصل لا حاجة إليها لثبوت الحكم فيه بالنص وإذا لم يحصل هذا بطل كونه علة وبيان أنه يمنع كونها أمارة على الحكم أنا إذا علمنا أن علة حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب هي كونه موزونا ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مثلا مع أنه موزون فلا يخلو إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى يقتضي إباحته أو بنص فإن علمنا إباحته بعلة أخرى بقياس بها الرصاص على أصل ثبت فيه ذلك الحكم لكونه أبيض مثلا فأنا إذا علمنا في شيء أنه موزون وشككنا في كونه أبيض مثلا لم يعلم قبح بيعه متفاضلا ما لم يعلم أنه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه موزونا فظهر أنه لا يعلم بعد التخصيص تحريم بيع شيء متفاضلا لكونه
موزونا فقط فبطل أن يكون كونه موزونا وحده علة بل كونه موزونا مع كونه غير أبيض وإن علمنا إباحته بالنص فالكلام فيه كما في القسم الأول
وأجيب عن هذا الوجه بأنا نسلم أنه مهما انتفى الحكم عن العلة في بعض الصور لمعارض فما لم يعلم أو يظن انتفاء ذلك المعارض في غيره من الصور لا يمكننا إثبات ذلك الحكم فيه لكن لم قلتم أنه يلزم منه أن يكون إثبات ذلك الحكم فيه داخلا في ذات العلة بل جاز أن يكون شرطا
واحتج القائلون بأن النقض لا يقدح مطلقا بأوجه منها ما روى عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس وعن ابن عباس رضي الله عنه مثله واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعا وأجيب عنه بوجهين
أحدهما أنه لا دلالة لقول ابن مسعود وابن عباس على أن القياس الذي ثبت الحكم على خلافه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدا
والثاني سلمنا أن حجة لكن يمكن حمل ذلك على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة واعترض صفي الدين الهندي على الأول بعد أن ذكر أنه إشكال قوي بأن إطلاق القياس عليه يشعر إشعارا ظاهرا بكونه حجة وتسميته ذلك اعتبارا بما كان قبل ذلك الحكم المعدول به مجازا على خلاف الأصل والقياس الذي لا يعمل به من المنسوخ والفاسد لا نسلم أنه يسمى قياسا إذ ذاك على الإطلاق في الفرق وإن سمي به مفيدا ومنها أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع فوجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة إذ ليس من شرط الإمارة أن يصحبها الحكم ولا يتخلف عنها أصلا وإلا لكان دليلا قاطعا لأمارة ولهذا أن جميع الإمارات الشرعية موجودة قبل ورود الشرع وإن لم تكن الأحكام ملازمة لها والغيم الرطب أمارة على وجود المطر وأن تخلف عنه المطر آونة
وخبر الواحد العدل علامة على وجود وإن تخلف عنه وجود القاطع
وجوابه أنا لا نسلم أن تخلف الحكم عن الإمارة لا يقدح في كونها أمارة قوله لو صحبها الحكم في كل الصور لم تكن أمارة بل قاطعا قلنا ممنوع وهذا لأن القاطع هو الذي لا يجوز أن ينفك الحكم عنه ولو لمانع لا أنه الذي لا ينفك الحكم عنه فإن الدليل الظني قد لا ينفك الحكم عنه وإن كان يجوز انفكاكه لمانع وما ذكره من الأمثلة فنحن نمنع كونه لا يقدح في غلبة الظن في كونه إمارة وإنما لا يقدح ذلك إذا غلبت على ظنه حصول ما يلازم انتفاء الحكم في صور التخلف فإما إذا لم يحصل ذلك فلا نسلم أنه لا يقدح ذلك فيه ثم الذي يؤيد ما ذكرناه من الاحتمال أن الدليل الدال على كون الإمارة للحكم الفلاني أن اعتبر في كونها إمارة صورا مخصوصة وصفة مخصوصة وهيئة مخصوصة فلا يكون تخلف الحكم في غير تلك الصور وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الإمارة بل عن بعضها لأن تلك الخصوصيات معتبرة في ماهية الإمارة حينئذ وإن لم تعتبر ذلك بل دل على كونها إمارة في سائر الصور كيف حصلت فيمتنع التخلف وإلا يلزم الترك لمقتضى دليل الإمارة وهو باطل
واحتج القائلون بأن النقض يقدح المستنبطة دون المنصوصة بأن دليل العلة المستنبطة اقتران الحكم بها في بعض الصور فكما أن اقتران الحكم بالوصف في بعض الصور يدل على العلية فقدم الاقتران به في بعض الصور يدل على عدم العلية فتعارضا وتساقطا بخلاف العلة المنصوصة فإن دليل عليتها النص فكما أن تخلف حكم النص عنه في بعض الصور لمعارض لا يوجب إبطال العمل به فيما عداها فكذلك العلة المنصوصة التي في معناها
وأجيب عنه بأنه ليس دليل علية المستنبطة مجرد الاقتران بل شهادة المناسبة وغيرها من الطرف المذكورة والتخلف لمانع أو فوات شرط لا يدل على عدم العلية لما سبق فلا يعارض دليل العلية كما في المنصوصة
قال "والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا لأن الإجماع أول من النقض"
ما تقدم في كلام المصنف هو فيما إذا لم تكن صورة النقض واردة على سبيل الاستثناء أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء
أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء فإنه لا يقدح على المختار خلافا لبعض المانعين من جواز تخصيص العلة سواء كانت العلة معلومة كمسألة الصاع في المصراة أو مظنونة كمسألة العرايا وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر والعنب في الكرم بالزبيب فإنها واردة نقضا على تحريم الربا لأن العلة في تحريمه إما الطعم أو الكيل أو الفوت أو المال وكل منها موجود في العرايا وإنما لا يقدح ذلك في العلة لأنه إنما يعلم كونه ورد على سبيل الاستثناء إذا كان النقص لازما على جميع المذاهب كما ذكرناه في مسألة العرايا
وحينئذ يكون معارضا للإجماع فإنه منعقد على أن علة الربا أحد الأمور الأربعة والإجماع أقوى في الدلالة منه فيقدم عليه ويعمل بمقتضاه واعلم أن الإمام مثل الوارد على سبيل الاستثناء في المظنونة بمسألة العرايا وفي المعلومة بضرب الدية على العاقلة فإنها لا تنقض علمنا بأن من لم ينقدح على الجنابة لم يؤاخذ بضمانها
وقد سبق الإمام بهذا المثال إمام الحرمين وغيره واعترض على التمثيل به بأنه عكس النقص لأنه أبدا الحكم بدون القلة وذلك أن الجنابة سبب لوجوب الضمان وهنا وجب بدون الجناية وهو اعتراض غير منقدح لأن تقرير التمثيل ذلك أن يقال الجناية سبب الضمان
وقد تخلف الحكم في القاتل عمدا أو عمد خطأ مع وجود العلة وإن قرر على الوجه المذكور كان بمعنى أن يقول عدم الجناية سبب لعدم الضمان
وقد وجب هذا السبب في العاقلة مع تخلف عدم الضمان والمصنف اقتصر على التمثيل بمسألة العرايا لأنها واردة نقضا على علة مظنونة فإذا لم يقدح فيها لم يقدح في المعلومة بطريق الأولى وفي التمثيل بمسألة العرايا دقيقة أخرى وهي الإشارة إلى أن ما ورد مستثنى جاز أن يكون معقول المعنى كمسألة العرايا فإنها استثنيت رخصة وتسهيلا على المعسرين ولذلك يختص بها الفقراء على أحد قولين وهذا ما عليه الجمهور وأعني أن المستثنى يجوز أن يعقل له معنى وأن لا يعقل
وادعى إمام الحرمين أن الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى وأن ما يعقل معناه لا يستثنى ثم أورد تحمل العاقلة ومسألة المصراة فقال إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة بمختص بسببها ومقتضاها طردناها غير مكثرين بتحمل العاقلة على قطع وتحملهم لا يعترض على ما يمهد من المعنى ولو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى تصح على السير مأخوذا من المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من العقل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة إنما تجري في الشريعة وإذا كان المعان معسرا وعلى هذا انتظمت أبواب النفقات والكفارات والقاتل خطأ يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس بمثل هذه التخيلات اعتبار
وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تنشأ به أجزاؤها فيلزمنا عليه من إيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتمل بمثل هذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن المحتلب في أيام اختيار الفرارة والبكارة يقع مجهول القدر فرأي الشارع فيما يقع ويكثر إثبات مقدر من جنس درا للنزاع
فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم به
فإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما يثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت أيضا كانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك الفرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدي إلى تعلية
وإنما المطلوب فيما فرضناه الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن ما ذكروه من دوام النزاع بعد انقطاعه بذكر مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الثمن انتهى وإمام الحرمين أجل من أن يصادم كلامه بكلمات أمثالنا ولكنا نقول على جهة الاستشكال دون المناظرة مسألة العاقلة معقولة المعنى واتفاق الجاهلية على ذلك قبل ورود الشرع يرشد إلى ذلك لأن التعبدي لا تهتدي إليه العقول وإنما يتلقى من الشرع"
فإن قلت وما ذلك المعنى قلت المعاونة على حمل الجناية قولكم ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال
قلنا أولا هذا نقض والكلام في أن النقض يقدح
وثانيا أن الأموال غالبا لا تتلف ما سيق مؤثة وإنما يكون ذلك في أموره يسيرة وأما إتلاف النفوس فالأمر فيها مشق وإذا ثبت الحمل في موضع يعظم العزم فيه لم يلزم إثباته في موضع لا يعظم فيه ولا يشق وأيضا فوقوع إتلاف النفوس لا يكثر بخلاف الأموال فلم يلزم من تحمل ما يقع نادرا تحمل ما يغلب وقوعه أيضا كانت العرب تتناضل أبطالها وتتجاول فرسانها وبهم إلى ذلك حاجة ويقع القتل الخطأ عند الطراد فرجعت الفائدة إلى العاقلة فناسب توزيع الغرم الذي لا يشق عليهم قولكم وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من قتل الخطأ وشبه العمد قلنا لعل ذلك هو السبب في عدم التحمل فيه كما بيناه فإن الشيء إذا كان وقوعه نادرا تناسب فيه المعاونة قوله الإعانة إنما تكون إذا كان المعان معسرا قلنا الإعانة من حيث هي مطلوبة محبوبة والصدقة على الأغنياء جائزة ولكن الإعانة حالة الإعسار آكدور بما شبه أعانته الأقارب بتحمل الدية عنهم بإعانة الأجانب الذين غرموا لإصلاح ذات البين
وأما مسألة المصراة فمعقولة المعنى أيضا من جهة ما ذكره إمام الحرمين وقوله يلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره إلى قوله كيف يهتدي إلى تعيين جنس التمر قلنا قد رجع الشرع إلى البدل من غير مثل ولا يقوم في أماكن منها الحر يضمن بمائة من الإبل ومنها الجنين يضمن بالقوة ويستوي في الذكر والأنثى
ومنها المقدرات الشرعية في الشجاج كالموضحة مع اختلافها في الصغر والكبر
ومنها جزاء الصيد فليس من شرط الضمان أن يكون بالمثل أو القيمة من النقدين ولا من شرط المثل أن يضمن بالمثل والعدول في الأمور التي لا تنضبط إلى شيء مقدر لا يختلف من محاسن الشريعة قطعا للتشاجر والتخاصم
والتمر كان أغلب أقواتهم كما أن الإبل غالب أموالهم وقد انتهى ما تخيلناه وأوردناه ولكنا نطرق سبيلا للبحث يسلكه الفطن يغر ناظرين إلى الجزم بصحته
