المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية - الإبهاج في شرح المنهاج - ط العلمية - جـ ٣

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الرابع في القياس

- ‌تعريف القياس

- ‌الباب الأول في بيان أن القياس حجة

- ‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك

- ‌التنصيص على العلة هل هو أمر بالقياس أو لا

- ‌ القياس أما قطعي أو ظني

- ‌ ما يجري فيه القياس

- ‌الباب الثاني في‌‌ أركان القياس

- ‌ أركان القياس

- ‌مدخل

- ‌في العلة وتعريفها

- ‌الطرف الأول: الطرق الدالة على العليلة

- ‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية

- ‌ الطرف الثالث في أقسام العلة

- ‌في الأصل والفرع

- ‌شروط الأصل

- ‌ شروط الفرع

- ‌قياس التلازم

- ‌الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه بابان

- ‌في المقبولة

- ‌الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم

- ‌ الاستصحاب

- ‌ الاستقراء

- ‌ الأخذ بأقل ما قيل

- ‌ المناسب

- ‌فقد الدليل بعد التفحص البليغ

- ‌في الدلائل المردودة

- ‌الاستحسان

- ‌ قول الصحابي

- ‌الكتاب السادس في التعادل والتراجيح

- ‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌تعريف الترجيح

- ‌ لا ترجيح في القطعيات

- ‌تعارض الدليلين

- ‌تعارض النصين

- ‌ الترجيح بكثرة الأدلة

- ‌في ترجيح الأخبار

- ‌طرق ترجيح الأخبار

- ‌بحال الراوي

- ‌ بوقت الرواية

- ‌ بكيفية الرواية

- ‌ بوقت ورود الخبر

- ‌ باللفظ

- ‌ بالحكم

- ‌ بعمل أكثر السلف

- ‌في تراجيح الأقيسة

- ‌بحسب العلة

- ‌ بحسب دليل العلية

- ‌ بحسب دليل الحكم

- ‌ بحسب كيفية الحكم

- ‌بموافقة الأصول في العلة

- ‌الكتاب السابع‌‌ في الاجتهادوالافتاء

- ‌ في الاجتهاد

- ‌تعريفه

- ‌في المجتهدين

- ‌يجوز الاجتهاد للرسول صلى الله علية وسلم

- ‌اجتهاد غير الرسول صلى الله علية وسلم

- ‌شروط المجتهد

- ‌في حكم الحتهاد

- ‌القول بالتصويب والتخطئة

- ‌في الإفتاء

- ‌يجوز الإفتاء للمجتهد

- ‌يجوز الستفتاء للعامة

- ‌ما يجوز فيه التقليد وما لايجوز

الفصل: ‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية

قال "تنبيه قيل لا دليل على عدم عليته فهو علة قلنا لا دليل على عليته فليس بعلة قيل لو كان علة لتأتى القياس المأمور به قلنا هو دور"

هذان طريقان ظن بعض الأصوليين أنهما مقيدان للعلية فعقد المصنف هذه الجملة منبهة على فساد هذا الظن أحدهما أن يقال لم يقم الدليل على أن هذا الوصف غير علة فيكون علة لأنه إذا انتفى الدليل على عدم عليته ثبت كونه علة للزوم انتفاء المدلول بانتفاء الدليل وقد اختار الأستاذ أبو إسحاق هذه الطريقة كما هو محكى في مختصر التقريب والجواب أن يعارض هذا بمثله ويقال لم يقم الدليل على عليته فليس بعلة كما ذكرتم وقد بالغ القاضي في مختصر التقريب في الرد على من استدل بهذا الطريق وهذا الجواب هو حاصل ما ذكره

والثاني أن يقال هذا الوصف على تقدير عليته يتأتى معه العمل بالقياس المأمور به وعلى تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك فوجب أن يكون علة لتمكن الإتيان معه بالمأمور به وهذا إيضاح هذا الطريق على الوجه الذي ساقه المصنف ولو قال إذا كان علة بدل قوله لو كان لأحسن فإن عبارة هذه توهم أن هذا طريق في نفي العلية لا في إثباتها وقد فهم الشيرازي شارح الكتاب هذا ومشى عليه وليس بجيد وأجاب المصنف بأن هذا دور لأن تأتي القياس يتوقف على ثبوت العلة فلو أثبتنا العلة به لتوقف ثبوت العلة ولزم الدور والله أعلم

ص: 84

قال‌

‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية

وهو ستة:

النقض وهو إبداء الوصف بدون الحكم مثل أن يقول لمن لم يبيت يعري أول صومه عن النية فلا يصح فينتقض بالتطوع.

هذا مبدأ القول في الأمور المبطلة للعلية وهي ستة النقض وعدم التأثير والكسر والقلب والقول بالموجب والفرق الأول النقض وهو عبارة عن إبداء الوصف الذي ادعى المستدل حجة عليته في بعض الصور مع تخلف الحكم عنه فيها وربما يعبر عنه معبرون بتخصيص العلة ومثاله قولنا من لم

ص: 84

يبيت النية تعرى أول صومه عنها فلا يصح لأن الصوم عبارة عن إمساك النهار جميعه مع النية فيجعل العراء عن النية في أول الصوم علة بطلانه فيقول الخصم ما ذكرت منقوض بصوم التطوع فإنه يصح من غير تثبيت وأمثلة هذا الفصل يخرج على حد الحصر فلا نطيل باستقصائها

قال "قيل يقدح وقيل لا مطلقا في المنصوصة وقيل حيث مانع وهو المختار قياسا على التخصيص والجامع جمع الدليلين ولأن الظن باق بخلاف ما لم يكن مانع"

الكلام في النقض من عظائم المشكلات أصولا وجدلا ونحن نتوسط في تهذيبه فلا نسهب ولا نوجز بل نأتي بالمقنع فنقول أعلم أولا أن الصور في النقض تسع لأن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم إما بمانع أو فوات شرط أو دونهما فصارت تسعا من ضرب ثلاثة في ثلاثة فالقائل بأن النقض قادح مطلقا قائل به في التسع ومقابلة مانع في جميع ذلك ولنذكر صورها الأولى القطعية المتخلف الحكم عنها لوجود مانع الثانية القطعية المتخلف الحكم عنها لفوات الشرط الثالثة القطعية المتخلف الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرط وإنما يكون ذلك بعض تعبدي أو إجماع مع عدم ظهور مانع أو شرط الرابعة والخامسة والسادسة الظنية كذلك السابعة والثامنة والتاسعة المستنبطة كذلك وعلى الفقيه طلب أمثلتها وسنذكر في أثناء الفصل من أمثلتها الكثير إن شاء الله تعالى

وقد اختلف الناس في النقد هل يكون قادحا في العلية

أحدها أنه يقدح مطلقا وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام وإليه ذهب أكثر أصحابنا

والثاني لا يقدح مطلقا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد

والثالث لا يقدح في المنصوصة مطلقا في صورها الست ويقدح المستنبطة مطلقا في صورها الثلاث

والربع واختاره المصنف لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا سواء كانت

ص: 85

العلة منصوصة أم مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح مطلقا وإلى المذهبين الأخيرين أشار بقوله وقيل في المنصوصة وقيل حيث مانع وتقديره وقيل لا يقدح في المنصوصة وقيل لا يقدح حيث مانع ولم يصرح بالنفي لأنه معطوف على منفي وحكى القاضي أبو بكر في التلخيص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب والإرشاد مذهبا خامسا عن بعض المعتزلة أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوهما مما لا يكون خطرا قال وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى وحكى ابن الحاجب مذهبا سادسا أنه لا يقدح في المستنبطة ويقدح في المنصوصة عكس الثالث واختار مذهبا سابعا وهو أنه يجوز في المستنبطة في صورتين فلا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما وأما المنصوصة فإذا كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز ولا يجوز في القطعي في صوره الثلاث أي لا يمكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أن يكون قطعيا لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا ولا ظنيا لأن الظني لا يعارض القطعي وهذا الذي اختاره ابن الحاجب نحو ما اختاره الآمدي والمنع في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط ظاهر

وأما إذا كان مانع أو فات شرط فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل لأنه حينئذ يكون ذلك الدليل مخصصا للنص القطعي اللهم إلا أن تقدر دلالة النص على جميع الأفراد قطعية فيصح ما قاله لأنه حينئذ لا يمكن التخلف وحاصله أنه في النص القطعي لا يمكن ورود النقض وفي الظني يمكن وقال إنه يقدر مانع ولا حاجة إلى ذلك فقد يكون تعبديا بالدليل الدال على التخصيص من غير ظهور معني فيمكن النقض ولا يكون قادحا وفي المستنبطة يجوز حيث مانع أو فقدان شرط ولا يجوز فيما سواهما ففيما سواهما يكون قادحا ولا يكون النقض قادحا في شيء من المواضع إلا في هذا المكان وهو إذا استنبطت علة وتخلف الحكم عنها إلا لمانع أو لفوات شرط فيستدل حينئذ بالتخلف على فسادها فينبغي أن يختصر الكلام

ص: 86

ويقال النقض يقدح في العلية إذا كانت مستنبطة ولم يكن مانع ولا فوات شرط ولا يقدح فيما سواه

وإما إمام الحرمين فذهب إلى رأي ثامن فقال في المستنبطة أن انقدح من جهة المعنى فرق بين ما ورد نقضا وبين ما نصبه المستنبطة علة بطلت علته لأنه يتبين بهذا أنه ذكر في الابتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة وإن لم ينقدح فرق فإن لم يكن الحكم فيها مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت علته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده وإن طرد مسألة اجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهذه موضع الآباء والامناء فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقصة علة التعلل معللا بعلة معنوية جارية فوردها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضتها بفقه وإن كانت المسألة قاطعة للطرد ولا فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقيهة فهذا موضع التوقف هذا رأيه في المستنبطة وحاصله أن النقض قادح فيما إذا انقدح فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض معنى يعارض العلة التي ذكرها المستدل ويمنعها من الجريان وإن لم يكن كذلك فالتوقف

وأما المنصوصة فإن كان بنص ظاهر فيظهر أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك من مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عمم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرق العلة فيها فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ونص الشارع لا يصادم وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمتنع ذلك ولا معترض عليه تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجز في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يأول ولا على التخصيص بمواقع مخصوصة فهذا عام ولا يمتنع فيه تخصيص العلة

وأما حجة الإسلام الغزالي فذهب إلى مقالة تاسعة فقال تخلف الحكم عن

ص: 87

العلة بفرض على ثلاثة أوجه الأول أن يفرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقصا وهو قسمان

أحدهما ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استثناء القياس فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى ويكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة مثال الأول إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإن علة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء والشرع لما أوجب ذلك لم ينقص هذه العلة إذ عليها تعويلنا في الضمانات لكن استثنى هذه الصور فهذا الاستثناء لا يبين المجتهد فساد هذه العلة ولا ينبغي أن يكلف الناظر الاحتراز عنه حتى نقول في علته تماثل الأجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل لأن هذا تكليف قبيح

ومثال الثاني مسألة العرايا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنف

وثانيهما ما لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على المنصوصة أو المظنونة فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة ويتبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة مثاله قولنا خارج فينقض الطهر أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بان إنه لم يتوضأ من الحجامة فيعلم أن العلة ليس مطلق كونه خارجا بل خارج عن المخرج المعتاد فكان ما ذكر بعض العلة فإن لم يكن كذلك فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل أو يراد به التعليل لكن لا لذلك الحكم المذكور قال الله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ1} ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ2} وليس كل من شاقق الله ورسوله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة ولا يمكن أن يقول إنه علة في حقهم خاصة لأن هذا يعد تهافتا في الكلام فإذن الحكم المعلول بذلك ليس هو التخريب المذكور بل هو لازمه أو جزؤه الأعم وهو كونه عذابا ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه معذب أما بخراب البيت أو غيره

1 سورة الحشر آية "2"

2 سورة الحشر آية "3"

ص: 88

وهذا وإن كان خلاف الظاهر وتأويلا للنص لكي يتعين المصير إليه رعاية لعدم انتقاض الكلام وإن ورد على العلة المظنونة وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإحالة إن كانت العلة محيلة أو من طريق الشبه إن كان تشبيها فهذا يبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقض أما إذا كانت العلة محيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن كون النقض دليلا على فساد العلة وكونه معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبيهة بفصلها عن غير مجراها فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمناظر لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقده في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصص هذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد وغلب على ظنه

ومثاله قولنا إن صوم رمضان يفتقر إلى تبييت النية لأن النية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة يسبب التطوع ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل فإن الشرع قد يسامح في النقل بما لا يسامح به في الفرض فالمحيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة موقعها ويكون ذلك وصفا شبهيا اعتبر في استعمال المحيل وتمييز مجراه عن موقفه ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي فأكثر العلل المحيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة وهذا التردد وإنما ينقدح في معنى مؤثر لا يحتاج إلى شهادة الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثرة بالاتفاق من قولنا إن كل الصوم واجب وأن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية فإن كانت العلة مناسبة بحيث يفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد لصحتها ثبوت الحكم في موضع واحد على وفقها فتنقض هذه الشهادة

ص: 89

بتخلف الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع إليه فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع عنه

وقول القائل أني اتبعته إلا في أعراض الشرع بالنص ليس بأولى من قول خصمه أعرض عنه إلا في اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم وعلى الجملة يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون لتخصيصها فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإن كانت مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحكم على وفقها في موضع فينقطع هذا الظن بأعراض الشرع عن إثباتها في موضع وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة التبييت كان ذلك في محل الاجتهاد

الوجه الثاني لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضته علة أخرى وافقة كما سيأتي تمثيله في كلام المصنف في أن علة رق الولد ملك الأم وتخلف في ولد المغرور فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم هنا كأنه حاصل تقديرا

الوجه الثالث أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجد في حق النباش فقيل تبطل بسرقة الصبي وسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز أو نقول والتبع علة الملك وقد جرى فلبثت الملك في زمن الخيار فيقال باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت المجتهد إليه لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس البحث عن المحل والشرط فيه اختلاف بين الجدليين والخطب فيه يسير والجدل شريعة وضعها أهلها فإليهم وضعها كيف شاءوا أو تكليف الاحتراز الجميع لنشر الكلام وذلك بأن يقول بيع صدر من أهله وصادف محله وجمع شرطه

