المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك - الإبهاج في شرح المنهاج - ط العلمية - جـ ٣

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الرابع في القياس

- ‌تعريف القياس

- ‌الباب الأول في بيان أن القياس حجة

- ‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك

- ‌التنصيص على العلة هل هو أمر بالقياس أو لا

- ‌ القياس أما قطعي أو ظني

- ‌ ما يجري فيه القياس

- ‌الباب الثاني في‌‌ أركان القياس

- ‌ أركان القياس

- ‌مدخل

- ‌في العلة وتعريفها

- ‌الطرف الأول: الطرق الدالة على العليلة

- ‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية

- ‌ الطرف الثالث في أقسام العلة

- ‌في الأصل والفرع

- ‌شروط الأصل

- ‌ شروط الفرع

- ‌قياس التلازم

- ‌الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه بابان

- ‌في المقبولة

- ‌الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم

- ‌ الاستصحاب

- ‌ الاستقراء

- ‌ الأخذ بأقل ما قيل

- ‌ المناسب

- ‌فقد الدليل بعد التفحص البليغ

- ‌في الدلائل المردودة

- ‌الاستحسان

- ‌ قول الصحابي

- ‌الكتاب السادس في التعادل والتراجيح

- ‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌تعريف الترجيح

- ‌ لا ترجيح في القطعيات

- ‌تعارض الدليلين

- ‌تعارض النصين

- ‌ الترجيح بكثرة الأدلة

- ‌في ترجيح الأخبار

- ‌طرق ترجيح الأخبار

- ‌بحال الراوي

- ‌ بوقت الرواية

- ‌ بكيفية الرواية

- ‌ بوقت ورود الخبر

- ‌ باللفظ

- ‌ بالحكم

- ‌ بعمل أكثر السلف

- ‌في تراجيح الأقيسة

- ‌بحسب العلة

- ‌ بحسب دليل العلية

- ‌ بحسب دليل الحكم

- ‌ بحسب كيفية الحكم

- ‌بموافقة الأصول في العلة

- ‌الكتاب السابع‌‌ في الاجتهادوالافتاء

- ‌ في الاجتهاد

- ‌تعريفه

- ‌في المجتهدين

- ‌يجوز الاجتهاد للرسول صلى الله علية وسلم

- ‌اجتهاد غير الرسول صلى الله علية وسلم

- ‌شروط المجتهد

- ‌في حكم الحتهاد

- ‌القول بالتصويب والتخطئة

- ‌في الإفتاء

- ‌يجوز الإفتاء للمجتهد

- ‌يجوز الستفتاء للعامة

- ‌ما يجوز فيه التقليد وما لايجوز

الفصل: ‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك

المعنى فالعجب من اختياره لهذا الحد بعد اعتراضه على الأول بما زعم أنه لا محيص عنه وهو لازم له إن كان ما أورده صحيحا وينفرد ما قاله هو بأنه وضع الاستواء موضع التسوية وهما غيران

ص: 7

‌الباب الأول في بيان أن القياس حجة

‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك

قال "وفيه بابان الباب الأول في بيان أنه حجة

وفيه مسائل الأولى في الدليل عليه يجب العمل به شرعا وقال القفال والبصري عقلا والقاساني1 والنهرواني2 حيث العلة منصوصة أو الفرع بالحكم أولى كتحريم الضرب على تحريم التأفيف وداود أنكر التعبد به وإحالة الشيعة والنظام"

يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا ويجب العمل به شرعا وبه قال السلف وجمهور الخلف وزاد القفال من أصحابنا وأبو الحسين البصري فزعما أن العقل موجب لورود التقييد بالقياس ووافقهما أبو بكر الدقاق من أصحابنا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع ومن الناس من أنكر التعبد به وقد نقله في الكتاب عن داود وهو قضية نقل غيره ونقل الإمام عن داود أنه أحاله عقلا وفي كل من النقلين نظر فقد قال أبو محمد ابن حزم والآمدي أن داود يقول بالقياس إذا كانت العلة منصوصة كمذهب القاساني والنهرواني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى قال ابن حزم وأما نحن فلا نقول بشيء من القياس وأما النظام والشيعة فأحالوه عقلا كذا نقل المصنف والنقل عن النظام ليس بجيد لأنه خصص المنع من التعبد بشرعنا خاصة قال لأن مبناها على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من التعبد بالقياس وأما ما ذكره المصنف بعد من أن القياس

1 هو أبوبكر محمد بن إسحاق القاساني – بالسين المهملة – نسبة إلي "قاسان""قم" بلدة عند إيران كما حرره ابن حجر وإن كان في بعض النسخ بالشين المعجمة كان داوديا ثم ضار شافعيا له كتاب "الرد علي داود في إبطال القياس""الفهرست ص 324 تبصير المنتبه ص1146"

2 هو أبو الفرج المعافي بن زكريا النهرواني كان أعلم الناس في زمانه ويعرف كل أنواع العلوم العقلية والنقلية توفي سنة 390هـ "اللباب3/249"

ص: 7

الجلي لم ينكره أحد فمدخول ولو صح لكان وجها يرد عليه هنا وأما القاشاني والنهرواني فقالا يجب العمل بالقياس في صورتين

إحداهما أن تكون العلة منصوصة قالا وذلك أما بصريح اللفظ أو بما يماثله كذا نقله عنهما القاضي في مختصر التقريب وإمام الحرمين والغزالي والإمام والآمدي وغيرهم

والثانية أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل ومثل له في الكتاب بقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وقد سبق منه أن هذا من باب المفهوم وسيأتي النظر في أن ذلك هل هو متناف إن شاء الله تعالى وهذا إيضاح ما في الكتاب مما يتعلق بمذهب القاشاني والنهرواني وهو في النقل عنهما تابع لأصحابه وقد نقل عنهما الآمدي أنهما لم يقضيا بوقوع القياس إلا فيما كانت عليه منصوصة أو مومأ إليها فقط والذي نقله الغزالي أنهما خصصاه بموضعين

أحدهما النص والإيماء كما عرفت

والثاني الأحكام المعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه والمعلق باسم مشتق كالسارق والسارقة قال الغزالي وكليهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط ويعترفان به وكلام إمام الحرمين في البرهان قريب من ذلك فإنه قال المقبول عندهما من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان أحدهما ما دل من كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربطه الحكم بالأسماء المشتقة كالزانية والزاني ومن هذا القبيل سها فسجد زنى ماعز فرجم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل قال وربما يلحقون به الفحوى في مثل قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ 1} والأمر الثاني ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه كقوله عليه السلام:"لا يبولن أحدكم في الماء الراكد2" قالا لو جمع جامع بولا في وعاء وصبه في الماء الراكد كان في معنى البول في الماء انتهى وكذلك كلامه في مختصر التقريب والإرشاد للقاضي

1 سورة الإسراء آية "23"

2 أخرجه البخاري ومسلم بلفظ:"لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه

ص: 8

أبي بكر وقال إن القياسين اختلفوا فذهب قوم إلى أن ما صاروا إليه ليس قولا بالقياس وإنما هو تتبع منهما للنص وقال آخرون وهو الحق هو قول ببعض القياس وقال إمام الحرمين في البرهان إن أبا هاشم قال بهذين الوجهين وزاد ثالثا وهو ما إذا طولب المكلف بشيء واعتاص1 عليه الوصول إليه يقينا فيتمسك بالإمارات المفضية إلى الظن ومثل أبو هاشم هذا بوجوب استقبال القبلة عند أشكال جهاتها انتهى وهذا من أبي هاشم يحتمل أن يكون منعا من القياس إلا في الأماكن الثلاثة ويكون حينئذ مذهبا آخر في القياس لم يتقدم له ذكر ويحتمل أن يكون منعا من العمل بالظن مطلقا إلا فيها وفي الباب مذهب آخر ذهب إليه أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا أن من شرط صحة القياس حدوث حادثة تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمها

"تنبيه" ذهب الأكثرون إلى أن دلالة الدليل السمعي عليه قطعية وقال بعضهم بل ظنية

قال "استدل أصحابنا بوجوه الأول أنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع والمجاوزة اعتبار وهو مأمور به في قوله تعالى فاعتبروا قيل المراد الألفاظ فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية قلنا المراد قدر مشترك قيل الدال على الكلي لا يدل على الجزئي قلنا بلى ولكن ههنا جواز الاستثناء دليل العموم قيل الدلالة ظنية قلنا المقصود العمل فيكفي الظن"

استدل أصحابنا على حجية القياس بوجوه أربعة:

أحداها أن القياس مجاوزة اعتبار والاعتبار مأمور به فالقياس مأمور به أما المقدمة الأولى فلأنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع

وأما الثانية فلأن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة والعبور تقول عبرت عليه وعبرت النهر

1 في لسان العرب:فصل العين وخرف الصاد ":اعتاض علي هذا الأمر يعتاص فهو معتاص:إذا التأث عليه أمره فلم يهتد لجهة الصواب فيه

ص: 9

وأما الثالثة فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بماهية الاعتبار وهو أمر شامل لجميع أنواع الاعتبار ومن جملة أفراده القياس فوجب أن يكون الاعتبار مأمورا به واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم أن الاعتبار المجاوزة بل المراد من المأمور به الاتعاظ ودليل ذلك أن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية وهو قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ1} فإنه لا يقال بعد ذلك فقيسوا الذرة على البر إذ هو حينئذ ركيك من الكلام ولا يليق بالشرع وأجاب عنه بأن المراد بالاعتبار القدر المشترك بين الاتعاظ والقياس وهو المجاوزة إذ في كل منهما معناها بخلاف ما لو جعلناه مختصا بالاتعاظ فإنه يلزم إما الاشتراك أو المجاز على خلاف الأصل وإذا حملنا الاعتبار على مطلق المجاوزة لا تلزم الركاكة لأنها إنما تلزم أن لو خصصنا الاعتبار بالقياس الشرعي وليس كذلك ثم اعترض الخصم ثانيا بأنا سلمنا أن الاعتبار المجاوزة لكن لا يلزم منه الأمر بالقياس لأن الآية دالة على وجوب مطلق الاعتبار والدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز وغير ملتزم له وهو معنى قوله الدال على الكلي لا يدل على الجزئي ولا يلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي للكلي الذي هو مطلق الاعتبار وأجيب بأن ما ذكر صحيح ولكن هنا يقتضي العموم لوجهين

أحدهما وهو المذكور في الكتاب أنه يحسن أن يقول اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني وقد بينا في العموم أن الاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوضح أن كل اعتبار داخل تحت هذه اللفظ:

الثاني أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضي أن يكون علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار كونه اعتبار فيلزم أن يكون كل الاعتبار مأمورا به

ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم جواز الاستثناء إذا فسر بالتفسير المذكور وهو ما لولاه لوجب دخوله إذ النكرة في سياق الإثبات لا تعم ثم ولو فسر الاستثناء بأنه ما لولاه لصح دخوله لم يأت ما ذكر أيضا لأنه ينتقض

1 سورة الحشر آبة "2"