وقد تعرض ابن الابياري شارح البرهان لما أوردناه في مسألة العاقلة والذي نقول أخيرا أن الظاهر أن الحق في جانب إمام الحرمين ولو عقل في العاقلة معنى المعاونة لعدى إلى الجيران ولكان أبعاض الجاني من آبائه وبنيه أولى من بقية العصيات في تحملها مع كونهم لا يتحملونها
وأما تشبيه تحمل الأقارب الدية بإعانة الأجانب الغارمين فأين أحدهما من الآخر والغارمون قد ثبت في ذمتهم وناسب قضاء دينهم في ذلك أما القاتل خطأ أو عمد خطأ فلم يشغل الشارع ذمته بشيء فلا ريب في أن هذا حكم تعبدي نتلقاه على الرأس والعين وكذلك القول في مسألة المصراة
ثم ألحق إمام الحرمين بتحمل العاقلة الكتابة الفاسدة حيث نزلناها منزلة الكتابة الصحيحة
وإذا قلنا في البيع الفاسد الملك لا ينتقل بدون سبب شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع والموقع المطلوب في الشريعة فلا وقع له في مقصود العقد الصحيح لم يكن للخصم نقض ذلك بالكتابة الفاسدة لكونها مستثناة شاذة عن القاعدة كتحمل العاقلة ورأي ذو البصائر أن لا يحكموا بالشاذ عن الكل ولكن يتركون الشاذ على شذوذه يعتقدونه كالخارج على المنهاج ولقائل أن يقول
إذا كانت الكتابة مستثناة والمستثنى عندك تعبد خارج عن القياس فلم قست الفاسد منها على الصحيح ولا محيص عن هذا إلا أن يحصل نص أو ينعقد إجماع على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير مستثناة بذلك وإلا فللمنفي أن يقول وقع الاتفاق على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بصحيحه
فإن قلت هذا مستثنى قلت أين دليله الذي خرج به ثم نحرر عبارة فنقول
ما اتسعت طرقه كان الفاسد أحد طرقه الدليل عليه العتق وبيان هذا في الفرع أن الملك يحصل بأسباب البيع والهبة والإرث والاغتنام والاحتطاب والاحتشاش والإلتقاط والمعدن وفي الأصل العتق يحل بأسباب مباشرة وتسببا وفي الثمن بالإستيلاد والتدبير والكتابة فلما استويا في اتساع الطرق جاز أن يكون الفاسد أحد الطرق وتأثير هذا الكلام أن الطرق إذا اتسعت في تحصيله فقد دخله نوع من المسامحة والمساهلة فجاز أن يكون الفاسد من طرقه ولا يقال الكتابة حصل العتق فيها بالتعليق دون المعارضة لأنا نقول لو كان كذلك وجب اشتراط التنصيص على التعليق ولا يجب التنصيص عليه
وتقول فإن أديت إلى فأنت حر وأيضا فإنه مستحق فسخ هذه الكتابة ولو كان التعليق هو الذي تحصل به العتق لما قبل الفسخ كسائر التعليق وأيضا فإكسابه وأولاده تتبعه في العتق ولو عتق بالتعليق لم يكن ذلك وأيضا فلو كاتبه على خمر وأداه وجب عليه قيمة نفسه ولو عتق بالتعليق لما وجب عليه قيمة نفسه فما هذا الرجوع بالقيمة إلا حكم المعاوضة
وقد تناهينا في الاحتجاج للخصم ولسنا ممن يغادر هذه الكلمات سالمة عن الإبطال وإن طال بها الفصل وخرج عن المقصود من الشرح
فنقول قد أجاب أصحابنا عن قياسهم البيع الفاسد على الكتابة الفاسدة بطريق ونحن نزيف منها ما لا نرتضيه حتى لا نتجاوز حد الإنصاف
أحدهما قولهم البدل في الكتابة غير مقصود لتمكن السيد من أخذ اكتساب العبد دون الكتابة ولما كان كذلك لم ينظر إلى فساده وصحته وهذا غير مرضي فإن العبد قد يكون كسوبا ويكاتبه السيد طمعا فيما لعله يصل إليه من سهم الرقاب وأيضا كان ينبغي أن لا يفسد العقد كما إذا تزوجها على صداق فاسد فإنه لما كان البدل غير مقصود في النكاح لم يؤثر في فساده فتأثيره في الكتابة يدل على أنه مقصود
وثانيها قولهم العتق في الكتابة مضاف إلى التعليق فإن الكتابة الصحيحة اشتملت على تعليق ومعاوضة ولا بد فيها من ذكر التعليق فنقول كاتبتك على ألف فإن أديت فأنت حر وفي الفاسدة لا بد من التعليق والتعليق لا فساد فيه وعلى هذا تمتنع المسائل التي لزمت من أحكام المعاوضات كقبول الفسخ ولزوم القيمة له واستتباع الاكساب والأولاد
وهذا الجواب أمثل من الأول إلا أن لقائل أن يقول العتق مضاف إلى المعاوضة لا إلى التعليق قولكم يشترط أن ينص على التعليق قلنا لا نسلم بل لو نواه بقوله كاتبتك على كذا صحت الكتابة أيضا وهذا واضح وأبلغ منه قول مخرج من التدبير أن لفظ الكتابة صريح مغن عن التصريح بالتعليق ونيته ونظيره قول إلى اسحاق إن كان الرجل فقيها صحت الكتابة والأفد به من التعليق أو نيته ثم كيف يشترط التنصيص على التعليق والعتق عند الأداء يحصل لا محالة بعقد المعاوضة وتسليم العوض يقتضي تسليم ما يقابله فلا يحتاج أن يشترطه في العقد ويصير بمثابة البيع لما اقتضى بنفسه الملك لم يحتج إلى أن يقول بعتك على أن تتسلم أو تتملك
وأما المسائل فلا منع فيها وإنما منع أصحابنا استتباع الكسب والولد فحسب وأما الفسخ فغير ممتنع وقيمة نفسه واجبة وذلك من أحكام العوض دون التعليق
وثالثهما قول بعضهم الكتابة في الأصل خارجة عن القياس فألحقنا فاسدها بصحيحها لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه بخلاف البيع وهذا كلام رديء فإن إلحاق فاسدها بصحيحها عين القياس ثم إنها وإن عدل بها عن القياس إلا أنه بعد ورود الشرع بها وصفت بالصحة فينبغي وصف فاسدها بالفساد وإذا ثبت فسادها والفاسد عند الشافعي مرادف للباطل وجب إلغاؤها وأن يكون لها حكم ألا ترى أن السلم والإجارة ثبتا على خلاف القياس لورودهما على معدوم ثم لما ثبت الصحيح منهما ونعت بالصحة يؤدي على الفاسد بالفساد حتى لا يثبت لفاسد كل منهما ما لصحيحه
والحق عندنا في الجواب رأي رابع فنقول الكتابة عقد إرفاق لا يقصد بها غير العتق وأن يخلص العبد من الرق فألفينا مضى الفساد ولم ننظر إليه
وعمدنا إلى العتق الذي هو المقصود ورأينا الشارع متشوف إلى تحصيله ما أمكن ولهذا يكمل بعضه بعضا ويجعل بعض الملك كجميعه وبعض اللفظ كجميعه ويعتق القريب على قريبه وننزله في أبواب الكفارات في أول الدرجات ونضرب صفحا عن إيجاب الصوم على ذي الميسرة العظمى وإن كان الصوم أشق عليه وما ذلك إلا تشوف إلى تحصيل العتق كيف قدر الأمر ولهذا إذا أدى الأمر إلى العتق بعد هذا لا ينقض ولا يرفض وفي البيع الفاسد إذا تأدى الأمر إلى الملك بالقبض يجب نقضه عندهم ورفضه واسترجاعه كل ذلك تغليبا لتحصيل العتق
فإن قلت فما دعاك إلى آنه تتبعه ولده قلت في ثبوت الكتابة لولد المكاتبة من زنا أو نكاح أجنبي قولان فإن قلنا لا يثبت اندفع السؤال وإن قلنا بالصحيح وهو أنه يثبت فنقول نحن إذا الفينا معنى المعاوضة الفاسدة ولم ننظر إليها طلبا لتحصيل العتق صححنا ما هو تابع طلبا لتكثير العتق ولهذا كان هذا القول الصحيح وهو الأحب للشافعي رضي الله عنه وإنما أحبه للزومه تكثير العتق وقطع به إسحاق رحمه الله وقال إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطا
فرعان أحدهما في وجوب الاحتراز عن النقض مذاهب ثالثها يجب في المستثنى دون غيره
الثاني ذهب بعض الفقهاء إلى أن مسألة النقض من القطعيات قال القاضي وليس الأمر كذلك عندي بل هي من المجتهدات وكل مأمور بما غلب على ظنه
قال "وجوابه منع العلة لعدم قيد"
هذه الجملة معقودة لبيان النقض وجوابه قال صاحب الكتاب وهو يتأتى بأحد أمور ثلاثة الأول منع وجود العلة في محل النقض وفيه بحثان
أحدهما أن ذلك لا يكون معاندة وصدا بالمكابرة بل يكون بناء على وجود فيه مناسب أو مؤثر في العلة وهو غير حاصل في صفة النقض ولم يتعرض
المصنف للكلام في تقسيم القيد فنقول لا يخلو ذلك القيد أما أن يكون جليا أو خفيا الأول الجلي وله أمثلة منها أن في نصرة القول الصحيح هذا الحلي مال معد لاستعمال مباح فلا يجب فيه زكاة كثياب البذلة وعبيد الخدمة فإن نقض بالمعد لاستعمال محرم أو مكروه فدفعه واضح لأنه غير معد لاستعمال مباح
ومنها قولنا طهارة عن حديث فيشترط فيها النية كالتيمم فإن نقض بالطهارة عن النجاسة قلنا ليس الحدث من النجاسة
ومنها قولنا من لم ينو في رمضان ليلا يعرا أول صومه عن النية فلا يصح فإن نقض بالتطوع قلنا العلة عرا أول الصوم الواجب لا مطلق الصوم
ومنها قولنا في المستولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا يجب فيه الزكاة بحال وما يجب فيه فلا يجب كما إذا كانت أمهات ظباء فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلولة يجب فيها الزكاة في بعض الأحوال
ومنها أن نقول في نصرة المذهب الصحيح التباس أخذ لنصاب تام خفيفة من حرز مثله عدوانا فيكون سارقا يجب قطعه فإن نقض بما إذا سرق الكفن في قبر في مغارة حيث لا يجب القطع على أصح الوجهين قلنا ليس ذلك في حرز مثله والثاني الخفي فإما أن يكون معناه واحدا أو متعددا إما بطريق التواطئ أو المشكك أو الإشتراك فهذه أقسام أربعة أن يكون معناه واحدا
وذكر من أمثلته قولنا السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه الأجل كالبيع فإن نقض بالكتابة قلنا ليست عقد معاوضة إذ هي بيع مال الإنسان بمال نفسه وذلك لا يجوز بل هي عقد إرفاق ولذلك لا يحيل مقصودها لفساد العوض
وفي هذا المثال نظر والحق أن الكتابة معاوضة تضمنت تعليق عتق وقيل تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة معدولة عن القياس بل الجواب عن هذا النقض أن نقول الكتابة وردت مستثناه فلا ترد نقضا لم تقدم
ومنها قولنا في قصر الصلاة رخصة شرعت للتخفيف فلا يتحتم الأخذ بها
كالإفطار في الصوم فإن نقض بأكل الميتة حال من الإضطرار حيث يجب على أصح الوجهين قلنا حينئذ أنه شرع للتخفيف بل للضرورة وقيام البينة
وثانيها أن يتعدد بطريق التواطؤ
ومن أمثلته قولنا الصوم عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن نقض بالحج لأنه يتكرر على الأشخاص قلنا المراد من التكرار التكرار بحسب الأزمان والأشخاص أو بحسب الأزمان وما ذكرتم من النقض ليس كذلك بل هو متكرر بحسب الأشخاص فقط ومنها قولنا يحج عن الميت المستطيع وإن لم يوص لأنه حق لازم عليه فيقضي عنه سواء أوصى به أو لم يوص كالدين فإن نقض بالصلاة والصوم قلنا بعد تسليم الحكم وعدم الفرق الإجمالي الحق اللازم مقول على الحق المالي وعلى غيره بالتواطئ والأول هو المقصود هنا دون الثاني الذي هو المراد من النقض
وثالثها أن يتعدد معناه بطريق التشكيك كقولنا في المتولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه وما فيه زكاة فلا تجب فيها الزكاة قياسا على ما إذا كانت الأمهات ظباء فإن الخصم وافق في هذه الحالة فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلوفة من البقر والغنم قلنا ما لا يجب فيه الزكاة مقول بالتشكيك على ما يجب فيه بحال كالظباء وعلى ما يجب له من حيث الجملة كالمعلوفة فإنه يجب فيها الزكاة إذا صارت سائمة وكذا إذا علفت قدرا تعيش الماشية بدونه كاليومين مثلا فإنها معلوفة ولا زكاة فيها والحالة هذه على أصح الأوجه وكذا لم يقصد العلف على أحد الوجهين وقد تقدم ذكره هذه المسألة مثالا للقيد الجلي ولكن على غير هذا الوجه فإنها ثم مقيدة بقولنا لا يجب فيها الزكاة بحال