ص: 90

فيفيد الملك أو سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه هذا إتمام كلام الغزالي رضي الله عنه

وهو عندنا كلام جيد مرضي فلذلك احتملنا طوله وأوردناه وفيما ذكرناه من تفاصيل المذاهب شفاء للعليل فلنلتفت إلى كلام صاحب الكتاب وقد علمت اختياره أن التخلف إن كان لمانع لا يقدح والاقداح سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن قلت كيف يتصور تخلف الحكم لا لوجود مانع أو لفوات شرط في محل فيه وصف نص الشارع قطعا أو ظاهرا على عليته أو استنبط ذلك استنباطا صحيحا

قلت هو لعمر الله بعيد الوجود والمجوز لذلك إنما مستنده جواز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة والتخصيص لا يكون بغير مخصص ذلك المخصص إن كان حيث يوجد مانع أو يفوت شرط لم يكن صورة المسألة وإن كان بدونها أمكن وهو محتمل على بعد بأن يحصل نص على عدم الحكم في محل الوصف فيه موجود وليس فيه معنى يدعى أنه مانع أو عدمه شرط وهيهات أن يوجد ذلك

وإذا عرفت هذا فقد استدل المصنف على ما اختاره بوجهين

أحدهما قياس النقض على التخصيص حيث لا يقدح في حجية العام في الباقي على ما سبق في مكانه والجامع الجمع بين الدليلين المتعارضين فترتب الحكم على العلة فيما عدا صورة وجود المانع إذ الوصف بالنسبة إلى موارده كالعام بالنسبة إلى أفراده والمانع المعارض للوصف كالمخصص المعارض للعام وهذا الوجه يختص بإحدى شقي المدعي وهو أن التخلف إذا كان لمانع لا يقدح

والثاني أن التخلف إذا كان لمانع فظن عليه الوصف باق والعمل بالظن واجب بخلاف ما إذا لم يكن التخلف لمانع فإن ظن العلية ينتفي وذلك لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لمانع يتعين أن يكون لعدم المقتضى فيكون التخلف لا لمانع قادحا في العلية

ص: 91

قال "رحمه الله قيل العلة ما يستلزم الحكم وقبل انتفاء المانع لم يستلزم قلنا بل ما يغلب على ظنه وإن لم يخطر المانع وجودا وعدما"

هذه حجة من حجج القائلين بأن النقض يقدح مطلقا وتقريرها أن العلة ما تستلزم الحكم وقبل أن ينتفي المانع أي مع وجوده لا يستلزم الحكم فلا تكون علة وحينئذ يكون تخلف الحكم مع وجود المانع قادحا في العلية وإذا كان كذلك كان التخلف لا لمانع قادحا بطريق أولى والجواب أنا لا نسلم كون العلة ما تستلزم الحكم بل هي ما يغلب على الظن وجود الحكم بمجرد النظر إليه وإن لم يخطر وجود المانع أو عدمه بالبال وهذا الجواب يستدعي تحديد العهد بالكلام في العلة وقد بنى المصنف كلامه على المختار من العلة المعرف

ولقائل أن يقول إن قلنا العلة مؤثرة أو باعثة فلا ريب في أنها تستلزم وإن قلنا معرفة نصبت أمارة فتعريفها للحكم يوجب ظن حصوله فصار مستلزما لحصول الظن والعمل بالظن واجب فهي مستلزمة على الأقوال جميعا وإن اختلفت جهة الاستلزام وحكمها

وقال أبو الحسين في المعتمد إن أقوى ما يحتج به هؤلاء أن يقال تخصيص العلة مما يمنع كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن كونها جهة المصلحة أو لا يظن ذلك لكن ذلك باطل لأن العلة فائدتها كونها توجب العلم أو الظن بثبوت الحكم في الفرع والأفقي الأصل لا حاجة إليها لثبوت الحكم فيه بالنص وإذا لم يحصل هذا بطل كونه علة وبيان أنه يمنع كونها أمارة على الحكم أنا إذا علمنا أن علة حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب هي كونه موزونا ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مثلا مع أنه موزون فلا يخلو إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى يقتضي إباحته أو بنص فإن علمنا إباحته بعلة أخرى بقياس بها الرصاص على أصل ثبت فيه ذلك الحكم لكونه أبيض مثلا فأنا إذا علمنا في شيء أنه موزون وشككنا في كونه أبيض مثلا لم يعلم قبح بيعه متفاضلا ما لم يعلم أنه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه موزونا فظهر أنه لا يعلم بعد التخصيص تحريم بيع شيء متفاضلا لكونه

ص: 92

موزونا فقط فبطل أن يكون كونه موزونا وحده علة بل كونه موزونا مع كونه غير أبيض وإن علمنا إباحته بالنص فالكلام فيه كما في القسم الأول

وأجيب عن هذا الوجه بأنا نسلم أنه مهما انتفى الحكم عن العلة في بعض الصور لمعارض فما لم يعلم أو يظن انتفاء ذلك المعارض في غيره من الصور لا يمكننا إثبات ذلك الحكم فيه لكن لم قلتم أنه يلزم منه أن يكون إثبات ذلك الحكم فيه داخلا في ذات العلة بل جاز أن يكون شرطا

واحتج القائلون بأن النقض لا يقدح مطلقا بأوجه منها ما روى عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس وعن ابن عباس رضي الله عنه مثله واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعا وأجيب عنه بوجهين

أحدهما أنه لا دلالة لقول ابن مسعود وابن عباس على أن القياس الذي ثبت الحكم على خلافه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدا

والثاني سلمنا أن حجة لكن يمكن حمل ذلك على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة واعترض صفي الدين الهندي على الأول بعد أن ذكر أنه إشكال قوي بأن إطلاق القياس عليه يشعر إشعارا ظاهرا بكونه حجة وتسميته ذلك اعتبارا بما كان قبل ذلك الحكم المعدول به مجازا على خلاف الأصل والقياس الذي لا يعمل به من المنسوخ والفاسد لا نسلم أنه يسمى قياسا إذ ذاك على الإطلاق في الفرق وإن سمي به مفيدا ومنها أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع فوجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة إذ ليس من شرط الإمارة أن يصحبها الحكم ولا يتخلف عنها أصلا وإلا لكان دليلا قاطعا لأمارة ولهذا أن جميع الإمارات الشرعية موجودة قبل ورود الشرع وإن لم تكن الأحكام ملازمة لها والغيم الرطب أمارة على وجود المطر وأن تخلف عنه المطر آونة

وخبر الواحد العدل علامة على وجود وإن تخلف عنه وجود القاطع

ص: 93

وجوابه أنا لا نسلم أن تخلف الحكم عن الإمارة لا يقدح في كونها أمارة قوله لو صحبها الحكم في كل الصور لم تكن أمارة بل قاطعا قلنا ممنوع وهذا لأن القاطع هو الذي لا يجوز أن ينفك الحكم عنه ولو لمانع لا أنه الذي لا ينفك الحكم عنه فإن الدليل الظني قد لا ينفك الحكم عنه وإن كان يجوز انفكاكه لمانع وما ذكره من الأمثلة فنحن نمنع كونه لا يقدح في غلبة الظن في كونه إمارة وإنما لا يقدح ذلك إذا غلبت على ظنه حصول ما يلازم انتفاء الحكم في صور التخلف فإما إذا لم يحصل ذلك فلا نسلم أنه لا يقدح ذلك فيه ثم الذي يؤيد ما ذكرناه من الاحتمال أن الدليل الدال على كون الإمارة للحكم الفلاني أن اعتبر في كونها إمارة صورا مخصوصة وصفة مخصوصة وهيئة مخصوصة فلا يكون تخلف الحكم في غير تلك الصور وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الإمارة بل عن بعضها لأن تلك الخصوصيات معتبرة في ماهية الإمارة حينئذ وإن لم تعتبر ذلك بل دل على كونها إمارة في سائر الصور كيف حصلت فيمتنع التخلف وإلا يلزم الترك لمقتضى دليل الإمارة وهو باطل

واحتج القائلون بأن النقض يقدح المستنبطة دون المنصوصة بأن دليل العلة المستنبطة اقتران الحكم بها في بعض الصور فكما أن اقتران الحكم بالوصف في بعض الصور يدل على العلية فقدم الاقتران به في بعض الصور يدل على عدم العلية فتعارضا وتساقطا بخلاف العلة المنصوصة فإن دليل عليتها النص فكما أن تخلف حكم النص عنه في بعض الصور لمعارض لا يوجب إبطال العمل به فيما عداها فكذلك العلة المنصوصة التي في معناها

وأجيب عنه بأنه ليس دليل علية المستنبطة مجرد الاقتران بل شهادة المناسبة وغيرها من الطرف المذكورة والتخلف لمانع أو فوات شرط لا يدل على عدم العلية لما سبق فلا يعارض دليل العلية كما في المنصوصة

قال "والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا لأن الإجماع أول من النقض"

ما تقدم في كلام المصنف هو فيما إذا لم تكن صورة النقض واردة على سبيل الاستثناء أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء

ص: 94

أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء فإنه لا يقدح على المختار خلافا لبعض المانعين من جواز تخصيص العلة سواء كانت العلة معلومة كمسألة الصاع في المصراة أو مظنونة كمسألة العرايا وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر والعنب في الكرم بالزبيب فإنها واردة نقضا على تحريم الربا لأن العلة في تحريمه إما الطعم أو الكيل أو الفوت أو المال وكل منها موجود في العرايا وإنما لا يقدح ذلك في العلة لأنه إنما يعلم كونه ورد على سبيل الاستثناء إذا كان النقص لازما على جميع المذاهب كما ذكرناه في مسألة العرايا

وحينئذ يكون معارضا للإجماع فإنه منعقد على أن علة الربا أحد الأمور الأربعة والإجماع أقوى في الدلالة منه فيقدم عليه ويعمل بمقتضاه واعلم أن الإمام مثل الوارد على سبيل الاستثناء في المظنونة بمسألة العرايا وفي المعلومة بضرب الدية على العاقلة فإنها لا تنقض علمنا بأن من لم ينقدح على الجنابة لم يؤاخذ بضمانها

وقد سبق الإمام بهذا المثال إمام الحرمين وغيره واعترض على التمثيل به بأنه عكس النقص لأنه أبدا الحكم بدون القلة وذلك أن الجنابة سبب لوجوب الضمان وهنا وجب بدون الجناية وهو اعتراض غير منقدح لأن تقرير التمثيل ذلك أن يقال الجناية سبب الضمان

وقد تخلف الحكم في القاتل عمدا أو عمد خطأ مع وجود العلة وإن قرر على الوجه المذكور كان بمعنى أن يقول عدم الجناية سبب لعدم الضمان

وقد وجب هذا السبب في العاقلة مع تخلف عدم الضمان والمصنف اقتصر على التمثيل بمسألة العرايا لأنها واردة نقضا على علة مظنونة فإذا لم يقدح فيها لم يقدح في المعلومة بطريق الأولى وفي التمثيل بمسألة العرايا دقيقة أخرى وهي الإشارة إلى أن ما ورد مستثنى جاز أن يكون معقول المعنى كمسألة العرايا فإنها استثنيت رخصة وتسهيلا على المعسرين ولذلك يختص بها الفقراء على أحد قولين وهذا ما عليه الجمهور وأعني أن المستثنى يجوز أن يعقل له معنى وأن لا يعقل

ص: 95

وادعى إمام الحرمين أن الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى وأن ما يعقل معناه لا يستثنى ثم أورد تحمل العاقلة ومسألة المصراة فقال إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة بمختص بسببها ومقتضاها طردناها غير مكثرين بتحمل العاقلة على قطع وتحملهم لا يعترض على ما يمهد من المعنى ولو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى تصح على السير مأخوذا من المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من العقل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة إنما تجري في الشريعة وإذا كان المعان معسرا وعلى هذا انتظمت أبواب النفقات والكفارات والقاتل خطأ يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس بمثل هذه التخيلات اعتبار

وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تنشأ به أجزاؤها فيلزمنا عليه من إيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتمل بمثل هذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن المحتلب في أيام اختيار الفرارة والبكارة يقع مجهول القدر فرأي الشارع فيما يقع ويكثر إثبات مقدر من جنس درا للنزاع

فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم به

فإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما يثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت أيضا كانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك الفرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدي إلى تعلية

وإنما المطلوب فيما فرضناه الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن ما ذكروه من دوام النزاع بعد انقطاعه بذكر مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الثمن انتهى وإمام الحرمين أجل من أن يصادم كلامه بكلمات أمثالنا ولكنا نقول على جهة الاستشكال دون المناظرة مسألة العاقلة معقولة المعنى واتفاق الجاهلية على ذلك قبل ورود الشرع يرشد إلى ذلك لأن التعبدي لا تهتدي إليه العقول وإنما يتلقى من الشرع"

ص: 96

فإن قلت وما ذلك المعنى قلت المعاونة على حمل الجناية قولكم ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال

قلنا أولا هذا نقض والكلام في أن النقض يقدح

وثانيا أن الأموال غالبا لا تتلف ما سيق مؤثة وإنما يكون ذلك في أموره يسيرة وأما إتلاف النفوس فالأمر فيها مشق وإذا ثبت الحمل في موضع يعظم العزم فيه لم يلزم إثباته في موضع لا يعظم فيه ولا يشق وأيضا فوقوع إتلاف النفوس لا يكثر بخلاف الأموال فلم يلزم من تحمل ما يقع نادرا تحمل ما يغلب وقوعه أيضا كانت العرب تتناضل أبطالها وتتجاول فرسانها وبهم إلى ذلك حاجة ويقع القتل الخطأ عند الطراد فرجعت الفائدة إلى العاقلة فناسب توزيع الغرم الذي لا يشق عليهم قولكم وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من قتل الخطأ وشبه العمد قلنا لعل ذلك هو السبب في عدم التحمل فيه كما بيناه فإن الشيء إذا كان وقوعه نادرا تناسب فيه المعاونة قوله الإعانة إنما تكون إذا كان المعان معسرا قلنا الإعانة من حيث هي مطلوبة محبوبة والصدقة على الأغنياء جائزة ولكن الإعانة حالة الإعسار آكدور بما شبه أعانته الأقارب بتحمل الدية عنهم بإعانة الأجانب الذين غرموا لإصلاح ذات البين