وقد قال بعض الأصوليين أن النقض يندفع أيضا بتفسير اللفظ وذكر هذا المثال وقال إذا صارت من سائمة وجبت زكاتها ويكون اللفظ غير متناول لها عرفا أو شرعا وذكر إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هذا المثال ثم قال وهذا الضرب مقبول ولا نظن أن النقض يندفع بالتفسير ولكنه يندفع بقضية اللفظ لاقتضاء عموم اللفظ النفس والتفسير إيضاح له وكل تفسير لا ينبني عليه قضية اللفظ في إطلاقه فلا معول عليه في دفع النقض مثل أن يقول القائل مطعوم فلا يباع بعضه ببعض متفاضلا فإذا
نقض عليه اعتلاله بالبر مع الشعير فلا يجديه في دفع النقض أن يقول اسم المطعوم ينطلق على ما يتحد جنسه وعلى ما يختلف جنسه فإذا خصصه وفسره بجهة من جهات احتماله وهي ما إذا اتحد الجنس فلا يقبل ذلك منه إذ ظاهر لفظه لا ينبني على هذا التفسير وأطال القاضي في هذا الفصل وما ذكره حق متقبل
وحاصله أن التفسير إذا كان لا ينبئ عنه اللفظ لم يقبل وإلا قبل ويكون حينئذ راجعا إلى هذه الأقسام التي نحن في ذكرها
ورابعها أن يتعدد بطريق الإاشتراك كقولنا جمع الطلاق في القرء الواحد فلا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن نقض بما لو طلقها ثلاثا في الحيض فإنه جمع الطلاق في الطهر الواحد مع أن الطلاق يدعى وفاقا قبنا المراد من القرء هنا الطهر
قال "وليس للمعترض الدليل على وجوده لأنه نقل ولو قال فادللت على وجوده هنا دل عليه ثمنه فهو نقل إلى نقض الدليل"
"البحث الثاني في أن المستدل إذا منع حصول وجود العلة في صورة النقض فهل للمعترض إقامة الدلالة عليه فيه مذاهب"
أحدها قال الأكثرون وجزم به الإمام والمصنف أنه لا يمكن من ذلك لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى لأن وجود العلة في صورة النقض مسألة تغاير المسألة التي أقام المستدل عليها الدليل وأيضا فإن فيه قلب القاعدة فإن المعترض يصير مستدلا والمستدل معترضا
والثاني أنه يمكن من ذلك لأن فيه تحقيق النقض فكان من متمماته
والثالث قاله الآمدي أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تخفيفا لفائدة المناظرة وإن أمكن القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا وهذا التفصيل عندي داخل في مجاري التحقيق
والرابع يمكن المعترض ما لم يكن حكما شرعيا كذا حكاه ابن الحاجب
وقال قطب الدين السيرازي ما وجدته في شيء من الكتب ولعل تقريره أن يقال يمكن المعترض في الحكم العقلي لأنه يقدح فيه فيحصل فيه فائدة لا أن يمكن في الحكم الشرعي إذا التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ولا ينفعه لأنه بعد بيان المعترض وجود العلة في صورة النقض يقول المستدل يجوز أن يكون تخلف الحكم لوجود مانع أو فوات شرط فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين دليل العلة ودليل التخلف فلا تبطل العلة بخلاف الحكم العقلي فإنه لا يتمشى فيه قال قطب الدين ويحتمل أن يكون المراد ما لم يكن الوصف المدعي علة حكما شرعيا فإنه إن مكن من إثباته لزم قلب القاعدة لصيرورة المعترض مستدلا لإثباته الحكم الشرعي بخلاف ما لم يكن الوصف حكما شرعيا فإنه لا يلزمه ذلك قال وهذا الاحتمال أظهر
قلت وقد حكى صفي الدين الهندي هذا المذهب وفرق بين الحكم الشرعي وغيره بأن الحكم ينتشر الكلام فيه جدا بخلاف غيره فإن الأمر فيه قريب قوله فلو قال المعترض ما ذكرت من الدلالة على وجود العلة في محل النقض فهو نقل أي انتقال من نقض العلة إلى نقض الدليل أي دليل وجود العلة في الفرع ولم يتعرض المصنف بعد قوله إن هذا نقل إلى أنه هل يكونه مسموعا أولا ولك أن تقول قوله أنه نقل الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا لأنه قدم أولا أنه ليس للمعترض الدليل على وجوده لكونه نقلا فأومأ بذلك إلى أن النقل لا يجوز ويحتمل أن يريد أن مثل هذا النقل يسمع وعلى هذا مشى الشيرازي شارح الكتاب وكلام الإمام أيضا محتمل للأمرين وظاهره الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا فإنه قال لا يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجود العلة في صورة النقض لكونه انتقالا إلى مسألة أخرى بل لو قال المعترض ما دللت به إلى آخره قال فيكون انتقالا من السؤال الذي ابتدأ به إلى غيره هذا كلامه وكأنه قال في تلك الصورة إنها انتقال من مسألة إلى مسألة أخرى أراد التنبيه على أن ما يقوله المعترض في هذا الفرع انتقال من السؤال الأول إلى غيره لا من مسألة إلى أخرى فأتى بلفظه بلى لذلك ولم يرد أن هذا انتقال مسموع
وعلى هذا مشى الشيخ صفي الدين الهندي وقال يعد منقطعا وبه جزم الآمدي أعني بأنه لا يكون مسموعا نعم لو قال ذلك ابتداء أو قال يلزمك إما نقض العلة أو نقض الدليل الدال على وجودها في الفرع كان مسموعا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه
قال "أو دعوى الحكم مثل أن يقول السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع فينتقض بالإجارة قلنا هناك لاستقرار المعقود لا لصحة العقد ولو تقديرا كقولنا رق الأم علة رق الولد وثبت في ولد المغرور تقديرا وإلا لما تجب قيمته"
الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتأتى بها دفع النقض أن يمنع المطل عدم الحكم في صورة النقض ويدعي ثبوته فيها وذلك قد يكون ظاهرا بأن يكون الحكم ثابتا فيها جزما على رأس المستدل إن كان مجتهدا أو رأي إمامه إن كان مقلدا ناصرا لمذهبه أو على أحد قوليه غير المرجوع عنه أو غير ذلك ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لكونه كما قال الإمام معلوما وقد يكون خفيا وفيه كلام المصنف وذلك قد يكون تحقيقا وقد يكون تقديرا الأول التحقيقي مثل السلم عقد معاوضة فلا يتشرط فيه التأجيل كالبيع فإن نقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا لصحة عقد الإجارة وإنما جاء فيها التقرير المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين
ومن أمثلته أيضا الإجارة عقد معاوضة فلا تنفسخ بالموت كالبيع فإن نقض بالنكاح قلنا بعد تسليم كونه عقد معاوضة هناك لا ينفسخ بالموت لكن انتهى
منها الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إجبارها كالبالغ فإن نقض بالثيب المجنونة بحيث يجوز تزويجها على الوجه الصحيح قلنا لا نسلم صحة إجبارها كما لو كانت عاقلة وهو وجه في المذهب
ومنها أن يقول في تخالف المتبايعين بعد هلاك السلعة أنه فسخ بيع يصح مع رد العين فصح مع رد القيمة كما لو اشترى ثوبا بعبد وتقابضا ثم هلك العبد ثم
علم مشتري الثوب بالثوب عيبا فيقول الحنفي هذا ينتقض بالإقالة فإنها بيع يصح مع رد العين ولا يصح مع رد القيمة فنقول لا نسلم ذلك فإن الإقالة عندنا تصح بعد هلاك السلعة ويرجع فيها بالقيمة
والثاني التقديري وإليه أشار بقوله ولو تقديرا وهو دافع للنقض على الرأي الأظهر لأن المقدر كالمحقق
مثاله قولنا رق الأم علة رق الولد فيكون هذا الولد رقيقا فإن نقض بولد المغرور بحرية الجارية حيث كان رق الأم موجودا مع انعقاد الولد حرا قلنا رق الولد موجود تقديرا أو مقدر وجوده إذ لو لم يقدر رقه لم نوجب قيمته إذ لا قيمة في الحر ولذلك حكي وجه أنه ينعقد رقيقا ثم يعتق على المغرور حكاه الرافعي في كتاب العتق وجزم في النكاح بخلافه
وأعلم أن الأول أعني التحقيق دافع للنقض إذا كان الحكم مشفقا عليه بين المستدل وخصمه وكذا إن كان مذهبا للمستدل فقط لأنه إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد فالآن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا لخصمه فقط كما يقول هذا الوصف مما لا يطرد على أصل فإنه ثابت في الصورة الفلانية والحكم غير ثابت فيها عندي ولست بالمنقاد إليه لم يتوجه النقض لأن خلاف الخصم في تلك المسألة كخلافه في المسألة المتنازع فيها وهو محجوب بذلك الدليل في المسألتين معا وأما تمكين المعترض في إقامة الدلالة على عدم الحكم ففيه الخلاف السابق في منع وجود العلة في صورة النقض ومن فروع هذا القسم أعني منع الحكم ما إذا ذكر المعترض صورة فقال المستدل المنتصر لمذهب إمامه لا أعرف في هذه نصا فلا يلزمني النقض فهل يندفع النقض بذلك ذكر الشيخ أبو إسحاق هذا في كتابه الملخص في الجدل
ومثل له بأن يستدل الحنفي في القارن إذا قتل صيدا أنه يلزمه جزآن لأنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة فلزمه جزآن كما لو أحرم بالحج فقتل صيدا ثم أحرم بالعمرة فقتل صيدا فيقال له هذا ينتقض به إذا أحرم المتمتع بالعمرة فجرح صيدا ثم أحرم بالحج فجرحه ثم مات فإنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة ثم لا يلزمه جزاء أن فيقول المخالف لا أعرف نصا في هذه
المسألة ثم قال رأيت القاضي أبا الطبيب يقول في مثل هذا إذا جوزت أن يكون مذهبك على ما ألزمته وجب أن لا يحتج بهذا القياس قال وعندي أنه لا يلزمه النقض لأنه وإن احتمل ما قال إلا أن القياس يقتضي أنه يلزمه كفارتان فيعمل به ما لم يمنع كالعموم قبل ظهور المخصص
قلت وحاصل هذا أن المعلل له أن يلتزم بصورة النقض عند الشيخ وعند القاضي ليس له الالتزام بها مع احتمال أن لا يكون مذهب إمامه وهذا أمر راجع إليه في نفسه ولا خلاف بينهما في أنه لا يكتفي منه بأن يقول لا أعرف نصا في هذه المسألة وهذا هو الحق وكيف يكون خلافه والمعترض بنادي يلزمك إما انتقاض علتك أو دعوى ثبوت الحكم
قال أو "إظهار المانع" الأمر الثالث مما يجاب به عن النقض أن يظهر المعلل مانعا من ثبوت الحكم في صورة النقض فيندفع النقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح ومنهم المصنف كما علمت مثاله يجب القصاص القتل بالمثقل قياسا على المحدد بجامع القتل العمد من العدوان فإن نقص بقتل الوالد ولده بأن الوصف فيه مع تخلف الحكم قلنا تخلف لمانع وهو أن الوالد سبب لوجود الولد فلا يحسن أن يكون الوالد سببا لعدمه وإذا تخلف لمانع فلا يقدح في العلية
ولم يذكر المصنف مما يدفع به النقض غير هذه الثلاثة وكان ينبغي أن يذكر دفعه يورد صورة النقض مستثاة فإنه دافع أيضا
قال "تنبيه دعوى ثبوت الحكم أو نفيه عن صورة معينة أو مهمة ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس"
هذه الكلمات منبهة على ما يتجه من النقوض ويستحق الجواب وما ليس كذلك أعلم أن المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معا أو أحدهما
فإن كان الأول ولم يتعرض له المصنف وجب أن يكون الحكم مطردا ومنعكسا مع علته كالحد مع المحدود فمتى ثبت عند عدمه أو عدم وجوده توجه عليه النقض
وإن كان الثاني فالمدعي إما ثبوت الحكم أو نفيه وكل منهما إما أن يكون في بعض الصور أو جميعها وإذا كان في بعض الصور فإما أن يكون في صورة معينة أو مبهمة فهذه ثلاثة أقسام داخلة في كل من القسمين أعني ثبوت الحكم أو نفيه في صورة وثبوته أو نفيه مطلقا
الأول دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة فينتقضه النفي عن جميع الصور لأن السالبة الكلية تناقض الموجبة الجزئية ولا ينقضها النفي عن صورة لأن الجزئين لا يتناقضان فالثبوت في صورة لا تناقض النفي في صورة
مثاله قول الحنفي في جريان القصاص بين المسلم والذمي في حالة العمد محقونا الدم فجرى بينهما القصاص كالمسلمين وينقضه الأب والابن فإنهما لا يجري بينهما القصاص بحال ولا ينقضه إذا بين عدم جريان القصاص بينهما حالة الخطأ
والثاني دعوى نبوته في صورة مبهمة وهو كالأول
ومثاله قولنا الصبي حر مسلم مالك للنصاب فيجب الزكاة في ماله كالبالغ فإن نقض بالحلي وثياب البذلة لم نجبه لما عرفت ومثال المعين المنفي أن يقال هذا النبيذ ليس بنجس قياسا على خل الزبيب فينتقض بأن كل نبيذ مسكر وكل مسكر نجس
ومثال المبهم المنفي أن يقال إذا اشتبه عليه نهر غيره بأنهار نفسه لا يحل له الشرب من نهر واحد لا بعينه كما لو اشتبه عليه ظرف ماء غيره بظروف مائه بجامع الاشتباه فينقبض بأنه يحل الشرب من النهر الجاري وإن كان لغيره فإنه لا يجوز المنع من الشرب على أظهر الوجهين وادعى الشيرازي صاحب الكتاب في هذا الإجماع وليس بسديد وإذا علمت هذه الأقسام الأربعة فهي المشار إليها بقوله دعوى ثبوت الحكم إلى قوله العامين وتقدير الكلام دعوم ثبوت الحكم في صورة معينة أو مهمة ينتقض بالنفي العام ودعوى نفيه عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات العام ففيه لف ونشر على جعل الأول للثاني والثاني للأول
قوله وبالعكس إشارة إلى القسم الآخر وهو أن يدعي ثبوت الحكم أو نفيه عاما وقد قلنا إنه يدخل فيه أقسام ثلاثة أيضا الأول نقض دعوى ثبوت الحكم عاما بالصورة المعينة مثاله قولنا كل شريك فدعواه رد المال على شريكه مقبولة قياسا على الوكيل إذا ادعى الرد من وكله وكذا المودع والجامع أن كلا من الشريك والوكيل والمودع أمين فينتقض هذا بالمرتهن حيث لا يقبل دعواه الرد عند العراقيين وهو الأصح وكذلك ينتقض بالمستأجر ومن أمثلته أيضا قولنا يقتل كل رقيق بمثله والمدبر بالمدبر وأم الولد بأم الولد قياسا على الحر بالحر بجامع الكفاءة فينتقض بما إذا قيل المبعض مثله مع التساوي في قدري الرق والحرية حيث لا يجب القصاص على أحد الوجهين ولا ينتقض بما إذا قتل الأب الرقيق عبد ابنه لأن المستدل يقول تخلف الحكم لمانع وهو أن قصاص العبد لابن القاتل فلو ثبت لأدى إلى ثبوت القصاص للوالد على الولد
الثاني نقض هذه الدعوى المذكورة بالصورة المبهمة ولا استحضر له مثالا
الثالث نقض دعوى نفي الحكم عاما بالصورة المعينة
كما إذا قال قائل فيما إذا قطع مملوك طرف مملوك آخر فملوكان فلا يجري بينهما القصاص كالصغيرين فينقض بجريان القصاص بينهما في النفس ومن أمثلته أيضا أن يقال بيع النحل في الكوارة والحمام في البرج إذا لم يشاهد غير صحيح قياسا على بيع الغائب بجامع عدم الرؤية للمشتري فينتقض بأن العبد الأعمى يصح أن يشتري نفسه من سيده مع أن المبيع غير مرئي للمشتري وبأنه لو كان مرئيا قبل العقد ولم يحتمل التغير صح بيعه وإن لم يشاهد في الحال ولئن قال المعلل لا يصح بيع السمك في الماء والطير في الهواء قياسا على بيع الغائب بجامع الغرر كان تعليلا صحيحا وليس للمعترض نقضه ببيع النحل وهو طائر حيث يصح على أصح الوجهين وبيع الحمام وهي طائرة اعتمادا على عودها ليلا على أحد الوجهين لأن المعلل يمنع الغرر والحالة هذه
الرابع نقض هذه الدعوى بالصورة المبهمة ولا يحضرني مثاله والله تعالى أعلم
قال " الثاني عدم التأثير
بأن ينفي الحكم بعده وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة بعلة أخرى فالأول كما لو قيل مبيع لم ير فلا يصح كالطير في الهواء والثاني الصبح لا يقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب ومنع التقديم ثابت فيما قصر"
عدم التأثير وعدم العكس من واد واحد فلذلك جمع بينهما والذي عليه الجدليون أن عدم التأثير أعم من عدم العكس فإنهم قالوا كما نقله أمام الحرمين وغيره عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها وجعلوا الواقع في الوصف وهو عدم الانعكاس وسيتضح إن شاء الله ذلك بالمثل
وقال إمام الحرمين الذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل وإذا عرفت هذا فقد عرف المصنف تبعا للإمام عدم التأثير بأن ينفي الحكم بدون ما فرض علة له وعدم العكس بحصول الحكم في صورة بعلة أخرى واعتراض على هذا لأن قوله ينفي الحكم بدون ما فرض علة له إن أريد به أنه كذلك في المحل الذي ادعى أنه علة فيه وهو ظاهر مراده فهو غير لازم لأن عدم التأثير قد يكون بأن يبين ثبوت الحكم في غير ذلك المحل بدون ما جعل علة له وإن أراد أنه كذلك في غير ذلك المحل فقط ففاسد لأنه إذا بين بناء الحكم في ذلك المحل بعينه بدون ما جعل علة له كان ذلك عدم التأثير بطريق أولى وإن عنى به ما هو الأعم من هذين فباطل لأن العكس أيضا كذلك إذا ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة أخرى بل لو حصل في تلك الصورة بعينها بعلة أخرى كان ذلك عكسا أيضا وهو اعتراض منقدح إذا كان الإمام قد مشى على مراسم الجدليين وعلمك محيط بأن القوم ذوو اصطلاح فليساعدوا عليه ما لم يخرج عن قانون معتبر وإن لم يف الإمام باصطلاحهم كان له أن يقول المراد من عدم التأثير
القسم الأول وقولكم قد يكون بغير ذلك قلنا في مصطلحي لا يكون كذلك بل له أن يقول المراد
القسم الثالث قولكم ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة
أخرى قلنا بل هو من شرطه في مصطلحنا وإذا علمت هذا فقد مثل المصنف لعدم التأثير بقولنا في الغائب يبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء والسمك في الماء بجامع عدم الرؤية فينقدح للمعترض أن يقول عدم الرؤية لا تأثير له في الحكم لبقاء الحكم المذكور بعد زواله فيما إذا صار البيع مرئيا ولكن غير مقدور على تسليمه وهذا المثال واقع لعدم التأثير في أصل العلة دون وصفها كما وضح ومثل لعدم العكس باستدلال الحنفي على منع تقديم آذان الصبح بقوله الصبح صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم آذانها على وقتها كالمغرب بجامع عدم جواز القصر فيقول هذا الوصف لا ينعكس لأن الحكم الذي هو منع تقديم الآذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات بعلة أخرى وهذا المثال واقع لعدم التأثير في الوصف كما ظهر
ومن أمثلة الأول أيضا أن يقال على لسان الشافعي في منع نكاح الأمة الكتابية أمة كافرة فلا يحل للمسلم نكاحها كالأمة المجوسية فيقال لا أثر للرق في الأصل فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس مستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغن عنه فذكره عديم التأثير في الأصل وقد تم ما في الكتاب
وقد قسم الباب النظر عدم التأثير أقساما عديدة
أولها وثانيها عدم التأثير في الأصل والوصف وهما المتقدمان في كلام المصنف والثالث عدم التأثير في الأصل والفرع جميعها فإذا قلنا بأن عدم التأثير في الأصل فقط يقدح كما ستعرفه إن شاء الله كان قادحا بطريق أولى ومثال هذا قوله من اعتبر العدد الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية فينبغي أن يعتبر فيها العدد قياسا على رمي الجمار وإذا اعتبر العدد وجب أن يكون ثلاثة ضرورة أنه لا قائل بالوصف
وقوله لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والوصف معا بخلاف قولنا أمة كافرة فلا تحل للمسلم كالأمة المجوسية فإن كونها أمة لا أثر له في الأصل لكن تأثير في الفرع فلئن قال مثلا إذا سقط قوله لم يتقدمها معصية انتقض بالرجم فإنه عبادة تتعلق بالأحجار ثم لا يعتبر فيه العدد فنقول قال الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي هذا أصعب ما يجيء في هذا الباب قال وعندي أن مثل هذا لا يجوز تعليق الحكم عليه ذكره في الملخص
والرابع عدم التأثير في الفرع دون الأصل وهو قسمان
أحدهما أن يذكر وصف في الفرع يتحقق الخلاف فيه بدونه كقولهم نوى صوم رمضان قبل الزوال فصح كما لو نوى من الليل فقيل كونه من رمضان لا مدخل له في تحقيق الخلاف إذ يتحقق بدونه ولو نوى مطلق الصوم فيه لخلاف أيضا وقد اختلف في قبول هذا القسم أيضا
وثانيهما أن يلحق الفرع بالأصل بوصف تأثير له على إطلاقه في الفرع وفاقا كقولنا في إثبات فسخ النكاح بالعيوب الخمسة عيب ينقض الرغبة في المعقود عليه فوجد ثبوت الفسخ به كما في البيع فالوصف المذكور في الإلحاق لا تأثير له في الفرع على إطلاقه وفاقا ولهذا لا يثبت الخيار في النكاح بكل عيب شأنه ما ذكر وفاقا وقول القاضي الحسين ومن شذ عن الأصحاب بدعواه ثبوت الخيار بكل عيب منفر يكسر ثورة التوقان لا يرد على دعوانا الوفاق هنا فمن العيوب ما ينقص الرغبة ولا يكن منفرا يكسر ثورة التوقان ولا عبرة به على العموم إجماعا وإن اختلف في أفراد خاصة
والخامس عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل به كما إذا قيل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا في دار الحرب طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان يتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فالإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان وإثباته فإن من أوجب الضمان أوجبه مطلقا سواء كان في دار الحرب أم غيرها ومن نفاه نفاه مطلقا
والفرق بين هذا والثالث فرق ما بين العام والخاص لأنه يلزم من أن يكون له تأثير في الحكم أن لا يكون له تأثير في الأصل والفرع من غير عكس
وقال الآمدي حاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور وإذا بطل عدم التأثير في الفرع كما هو أحد الرأيين ورجع
حاصل هذا القسم إلى عدم التأثير في الوصف فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وفي الأصل
والآمدي لم يذكر القسم الثالث الذي أوردناه ولعله أهمله لكون الخامس أعم منه وإذا تفهمت ما ألقيته لك من الشرح وعلمت عود الأقسام كلها إلى عدم التأثير في الأصل وفي الوصف عرفت أن اقتضاء صاحب الكتاب على ذكرهما نوع حسن من الاختصار والله أعلم
قال الأول يقدح أن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين
والثاني تمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين وذلك جائز في المنصوصة كالايلاء واللعان والقتل والردة لافي المستنبطة لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما يصرفه عن الآخر عند المجموع
تقدم تصويرها عدم التأثير وعدم العكس والكلام هنا في أنهما هل يقدحان في العلية وقد تشاجر القوم في ذلك وبنى المصنف الأول على أنه هل يجوز تعليل الحكم الذي هو واحد بالشخص بعلتين فيقدح عند مانعه لأنه إذا لم يوجد الوصف المفروض علة مع بقاء الحكم والفرض أنه ليس ثابتا بعلة أخرى يحصل العلم بأن ذلك الوصف ليس علة
وبنى الثاني على أنه يمتنع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين بناؤه ظاهر مما تقدم لأن النوع باق فيه ويعلم من هذا أن الحكم الواحد إن بقي شخصه بعد زوال العلة فهو عدم التأثير وإن بقي بنوعه فهو عدم العكس فامتناع بيع الطير في الهواء بقي شخصه بعد زوال الرؤية كما كان قبلها وامتناع نكاح الأمة المجوسية باق بالشخص بعد زوال العلة وهي كون الصلاة لا تقصر إنما هو في الرباعية وما كان ثابتا مع العلة إنما هو مع غيرها لكنهما اشتركا في النوعية وهو منع تقديم الآذان