وأما مسألة المصراة فمعقولة المعنى أيضا من جهة ما ذكره إمام الحرمين وقوله يلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره إلى قوله كيف يهتدي إلى تعيين جنس التمر قلنا قد رجع الشرع إلى البدل من غير مثل ولا يقوم في أماكن منها الحر يضمن بمائة من الإبل ومنها الجنين يضمن بالقوة ويستوي في الذكر والأنثى

ومنها المقدرات الشرعية في الشجاج كالموضحة مع اختلافها في الصغر والكبر

ومنها جزاء الصيد فليس من شرط الضمان أن يكون بالمثل أو القيمة من النقدين ولا من شرط المثل أن يضمن بالمثل والعدول في الأمور التي لا تنضبط إلى شيء مقدر لا يختلف من محاسن الشريعة قطعا للتشاجر والتخاصم

ص: 97

والتمر كان أغلب أقواتهم كما أن الإبل غالب أموالهم وقد انتهى ما تخيلناه وأوردناه ولكنا نطرق سبيلا للبحث يسلكه الفطن يغر ناظرين إلى الجزم بصحته

وقد تعرض ابن الابياري شارح البرهان لما أوردناه في مسألة العاقلة والذي نقول أخيرا أن الظاهر أن الحق في جانب إمام الحرمين ولو عقل في العاقلة معنى المعاونة لعدى إلى الجيران ولكان أبعاض الجاني من آبائه وبنيه أولى من بقية العصيات في تحملها مع كونهم لا يتحملونها

وأما تشبيه تحمل الأقارب الدية بإعانة الأجانب الغارمين فأين أحدهما من الآخر والغارمون قد ثبت في ذمتهم وناسب قضاء دينهم في ذلك أما القاتل خطأ أو عمد خطأ فلم يشغل الشارع ذمته بشيء فلا ريب في أن هذا حكم تعبدي نتلقاه على الرأس والعين وكذلك القول في مسألة المصراة

ثم ألحق إمام الحرمين بتحمل العاقلة الكتابة الفاسدة حيث نزلناها منزلة الكتابة الصحيحة

وإذا قلنا في البيع الفاسد الملك لا ينتقل بدون سبب شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع والموقع المطلوب في الشريعة فلا وقع له في مقصود العقد الصحيح لم يكن للخصم نقض ذلك بالكتابة الفاسدة لكونها مستثناة شاذة عن القاعدة كتحمل العاقلة ورأي ذو البصائر أن لا يحكموا بالشاذ عن الكل ولكن يتركون الشاذ على شذوذه يعتقدونه كالخارج على المنهاج ولقائل أن يقول

إذا كانت الكتابة مستثناة والمستثنى عندك تعبد خارج عن القياس فلم قست الفاسد منها على الصحيح ولا محيص عن هذا إلا أن يحصل نص أو ينعقد إجماع على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير مستثناة بذلك وإلا فللمنفي أن يقول وقع الاتفاق على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بصحيحه

فإن قلت هذا مستثنى قلت أين دليله الذي خرج به ثم نحرر عبارة فنقول

ص: 98

ما اتسعت طرقه كان الفاسد أحد طرقه الدليل عليه العتق وبيان هذا في الفرع أن الملك يحصل بأسباب البيع والهبة والإرث والاغتنام والاحتطاب والاحتشاش والإلتقاط والمعدن وفي الأصل العتق يحل بأسباب مباشرة وتسببا وفي الثمن بالإستيلاد والتدبير والكتابة فلما استويا في اتساع الطرق جاز أن يكون الفاسد أحد الطرق وتأثير هذا الكلام أن الطرق إذا اتسعت في تحصيله فقد دخله نوع من المسامحة والمساهلة فجاز أن يكون الفاسد من طرقه ولا يقال الكتابة حصل العتق فيها بالتعليق دون المعارضة لأنا نقول لو كان كذلك وجب اشتراط التنصيص على التعليق ولا يجب التنصيص عليه

وتقول فإن أديت إلى فأنت حر وأيضا فإنه مستحق فسخ هذه الكتابة ولو كان التعليق هو الذي تحصل به العتق لما قبل الفسخ كسائر التعليق وأيضا فإكسابه وأولاده تتبعه في العتق ولو عتق بالتعليق لم يكن ذلك وأيضا فلو كاتبه على خمر وأداه وجب عليه قيمة نفسه ولو عتق بالتعليق لما وجب عليه قيمة نفسه فما هذا الرجوع بالقيمة إلا حكم المعاوضة

وقد تناهينا في الاحتجاج للخصم ولسنا ممن يغادر هذه الكلمات سالمة عن الإبطال وإن طال بها الفصل وخرج عن المقصود من الشرح

فنقول قد أجاب أصحابنا عن قياسهم البيع الفاسد على الكتابة الفاسدة بطريق ونحن نزيف منها ما لا نرتضيه حتى لا نتجاوز حد الإنصاف

أحدهما قولهم البدل في الكتابة غير مقصود لتمكن السيد من أخذ اكتساب العبد دون الكتابة ولما كان كذلك لم ينظر إلى فساده وصحته وهذا غير مرضي فإن العبد قد يكون كسوبا ويكاتبه السيد طمعا فيما لعله يصل إليه من سهم الرقاب وأيضا كان ينبغي أن لا يفسد العقد كما إذا تزوجها على صداق فاسد فإنه لما كان البدل غير مقصود في النكاح لم يؤثر في فساده فتأثيره في الكتابة يدل على أنه مقصود

ص: 99

وثانيها قولهم العتق في الكتابة مضاف إلى التعليق فإن الكتابة الصحيحة اشتملت على تعليق ومعاوضة ولا بد فيها من ذكر التعليق فنقول كاتبتك على ألف فإن أديت فأنت حر وفي الفاسدة لا بد من التعليق والتعليق لا فساد فيه وعلى هذا تمتنع المسائل التي لزمت من أحكام المعاوضات كقبول الفسخ ولزوم القيمة له واستتباع الاكساب والأولاد

وهذا الجواب أمثل من الأول إلا أن لقائل أن يقول العتق مضاف إلى المعاوضة لا إلى التعليق قولكم يشترط أن ينص على التعليق قلنا لا نسلم بل لو نواه بقوله كاتبتك على كذا صحت الكتابة أيضا وهذا واضح وأبلغ منه قول مخرج من التدبير أن لفظ الكتابة صريح مغن عن التصريح بالتعليق ونيته ونظيره قول إلى اسحاق إن كان الرجل فقيها صحت الكتابة والأفد به من التعليق أو نيته ثم كيف يشترط التنصيص على التعليق والعتق عند الأداء يحصل لا محالة بعقد المعاوضة وتسليم العوض يقتضي تسليم ما يقابله فلا يحتاج أن يشترطه في العقد ويصير بمثابة البيع لما اقتضى بنفسه الملك لم يحتج إلى أن يقول بعتك على أن تتسلم أو تتملك

وأما المسائل فلا منع فيها وإنما منع أصحابنا استتباع الكسب والولد فحسب وأما الفسخ فغير ممتنع وقيمة نفسه واجبة وذلك من أحكام العوض دون التعليق

وثالثهما قول بعضهم الكتابة في الأصل خارجة عن القياس فألحقنا فاسدها بصحيحها لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه بخلاف البيع وهذا كلام رديء فإن إلحاق فاسدها بصحيحها عين القياس ثم إنها وإن عدل بها عن القياس إلا أنه بعد ورود الشرع بها وصفت بالصحة فينبغي وصف فاسدها بالفساد وإذا ثبت فسادها والفاسد عند الشافعي مرادف للباطل وجب إلغاؤها وأن يكون لها حكم ألا ترى أن السلم والإجارة ثبتا على خلاف القياس لورودهما على معدوم ثم لما ثبت الصحيح منهما ونعت بالصحة يؤدي على الفاسد بالفساد حتى لا يثبت لفاسد كل منهما ما لصحيحه

والحق عندنا في الجواب رأي رابع فنقول الكتابة عقد إرفاق لا يقصد بها غير العتق وأن يخلص العبد من الرق فألفينا مضى الفساد ولم ننظر إليه

ص: 100

وعمدنا إلى العتق الذي هو المقصود ورأينا الشارع متشوف إلى تحصيله ما أمكن ولهذا يكمل بعضه بعضا ويجعل بعض الملك كجميعه وبعض اللفظ كجميعه ويعتق القريب على قريبه وننزله في أبواب الكفارات في أول الدرجات ونضرب صفحا عن إيجاب الصوم على ذي الميسرة العظمى وإن كان الصوم أشق عليه وما ذلك إلا تشوف إلى تحصيل العتق كيف قدر الأمر ولهذا إذا أدى الأمر إلى العتق بعد هذا لا ينقض ولا يرفض وفي البيع الفاسد إذا تأدى الأمر إلى الملك بالقبض يجب نقضه عندهم ورفضه واسترجاعه كل ذلك تغليبا لتحصيل العتق

فإن قلت فما دعاك إلى آنه تتبعه ولده قلت في ثبوت الكتابة لولد المكاتبة من زنا أو نكاح أجنبي قولان فإن قلنا لا يثبت اندفع السؤال وإن قلنا بالصحيح وهو أنه يثبت فنقول نحن إذا الفينا معنى المعاوضة الفاسدة ولم ننظر إليها طلبا لتحصيل العتق صححنا ما هو تابع طلبا لتكثير العتق ولهذا كان هذا القول الصحيح وهو الأحب للشافعي رضي الله عنه وإنما أحبه للزومه تكثير العتق وقطع به إسحاق رحمه الله وقال إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطا

فرعان أحدهما في وجوب الاحتراز عن النقض مذاهب ثالثها يجب في المستثنى دون غيره

الثاني ذهب بعض الفقهاء إلى أن مسألة النقض من القطعيات قال القاضي وليس الأمر كذلك عندي بل هي من المجتهدات وكل مأمور بما غلب على ظنه

قال "وجوابه منع العلة لعدم قيد"

هذه الجملة معقودة لبيان النقض وجوابه قال صاحب الكتاب وهو يتأتى بأحد أمور ثلاثة الأول منع وجود العلة في محل النقض وفيه بحثان

أحدهما أن ذلك لا يكون معاندة وصدا بالمكابرة بل يكون بناء على وجود فيه مناسب أو مؤثر في العلة وهو غير حاصل في صفة النقض ولم يتعرض

ص: 101

المصنف للكلام في تقسيم القيد فنقول لا يخلو ذلك القيد أما أن يكون جليا أو خفيا الأول الجلي وله أمثلة منها أن في نصرة القول الصحيح هذا الحلي مال معد لاستعمال مباح فلا يجب فيه زكاة كثياب البذلة وعبيد الخدمة فإن نقض بالمعد لاستعمال محرم أو مكروه فدفعه واضح لأنه غير معد لاستعمال مباح

ومنها قولنا طهارة عن حديث فيشترط فيها النية كالتيمم فإن نقض بالطهارة عن النجاسة قلنا ليس الحدث من النجاسة

ومنها قولنا من لم ينو في رمضان ليلا يعرا أول صومه عن النية فلا يصح فإن نقض بالتطوع قلنا العلة عرا أول الصوم الواجب لا مطلق الصوم

ومنها قولنا في المستولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا يجب فيه الزكاة بحال وما يجب فيه فلا يجب كما إذا كانت أمهات ظباء فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلولة يجب فيها الزكاة في بعض الأحوال

ومنها أن نقول في نصرة المذهب الصحيح التباس أخذ لنصاب تام خفيفة من حرز مثله عدوانا فيكون سارقا يجب قطعه فإن نقض بما إذا سرق الكفن في قبر في مغارة حيث لا يجب القطع على أصح الوجهين قلنا ليس ذلك في حرز مثله والثاني الخفي فإما أن يكون معناه واحدا أو متعددا إما بطريق التواطئ أو المشكك أو الإشتراك فهذه أقسام أربعة أن يكون معناه واحدا

وذكر من أمثلته قولنا السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه الأجل كالبيع فإن نقض بالكتابة قلنا ليست عقد معاوضة إذ هي بيع مال الإنسان بمال نفسه وذلك لا يجوز بل هي عقد إرفاق ولذلك لا يحيل مقصودها لفساد العوض

وفي هذا المثال نظر والحق أن الكتابة معاوضة تضمنت تعليق عتق وقيل تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة معدولة عن القياس بل الجواب عن هذا النقض أن نقول الكتابة وردت مستثناه فلا ترد نقضا لم تقدم

ومنها قولنا في قصر الصلاة رخصة شرعت للتخفيف فلا يتحتم الأخذ بها

ص: 102

كالإفطار في الصوم فإن نقض بأكل الميتة حال من الإضطرار حيث يجب على أصح الوجهين قلنا حينئذ أنه شرع للتخفيف بل للضرورة وقيام البينة

وثانيها أن يتعدد بطريق التواطؤ

ومن أمثلته قولنا الصوم عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن نقض بالحج لأنه يتكرر على الأشخاص قلنا المراد من التكرار التكرار بحسب الأزمان والأشخاص أو بحسب الأزمان وما ذكرتم من النقض ليس كذلك بل هو متكرر بحسب الأشخاص فقط ومنها قولنا يحج عن الميت المستطيع وإن لم يوص لأنه حق لازم عليه فيقضي عنه سواء أوصى به أو لم يوص كالدين فإن نقض بالصلاة والصوم قلنا بعد تسليم الحكم وعدم الفرق الإجمالي الحق اللازم مقول على الحق المالي وعلى غيره بالتواطئ والأول هو المقصود هنا دون الثاني الذي هو المراد من النقض

وثالثها أن يتعدد معناه بطريق التشكيك كقولنا في المتولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه وما فيه زكاة فلا تجب فيها الزكاة قياسا على ما إذا كانت الأمهات ظباء فإن الخصم وافق في هذه الحالة فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلوفة من البقر والغنم قلنا ما لا يجب فيه الزكاة مقول بالتشكيك على ما يجب فيه بحال كالظباء وعلى ما يجب له من حيث الجملة كالمعلوفة فإنه يجب فيها الزكاة إذا صارت سائمة وكذا إذا علفت قدرا تعيش الماشية بدونه كاليومين مثلا فإنها معلوفة ولا زكاة فيها والحالة هذه على أصح الأوجه وكذا لم يقصد العلف على أحد الوجهين وقد تقدم ذكره هذه المسألة مثالا للقيد الجلي ولكن على غير هذا الوجه فإنها ثم مقيدة بقولنا لا يجب فيها الزكاة بحال

وقد قال بعض الأصوليين أن النقض يندفع أيضا بتفسير اللفظ وذكر هذا المثال وقال إذا صارت من سائمة وجبت زكاتها ويكون اللفظ غير متناول لها عرفا أو شرعا وذكر إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هذا المثال ثم قال وهذا الضرب مقبول ولا نظن أن النقض يندفع بالتفسير ولكنه يندفع بقضية اللفظ لاقتضاء عموم اللفظ النفس والتفسير إيضاح له وكل تفسير لا ينبني عليه قضية اللفظ في إطلاقه فلا معول عليه في دفع النقض مثل أن يقول القائل مطعوم فلا يباع بعضه ببعض متفاضلا فإذا

ص: 103

نقض عليه اعتلاله بالبر مع الشعير فلا يجديه في دفع النقض أن يقول اسم المطعوم ينطلق على ما يتحد جنسه وعلى ما يختلف جنسه فإذا خصصه وفسره بجهة من جهات احتماله وهي ما إذا اتحد الجنس فلا يقبل ذلك منه إذ ظاهر لفظه لا ينبني على هذا التفسير وأطال القاضي في هذا الفصل وما ذكره حق متقبل

وحاصله أن التفسير إذا كان لا ينبئ عنه اللفظ لم يقبل وإلا قبل ويكون حينئذ راجعا إلى هذه الأقسام التي نحن في ذكرها

ورابعها أن يتعدد بطريق الإاشتراك كقولنا جمع الطلاق في القرء الواحد فلا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن نقض بما لو طلقها ثلاثا في الحيض فإنه جمع الطلاق في الطهر الواحد مع أن الطلاق يدعى وفاقا قبنا المراد من القرء هنا الطهر

قال "وليس للمعترض الدليل على وجوده لأنه نقل ولو قال فادللت على وجوده هنا دل عليه ثمنه فهو نقل إلى نقض الدليل"

"البحث الثاني في أن المستدل إذا منع حصول وجود العلة في صورة النقض فهل للمعترض إقامة الدلالة عليه فيه مذاهب"

أحدها قال الأكثرون وجزم به الإمام والمصنف أنه لا يمكن من ذلك لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى لأن وجود العلة في صورة النقض مسألة تغاير المسألة التي أقام المستدل عليها الدليل وأيضا فإن فيه قلب القاعدة فإن المعترض يصير مستدلا والمستدل معترضا

والثاني أنه يمكن من ذلك لأن فيه تحقيق النقض فكان من متمماته

والثالث قاله الآمدي أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تخفيفا لفائدة المناظرة وإن أمكن القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا وهذا التفصيل عندي داخل في مجاري التحقيق

والرابع يمكن المعترض ما لم يكن حكما شرعيا كذا حكاه ابن الحاجب

ص: 104

وقال قطب الدين السيرازي ما وجدته في شيء من الكتب ولعل تقريره أن يقال يمكن المعترض في الحكم العقلي لأنه يقدح فيه فيحصل فيه فائدة لا أن يمكن في الحكم الشرعي إذا التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ولا ينفعه لأنه بعد بيان المعترض وجود العلة في صورة النقض يقول المستدل يجوز أن يكون تخلف الحكم لوجود مانع أو فوات شرط فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين دليل العلة ودليل التخلف فلا تبطل العلة بخلاف الحكم العقلي فإنه لا يتمشى فيه قال قطب الدين ويحتمل أن يكون المراد ما لم يكن الوصف المدعي علة حكما شرعيا فإنه إن مكن من إثباته لزم قلب القاعدة لصيرورة المعترض مستدلا لإثباته الحكم الشرعي بخلاف ما لم يكن الوصف حكما شرعيا فإنه لا يلزمه ذلك قال وهذا الاحتمال أظهر

قلت وقد حكى صفي الدين الهندي هذا المذهب وفرق بين الحكم الشرعي وغيره بأن الحكم ينتشر الكلام فيه جدا بخلاف غيره فإن الأمر فيه قريب قوله فلو قال المعترض ما ذكرت من الدلالة على وجود العلة في محل النقض فهو نقل أي انتقال من نقض العلة إلى نقض الدليل أي دليل وجود العلة في الفرع ولم يتعرض المصنف بعد قوله إن هذا نقل إلى أنه هل يكونه مسموعا أولا ولك أن تقول قوله أنه نقل الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا لأنه قدم أولا أنه ليس للمعترض الدليل على وجوده لكونه نقلا فأومأ بذلك إلى أن النقل لا يجوز ويحتمل أن يريد أن مثل هذا النقل يسمع وعلى هذا مشى الشيرازي شارح الكتاب وكلام الإمام أيضا محتمل للأمرين وظاهره الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا فإنه قال لا يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجود العلة في صورة النقض لكونه انتقالا إلى مسألة أخرى بل لو قال المعترض ما دللت به إلى آخره قال فيكون انتقالا من السؤال الذي ابتدأ به إلى غيره هذا كلامه وكأنه قال في تلك الصورة إنها انتقال من مسألة إلى مسألة أخرى أراد التنبيه على أن ما يقوله المعترض في هذا الفرع انتقال من السؤال الأول إلى غيره لا من مسألة إلى أخرى فأتى بلفظه بلى لذلك ولم يرد أن هذا انتقال مسموع

ص: 105

وعلى هذا مشى الشيخ صفي الدين الهندي وقال يعد منقطعا وبه جزم الآمدي أعني بأنه لا يكون مسموعا نعم لو قال ذلك ابتداء أو قال يلزمك إما نقض العلة أو نقض الدليل الدال على وجودها في الفرع كان مسموعا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه

قال "أو دعوى الحكم مثل أن يقول السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع فينتقض بالإجارة قلنا هناك لاستقرار المعقود لا لصحة العقد ولو تقديرا كقولنا رق الأم علة رق الولد وثبت في ولد المغرور تقديرا وإلا لما تجب قيمته"

الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتأتى بها دفع النقض أن يمنع المطل عدم الحكم في صورة النقض ويدعي ثبوته فيها وذلك قد يكون ظاهرا بأن يكون الحكم ثابتا فيها جزما على رأس المستدل إن كان مجتهدا أو رأي إمامه إن كان مقلدا ناصرا لمذهبه أو على أحد قوليه غير المرجوع عنه أو غير ذلك ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لكونه كما قال الإمام معلوما وقد يكون خفيا وفيه كلام المصنف وذلك قد يكون تحقيقا وقد يكون تقديرا الأول التحقيقي مثل السلم عقد معاوضة فلا يتشرط فيه التأجيل كالبيع فإن نقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا لصحة عقد الإجارة وإنما جاء فيها التقرير المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين

ومن أمثلته أيضا الإجارة عقد معاوضة فلا تنفسخ بالموت كالبيع فإن نقض بالنكاح قلنا بعد تسليم كونه عقد معاوضة هناك لا ينفسخ بالموت لكن انتهى

منها الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إجبارها كالبالغ فإن نقض بالثيب المجنونة بحيث يجوز تزويجها على الوجه الصحيح قلنا لا نسلم صحة إجبارها كما لو كانت عاقلة وهو وجه في المذهب

ومنها أن يقول في تخالف المتبايعين بعد هلاك السلعة أنه فسخ بيع يصح مع رد العين فصح مع رد القيمة كما لو اشترى ثوبا بعبد وتقابضا ثم هلك العبد ثم

ص: 106

علم مشتري الثوب بالثوب عيبا فيقول الحنفي هذا ينتقض بالإقالة فإنها بيع يصح مع رد العين ولا يصح مع رد القيمة فنقول لا نسلم ذلك فإن الإقالة عندنا تصح بعد هلاك السلعة ويرجع فيها بالقيمة

والثاني التقديري وإليه أشار بقوله ولو تقديرا وهو دافع للنقض على الرأي الأظهر لأن المقدر كالمحقق

مثاله قولنا رق الأم علة رق الولد فيكون هذا الولد رقيقا فإن نقض بولد المغرور بحرية الجارية حيث كان رق الأم موجودا مع انعقاد الولد حرا قلنا رق الولد موجود تقديرا أو مقدر وجوده إذ لو لم يقدر رقه لم نوجب قيمته إذ لا قيمة في الحر ولذلك حكي وجه أنه ينعقد رقيقا ثم يعتق على المغرور حكاه الرافعي في كتاب العتق وجزم في النكاح بخلافه

وأعلم أن الأول أعني التحقيق دافع للنقض إذا كان الحكم مشفقا عليه بين المستدل وخصمه وكذا إن كان مذهبا للمستدل فقط لأنه إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد فالآن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا لخصمه فقط كما يقول هذا الوصف مما لا يطرد على أصل فإنه ثابت في الصورة الفلانية والحكم غير ثابت فيها عندي ولست بالمنقاد إليه لم يتوجه النقض لأن خلاف الخصم في تلك المسألة كخلافه في المسألة المتنازع فيها وهو محجوب بذلك الدليل في المسألتين معا وأما تمكين المعترض في إقامة الدلالة على عدم الحكم ففيه الخلاف السابق في منع وجود العلة في صورة النقض ومن فروع هذا القسم أعني منع الحكم ما إذا ذكر المعترض صورة فقال المستدل المنتصر لمذهب إمامه لا أعرف في هذه نصا فلا يلزمني النقض فهل يندفع النقض بذلك ذكر الشيخ أبو إسحاق هذا في كتابه الملخص في الجدل

ومثل له بأن يستدل الحنفي في القارن إذا قتل صيدا أنه يلزمه جزآن لأنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة فلزمه جزآن كما لو أحرم بالحج فقتل صيدا ثم أحرم بالعمرة فقتل صيدا فيقال له هذا ينتقض به إذا أحرم المتمتع بالعمرة فجرح صيدا ثم أحرم بالحج فجرحه ثم مات فإنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة ثم لا يلزمه جزاء أن فيقول المخالف لا أعرف نصا في هذه

ص: 107

المسألة ثم قال رأيت القاضي أبا الطبيب يقول في مثل هذا إذا جوزت أن يكون مذهبك على ما ألزمته وجب أن لا يحتج بهذا القياس قال وعندي أنه لا يلزمه النقض لأنه وإن احتمل ما قال إلا أن القياس يقتضي أنه يلزمه كفارتان فيعمل به ما لم يمنع كالعموم قبل ظهور المخصص

قلت وحاصل هذا أن المعلل له أن يلتزم بصورة النقض عند الشيخ وعند القاضي ليس له الالتزام بها مع احتمال أن لا يكون مذهب إمامه وهذا أمر راجع إليه في نفسه ولا خلاف بينهما في أنه لا يكتفي منه بأن يقول لا أعرف نصا في هذه المسألة وهذا هو الحق وكيف يكون خلافه والمعترض بنادي يلزمك إما انتقاض علتك أو دعوى ثبوت الحكم

قال أو "إظهار المانع" الأمر الثالث مما يجاب به عن النقض أن يظهر المعلل مانعا من ثبوت الحكم في صورة النقض فيندفع النقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح ومنهم المصنف كما علمت مثاله يجب القصاص القتل بالمثقل قياسا على المحدد بجامع القتل العمد من العدوان فإن نقص بقتل الوالد ولده بأن الوصف فيه مع تخلف الحكم قلنا تخلف لمانع وهو أن الوالد سبب لوجود الولد فلا يحسن أن يكون الوالد سببا لعدمه وإذا تخلف لمانع فلا يقدح في العلية

ولم يذكر المصنف مما يدفع به النقض غير هذه الثلاثة وكان ينبغي أن يذكر دفعه يورد صورة النقض مستثاة فإنه دافع أيضا

قال "تنبيه دعوى ثبوت الحكم أو نفيه عن صورة معينة أو مهمة ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس"

هذه الكلمات منبهة على ما يتجه من النقوض ويستحق الجواب وما ليس كذلك أعلم أن المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معا أو أحدهما

فإن كان الأول ولم يتعرض له المصنف وجب أن يكون الحكم مطردا ومنعكسا مع علته كالحد مع المحدود فمتى ثبت عند عدمه أو عدم وجوده توجه عليه النقض

ص: 108

وإن كان الثاني فالمدعي إما ثبوت الحكم أو نفيه وكل منهما إما أن يكون في بعض الصور أو جميعها وإذا كان في بعض الصور فإما أن يكون في صورة معينة أو مبهمة فهذه ثلاثة أقسام داخلة في كل من القسمين أعني ثبوت الحكم أو نفيه في صورة وثبوته أو نفيه مطلقا

الأول دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة فينتقضه النفي عن جميع الصور لأن السالبة الكلية تناقض الموجبة الجزئية ولا ينقضها النفي عن صورة لأن الجزئين لا يتناقضان فالثبوت في صورة لا تناقض النفي في صورة

مثاله قول الحنفي في جريان القصاص بين المسلم والذمي في حالة العمد محقونا الدم فجرى بينهما القصاص كالمسلمين وينقضه الأب والابن فإنهما لا يجري بينهما القصاص بحال ولا ينقضه إذا بين عدم جريان القصاص بينهما حالة الخطأ

والثاني دعوى نبوته في صورة مبهمة وهو كالأول

ومثاله قولنا الصبي حر مسلم مالك للنصاب فيجب الزكاة في ماله كالبالغ فإن نقض بالحلي وثياب البذلة لم نجبه لما عرفت ومثال المعين المنفي أن يقال هذا النبيذ ليس بنجس قياسا على خل الزبيب فينتقض بأن كل نبيذ مسكر وكل مسكر نجس

ومثال المبهم المنفي أن يقال إذا اشتبه عليه نهر غيره بأنهار نفسه لا يحل له الشرب من نهر واحد لا بعينه كما لو اشتبه عليه ظرف ماء غيره بظروف مائه بجامع الاشتباه فينقبض بأنه يحل الشرب من النهر الجاري وإن كان لغيره فإنه لا يجوز المنع من الشرب على أظهر الوجهين وادعى الشيرازي صاحب الكتاب في هذا الإجماع وليس بسديد وإذا علمت هذه الأقسام الأربعة فهي المشار إليها بقوله دعوى ثبوت الحكم إلى قوله العامين وتقدير الكلام دعوم ثبوت الحكم في صورة معينة أو مهمة ينتقض بالنفي العام ودعوى نفيه عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات العام ففيه لف ونشر على جعل الأول للثاني والثاني للأول