وأعلم أن المبني عليه من أعظم ما خاض فيه الأصوليون والمصنف اختصر القول فيه جدا نحن نأخذ ما في شرح الكتاب على الاختصار ثم نعود إلى الكلام في ذلك على حسب التوسط فنقول يجوز تعليل الحكم الواحد نوعا
المختلف شخصا بعلل مختلفة وفاقا كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص وخالد بالزنا بعد الإحصان وربما أومأ بعضهم إلى جريان الخلاف فيه وعلى ذلك مشى صاحب الكتاب حيث جعل عدم العكس مبنيا عليه والأشبه ما ذكرناه وبه صرح الآمدي وصفي الدين الهندي وهذا في العلل الشرعية
أما العقلية فظاهر نقل بعضهم أن الخلاف في تعليل المعلول الواحد بعلل عقلية يختص بالواحد بالنوع دون الواحد بالشخص فإنه يمتنع تعدد علته بلا خلاف وأما تعليل الحكم الواحد في شخص واحد بعلل مختلفة نحو تحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض وزاد إمام الحرمين الصائمة وهو سهو لأن الصوم يستحيل أن يجامع الحيض شرعا وكذا أباحه قتل الشخص الواحد بردته وقتله الموجب للقصاص هل يجوز بهذه الإمارات المزدحمة اختلفوا فيه على مذاهب
أحدهما المنع من ذلك مطلقا
والثاني الجواز مطلقا وإليه ذهب الجماهير
والثالث أنه يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك الغزالي والإمام والمصنف قال إمام الحرمين وللقاضي إليه صفو ظاهر في كتاب التقريب
قلت وظاهر ما في التخليص مختصر التقريب تجويزه مطلقا وأما ما ذهب إليه الغزالي منا من التفصيل فيخالف ما ذكره في الفقه فإن قال في كتاب البيع من الوسيط عند الكلام في زوائد المبيع والحكم الواحد قد يعلل بعلتين
والرابع عكسه وذهب إمام الحرمين إلى رأي خامس وهو أنه جائز غير واقع قوله وذلك هذا دليل على التفصيل الذي اختاره
وتقريره أنه قد وقع تعليل الواحد بالشخص بعلتين منصوصتين فدل على جوازه ودليل وقوعه اللعان والإيلاء فإنهما علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة ولك أن تقول الإيلاء لا تحرم به الزوجة فلا يصح التمثيل به ولا يمكن أن يبدل الإيلاء بالظهار لأن الظهار وإن كان محرما إلا أنه لا يمكن اجتماعه مع اللعان
إذا اللعان يقطع الزوجية فلا تجتمع علتان على معلول واحد فينبغي التمسك بالطلاق الرجعي مع الظهار فإنهما علتان في تحريم الوطء وقد يجتمعان في المرأة فتكون رجعية مظاهرة أمنها ودليل وقوعه أيضا المرتد الجاني فإن كلا من الارتداد والجناية علة مستقلة في إراقة دمه وكذلك الصوم والعدة والإحرام في تحريم الوطء الزوجية ومثل الغزالي بأن من لمس ومس وبال في وقت واحد انتقض طهره ولا يخال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك أيضا وجمع لبنهما وانتهيا إلى حلق المرتضعة في لحظة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم واحد ولا يمكن أن يحال على الخؤلة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة يستحيل اجتماع المثلين انتهى
وإذا ثبت هذا في الواحد بالشخص وضح ثبوته في الواحد بالنوع بطريق أولى
وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين مانع من ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر بمفرده أو لأجل المجموع وما لا يحصل الظن لثبوت الحكم لأجله لا يحكم بعلتيه بالاستنباط والاجتهاد فلا نحكم بعلية أمور متعددة لشيء واحد بالاستنباط والاجتهاد وهذا كما إذا تصدق على فقيه فقير قريب فإنه يحتمل أن يكون الداعي إلى الصدقة مجموع الأوصاف أو بعضها أو فرد منها والاحتمالات متنافية لما ذكرناه هذا تقرير ما في الكتاب وفي الدليل المذكور نظر نذكره من بعد إن شاء الله تعالى
عدنا إلى الكلام في أصل المسألة فنقول اختلفوا في أن العكس هل يجب في العلة فقالت المعتزلة وبعض أصحابنا كالإمام لا يجب سواء كانت عقلية أم شرعية وادعى القاضي في مختصر التقريب والإرشاد الاتفاق في العلل العقلية على خلاف ذلك فإنه قال يشترط في العلة العقلية الإطراد والانعكاس باتفاق العقلاء القائلين بالعلل أو قال قوم أنه واجب مطلقا وأوجبه قوم في العقلية دون الشرعية وعليه أكثر أصحابنا وقال آخرون يجب في المستنبطة دون المنصوصة
وقال الغزالي إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها قال والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا لا نثبت الشفعة للجار لأن ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتحدة من المطبخ والخلاء ومطرح التراب ومصعد السطح وغيره
فلأبي حنيفة أن يقول لا مدخل لهذا في التأثير فإن الشفعة ثابتة في العرصة أيضا وما لا مرافق له فهذا إلزام عكس وهو لازم لأنه يقول لو كان هذا مناطا للحكم لا ينفي الحكم عند انتفائه فنقول السبب فيه ضرر مزاحمة الشريك فيما يتأبد ويبقى فنقول فليجر في الحمام وما لا ينقسم كما هو عندكم قول قديم أو وجه فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن يعلل بضرر مؤنة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها بوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس
قال صفي الدين الهندي وينبغي أن لا يكون فيما ذكر الغزالي خلاف ونزاع لأحد ويظهر عند هذا أن هذه المسألة فرع مسألة الحكم الواحد بعلل مختلفة فلذلك لم يشتغل صاحب الكتاب بالكلام فيها بل تكلم في تعليل الواحد بعلل فليكن كلامنا أيضا في ذلك
وقد علمت المذاهب فيها وما احتج به صاحب الكتاب على اختياره وهو مدخول عندنا لأن نقول على الاستدلال له المنصوصة لا دلالة لما ذكرت إلا على اجتماع سببين أو أكثر على حكم واحد وليس فيه دلالة على أن ذلك الحكم معلل بكل منها أو واحد منها فلئن قال أعود وأقرره على وجه آخر فأقول العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردة والزنا فإما أن يقال لا يثبت الحكم فيه أصلا وهو باطل أو يثبت بواحدة معينة وهو أيضا باطل للزوم الترجيح من غير مرجح أو بواحدة لا بعينها وهو كذلك لأن ما لا
تعين له لا وجود له في نفسه ما لا وجود له لا يصلح أن يكون علة أو بمجموعها وهو كذلك لأنه حينئذ تكون كل واحدة منها جزءا لعلة وليس كلامنا فيه فيتعين أن يعلل الحكم بكل واحدة منها لا يقال نمنع وجود العلل دفعة واحدة ونقول فيما إذا ترتيب الحكم معلل بالسابق منها وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ لأنا نقول منع وجودها مكابر ة إذ نحن على قطع أنه لا منافاة بين تلك الأمور فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدة إذ يمكن صدور الزنا والردة من واحد من واحد والعياذ بالله في ساعة واحدة
فنقول قاربت الإصابة بالتقرير على هذا الوجه ولكنا لا نسلم بعد ذلك أن الحكم هناك حكم واحد بل أحكام كثيرة فإن الإباحة الحاصلة بالقتل غير الحاصلة بالردة والدليل عليه وجهان
الأول أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بالقتل والزنا
والثاني أن القتل المستحق بالقتل يجوز لولي الدم العفو عنه والمستحق الردة لا يتمكن الولي من إسقاطه فدل على تغاير الحكمين وهذا لمنع الذي ذكرناه هو الذي اعتمد عليه إمام الحرمين في رد هذه الحجة وهو عندنا منع صحيح
وإن كان القاضي في مختصر التقريب والإشاد قال إنه هذيان يدني قائله من جحد الحقائق ونحن نذكر ما رد به ونزيفه بعد ذلك وأجمع كلام في الرد عليه كلام الإمام فقال الدليل على أن الحكم واحد أن إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد فهو إما أن يكون ممنوعا منه من جهة الشرع بوجه فهو الحرمة أو لا فهو الحد
وإن كانت الحياة واحدة كانت إزالتها واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدا فإن قلت الفعل الواحد كونه حلالا من وجه حراما من آخر وحينئذ يجوز أن يتعدد حكم الحد لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث أنه مرتد وأنه زان وأنه قاتل
قلت حرمة الشيء من وجه وحله من آخر معقول لأن الحل هو تمكين الشرع من الفعل ولا يتحقق هذا المعنى إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلا بل ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وعرضا وحركة لا يقتضي الحرمة وحينئذ نقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري هذا ما ذكره الإمام
وقد اعترض النقشواني على قوله إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد بالمنع
وفيه نظر ثم بعد التسليم بأنك لم قلت أن ما يكون طريقا إلى الشيء يجب أن يكون واحدا لأن الحكم الذي كلامنا فيه ليس نفي إبطال حياة الشخص بل الطريق إليه ألا ترى أن حياة الشخص الواحد يمكن إبطالها بضرب عنقه وقده نصفين وأمور لا تعد فيما نحن فيه لم ادعيت أنه ليس كذلك فإن إباحة القتل بالردة هو طريق واحد إلى إبطال الحياة وحكمه أن يقتله الإمام ما لم يتب وليس له إسقاطه وإباحته بالقصاص أن يتمكن الولي من قتله بمثل الطريق التي صدرت عنه أو بالسيف وله العفو وإباحته بالزنا أن يرجم ولا يتبع إذا هرب ولا يسقط فهذه طرق مختلفة غير أنها اشتركت في أمر واحد وذلك لا يوجد اجتماع العلل على حكم واحد وأيضا عصمة دم المرء حكم شرعي وهو مشروط بأمور منها الإسلام ويضاده الكفر ومنها العفة ويضادها الزنا ومنها العدل ويضاده القتل ظلما ويختل كل واحد منها بواحد من هذه الأفعال
وكما قال إمام الحرمين لن يقدم الانس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف ونظير هذا في الأمور العقلية إن حياة الشخص الواحد مشروطة بشروط منها بقاء الأعضاء الرئيسية على أمزجتها المعينة ومنها اتصال بعضها ببعض وغير ذلك وكل ما يحصل في البدن مبطلا لواحد من هذه الشروط تصير سببا لإبطال الحياة ولا جرم إن تعددت أسباب إبطال الحياة فإذا فرضنا اجتماع عدة منها لا نقول إن العلل الكثيرة تواردت على معلول واحد وإذا فرضنا دفعة واحدة حز رقبة شخص وقده بنصفين من شخصين معا لا يقال اجتمع هاتان العلتان على معلول واحد إذ
لا يتصور ذلك في العلل العقلية التامة المؤثرة فكلما ذكر عذرا في الصورة كان عذرا لنا في دفع ما ذكر من الدليل ولسنا بالمعتذرين عن العلل العقلية فإن العلة العقلية لا حقيقة لها عندنا ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ولكنا نحيل الأمر إلى الإمام
ثم قال الإمام قولكم الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقي الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحكم معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة
ولقائل أن يقول لو لم يزل ذلك الحل لكان مستمرا بدون علته فإنه لا أثر للزائل في المستمر بل التحقيق أن الحل المضاف إلى الردة زال وبقي حل آخر ثم قال قولكم ولي الدم مستقل بإسقاط أحد الحلين قلنا ممنوع بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال السبب زال انتساب ذلك الحكم إليه لا الحكم نفسه واعترض عليه النقشواني أيضا بأنا نعلم أن الولي كان متمكنا من إزالة الحل الثابت له وهذا الزوال يستدعي سببا غير عفوه وبأنا نقول إن كان الزائل بالعفو شيء آخر غير حل القتل فموجب قتل القاتل ظلما هو ذلك الشيء لأن العفو يسقط موجب الجناية فإذا كان موجب الجناية غير الحل فلا يلزم اجتماع العلل على حكم واحد وهكذا نقول في سائر الصور المذكورة من اجتماع العدة والحيض في الزوجة وصورة الرضاع في زوجة الأخ والأخت وغيرها وإن كل هذه الأحكام مشروطة بشروط على ما تقرر