ص: 109

قوله وبالعكس إشارة إلى القسم الآخر وهو أن يدعي ثبوت الحكم أو نفيه عاما وقد قلنا إنه يدخل فيه أقسام ثلاثة أيضا الأول نقض دعوى ثبوت الحكم عاما بالصورة المعينة مثاله قولنا كل شريك فدعواه رد المال على شريكه مقبولة قياسا على الوكيل إذا ادعى الرد من وكله وكذا المودع والجامع أن كلا من الشريك والوكيل والمودع أمين فينتقض هذا بالمرتهن حيث لا يقبل دعواه الرد عند العراقيين وهو الأصح وكذلك ينتقض بالمستأجر ومن أمثلته أيضا قولنا يقتل كل رقيق بمثله والمدبر بالمدبر وأم الولد بأم الولد قياسا على الحر بالحر بجامع الكفاءة فينتقض بما إذا قيل المبعض مثله مع التساوي في قدري الرق والحرية حيث لا يجب القصاص على أحد الوجهين ولا ينتقض بما إذا قتل الأب الرقيق عبد ابنه لأن المستدل يقول تخلف الحكم لمانع وهو أن قصاص العبد لابن القاتل فلو ثبت لأدى إلى ثبوت القصاص للوالد على الولد

الثاني نقض هذه الدعوى المذكورة بالصورة المبهمة ولا استحضر له مثالا

الثالث نقض دعوى نفي الحكم عاما بالصورة المعينة

كما إذا قال قائل فيما إذا قطع مملوك طرف مملوك آخر فملوكان فلا يجري بينهما القصاص كالصغيرين فينقض بجريان القصاص بينهما في النفس ومن أمثلته أيضا أن يقال بيع النحل في الكوارة والحمام في البرج إذا لم يشاهد غير صحيح قياسا على بيع الغائب بجامع عدم الرؤية للمشتري فينتقض بأن العبد الأعمى يصح أن يشتري نفسه من سيده مع أن المبيع غير مرئي للمشتري وبأنه لو كان مرئيا قبل العقد ولم يحتمل التغير صح بيعه وإن لم يشاهد في الحال ولئن قال المعلل لا يصح بيع السمك في الماء والطير في الهواء قياسا على بيع الغائب بجامع الغرر كان تعليلا صحيحا وليس للمعترض نقضه ببيع النحل وهو طائر حيث يصح على أصح الوجهين وبيع الحمام وهي طائرة اعتمادا على عودها ليلا على أحد الوجهين لأن المعلل يمنع الغرر والحالة هذه

الرابع نقض هذه الدعوى بالصورة المبهمة ولا يحضرني مثاله والله تعالى أعلم

ص: 110

قال " الثاني عدم التأثير

بأن ينفي الحكم بعده وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة بعلة أخرى فالأول كما لو قيل مبيع لم ير فلا يصح كالطير في الهواء والثاني الصبح لا يقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب ومنع التقديم ثابت فيما قصر"

عدم التأثير وعدم العكس من واد واحد فلذلك جمع بينهما والذي عليه الجدليون أن عدم التأثير أعم من عدم العكس فإنهم قالوا كما نقله أمام الحرمين وغيره عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها وجعلوا الواقع في الوصف وهو عدم الانعكاس وسيتضح إن شاء الله ذلك بالمثل

وقال إمام الحرمين الذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل وإذا عرفت هذا فقد عرف المصنف تبعا للإمام عدم التأثير بأن ينفي الحكم بدون ما فرض علة له وعدم العكس بحصول الحكم في صورة بعلة أخرى واعتراض على هذا لأن قوله ينفي الحكم بدون ما فرض علة له إن أريد به أنه كذلك في المحل الذي ادعى أنه علة فيه وهو ظاهر مراده فهو غير لازم لأن عدم التأثير قد يكون بأن يبين ثبوت الحكم في غير ذلك المحل بدون ما جعل علة له وإن أراد أنه كذلك في غير ذلك المحل فقط ففاسد لأنه إذا بين بناء الحكم في ذلك المحل بعينه بدون ما جعل علة له كان ذلك عدم التأثير بطريق أولى وإن عنى به ما هو الأعم من هذين فباطل لأن العكس أيضا كذلك إذا ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة أخرى بل لو حصل في تلك الصورة بعينها بعلة أخرى كان ذلك عكسا أيضا وهو اعتراض منقدح إذا كان الإمام قد مشى على مراسم الجدليين وعلمك محيط بأن القوم ذوو اصطلاح فليساعدوا عليه ما لم يخرج عن قانون معتبر وإن لم يف الإمام باصطلاحهم كان له أن يقول المراد من عدم التأثير

القسم الأول وقولكم قد يكون بغير ذلك قلنا في مصطلحي لا يكون كذلك بل له أن يقول المراد

القسم الثالث قولكم ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة

ص: 111

أخرى قلنا بل هو من شرطه في مصطلحنا وإذا علمت هذا فقد مثل المصنف لعدم التأثير بقولنا في الغائب يبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء والسمك في الماء بجامع عدم الرؤية فينقدح للمعترض أن يقول عدم الرؤية لا تأثير له في الحكم لبقاء الحكم المذكور بعد زواله فيما إذا صار البيع مرئيا ولكن غير مقدور على تسليمه وهذا المثال واقع لعدم التأثير في أصل العلة دون وصفها كما وضح ومثل لعدم العكس باستدلال الحنفي على منع تقديم آذان الصبح بقوله الصبح صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم آذانها على وقتها كالمغرب بجامع عدم جواز القصر فيقول هذا الوصف لا ينعكس لأن الحكم الذي هو منع تقديم الآذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات بعلة أخرى وهذا المثال واقع لعدم التأثير في الوصف كما ظهر

ومن أمثلة الأول أيضا أن يقال على لسان الشافعي في منع نكاح الأمة الكتابية أمة كافرة فلا يحل للمسلم نكاحها كالأمة المجوسية فيقال لا أثر للرق في الأصل فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس مستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغن عنه فذكره عديم التأثير في الأصل وقد تم ما في الكتاب

وقد قسم الباب النظر عدم التأثير أقساما عديدة

أولها وثانيها عدم التأثير في الأصل والوصف وهما المتقدمان في كلام المصنف والثالث عدم التأثير في الأصل والفرع جميعها فإذا قلنا بأن عدم التأثير في الأصل فقط يقدح كما ستعرفه إن شاء الله كان قادحا بطريق أولى ومثال هذا قوله من اعتبر العدد الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية فينبغي أن يعتبر فيها العدد قياسا على رمي الجمار وإذا اعتبر العدد وجب أن يكون ثلاثة ضرورة أنه لا قائل بالوصف

وقوله لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والوصف معا بخلاف قولنا أمة كافرة فلا تحل للمسلم كالأمة المجوسية فإن كونها أمة لا أثر له في الأصل لكن تأثير في الفرع فلئن قال مثلا إذا سقط قوله لم يتقدمها معصية انتقض بالرجم فإنه عبادة تتعلق بالأحجار ثم لا يعتبر فيه العدد فنقول قال الشيخ أبو

ص: 112

إسحاق الشيرازي هذا أصعب ما يجيء في هذا الباب قال وعندي أن مثل هذا لا يجوز تعليق الحكم عليه ذكره في الملخص

والرابع عدم التأثير في الفرع دون الأصل وهو قسمان

أحدهما أن يذكر وصف في الفرع يتحقق الخلاف فيه بدونه كقولهم نوى صوم رمضان قبل الزوال فصح كما لو نوى من الليل فقيل كونه من رمضان لا مدخل له في تحقيق الخلاف إذ يتحقق بدونه ولو نوى مطلق الصوم فيه لخلاف أيضا وقد اختلف في قبول هذا القسم أيضا

وثانيهما أن يلحق الفرع بالأصل بوصف تأثير له على إطلاقه في الفرع وفاقا كقولنا في إثبات فسخ النكاح بالعيوب الخمسة عيب ينقض الرغبة في المعقود عليه فوجد ثبوت الفسخ به كما في البيع فالوصف المذكور في الإلحاق لا تأثير له في الفرع على إطلاقه وفاقا ولهذا لا يثبت الخيار في النكاح بكل عيب شأنه ما ذكر وفاقا وقول القاضي الحسين ومن شذ عن الأصحاب بدعواه ثبوت الخيار بكل عيب منفر يكسر ثورة التوقان لا يرد على دعوانا الوفاق هنا فمن العيوب ما ينقص الرغبة ولا يكن منفرا يكسر ثورة التوقان ولا عبرة به على العموم إجماعا وإن اختلف في أفراد خاصة

والخامس عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل به كما إذا قيل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا في دار الحرب طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان يتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فالإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان وإثباته فإن من أوجب الضمان أوجبه مطلقا سواء كان في دار الحرب أم غيرها ومن نفاه نفاه مطلقا

والفرق بين هذا والثالث فرق ما بين العام والخاص لأنه يلزم من أن يكون له تأثير في الحكم أن لا يكون له تأثير في الأصل والفرع من غير عكس

وقال الآمدي حاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور وإذا بطل عدم التأثير في الفرع كما هو أحد الرأيين ورجع

ص: 113

حاصل هذا القسم إلى عدم التأثير في الوصف فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وفي الأصل

والآمدي لم يذكر القسم الثالث الذي أوردناه ولعله أهمله لكون الخامس أعم منه وإذا تفهمت ما ألقيته لك من الشرح وعلمت عود الأقسام كلها إلى عدم التأثير في الأصل وفي الوصف عرفت أن اقتضاء صاحب الكتاب على ذكرهما نوع حسن من الاختصار والله أعلم

قال الأول يقدح أن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين

والثاني تمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين وذلك جائز في المنصوصة كالايلاء واللعان والقتل والردة لافي المستنبطة لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما يصرفه عن الآخر عند المجموع

تقدم تصويرها عدم التأثير وعدم العكس والكلام هنا في أنهما هل يقدحان في العلية وقد تشاجر القوم في ذلك وبنى المصنف الأول على أنه هل يجوز تعليل الحكم الذي هو واحد بالشخص بعلتين فيقدح عند مانعه لأنه إذا لم يوجد الوصف المفروض علة مع بقاء الحكم والفرض أنه ليس ثابتا بعلة أخرى يحصل العلم بأن ذلك الوصف ليس علة

وبنى الثاني على أنه يمتنع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين بناؤه ظاهر مما تقدم لأن النوع باق فيه ويعلم من هذا أن الحكم الواحد إن بقي شخصه بعد زوال العلة فهو عدم التأثير وإن بقي بنوعه فهو عدم العكس فامتناع بيع الطير في الهواء بقي شخصه بعد زوال الرؤية كما كان قبلها وامتناع نكاح الأمة المجوسية باق بالشخص بعد زوال العلة وهي كون الصلاة لا تقصر إنما هو في الرباعية وما كان ثابتا مع العلة إنما هو مع غيرها لكنهما اشتركا في النوعية وهو منع تقديم الآذان

وأعلم أن المبني عليه من أعظم ما خاض فيه الأصوليون والمصنف اختصر القول فيه جدا نحن نأخذ ما في شرح الكتاب على الاختصار ثم نعود إلى الكلام في ذلك على حسب التوسط فنقول يجوز تعليل الحكم الواحد نوعا

ص: 114

المختلف شخصا بعلل مختلفة وفاقا كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص وخالد بالزنا بعد الإحصان وربما أومأ بعضهم إلى جريان الخلاف فيه وعلى ذلك مشى صاحب الكتاب حيث جعل عدم العكس مبنيا عليه والأشبه ما ذكرناه وبه صرح الآمدي وصفي الدين الهندي وهذا في العلل الشرعية

أما العقلية فظاهر نقل بعضهم أن الخلاف في تعليل المعلول الواحد بعلل عقلية يختص بالواحد بالنوع دون الواحد بالشخص فإنه يمتنع تعدد علته بلا خلاف وأما تعليل الحكم الواحد في شخص واحد بعلل مختلفة نحو تحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض وزاد إمام الحرمين الصائمة وهو سهو لأن الصوم يستحيل أن يجامع الحيض شرعا وكذا أباحه قتل الشخص الواحد بردته وقتله الموجب للقصاص هل يجوز بهذه الإمارات المزدحمة اختلفوا فيه على مذاهب

أحدهما المنع من ذلك مطلقا

والثاني الجواز مطلقا وإليه ذهب الجماهير

والثالث أنه يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك الغزالي والإمام والمصنف قال إمام الحرمين وللقاضي إليه صفو ظاهر في كتاب التقريب

قلت وظاهر ما في التخليص مختصر التقريب تجويزه مطلقا وأما ما ذهب إليه الغزالي منا من التفصيل فيخالف ما ذكره في الفقه فإن قال في كتاب البيع من الوسيط عند الكلام في زوائد المبيع والحكم الواحد قد يعلل بعلتين

والرابع عكسه وذهب إمام الحرمين إلى رأي خامس وهو أنه جائز غير واقع قوله وذلك هذا دليل على التفصيل الذي اختاره

وتقريره أنه قد وقع تعليل الواحد بالشخص بعلتين منصوصتين فدل على جوازه ودليل وقوعه اللعان والإيلاء فإنهما علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة ولك أن تقول الإيلاء لا تحرم به الزوجة فلا يصح التمثيل به ولا يمكن أن يبدل الإيلاء بالظهار لأن الظهار وإن كان محرما إلا أنه لا يمكن اجتماعه مع اللعان

ص: 115

إذا اللعان يقطع الزوجية فلا تجتمع علتان على معلول واحد فينبغي التمسك بالطلاق الرجعي مع الظهار فإنهما علتان في تحريم الوطء وقد يجتمعان في المرأة فتكون رجعية مظاهرة أمنها ودليل وقوعه أيضا المرتد الجاني فإن كلا من الارتداد والجناية علة مستقلة في إراقة دمه وكذلك الصوم والعدة والإحرام في تحريم الوطء الزوجية ومثل الغزالي بأن من لمس ومس وبال في وقت واحد انتقض طهره ولا يخال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك أيضا وجمع لبنهما وانتهيا إلى حلق المرتضعة في لحظة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم واحد ولا يمكن أن يحال على الخؤلة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة يستحيل اجتماع المثلين انتهى

وإذا ثبت هذا في الواحد بالشخص وضح ثبوته في الواحد بالنوع بطريق أولى

وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين مانع من ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر بمفرده أو لأجل المجموع وما لا يحصل الظن لثبوت الحكم لأجله لا يحكم بعلتيه بالاستنباط والاجتهاد فلا نحكم بعلية أمور متعددة لشيء واحد بالاستنباط والاجتهاد وهذا كما إذا تصدق على فقيه فقير قريب فإنه يحتمل أن يكون الداعي إلى الصدقة مجموع الأوصاف أو بعضها أو فرد منها والاحتمالات متنافية لما ذكرناه هذا تقرير ما في الكتاب وفي الدليل المذكور نظر نذكره من بعد إن شاء الله تعالى