ثم إنا نقول ما ذكرتم من الصور التي فرضتم الكلام فيها أمر عجاب فإن بعضها مستنبطة مومئ إليها فإن عليه ما أردتم إنما جاء من الاستنباط وإيماء النصوص لا من النص وأنتم لا تجوزون اجتماعها على المعلول الواحد إذ فرقتم بين المستنبطة والمنصوصة فكيف يحصل الفرض من هذا وعليهم في هذا الدليل اعتراضات أخر أضربنا عنها إذ قد أطلنا بعض الإطالة
ولإمام الحرمين هنا كلمات لا نرى إخلاء هذا الشرح منها فلا يطولن الفصل عليك ففيه كبير فائدة
قال قد يظن الظان الفطن في هذا المقام أن المسؤول إذا فرض الكلام في طرف من المسألة لفرض إيضاح كلام ولصورة الفرد تعلق بالعلة من حيث العموم وليست مقصود الفارضي
من حيث الخصوص وهي مقصود والفارض وإذا كان كذلك فقد تعلق الحكم في هذا الطرف بعلتين قال وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الفرض فنقول إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى ضيف فأكله الضيف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المضيف ومعتمد هذا الظن التغرير وكون الغرور مناطا للضمان
وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا أو مؤجرا كما إذا مختارا في التناول فإذا فرض الفارض في صورة الإكراه فليس يجبر لأنه إنما يصح أن لو كان في الصورة عموم وخصوص والغرور ليس أعم من الإجبار إذ الإجبار ينافي الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض إجبار في المغرور مع استناد اختياره إلى الاغترار فأما المجبر المكره فلا يتصور بصورة مغتر وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى
قال فهذا النوع ليس بمرضي من جهة أنه مجانب لمحل السؤال أو لا إذ لا عموم وخصوص فيه والفرض المستحسن هو ما اشتمل على ذلك ثم قال وليس للفرض في هذه المسألة وجه أيضا فإنه إذا ثبت الضمان لا يستغرق على المكره فكيف يبني عليه عدم القرار على المختار الطاعم في مسألة التقرير ولا معتمد في التقرير على المختار إلا الاغترار
وحاصل هذا أنه لا عموم وخصوص في هذه الصورة وليس للشافعي إلزام الحنفي بها لأن الضمان إذا ثبت لا يستقر على المكره وهو كلام صحيح إلا أن المذهب الصحيح المشهور في الجديد أن قرار الضمان في مسألة التغرير على الآكل دون المضيف والصحيح في مسألة الإكراه استقرار الضمان على المكره بكسر الراء على خلاف ما قاله فيهما ثم ذكر إمام الحرمين صورة من الفرض
المستحسن فقال إذا سأل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق الموسر والمعسر فإذا فرض المسؤول كلامه في المعسر كان مندرجا تحت سؤال السائل ويستفيد الفارض بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد لا يحضر عنده الجواب عنها كسريان العتق إلى ملك الشريك فلا يلزمه إذا فرض كلامه في هذه الصورة لأن عتق المعسر غير سار عند الشافعي
وأحسنهما أن الخصم قد يتمسك في كلامه على أن قيمة العبد في غرض المالية منزل منزلة العبد فليس الراهن المعتق مقوتا على المرتهن غرضه من الاستيثاق فإنه إذا قام قيمة العبد مقامه هنا لم يكن معترضا على محل الحق المرتهن قال وهذا لا حقيقة له إذا ليس هو مبني على مذهب من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إتمامة القيمة مقام المقوم بل سبب نفوذه الملك وصحة العبارة فاستفاد الفارض بفرضه المسألة في المعسر قطع هذا الكلام الواقع فضله لا أثر لها
قال فليكن قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك ويتجه للفارض في المعسر أن يقول يستأصل المعسر المعتق لو نفذ عتقه حتى المرتهن بكماله ويشير إلى أنه لا يجد ما يقيمه مقام المرهون فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية
قال وهذه وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفي فيما يقرره بأنه لو نفذ أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في غير الرهن وإذا كفى هذا فأي حاجة للتعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة قال ويوشك لو لم يفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي ذكرناه وهو التعلق بما لا اعتبار به ولا وقع له
فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة قطع المالية بالكلية وقطع حق المرتهن من العين المخصوصة فيعلل امتناع النفوذ بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق من عين العبد فإن هذا الشيء يعم المعسر والموسر
فنقول هذا هو الغرض من سياق هذا الكلام وليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر اختصاص استحقاق واستيثاقه بعين يستمسك بها إذا عرضت له توقفات العسر في الدين الذي يقع في الذمة وهو تأثر مسبوق بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الراهن
قال ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الرهن إتلاف المرهون فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع ثبات الضمان جبرانا لكل بدل فائت فلا ينبغي أن يعد قضايا الشرع في مظن الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول اه وهو بليغ معترض عليه ومراده أن هذه الصورة إن أوردها عليه من يقول باجتماع العلتين خلص عن إيراده بأن يقول العلة عندي واحدة وهي ما ذكرت وإن اعتقد الخصم أن المالية مرعية فلا مبالاة بمعتقده ثم قال وهذا يناظر عندي مسلكي في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقي العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف في أحد عوضين
وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا أن التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة وهذا زلل وسوء مدرك فإن العقد ما أنشىء على التوزيع
وإنما هو أمر ضروري أحوج الشفعة إليه أه ومناظرة ما ذكر لأن قضايا الشرع في محل الضرورة لا يعد من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول ظاهرة على مسلكه كما ذكر ولكن هو مسلك جاد به عن سبيل الأصحاب ومع ذلك هو مدخول
ومن وجوه الاعتراض عليه ما ذكره الرافعي فقال أليس قد ثبت التوزيع المفصل في مسألة الشفعة وهي ما إذا باع شخصا من عقار وسيفا بألف ولولا أنه قضية العقد لكان ضم السيف إلى الشخص من الأسباب الدافعة للشفعة فإنها قد تندفع بأسباب وعوارض
واعترض عليه أيضا حيث قال المعتمد عندي في التعليل أنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقا وإذا باع مدا ودرهما بمدين لم تتحقق المماثلة فيفسد العقد فإن للخصم
أن يقول تعبدنا بتحقيق المماثلة فيما إذا تمحضت مقابلة شيء منها بجنسه أم على الإطلاق وإن قلنا بالثاني فممنوع وإن قلنا بالأول فمسلم ولكنه ليس صورة المسألة إلا أن هذا اعتراض ضعيف ولا سيما في الغرض الذي فرضه وهو إذا باع مدا ودرهما بمدين فإنه يصح في هذه الصورة إنه باع تمرا بتمر لأن التمر مع الدرهم مبيع قطعا ولا مقابل له إلا تمر ومتى صدق أنه باع تمرا بتمر وجبت المماثلة بالنص وتمحض المفاضلة قيد زائد لم يدل عليه دليل فالكلام في هذا دخيل في الكتاب
ولعلنا نأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا الأشباه والنظائر بالعجب العجاب ثم قال وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صائرا إلى أن الراهن إذا كان موسرا ينفذ اعتاقه ويلزمه إحلال القيمة موضع العبد وإن كان معسرا لا ينفذ اعتاقه لتعذر تغريمه وافضاء الإعتاق فيه بتقدير نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ذلك بتفصيل مذهب في ترسه عتق الشريك إذا كان موسرا دون ما إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوق إلى اعتبار انقطاع علقة الرهن من عرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من عتق الرهن عنده وقع أصلا فلذلك ينفذ عتق الراهن الموسر فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة الفرض
ثم قال إذا فرض الشافعي الكلام في مسألة ضمان منافع المغصوب في طرف الإتلاف طرد ما يرتضيه في الباب فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الطرف معنيان
أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك اختار الفارض تعيين هذا الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به
وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت يد العارية وهذا أقرب مسلك في تخييل اجتماع معنيين بحكم واحد
ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن
المتلف الحاصل تحت يد العارية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد بمنع الحق مستحقة فصار الضياع الذي يقع سماويا في إطراد منع المتعدي مشبها بإتلافه وإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال أهو بليغ لا يخدشه شيء وهذا ما أردنا إيراده من كلام إمام الحرمين
ولنعد إلى الكلام على ما استدل به صاحب الكتاب على اختياره فنقول وأما ما استدل به على المنع في المستنبطة فلولا مراعاة الاتفاق لما رددناه لأنه ماس على معتقدنا ولكنا نقول للخصم أن يقول لا نسلم أن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين يمنع ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر أو المجموع وإنما يكون ذلك أن لو تأتت عليه
أحدهما للحكم علية الآخر وهو أول النزاع
فإن قلت قد تحصل لنا من اختيارك موافقة إمام الحرمين على عدم وقوع اجتماع العلل على المعلول الواحد وما دللت عليه بل زدت على هذا أن أبطلت الدليل على المنع في المستنبطة وهو بعض مطلوبك
قلت طال الفصل وما بقي الشرح يحتمل أكثر من هذا التطويل ولذلك لم يشتغل بالكلام في حجج بقية المذاهب ولعلنا نقرر اختيارنا في مجموع آخر وبالله التوفيق
قال رحمه الله " الثالث الكسر وهو عدم تأخير أحد الجزئين ونقض الآخر كقولهم صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قيل خصوصية الصلاة ملغى لأن الحج كذلك فبقي كونه عبادة وهو منقوض بصوم الحائض"
اتفق أكثر أهل العلم كما ذكره الشيخ أبو إسحاق في الملخص وغيره على صحة الكسر وإفساد العلة به وهذا ما اختاره الإمام والمصنف والآمدي وهو نقض من طريق المعنى وإلزام من سبيل الفقه وعبر عنه الآمدي وابن الحاجب بالنقض والمكسور وجعلا الكسر قسما آخر وغيره وهو تعبير حسن
وعبر عنه المصنف بأنه عدم تأثير أحد جزأي المركب الذي ادعى المستدل عليته ونقض الآخر ومثل له تبعا للإمام بما إذا قيل على لسان الشافعية في إثبات صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن فيقول المعترض خصوصية كونها صلاة ملغاة لا أثر لها لأن الحج أيضا كذلك فلم يبق غير كونها عبادة وهو منقوض بصوم الحائض حيث كان عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض
واعترض بأن العلة إذا كانت مركبة فكل جزء من أجزاءها يكون ملغى بالنسبة إلى ذلك الحكم وحينئذ فالكسر غير صحيح لأن العلة المجموع ولم يرد النقض عليه وهو ضعيف لأن المعترض أزال الوصف الخاص بالنقض والزم بالوصف العام وصار المستدل عنده معللا بالوصف العام مع الوصف الآخر فوجه النقض عليه بعد ذلك فلم يرد إلا على المجموع هذا شرح ما في الكتاب وتعبيره عن الكسر بأنه عدم تأثير أحد الجزئين ونقض الآخر تعبير لم يصرح به الإمام وإن دل عليه قوله فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض والأمر فيه قريب
ومن أمثلته أيضا أن يقال على لسان الشافعية في بيع ما لم يره المشتري مبيع مجهول الصفة عند العاقد فلم يصح كما لو قال بعتك ثوبا
فيقول المعترض ينكسر هذا بما إذا نكح امرأة لم يرها فإنه يصح نكاحها كونها مجهولة الصفة عند العاقد فهذا كسر لأنه نقض من طريق المعنى بدليل أن النكاح في الجهالة كالبيع بدليل أن الجهل بالعين في كل منهما يوجب الفساد وإن أردت تنزيل هذا المثال على عبارة المصنف
قلت خصوص كونه مبيعا ملغى لأن المرهون كذلك فبقي كونه عقدا وهو منقوض بالنكاح وليس للمعترض إيراد الوصية بدل النكاح لأنها ليست في معنى البيع في باب الجهالة ألا ترى أن شيئا من الجهالات لا ينافيها بخلاف النكاح
ومنها أم يقال على لسان الشافعية في إيجاب الكفارة في قتل العمد قتل من يضمن بدية أو قصاص بغير أذن شرعي فيجب كفارته كالخطأ فيقول المعترض خصوص كونه يضمن بالدية أو القصاص ملغى لأنها تجب على السيد في قتل عبده فبقي كونه آدميا وهو منقوض بالحربي والمرتد وقاطع الطريق والزاني المحصن ولو أن المستدل قال قتل معصوم الدم لما توجه عليه كسر
ومنها أن يقال على لسان الشافعية صلاة الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إقامتها إلى إذن السلطات كالظهر فيقول المعترض خصوص كونها مفروضة ملغى لأن التطوع كذلك فبقي كونها صلاة مطلوبة وهو منقوض بصلاة الاستسقاء وإنما قلنا مطلوبة ولم نقتصر على قولنا صلاة لتكون العلة مركبة كما أتى بها المستدل
قال " الرابع القلب وهو أن يربط خلاف قول المستدل على علته إلحاقا بأصله"
عرف القلب بأن يربط المعترض خلاف قول المستدل على علته التي ذكرها إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيسا عليه وإنما قال خلاف قوله ولم يقل نقيض قوله كما فعل الإمام لأن الحكم الذي يثبته القالب جاز أن يكون مغيرا لا نقيضا ولكن للعبارة التي ذكرها الإمام فائدة ستعرفها إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول هذا ليس بجامع لأنه يخرج بقوله على علته قلب في غير القياس
والمصنف تبع الإمام حيث قال في قياس ولعلهما أرادا تعريف قلب خاص وهو الواقع في القياس لأن الكلام في مبطلات العلة وليس بمانع لجواز أن يربط المعترض مسألة أخرى غير التي ذكرها المستدل على علته ويصدق ربط خلاف قوله على علته وليس ذلك بقلب فكان ينبغي أن يزيد في التعريف ويقول أن يربط خلاف قول المستدل في مسألة على علته ويزيد أيضا على ذلك الوجه وإلا لم يكن مانعا أيضا لجواز أن يثبته في تلك المسألة لكن على غير ذلك الوجه مثل أن يستدل بنص بطريق الحقيقة والمعترض يستدل
عليه في تلك المسألة بطريق التجوز وإن أريد تعريف القلب مطلقا فيقال هو بيان أن ما ذكره المستدل عليه في تلك المسألة على ذلك الوجه
قال "وهو إما نفي مذهبه صريحا كقولهم المسح ركن من الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن منه فلا يتقدر بالربع كالوجه أو ضمنا كقولهم بيع الغائب عقد معاوضة فيصح كالنكاح فنقول فلا يثبت فيه خيار الرؤية ومنه قلب المساواة كقولهم المكره مالك مكلف فيقع طلاقه كالمختار فنقول فيسوي بين إقراره وإيقاعه أو إثبات مذهب المعترض كقولهم الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بمجرد قربة كالوقوف بعرفة"
فيقول فلا يشترط الصوم فيه كالوقوف بعرفة
قسم القلب إلى ثلاثة أقسام
الأول أن يكون لنفي مذهب المستدل صريحا وهو قسمان
أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف أن لا يدل مع النفي على صحة مذهب المعترض صريحا كقولهم مسح الرأس ركن من أركان الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن من أركان الوضوء فلا يتقدر بالربع كالوجه فهذا نفي لمذهب المستدل بالصراحة ولا إثبات فيه لمذهب المعترض بالصراحة لجواز أن يكون الحق في جانب ثالث وهو الاستيعاب كما هو قول المالكي نعم يدل عليه بواسطة اتفاق الإمامين على أحد الحكمين ونفي ما عداهما
وثانيهما أن يدل على الأمرين معا كما إذا قيل على لسان الشافعية في البيع الموقوف عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فلا يصح كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فيقول الخصم عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فكان صحيحا كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير أذنه
القسم الثاني أن يكون لنفي مذهب المستدل ضمنا أي لنفي لازم من لوازم مذهب المستدل لانتفاء الحكم بانتفاء لازمه كقولهم بيع الغائب صحيح
كنكاح الغائبة بجامع أن كل واحد منهما عقد معاوضة فيقول فلا تثبت الرؤية في بيع الغائب قياسا على النكاح بالي مع المذكور ويلزم من نفي خيار الرؤية نفي صحة بيع الغائب إذ خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب بدليل أن من قال بصحته قال بثبوت خيار الرؤية فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فالحكمان أعني الصحة ونفي الخيار لا تنافي بينهما في الأصل وهو النكاح لاجتماعهما فيه وهما متنافيان في الفرع وهو بيع الغائب قوله ومنه أي ومن هذا
القسم الثاني قلب المساواة وهو أن يكون في الأصل حكمان
أحدهما منتف في الفرع بالاتفاق من الخصمين والآخر متنازع فيه بينهما فإذا أراد أن يثبت في الفرع بالقياس على الأصل فيقول المعترض تجب التسوية بينهما في الفرع بالقياس على الأصل أو يلزم من وجوه التسوية بينهما في الفرع عدم ثبوته فيه
كقولهم في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فنقول مكلف مالك فيسوي بين إقراره بالطلاق وإيقاعه إياه كالمختار ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمنا لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه وإقراره غير معتبر بالاتفاق فيكون إيقاعه أيضا غير معتبر
فإن قلت الحاصل في الأصل اعتبارهما معا وفي الفرع عند المعترف عدم اعتبارهما معا بمقتضى القلب فأين التسوية بينهما في الحكم وكيف يسمى هذا بطلب المساواة
قلت القياس على الأصل إنما هو من حيث عدم الاختلاف وهو ثابت فيه لكن عدم اختلاف الأصل في ثبوت الصحة فيهما وفي الفرع في عدم ثبوت الصحة فيهما وهو غير متناف للاشتراك في أصل الاستواء فظهرت التسوية وصحة التسمية
القسم الثالث أن يكون لإثبات مذهب المعترض صريحا كقولهم الاعتكاف مكث في محل مخصوص فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة
حيث لم يكن قربة بغير الإحرام وغرضهم التعرض لاشتراط الصوم ولكنهم لم يستمكنوا من التصريح باشتراطه لأنه لو صرح بذلك لم يجد أصلا فيقول مكث في محل مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فهذا القسم يعترض1 للعلة تعرضا كليا ويثبت مذهب المعترض صريحا لصحة الاعتكاف
قال "المتنافيان لا يجتمعان قلنا الثاني حصل في الفرع بغرض الإجماع"
أنكر بعض الناس إمكان القلب على الوجه الذي تقدم تعريفه محتجا بأن الحكمين أعني ما يثبته المستدل وما يثبته الغالب إن لم يتنافيا فلا قلب إذ لامتناع في أن تكون العلة الواحدة مقتضية لحكمين غير متنافيين فلا تفسد به العلة وهذا يعرفك فائدة قول الإمام في التعريف نقيض الحكم كما سبقت الإشارة إليه وإن تنافيا استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه فلا يكون قلبا إذ لا بد فيه من الرد إلى ذلك الأصل
والجواب أن الحكمين غير متنافيين لذاتيهما فلا جرم يصح اجتماعهما في الفرع وهو إجماع الخصمين على أن الثابت فيه إنما هو أحد الحكمين
فالثاني حصل في الفرع بعرض الإجماع والعرض بالعين المهملة أي الأمر العارض للفرع وهو إجماع الخصمين وإنما نبهنا عليه لوقوع الغلط فيه وهذا الكلام كما إنه الجواب فهو ابتداء دليل على القلب والمختار عند جمهور الأصوليين أن القلب حجة قادح في العلة إن اختلفوا في بعض أنواعه وذكر الشيخ أبو علي الطبري من أئمة أصحابنا أنه من ألطف ما يستعمله المناظر
قال الشيخ أبو إسحاق وسمعت القاضي أبا الطيب يقول إن القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا
1 الأصل المطبوع "يتعرف" تحريف
إضرار1" في مسألة الساحة وفي هدم البناء ضرر بالغاصب فقال له أصحابنا وفي منع صاحب الساحة من ساحته إضرار به فقال يجب أن يذكر مثل هذا في القياس ثم أعلا مراتبه ما يدل على بطلان مذهب الخصم وإثبات مذهب المعترض وهو الذي عليه المعظم ولا يخفى عليك الترتيب مما تقدم وأما قلب التسوية فذهب القاضي في مختصر التقريب والإرشاد وغيره إلى بطلانه مع القول بأصل القلب
قال" تنبيه القلب معارضة إلا أن علة المعارضة وأصلها قد يكون مغايرا لعلة المستدل"
وأصل القلب في الحقيقة معارضة وذلك أن المعارضة تسليم دليل الخصم وإقامة دليل آخر على خلافه وهذا صادق على القلب إلا أن الفرق بينهما فرق ما بين العموم والخصوص وذلك أن العلة المذكورة في المعارضة والأصل المذكور فيها قد تغاير العلة والأصل اللذين أتى بهما المستدل بخلاف القالب فإن علته وأصله هما علتا المستدل وأصله ومن الناس من لم يجعل القلب معارضة بل مناقضة لبعض مقدمات الدليل فيقال لو كان الوصف المذكور علة لما ذكرت لم يكن علة لما ينافيه معنى ما ذكرت والشيء الواحد لا يعلل به المتنافيان وإلا لاجتمعا
وقال الشيخ أبو إسحاق أن هذا يكثر في إيراد القلب قلت وهذا القول لازم لهؤلاء الذين عدوا القلب من مفسدات العلة ولا يغتر بهم وإلا فالقالب كيف يفسدها مع احتجاجه بها ومنهم من يقول القلب شاهد زور كما يشهد لك يشهد عليك
قال الخامس القول بالموجب وهو تسليم قول المستدل مع بقاء الخلاف مثاله في النفي أن يقول التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص فيقول مسلم ولكن لم يمنعه غيره ثم لو بينا أن الموجب قائم ولا مانع غيره لم يكن ما ذكرنا تمام
1 أخرجه ابن ماجة – كتاب الأحكام "7842" من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت كما رواه الحاكم من حديث بن سعيد وقال:صحيح الإسناد علي شرط مسلم
الدليل وفي الثبوت قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فيقول مسلم في زكاة التجارة
القول بالموجب هو تسليم مقتضى ما نصه المستدل دليلا لحكم مع بقاء الخلاف بينهما فيه وذلك بأن نظر المعلل أن ما تأتي به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها مع كونه غير مستلزم فلا ينقطع النزاع بتسليمه وهذا التعريف أولى من قول الإمام تسليم ما جعله المستدل موجب العلة لكونه لا يتناول غير القياس