عدنا إلى الكلام في أصل المسألة فنقول اختلفوا في أن العكس هل يجب في العلة فقالت المعتزلة وبعض أصحابنا كالإمام لا يجب سواء كانت عقلية أم شرعية وادعى القاضي في مختصر التقريب والإرشاد الاتفاق في العلل العقلية على خلاف ذلك فإنه قال يشترط في العلة العقلية الإطراد والانعكاس باتفاق العقلاء القائلين بالعلل أو قال قوم أنه واجب مطلقا وأوجبه قوم في العقلية دون الشرعية وعليه أكثر أصحابنا وقال آخرون يجب في المستنبطة دون المنصوصة

ص: 116

وقال الغزالي إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها قال والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا لا نثبت الشفعة للجار لأن ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتحدة من المطبخ والخلاء ومطرح التراب ومصعد السطح وغيره

فلأبي حنيفة أن يقول لا مدخل لهذا في التأثير فإن الشفعة ثابتة في العرصة أيضا وما لا مرافق له فهذا إلزام عكس وهو لازم لأنه يقول لو كان هذا مناطا للحكم لا ينفي الحكم عند انتفائه فنقول السبب فيه ضرر مزاحمة الشريك فيما يتأبد ويبقى فنقول فليجر في الحمام وما لا ينقسم كما هو عندكم قول قديم أو وجه فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن يعلل بضرر مؤنة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها بوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس

قال صفي الدين الهندي وينبغي أن لا يكون فيما ذكر الغزالي خلاف ونزاع لأحد ويظهر عند هذا أن هذه المسألة فرع مسألة الحكم الواحد بعلل مختلفة فلذلك لم يشتغل صاحب الكتاب بالكلام فيها بل تكلم في تعليل الواحد بعلل فليكن كلامنا أيضا في ذلك

وقد علمت المذاهب فيها وما احتج به صاحب الكتاب على اختياره وهو مدخول عندنا لأن نقول على الاستدلال له المنصوصة لا دلالة لما ذكرت إلا على اجتماع سببين أو أكثر على حكم واحد وليس فيه دلالة على أن ذلك الحكم معلل بكل منها أو واحد منها فلئن قال أعود وأقرره على وجه آخر فأقول العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردة والزنا فإما أن يقال لا يثبت الحكم فيه أصلا وهو باطل أو يثبت بواحدة معينة وهو أيضا باطل للزوم الترجيح من غير مرجح أو بواحدة لا بعينها وهو كذلك لأن ما لا

ص: 117

تعين له لا وجود له في نفسه ما لا وجود له لا يصلح أن يكون علة أو بمجموعها وهو كذلك لأنه حينئذ تكون كل واحدة منها جزءا لعلة وليس كلامنا فيه فيتعين أن يعلل الحكم بكل واحدة منها لا يقال نمنع وجود العلل دفعة واحدة ونقول فيما إذا ترتيب الحكم معلل بالسابق منها وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ لأنا نقول منع وجودها مكابر ة إذ نحن على قطع أنه لا منافاة بين تلك الأمور فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدة إذ يمكن صدور الزنا والردة من واحد من واحد والعياذ بالله في ساعة واحدة

فنقول قاربت الإصابة بالتقرير على هذا الوجه ولكنا لا نسلم بعد ذلك أن الحكم هناك حكم واحد بل أحكام كثيرة فإن الإباحة الحاصلة بالقتل غير الحاصلة بالردة والدليل عليه وجهان

الأول أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بالقتل والزنا

والثاني أن القتل المستحق بالقتل يجوز لولي الدم العفو عنه والمستحق الردة لا يتمكن الولي من إسقاطه فدل على تغاير الحكمين وهذا لمنع الذي ذكرناه هو الذي اعتمد عليه إمام الحرمين في رد هذه الحجة وهو عندنا منع صحيح

وإن كان القاضي في مختصر التقريب والإشاد قال إنه هذيان يدني قائله من جحد الحقائق ونحن نذكر ما رد به ونزيفه بعد ذلك وأجمع كلام في الرد عليه كلام الإمام فقال الدليل على أن الحكم واحد أن إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد فهو إما أن يكون ممنوعا منه من جهة الشرع بوجه فهو الحرمة أو لا فهو الحد

وإن كانت الحياة واحدة كانت إزالتها واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدا فإن قلت الفعل الواحد كونه حلالا من وجه حراما من آخر وحينئذ يجوز أن يتعدد حكم الحد لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث أنه مرتد وأنه زان وأنه قاتل

ص: 118

قلت حرمة الشيء من وجه وحله من آخر معقول لأن الحل هو تمكين الشرع من الفعل ولا يتحقق هذا المعنى إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلا بل ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وعرضا وحركة لا يقتضي الحرمة وحينئذ نقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري هذا ما ذكره الإمام

وقد اعترض النقشواني على قوله إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد بالمنع

وفيه نظر ثم بعد التسليم بأنك لم قلت أن ما يكون طريقا إلى الشيء يجب أن يكون واحدا لأن الحكم الذي كلامنا فيه ليس نفي إبطال حياة الشخص بل الطريق إليه ألا ترى أن حياة الشخص الواحد يمكن إبطالها بضرب عنقه وقده نصفين وأمور لا تعد فيما نحن فيه لم ادعيت أنه ليس كذلك فإن إباحة القتل بالردة هو طريق واحد إلى إبطال الحياة وحكمه أن يقتله الإمام ما لم يتب وليس له إسقاطه وإباحته بالقصاص أن يتمكن الولي من قتله بمثل الطريق التي صدرت عنه أو بالسيف وله العفو وإباحته بالزنا أن يرجم ولا يتبع إذا هرب ولا يسقط فهذه طرق مختلفة غير أنها اشتركت في أمر واحد وذلك لا يوجد اجتماع العلل على حكم واحد وأيضا عصمة دم المرء حكم شرعي وهو مشروط بأمور منها الإسلام ويضاده الكفر ومنها العفة ويضادها الزنا ومنها العدل ويضاده القتل ظلما ويختل كل واحد منها بواحد من هذه الأفعال

وكما قال إمام الحرمين لن يقدم الانس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف ونظير هذا في الأمور العقلية إن حياة الشخص الواحد مشروطة بشروط منها بقاء الأعضاء الرئيسية على أمزجتها المعينة ومنها اتصال بعضها ببعض وغير ذلك وكل ما يحصل في البدن مبطلا لواحد من هذه الشروط تصير سببا لإبطال الحياة ولا جرم إن تعددت أسباب إبطال الحياة فإذا فرضنا اجتماع عدة منها لا نقول إن العلل الكثيرة تواردت على معلول واحد وإذا فرضنا دفعة واحدة حز رقبة شخص وقده بنصفين من شخصين معا لا يقال اجتمع هاتان العلتان على معلول واحد إذ

ص: 119

لا يتصور ذلك في العلل العقلية التامة المؤثرة فكلما ذكر عذرا في الصورة كان عذرا لنا في دفع ما ذكر من الدليل ولسنا بالمعتذرين عن العلل العقلية فإن العلة العقلية لا حقيقة لها عندنا ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ولكنا نحيل الأمر إلى الإمام

ثم قال الإمام قولكم الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقي الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحكم معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة

ولقائل أن يقول لو لم يزل ذلك الحل لكان مستمرا بدون علته فإنه لا أثر للزائل في المستمر بل التحقيق أن الحل المضاف إلى الردة زال وبقي حل آخر ثم قال قولكم ولي الدم مستقل بإسقاط أحد الحلين قلنا ممنوع بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال السبب زال انتساب ذلك الحكم إليه لا الحكم نفسه واعترض عليه النقشواني أيضا بأنا نعلم أن الولي كان متمكنا من إزالة الحل الثابت له وهذا الزوال يستدعي سببا غير عفوه وبأنا نقول إن كان الزائل بالعفو شيء آخر غير حل القتل فموجب قتل القاتل ظلما هو ذلك الشيء لأن العفو يسقط موجب الجناية فإذا كان موجب الجناية غير الحل فلا يلزم اجتماع العلل على حكم واحد وهكذا نقول في سائر الصور المذكورة من اجتماع العدة والحيض في الزوجة وصورة الرضاع في زوجة الأخ والأخت وغيرها وإن كل هذه الأحكام مشروطة بشروط على ما تقرر

ثم إنا نقول ما ذكرتم من الصور التي فرضتم الكلام فيها أمر عجاب فإن بعضها مستنبطة مومئ إليها فإن عليه ما أردتم إنما جاء من الاستنباط وإيماء النصوص لا من النص وأنتم لا تجوزون اجتماعها على المعلول الواحد إذ فرقتم بين المستنبطة والمنصوصة فكيف يحصل الفرض من هذا وعليهم في هذا الدليل اعتراضات أخر أضربنا عنها إذ قد أطلنا بعض الإطالة

ولإمام الحرمين هنا كلمات لا نرى إخلاء هذا الشرح منها فلا يطولن الفصل عليك ففيه كبير فائدة

ص: 120

قال قد يظن الظان الفطن في هذا المقام أن المسؤول إذا فرض الكلام في طرف من المسألة لفرض إيضاح كلام ولصورة الفرد تعلق بالعلة من حيث العموم وليست مقصود الفارضي

من حيث الخصوص وهي مقصود والفارض وإذا كان كذلك فقد تعلق الحكم في هذا الطرف بعلتين قال وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الفرض فنقول إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى ضيف فأكله الضيف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المضيف ومعتمد هذا الظن التغرير وكون الغرور مناطا للضمان

وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا أو مؤجرا كما إذا مختارا في التناول فإذا فرض الفارض في صورة الإكراه فليس يجبر لأنه إنما يصح أن لو كان في الصورة عموم وخصوص والغرور ليس أعم من الإجبار إذ الإجبار ينافي الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض إجبار في المغرور مع استناد اختياره إلى الاغترار فأما المجبر المكره فلا يتصور بصورة مغتر وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى

قال فهذا النوع ليس بمرضي من جهة أنه مجانب لمحل السؤال أو لا إذ لا عموم وخصوص فيه والفرض المستحسن هو ما اشتمل على ذلك ثم قال وليس للفرض في هذه المسألة وجه أيضا فإنه إذا ثبت الضمان لا يستغرق على المكره فكيف يبني عليه عدم القرار على المختار الطاعم في مسألة التقرير ولا معتمد في التقرير على المختار إلا الاغترار

وحاصل هذا أنه لا عموم وخصوص في هذه الصورة وليس للشافعي إلزام الحنفي بها لأن الضمان إذا ثبت لا يستقر على المكره وهو كلام صحيح إلا أن المذهب الصحيح المشهور في الجديد أن قرار الضمان في مسألة التغرير على الآكل دون المضيف والصحيح في مسألة الإكراه استقرار الضمان على المكره بكسر الراء على خلاف ما قاله فيهما ثم ذكر إمام الحرمين صورة من الفرض

ص: 121

المستحسن فقال إذا سأل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق الموسر والمعسر فإذا فرض المسؤول كلامه في المعسر كان مندرجا تحت سؤال السائل ويستفيد الفارض بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد لا يحضر عنده الجواب عنها كسريان العتق إلى ملك الشريك فلا يلزمه إذا فرض كلامه في هذه الصورة لأن عتق المعسر غير سار عند الشافعي

وأحسنهما أن الخصم قد يتمسك في كلامه على أن قيمة العبد في غرض المالية منزل منزلة العبد فليس الراهن المعتق مقوتا على المرتهن غرضه من الاستيثاق فإنه إذا قام قيمة العبد مقامه هنا لم يكن معترضا على محل الحق المرتهن قال وهذا لا حقيقة له إذا ليس هو مبني على مذهب من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إتمامة القيمة مقام المقوم بل سبب نفوذه الملك وصحة العبارة فاستفاد الفارض بفرضه المسألة في المعسر قطع هذا الكلام الواقع فضله لا أثر لها

قال فليكن قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك ويتجه للفارض في المعسر أن يقول يستأصل المعسر المعتق لو نفذ عتقه حتى المرتهن بكماله ويشير إلى أنه لا يجد ما يقيمه مقام المرهون فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية

قال وهذه وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفي فيما يقرره بأنه لو نفذ أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في غير الرهن وإذا كفى هذا فأي حاجة للتعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة قال ويوشك لو لم يفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي ذكرناه وهو التعلق بما لا اعتبار به ولا وقع له

فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة قطع المالية بالكلية وقطع حق المرتهن من العين المخصوصة فيعلل امتناع النفوذ بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق من عين العبد فإن هذا الشيء يعم المعسر والموسر

ص: 122

فنقول هذا هو الغرض من سياق هذا الكلام وليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر اختصاص استحقاق واستيثاقه بعين يستمسك بها إذا عرضت له توقفات العسر في الدين الذي يقع في الذمة وهو تأثر مسبوق بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الراهن

قال ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الرهن إتلاف المرهون فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع ثبات الضمان جبرانا لكل بدل فائت فلا ينبغي أن يعد قضايا الشرع في مظن الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول اه وهو بليغ معترض عليه ومراده أن هذه الصورة إن أوردها عليه من يقول باجتماع العلتين خلص عن إيراده بأن يقول العلة عندي واحدة وهي ما ذكرت وإن اعتقد الخصم أن المالية مرعية فلا مبالاة بمعتقده ثم قال وهذا يناظر عندي مسلكي في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقي العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف في أحد عوضين

وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا أن التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة وهذا زلل وسوء مدرك فإن العقد ما أنشىء على التوزيع

وإنما هو أمر ضروري أحوج الشفعة إليه أه ومناظرة ما ذكر لأن قضايا الشرع في محل الضرورة لا يعد من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول ظاهرة على مسلكه كما ذكر ولكن هو مسلك جاد به عن سبيل الأصحاب ومع ذلك هو مدخول

ومن وجوه الاعتراض عليه ما ذكره الرافعي فقال أليس قد ثبت التوزيع المفصل في مسألة الشفعة وهي ما إذا باع شخصا من عقار وسيفا بألف ولولا أنه قضية العقد لكان ضم السيف إلى الشخص من الأسباب الدافعة للشفعة فإنها قد تندفع بأسباب وعوارض

واعترض عليه أيضا حيث قال المعتمد عندي في التعليل أنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقا وإذا باع مدا ودرهما بمدين لم تتحقق المماثلة فيفسد العقد فإن للخصم

ص: 123

أن يقول تعبدنا بتحقيق المماثلة فيما إذا تمحضت مقابلة شيء منها بجنسه أم على الإطلاق وإن قلنا بالثاني فممنوع وإن قلنا بالأول فمسلم ولكنه ليس صورة المسألة إلا أن هذا اعتراض ضعيف ولا سيما في الغرض الذي فرضه وهو إذا باع مدا ودرهما بمدين فإنه يصح في هذه الصورة إنه باع تمرا بتمر لأن التمر مع الدرهم مبيع قطعا ولا مقابل له إلا تمر ومتى صدق أنه باع تمرا بتمر وجبت المماثلة بالنص وتمحض المفاضلة قيد زائد لم يدل عليه دليل فالكلام في هذا دخيل في الكتاب

ولعلنا نأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا الأشباه والنظائر بالعجب العجاب ثم قال وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صائرا إلى أن الراهن إذا كان موسرا ينفذ اعتاقه ويلزمه إحلال القيمة موضع العبد وإن كان معسرا لا ينفذ اعتاقه لتعذر تغريمه وافضاء الإعتاق فيه بتقدير نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ذلك بتفصيل مذهب في ترسه عتق الشريك إذا كان موسرا دون ما إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوق إلى اعتبار انقطاع علقة الرهن من عرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من عتق الرهن عنده وقع أصلا فلذلك ينفذ عتق الراهن الموسر فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة الفرض

ثم قال إذا فرض الشافعي الكلام في مسألة ضمان منافع المغصوب في طرف الإتلاف طرد ما يرتضيه في الباب فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الطرف معنيان

أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك اختار الفارض تعيين هذا الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به

وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت يد العارية وهذا أقرب مسلك في تخييل اجتماع معنيين بحكم واحد

ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن

ص: 124

المتلف الحاصل تحت يد العارية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد بمنع الحق مستحقة فصار الضياع الذي يقع سماويا في إطراد منع المتعدي مشبها بإتلافه وإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال أهو بليغ لا يخدشه شيء وهذا ما أردنا إيراده من كلام إمام الحرمين

ولنعد إلى الكلام على ما استدل به صاحب الكتاب على اختياره فنقول وأما ما استدل به على المنع في المستنبطة فلولا مراعاة الاتفاق لما رددناه لأنه ماس على معتقدنا ولكنا نقول للخصم أن يقول لا نسلم أن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين يمنع ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر أو المجموع وإنما يكون ذلك أن لو تأتت عليه

أحدهما للحكم علية الآخر وهو أول النزاع

فإن قلت قد تحصل لنا من اختيارك موافقة إمام الحرمين على عدم وقوع اجتماع العلل على المعلول الواحد وما دللت عليه بل زدت على هذا أن أبطلت الدليل على المنع في المستنبطة وهو بعض مطلوبك

قلت طال الفصل وما بقي الشرح يحتمل أكثر من هذا التطويل ولذلك لم يشتغل بالكلام في حجج بقية المذاهب ولعلنا نقرر اختيارنا في مجموع آخر وبالله التوفيق

قال رحمه الله " الثالث الكسر وهو عدم تأخير أحد الجزئين ونقض الآخر كقولهم صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قيل خصوصية الصلاة ملغى لأن الحج كذلك فبقي كونه عبادة وهو منقوض بصوم الحائض"

اتفق أكثر أهل العلم كما ذكره الشيخ أبو إسحاق في الملخص وغيره على صحة الكسر وإفساد العلة به وهذا ما اختاره الإمام والمصنف والآمدي وهو نقض من طريق المعنى وإلزام من سبيل الفقه وعبر عنه الآمدي وابن الحاجب بالنقض والمكسور وجعلا الكسر قسما آخر وغيره وهو تعبير حسن

ص: 125

وعبر عنه المصنف بأنه عدم تأثير أحد جزأي المركب الذي ادعى المستدل عليته ونقض الآخر ومثل له تبعا للإمام بما إذا قيل على لسان الشافعية في إثبات صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن فيقول المعترض خصوصية كونها صلاة ملغاة لا أثر لها لأن الحج أيضا كذلك فلم يبق غير كونها عبادة وهو منقوض بصوم الحائض حيث كان عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض

واعترض بأن العلة إذا كانت مركبة فكل جزء من أجزاءها يكون ملغى بالنسبة إلى ذلك الحكم وحينئذ فالكسر غير صحيح لأن العلة المجموع ولم يرد النقض عليه وهو ضعيف لأن المعترض أزال الوصف الخاص بالنقض والزم بالوصف العام وصار المستدل عنده معللا بالوصف العام مع الوصف الآخر فوجه النقض عليه بعد ذلك فلم يرد إلا على المجموع هذا شرح ما في الكتاب وتعبيره عن الكسر بأنه عدم تأثير أحد الجزئين ونقض الآخر تعبير لم يصرح به الإمام وإن دل عليه قوله فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض والأمر فيه قريب

ومن أمثلته أيضا أن يقال على لسان الشافعية في بيع ما لم يره المشتري مبيع مجهول الصفة عند العاقد فلم يصح كما لو قال بعتك ثوبا

فيقول المعترض ينكسر هذا بما إذا نكح امرأة لم يرها فإنه يصح نكاحها كونها مجهولة الصفة عند العاقد فهذا كسر لأنه نقض من طريق المعنى بدليل أن النكاح في الجهالة كالبيع بدليل أن الجهل بالعين في كل منهما يوجب الفساد وإن أردت تنزيل هذا المثال على عبارة المصنف

قلت خصوص كونه مبيعا ملغى لأن المرهون كذلك فبقي كونه عقدا وهو منقوض بالنكاح وليس للمعترض إيراد الوصية بدل النكاح لأنها ليست في معنى البيع في باب الجهالة ألا ترى أن شيئا من الجهالات لا ينافيها بخلاف النكاح

ص: 126

ومنها أم يقال على لسان الشافعية في إيجاب الكفارة في قتل العمد قتل من يضمن بدية أو قصاص بغير أذن شرعي فيجب كفارته كالخطأ فيقول المعترض خصوص كونه يضمن بالدية أو القصاص ملغى لأنها تجب على السيد في قتل عبده فبقي كونه آدميا وهو منقوض بالحربي والمرتد وقاطع الطريق والزاني المحصن ولو أن المستدل قال قتل معصوم الدم لما توجه عليه كسر

ومنها أن يقال على لسان الشافعية صلاة الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إقامتها إلى إذن السلطات كالظهر فيقول المعترض خصوص كونها مفروضة ملغى لأن التطوع كذلك فبقي كونها صلاة مطلوبة وهو منقوض بصلاة الاستسقاء وإنما قلنا مطلوبة ولم نقتصر على قولنا صلاة لتكون العلة مركبة كما أتى بها المستدل

قال " الرابع القلب وهو أن يربط خلاف قول المستدل على علته إلحاقا بأصله"

عرف القلب بأن يربط المعترض خلاف قول المستدل على علته التي ذكرها إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيسا عليه وإنما قال خلاف قوله ولم يقل نقيض قوله كما فعل الإمام لأن الحكم الذي يثبته القالب جاز أن يكون مغيرا لا نقيضا ولكن للعبارة التي ذكرها الإمام فائدة ستعرفها إن شاء الله تعالى

ولقائل أن يقول هذا ليس بجامع لأنه يخرج بقوله على علته قلب في غير القياس

والمصنف تبع الإمام حيث قال في قياس ولعلهما أرادا تعريف قلب خاص وهو الواقع في القياس لأن الكلام في مبطلات العلة وليس بمانع لجواز أن يربط المعترض مسألة أخرى غير التي ذكرها المستدل على علته ويصدق ربط خلاف قوله على علته وليس ذلك بقلب فكان ينبغي أن يزيد في التعريف ويقول أن يربط خلاف قول المستدل في مسألة على علته ويزيد أيضا على ذلك الوجه وإلا لم يكن مانعا أيضا لجواز أن يثبته في تلك المسألة لكن على غير ذلك الوجه مثل أن يستدل بنص بطريق الحقيقة والمعترض يستدل

ص: 127

عليه في تلك المسألة بطريق التجوز وإن أريد تعريف القلب مطلقا فيقال هو بيان أن ما ذكره المستدل عليه في تلك المسألة على ذلك الوجه

قال "وهو إما نفي مذهبه صريحا كقولهم المسح ركن من الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن منه فلا يتقدر بالربع كالوجه أو ضمنا كقولهم بيع الغائب عقد معاوضة فيصح كالنكاح فنقول فلا يثبت فيه خيار الرؤية ومنه قلب المساواة كقولهم المكره مالك مكلف فيقع طلاقه كالمختار فنقول فيسوي بين إقراره وإيقاعه أو إثبات مذهب المعترض كقولهم الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بمجرد قربة كالوقوف بعرفة"

فيقول فلا يشترط الصوم فيه كالوقوف بعرفة

قسم القلب إلى ثلاثة أقسام

الأول أن يكون لنفي مذهب المستدل صريحا وهو قسمان

أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف أن لا يدل مع النفي على صحة مذهب المعترض صريحا كقولهم مسح الرأس ركن من أركان الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن من أركان الوضوء فلا يتقدر بالربع كالوجه فهذا نفي لمذهب المستدل بالصراحة ولا إثبات فيه لمذهب المعترض بالصراحة لجواز أن يكون الحق في جانب ثالث وهو الاستيعاب كما هو قول المالكي نعم يدل عليه بواسطة اتفاق الإمامين على أحد الحكمين ونفي ما عداهما

وثانيهما أن يدل على الأمرين معا كما إذا قيل على لسان الشافعية في البيع الموقوف عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فلا يصح كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فيقول الخصم عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فكان صحيحا كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير أذنه

القسم الثاني أن يكون لنفي مذهب المستدل ضمنا أي لنفي لازم من لوازم مذهب المستدل لانتفاء الحكم بانتفاء لازمه كقولهم بيع الغائب صحيح

ص: 128

كنكاح الغائبة بجامع أن كل واحد منهما عقد معاوضة فيقول فلا تثبت الرؤية في بيع الغائب قياسا على النكاح بالي مع المذكور ويلزم من نفي خيار الرؤية نفي صحة بيع الغائب إذ خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب بدليل أن من قال بصحته قال بثبوت خيار الرؤية فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فالحكمان أعني الصحة ونفي الخيار لا تنافي بينهما في الأصل وهو النكاح لاجتماعهما فيه وهما متنافيان في الفرع وهو بيع الغائب قوله ومنه أي ومن هذا

القسم الثاني قلب المساواة وهو أن يكون في الأصل حكمان

أحدهما منتف في الفرع بالاتفاق من الخصمين والآخر متنازع فيه بينهما فإذا أراد أن يثبت في الفرع بالقياس على الأصل فيقول المعترض تجب التسوية بينهما في الفرع بالقياس على الأصل أو يلزم من وجوه التسوية بينهما في الفرع عدم ثبوته فيه

كقولهم في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فنقول مكلف مالك فيسوي بين إقراره بالطلاق وإيقاعه إياه كالمختار ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمنا لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه وإقراره غير معتبر بالاتفاق فيكون إيقاعه أيضا غير معتبر

فإن قلت الحاصل في الأصل اعتبارهما معا وفي الفرع عند المعترف عدم اعتبارهما معا بمقتضى القلب فأين التسوية بينهما في الحكم وكيف يسمى هذا بطلب المساواة

قلت القياس على الأصل إنما هو من حيث عدم الاختلاف وهو ثابت فيه لكن عدم اختلاف الأصل في ثبوت الصحة فيهما وفي الفرع في عدم ثبوت الصحة فيهما وهو غير متناف للاشتراك في أصل الاستواء فظهرت التسوية وصحة التسمية

القسم الثالث أن يكون لإثبات مذهب المعترض صريحا كقولهم الاعتكاف مكث في محل مخصوص فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة

ص: 129

حيث لم يكن قربة بغير الإحرام وغرضهم التعرض لاشتراط الصوم ولكنهم لم يستمكنوا من التصريح باشتراطه لأنه لو صرح بذلك لم يجد أصلا فيقول مكث في محل مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فهذا القسم يعترض1 للعلة تعرضا كليا ويثبت مذهب المعترض صريحا لصحة الاعتكاف

قال "المتنافيان لا يجتمعان قلنا الثاني حصل في الفرع بغرض الإجماع"

أنكر بعض الناس إمكان القلب على الوجه الذي تقدم تعريفه محتجا بأن الحكمين أعني ما يثبته المستدل وما يثبته الغالب إن لم يتنافيا فلا قلب إذ لامتناع في أن تكون العلة الواحدة مقتضية لحكمين غير متنافيين فلا تفسد به العلة وهذا يعرفك فائدة قول الإمام في التعريف نقيض الحكم كما سبقت الإشارة إليه وإن تنافيا استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه فلا يكون قلبا إذ لا بد فيه من الرد إلى ذلك الأصل

والجواب أن الحكمين غير متنافيين لذاتيهما فلا جرم يصح اجتماعهما في الفرع وهو إجماع الخصمين على أن الثابت فيه إنما هو أحد الحكمين

فالثاني حصل في الفرع بعرض الإجماع والعرض بالعين المهملة أي الأمر العارض للفرع وهو إجماع الخصمين وإنما نبهنا عليه لوقوع الغلط فيه وهذا الكلام كما إنه الجواب فهو ابتداء دليل على القلب والمختار عند جمهور الأصوليين أن القلب حجة قادح في العلة إن اختلفوا في بعض أنواعه وذكر الشيخ أبو علي الطبري من أئمة أصحابنا أنه من ألطف ما يستعمله المناظر

قال الشيخ أبو إسحاق وسمعت القاضي أبا الطيب يقول إن القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا

1 الأصل المطبوع "يتعرف" تحريف

ص: 130

إضرار1" في مسألة الساحة وفي هدم البناء ضرر بالغاصب فقال له أصحابنا وفي منع صاحب الساحة من ساحته إضرار به فقال يجب أن يذكر مثل هذا في القياس ثم أعلا مراتبه ما يدل على بطلان مذهب الخصم وإثبات مذهب المعترض وهو الذي عليه المعظم ولا يخفى عليك الترتيب مما تقدم وأما قلب التسوية فذهب القاضي في مختصر التقريب والإرشاد وغيره إلى بطلانه مع القول بأصل القلب