والقول بالموجب لا يختص بالقياس وليت المصنف عمل كذلك في القلب إلا أنا اعتذرنا عنه ثم بما هو عذرا للإمام هذا والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر
وقد وقع في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ1} فأنتم المخرجون بفتح الواو وهو قادم في الدليل لأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي رام إثباته أو نفيه كذا ذكره صفي الدين الهندي وغيره وهو مقتضى كلام الآمدي والمراد بهذا التقرير جعله من مفسدات العلة
ولقائل أن يقول هذا التقرير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين وإليهم المرجع في ذلك وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة ثم القول بالموجب له حالتان
أحدهما أن يكون في جانب النفي كقولنا في القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فإن الوضيع والشريف وغير ذلك على السواء في القصاص فيقول الخصم أقول بموجبه لكن لم لا يجوز أن يمنعه مانع آخر غير التفاوت في الوسيلة بأن يكون في المثقل وصف مانع من القصاص غير ذلك أو فقدان شرط فإنه لا يلزم من عدم مانعية ذلك
1 سورة المنافقون آية"8"
عدم مانعية ما عداه ثم أنا لو ادعينا بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع وبيناه بأن المقتضي للقصاص قائم في محل النزاع وأنه لا مانع فيه غير التفاوت في الوسيلة بالأصل أو بغيره من الأدلة لم يكن ما ذكرناه أولا تمام الدليل بل جزءا منه فيكون ذلك انقطاعا والثانية أن يكون في جانب الثبوت نحو قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فنقول بالموجب إذ يجب فيها زكاة التجارة والنزاع ليس الا في زكاة العين ودليلكم إنما يقتضي وجوب الزكاة في الجملة فلئن قال المعلل أن هذا ليس قولا بالموجب لأن كلامنا في زكاة العين والألف واللام التي في الزكاة المذكورة للعهد فيصرف إليه
وحينئذ ليس ما إلتزموه قولا بالموجب قلنا العبرة بدلالة اللفظ لا بالقرينة وشيء من ألفاظ القياس في العلة وغيرها لا يأتي ذلك بل يصدق عليه فكان قولا بالموجب كذا أجاب الهندي
ولك أن تقول الحمل على العهد مقدم على الجنس والعموم على ما هو مقرر في موضعه ومدلوله غير مدلولها وإنما يصح ما ذكرتم أن لو أمكن حمله على غير العهد
ثم أن العلة في المثال المذكور كون الخيل يسابق عليها وليس هذا الوصف المقتضى لزكاة التجارة إنما الوصف المقتضي لذلك النماء الحاصل فيها هذا شرح ما في الكتاب
وقد علمت به أن المستدل إما أن ينصب دليله على إبطال مذهب خصمه فيقول الخصم بموجبه وهو الأغلب ورودا في المناظرات كالمثال الأول وإما أن ينصبه على تحقيق مذهبه كالثاني
ومن أمثلته الفصل ما لو قيل على لساننا الجاني الملتجئ إلى الحرم وجد فيه سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزا فيقول الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن الاستيفاء عندي جائز بعد الخروج من الحرم والنزاع ليس إلا في الاستيفاء في الحرم فإني أدعي أن الاستيفاء فيه هتك لحرمته
ومنها لو قيل في نصره أحد الوجهين الملتجئ إلى المسجد الحرام وجد في سبب استيفاء القصاص فتبسط الانطاع ويستوفي منه فيقول ناصر الوجه الأصح يستوفي منه بعد الإخراج
وهذا تأخير يسير وفيه صيانة للمسجد ومنها لو قال من نصر القول القديم من ضل ماله أو غضب أو سرق وتعذر انتزاعه أو أودعه فجحد أو وقع في بحر فلا زكاة فيه وإلا لوجب أداؤه لأنه مال يجب زكاته فيجب أداؤها قياسيا على سائر الأموال الزكوية فيقول ناصر الجديد أقول بموجبه فإنه يجب أداؤها إذا وجده والكلام فما قبله وقائل به
قال " السادس الفرق وهو جعل تعيين الأصل علة والفرع مانعا والأول يؤثر حيث لم يجز التعليل بعلتين والثاني عند من جعل البعض مع المانع قادحا"
ذهب جماهير الفقهاء إلى أن الفرق أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به وقال ابن السمعاني جعل كثير من فقهاء الفريقين الفرق أقوى سؤال وظنوه فقه المسألة قال وبه يتمسك الناظرون من فقهاء غزنة وكثير من بلدان خراسان قال وهو عند المحققين أضعف سؤال يذكر وهو ضربان
الأول أن يجعل المعترض تعين أصل القياس علة لحكمه كما لو قال الزائد عن الشافعية النية في الوضوء واجبة لأنها عن طهارة عن حدث فوجبت كالتيمم والجامع أنهما طهارتان قال الشافعي رضي الله عنه طهارتان فأنى يفترقان فيقول الخصم الفرق ثابت بين الأصل والفرع فإن العلة في وجوب النية في التيمم خصوصيته التي لا تعدوه وهي كونه ترابا وقع في كلام بعض الشارحين أن الخصوصية كونه طهارة ضعيفة وهذا عرى عن التحقيق
فإن ضعف الطهارة لا تختص بالتيمم فإن وضوء المستحاضة ومن به سلس البول وسلس المذي كذلك ثم إن ضعف الطهارة لا يمنع من وجوب النية إذ تجب النية على من ذكرناه في وضوئه عند من يوجبها في مطلق الوضوء
وقد بنى المصنف القول في أن هذا الضرب هل يقدح على تعليل الحكم
الواحد بعلتين فصاعدا وقد سلف القول البليغ فيه وهو في هذا البناء تابع للجماهير من المتقدمين والمتأخرين ووجه البناء واضح
فإن السائل إذا عارض علة الأصل التي جعلها المسؤول رابطة القياس بعلة أخرى فمن منع التعليل بعلتين رآه اعتراضا واقعا يجب الجواب عنه وإلا يلزمه تعدد العلة ومن لم يمنع لم ير ذلك قادحا إذا لامتناع في إبداء معنى آخر واجتماع علتيه القدر المشترك والتعيين الخاص وبهذا ضعف ابن السمعاني الفرق وفي تضعيفه بذلك نظر لأنا إذا بنينا الأمر على مسألة التعليل بعلتين نقول له إنما يضعف الفرق لو جعلنا التعليل بالعلتين جائزا أما أن معناه فلا وينقدح عندي قبل هذا البناء بناء آخر لم أر من ذكره وهو تفريغ المسألة أولا على التعليل بالعلة القاصرة
فإن قلنا بمنعها فالفرق مردود لأن التعين يتخص بالمحل الذي هو فيه وهذا هو القصور ولعل من لم يذكر ذلك لم ير التفريغ على معنى القاصرة لضعف وإلا فيبين على التعليل بعلتين فإن معناه امتنع وإلا فيحتمل أن يقال وإن وقع التعليل بعلتين لكن لا بد وأن يكون من واد واحد فلا يكون أحديهما متعدية والأخرى قاصرة لأن المتعدية تقتضي إلحاق فرغ بالأصل والقاصرة تقتضي الجمود فيتنافيان فيما يقتضيان
ويحتمل أن يقال يجوز اجتماع القاصرة والمعتدية ولا تنافي ويكون مقتضى القاصرة عدم التعدية بها لا بغيرها فيجوز التعدية بغيرها من دون تناف وهذا هو الحق وهو مقتضى كلام ابن السمعاني وغيره من أصحابنا في العلة القاصرة
الضرب الثاني أن يجعل تعيين الفرع مانعا من ثبوت الحكم الأصل فيه كقولهم يقاد المسلم بالزمن قياسا على غير المسلم بجامع القتل العمد العدوان فنقول الفرق أن تعين الفرع وهو الإسلام مانع من وجوب القصاص عليه ولك أن تقول هذا أيضا إنما يأت على القول بالقاصرة
وقد وقع في بعض الشروح أن تعين المسلم مانع لشرفه وهو محمول على شرفه
الخاص وهو الإسلام لا مطلق شرفه وإلا لم يكن تعينا ثم إن صاحب الكتاب بنى القول في هذا الضرب على أن النقض مع المانع هل يقدح فإن قلنا بقدحه كان هذا قادحا لأن الوصف الذي علق المستدل الحكم به إذ وجد في الفرع وتخلف الحكم عنه لمانع وهو التعين فقد وجد النقض مع المانع والغرض أنه قادح وإلا لم يقدح
وقد أنهينا الكلام في المبني عليه غاية الفصل القول عنها هذا شرح ما في الكتاب وإذا جردت العهد بما تقدم من كلامه في المسألتين اللتين بني عليهما القول هنا علمت أن الفرق بتعين الأصل إنما يقدح عنده في المستنبطة دون المنصوصة وأن الفرق بتعين الفرع لا يقدح مطلقا
واعلم أن الفرق عند بعض المتقدمين عبارة إن عن مجموع الضربين المذكورين حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا واختلفوا في أنه سؤال واحد أو سؤالان لاشتماله على معارضة علة الأصل بعلة ثم على معاوضة الفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع
والحق الذي قال إمام الحرمين أنه اختار عنده وارتضاه كل منتم إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح ومقبول وهو إن اشتمل على معنى معاوضة الأصل وعلى معارضة الفرع وعلى معارضة علته بعلة مستقلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه المناقضة للجمع فالكلام في الفرق وراء المعارضة وخاصية وسره فقه تناقض قصدا الجمع ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل خاصية الفرق
وذكر إمام الحرمين أن من الفروق ما يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع ففيها قال وما كان كذلك فهو مقبول مجمع عليه لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها قال ومن أنه هذا القسم أن يعيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره قيل قول الحنفي في البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فيفيد ملكا كالصحيحة
فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت
الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض الكلام إذا وفيه صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما ادعاه مشعرا بالحكم قال ومن خصائصه إمكان البوح به بالعوض لا على سبيل المفاقهة بأن يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرع والطرق النافلة على ما يعرفه الفقيه
ثم ذكر مثالا لا ينحط عن هذا وثالثا يضادهما فلا يكون الفرق فيه مبطلا الكلية والأمثلة الجزئية يختلف الحكم فيها باختلاف الاخالة فلا وجه للتطويل بتعداد الأمثلة والإخالة لا ينضبط
وقد أتى إمام الحرمين بعد ذلك بكلام جامع فقال الفرق والجمع إذا ازدحما على فرع واصل في محل النزاع فالمختار عندنا فيه إتباع الإحالة فإن كان الفرق أخيل أبطل الجمع وعكسه وإن استويا أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتنا على صيغة التساوي وأمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له وكل هذا فيما إذا كان الفرق لا يحيط فقه الجمع بالكلية فإن ذلك ليس من الفرق المختلف فيه على ما عرفت وقد نجز تمام هذا القول فيما يفسد العلة
واعلم أن صاحب الكتاب لم يذكر كيفية دفع الفرق وما قبله من القلب والكسر وعدم التأثير وخص النقض من بين المفسدات بذلك لتشعب الآراء وكثرة النظر فيه ونحن تابعناه على ما فعل فإن ذلك نظر متمحض جدلا لا تعلق له بصوم نظر المجتهد وإنما هو تابع لشريعة الجدل والتي وصفها أهلها باصطلاحاتهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن نشح على الأوقات أن نضيعها بها وبتفصيلها وأن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد مباحث المناظرين إلى مجز الخصام لئلا يذهب كل واحد في كلامه طولا وعرضا وينحرف عن مقصود نظره بما لا يرضي فتلك فائدة ليست من أصول الفقه فينبغي أن يفرد بعلم النظر وهو عندنا من أكيس العلوم وأعظمها كفالة بتدقيق المنطوق والمفهوم ولكن لا ينبغي أن المزج بالأصول التي مقصدها تذليل سبل الاجتهاد للمجتهدين لا تعليم طرق الخصام للمتناظرين ولهذا حذف الغزالي هذه الاعتراضات بالأصالة وبالله التوفيق