قال" تنبيه القلب معارضة إلا أن علة المعارضة وأصلها قد يكون مغايرا لعلة المستدل"

وأصل القلب في الحقيقة معارضة وذلك أن المعارضة تسليم دليل الخصم وإقامة دليل آخر على خلافه وهذا صادق على القلب إلا أن الفرق بينهما فرق ما بين العموم والخصوص وذلك أن العلة المذكورة في المعارضة والأصل المذكور فيها قد تغاير العلة والأصل اللذين أتى بهما المستدل بخلاف القالب فإن علته وأصله هما علتا المستدل وأصله ومن الناس من لم يجعل القلب معارضة بل مناقضة لبعض مقدمات الدليل فيقال لو كان الوصف المذكور علة لما ذكرت لم يكن علة لما ينافيه معنى ما ذكرت والشيء الواحد لا يعلل به المتنافيان وإلا لاجتمعا

وقال الشيخ أبو إسحاق أن هذا يكثر في إيراد القلب قلت وهذا القول لازم لهؤلاء الذين عدوا القلب من مفسدات العلة ولا يغتر بهم وإلا فالقالب كيف يفسدها مع احتجاجه بها ومنهم من يقول القلب شاهد زور كما يشهد لك يشهد عليك

قال الخامس القول بالموجب وهو تسليم قول المستدل مع بقاء الخلاف مثاله في النفي أن يقول التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص فيقول مسلم ولكن لم يمنعه غيره ثم لو بينا أن الموجب قائم ولا مانع غيره لم يكن ما ذكرنا تمام

1 أخرجه ابن ماجة – كتاب الأحكام "7842" من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت كما رواه الحاكم من حديث بن سعيد وقال:صحيح الإسناد علي شرط مسلم

ص: 131

الدليل وفي الثبوت قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فيقول مسلم في زكاة التجارة

القول بالموجب هو تسليم مقتضى ما نصه المستدل دليلا لحكم مع بقاء الخلاف بينهما فيه وذلك بأن نظر المعلل أن ما تأتي به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها مع كونه غير مستلزم فلا ينقطع النزاع بتسليمه وهذا التعريف أولى من قول الإمام تسليم ما جعله المستدل موجب العلة لكونه لا يتناول غير القياس

والقول بالموجب لا يختص بالقياس وليت المصنف عمل كذلك في القلب إلا أنا اعتذرنا عنه ثم بما هو عذرا للإمام هذا والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر

وقد وقع في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ1} فأنتم المخرجون بفتح الواو وهو قادم في الدليل لأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي رام إثباته أو نفيه كذا ذكره صفي الدين الهندي وغيره وهو مقتضى كلام الآمدي والمراد بهذا التقرير جعله من مفسدات العلة

ولقائل أن يقول هذا التقرير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين وإليهم المرجع في ذلك وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة ثم القول بالموجب له حالتان

أحدهما أن يكون في جانب النفي كقولنا في القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فإن الوضيع والشريف وغير ذلك على السواء في القصاص فيقول الخصم أقول بموجبه لكن لم لا يجوز أن يمنعه مانع آخر غير التفاوت في الوسيلة بأن يكون في المثقل وصف مانع من القصاص غير ذلك أو فقدان شرط فإنه لا يلزم من عدم مانعية ذلك

1 سورة المنافقون آية"8"

ص: 132

عدم مانعية ما عداه ثم أنا لو ادعينا بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع وبيناه بأن المقتضي للقصاص قائم في محل النزاع وأنه لا مانع فيه غير التفاوت في الوسيلة بالأصل أو بغيره من الأدلة لم يكن ما ذكرناه أولا تمام الدليل بل جزءا منه فيكون ذلك انقطاعا والثانية أن يكون في جانب الثبوت نحو قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فنقول بالموجب إذ يجب فيها زكاة التجارة والنزاع ليس الا في زكاة العين ودليلكم إنما يقتضي وجوب الزكاة في الجملة فلئن قال المعلل أن هذا ليس قولا بالموجب لأن كلامنا في زكاة العين والألف واللام التي في الزكاة المذكورة للعهد فيصرف إليه

وحينئذ ليس ما إلتزموه قولا بالموجب قلنا العبرة بدلالة اللفظ لا بالقرينة وشيء من ألفاظ القياس في العلة وغيرها لا يأتي ذلك بل يصدق عليه فكان قولا بالموجب كذا أجاب الهندي

ولك أن تقول الحمل على العهد مقدم على الجنس والعموم على ما هو مقرر في موضعه ومدلوله غير مدلولها وإنما يصح ما ذكرتم أن لو أمكن حمله على غير العهد

ثم أن العلة في المثال المذكور كون الخيل يسابق عليها وليس هذا الوصف المقتضى لزكاة التجارة إنما الوصف المقتضي لذلك النماء الحاصل فيها هذا شرح ما في الكتاب

وقد علمت به أن المستدل إما أن ينصب دليله على إبطال مذهب خصمه فيقول الخصم بموجبه وهو الأغلب ورودا في المناظرات كالمثال الأول وإما أن ينصبه على تحقيق مذهبه كالثاني

ومن أمثلته الفصل ما لو قيل على لساننا الجاني الملتجئ إلى الحرم وجد فيه سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزا فيقول الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن الاستيفاء عندي جائز بعد الخروج من الحرم والنزاع ليس إلا في الاستيفاء في الحرم فإني أدعي أن الاستيفاء فيه هتك لحرمته

ص: 133

ومنها لو قيل في نصره أحد الوجهين الملتجئ إلى المسجد الحرام وجد في سبب استيفاء القصاص فتبسط الانطاع ويستوفي منه فيقول ناصر الوجه الأصح يستوفي منه بعد الإخراج

وهذا تأخير يسير وفيه صيانة للمسجد ومنها لو قال من نصر القول القديم من ضل ماله أو غضب أو سرق وتعذر انتزاعه أو أودعه فجحد أو وقع في بحر فلا زكاة فيه وإلا لوجب أداؤه لأنه مال يجب زكاته فيجب أداؤها قياسيا على سائر الأموال الزكوية فيقول ناصر الجديد أقول بموجبه فإنه يجب أداؤها إذا وجده والكلام فما قبله وقائل به

قال " السادس الفرق وهو جعل تعيين الأصل علة والفرع مانعا والأول يؤثر حيث لم يجز التعليل بعلتين والثاني عند من جعل البعض مع المانع قادحا"

ذهب جماهير الفقهاء إلى أن الفرق أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به وقال ابن السمعاني جعل كثير من فقهاء الفريقين الفرق أقوى سؤال وظنوه فقه المسألة قال وبه يتمسك الناظرون من فقهاء غزنة وكثير من بلدان خراسان قال وهو عند المحققين أضعف سؤال يذكر وهو ضربان

الأول أن يجعل المعترض تعين أصل القياس علة لحكمه كما لو قال الزائد عن الشافعية النية في الوضوء واجبة لأنها عن طهارة عن حدث فوجبت كالتيمم والجامع أنهما طهارتان قال الشافعي رضي الله عنه طهارتان فأنى يفترقان فيقول الخصم الفرق ثابت بين الأصل والفرع فإن العلة في وجوب النية في التيمم خصوصيته التي لا تعدوه وهي كونه ترابا وقع في كلام بعض الشارحين أن الخصوصية كونه طهارة ضعيفة وهذا عرى عن التحقيق

فإن ضعف الطهارة لا تختص بالتيمم فإن وضوء المستحاضة ومن به سلس البول وسلس المذي كذلك ثم إن ضعف الطهارة لا يمنع من وجوب النية إذ تجب النية على من ذكرناه في وضوئه عند من يوجبها في مطلق الوضوء

وقد بنى المصنف القول في أن هذا الضرب هل يقدح على تعليل الحكم

ص: 134

الواحد بعلتين فصاعدا وقد سلف القول البليغ فيه وهو في هذا البناء تابع للجماهير من المتقدمين والمتأخرين ووجه البناء واضح

فإن السائل إذا عارض علة الأصل التي جعلها المسؤول رابطة القياس بعلة أخرى فمن منع التعليل بعلتين رآه اعتراضا واقعا يجب الجواب عنه وإلا يلزمه تعدد العلة ومن لم يمنع لم ير ذلك قادحا إذا لامتناع في إبداء معنى آخر واجتماع علتيه القدر المشترك والتعيين الخاص وبهذا ضعف ابن السمعاني الفرق وفي تضعيفه بذلك نظر لأنا إذا بنينا الأمر على مسألة التعليل بعلتين نقول له إنما يضعف الفرق لو جعلنا التعليل بالعلتين جائزا أما أن معناه فلا وينقدح عندي قبل هذا البناء بناء آخر لم أر من ذكره وهو تفريغ المسألة أولا على التعليل بالعلة القاصرة

فإن قلنا بمنعها فالفرق مردود لأن التعين يتخص بالمحل الذي هو فيه وهذا هو القصور ولعل من لم يذكر ذلك لم ير التفريغ على معنى القاصرة لضعف وإلا فيبين على التعليل بعلتين فإن معناه امتنع وإلا فيحتمل أن يقال وإن وقع التعليل بعلتين لكن لا بد وأن يكون من واد واحد فلا يكون أحديهما متعدية والأخرى قاصرة لأن المتعدية تقتضي إلحاق فرغ بالأصل والقاصرة تقتضي الجمود فيتنافيان فيما يقتضيان

ويحتمل أن يقال يجوز اجتماع القاصرة والمعتدية ولا تنافي ويكون مقتضى القاصرة عدم التعدية بها لا بغيرها فيجوز التعدية بغيرها من دون تناف وهذا هو الحق وهو مقتضى كلام ابن السمعاني وغيره من أصحابنا في العلة القاصرة

الضرب الثاني أن يجعل تعيين الفرع مانعا من ثبوت الحكم الأصل فيه كقولهم يقاد المسلم بالزمن قياسا على غير المسلم بجامع القتل العمد العدوان فنقول الفرق أن تعين الفرع وهو الإسلام مانع من وجوب القصاص عليه ولك أن تقول هذا أيضا إنما يأت على القول بالقاصرة

وقد وقع في بعض الشروح أن تعين المسلم مانع لشرفه وهو محمول على شرفه

ص: 135

الخاص وهو الإسلام لا مطلق شرفه وإلا لم يكن تعينا ثم إن صاحب الكتاب بنى القول في هذا الضرب على أن النقض مع المانع هل يقدح فإن قلنا بقدحه كان هذا قادحا لأن الوصف الذي علق المستدل الحكم به إذ وجد في الفرع وتخلف الحكم عنه لمانع وهو التعين فقد وجد النقض مع المانع والغرض أنه قادح وإلا لم يقدح

وقد أنهينا الكلام في المبني عليه غاية الفصل القول عنها هذا شرح ما في الكتاب وإذا جردت العهد بما تقدم من كلامه في المسألتين اللتين بني عليهما القول هنا علمت أن الفرق بتعين الأصل إنما يقدح عنده في المستنبطة دون المنصوصة وأن الفرق بتعين الفرع لا يقدح مطلقا

واعلم أن الفرق عند بعض المتقدمين عبارة إن عن مجموع الضربين المذكورين حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا واختلفوا في أنه سؤال واحد أو سؤالان لاشتماله على معارضة علة الأصل بعلة ثم على معاوضة الفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع

والحق الذي قال إمام الحرمين أنه اختار عنده وارتضاه كل منتم إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح ومقبول وهو إن اشتمل على معنى معاوضة الأصل وعلى معارضة الفرع وعلى معارضة علته بعلة مستقلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه المناقضة للجمع فالكلام في الفرق وراء المعارضة وخاصية وسره فقه تناقض قصدا الجمع ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل خاصية الفرق

وذكر إمام الحرمين أن من الفروق ما يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع ففيها قال وما كان كذلك فهو مقبول مجمع عليه لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها قال ومن أنه هذا القسم أن يعيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره قيل قول الحنفي في البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فيفيد ملكا كالصحيحة

فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت

ص: 136

الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض الكلام إذا وفيه صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما ادعاه مشعرا بالحكم قال ومن خصائصه إمكان البوح به بالعوض لا على سبيل المفاقهة بأن يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرع والطرق النافلة على ما يعرفه الفقيه

ثم ذكر مثالا لا ينحط عن هذا وثالثا يضادهما فلا يكون الفرق فيه مبطلا الكلية والأمثلة الجزئية يختلف الحكم فيها باختلاف الاخالة فلا وجه للتطويل بتعداد الأمثلة والإخالة لا ينضبط

وقد أتى إمام الحرمين بعد ذلك بكلام جامع فقال الفرق والجمع إذا ازدحما على فرع واصل في محل النزاع فالمختار عندنا فيه إتباع الإحالة فإن كان الفرق أخيل أبطل الجمع وعكسه وإن استويا أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتنا على صيغة التساوي وأمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له وكل هذا فيما إذا كان الفرق لا يحيط فقه الجمع بالكلية فإن ذلك ليس من الفرق المختلف فيه على ما عرفت وقد نجز تمام هذا القول فيما يفسد العلة

واعلم أن صاحب الكتاب لم يذكر كيفية دفع الفرق وما قبله من القلب والكسر وعدم التأثير وخص النقض من بين المفسدات بذلك لتشعب الآراء وكثرة النظر فيه ونحن تابعناه على ما فعل فإن ذلك نظر متمحض جدلا لا تعلق له بصوم نظر المجتهد وإنما هو تابع لشريعة الجدل والتي وصفها أهلها باصطلاحاتهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن نشح على الأوقات أن نضيعها بها وبتفصيلها وأن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد مباحث المناظرين إلى مجز الخصام لئلا يذهب كل واحد في كلامه طولا وعرضا وينحرف عن مقصود نظره بما لا يرضي فتلك فائدة ليست من أصول الفقه فينبغي أن يفرد بعلم النظر وهو عندنا من أكيس العلوم وأعظمها كفالة بتدقيق المنطوق والمفهوم ولكن لا ينبغي أن المزج بالأصول التي مقصدها تذليل سبل الاجتهاد للمجتهدين لا تعليم طرق الخصام للمتناظرين ولهذا حذف الغزالي هذه الاعتراضات بالأصالة وبالله التوفيق

ص: 137