ص: 10

بالأمر بكل ماهية كلية إذ يجوز فيه هذا النوع من الاستثناء نحو صل الصلاة الفلانية مع أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بجزئياتها كذا قاله صفي الدين الهندي وهو صحيح وعلى الثاني أن هذا إثبات للقياس بالقياس أو أن كون ترتيب الحكم على الوصف مشعرا بالعلية قياس فيتوقف ثبوته على ثبوت أصل القياس فلا يثبت به أصل القياس وإلا يلزم الدور فإن قلت قد قال بحجية هذا النوع من القياس بعض من أنكر أصل القياس" لكون العلة فيه معلومة بالإيماء فيصح إثباته به بالنسبة إليه قلت صحيح "لكن لا يصح إثباته بالنسبة إلى منكر أصل القياس والكلام في هذا المقام ليس إلا معه قال صفي الدين الهندي ويمكن أن يجاب عن اعتراض الخصم بوجه ثالث وهو أن الأمر بالماهية والكلية وإن لم يقتض الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلف بالإتيان بكل واحد من تلك الجزئيات بدلا عن الآخر عند عدم القرينة المعينة لواحد منها أو لجميعها ثم التخيير بينها يقتضي جواز فعلى كل واحد منهما ويلزم من جواز فعلى القياس وجوبه لأن القول بجوازه مع عدم وجوبه خارق للإجماع ثم اعترض الخصم ثالثا بأنا ولو سلمنا أن الآية الدالة على الأمر بالقياس لكن التمسك بها ممتنع لأن الاستدلال بالعموم إنما يفيد الظن والتمسك بالظن في المسائل العلمية التي هي الأصول لا يجوز وأجاب المصنف بأن المقصود من حجية القياس العمل به لا مجرد اعتقاده لأصول الدين والعمليات يكفى فيها الظن فكذلك وسائلها والله أعلم ولم يجب الإمام عن هذا السؤال بل قال إنه عام في كل السمعيات فلا تعلق له بخاصية هذه المسألة وأجاب الهندي بمنع أن تكون المسألة علمية وجعلها ظنية وهذا واضح على أحد الرأيين الذي حكيناهما في أول الباب

قال "الثاني خبر معاذ وأبي موسى قيل كان ذلك قبل نزول أكملت قلنا المراد الأصول لعدم النص على جميع الفروع"

الوجه الثاني من الوجوه الدالة على حجية القياس من السنة وتلك في قصتين قصة أبي موسى وقصة معاذ أما قصة معاذ فروى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له:"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء" قال أقضي بكتاب الله قال

ص: 11

"فإن لم تجد في كتاب الله" قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي1 رسول الله" والمراد بالرأي القياس قال إمام الحرمين ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي الاستنباط من الكتاب والسنة فإن ذلك لو كان على هذه الوجه لكان تمسكا بالكتاب والسنة وقد قال في البرهان أيضا أن الشافعي رضي الله عنه احتج ابتداء على إثبات القياس بحديث معاذ يعني هذه قال والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه تأويل قلت وهذا عجيب من إمام الحرمين فقد قال إمام الصناعة أبو عبد الله البخاري لا يصح هذا الحديث وقال الترمذي ليس إسناده عندي بمتصل وأما قصة أبي موسى وقد جمع في المحصول وغيره بين القصتين وجعلهما واحدة ولا أعرف ذلك بل روى البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه كتابا بليغا وفيه ثم قايس الأمور وأعرف الأمثال والأشباه رواه البيهقي وقال هو كتاب معروف مشهور لا بد للقضاة من معرفته والعدل به وقد اعترض الخصم على هذا الدليل الثاني فإنه وإن دل على حجية القياس وقت تقريره عليه السلام فلا يدل على حجيته دائما في جميع الأزمنة بل ذلك قبل نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ2} فإن إكمال الدين إنما يكون بالتنصيص على الأحكام فما نزلت هذه الآية استغنى عن القياس والجواب أن الأصل عدم التخصيص بوقت دون وقت وأيضا فلم يقل أحد أن القياس كان حجة إلى حين نزول هذه الآية ثم زال والمراد بقوله أكملت

1 رواه أبو داود وانرمذي "تحفة الأحوذي باب القاضي كيف يقضي 4/556- 557"وضعفه الترمذي والبخاري وابن حزم لكن الإمام الشافعي رضي الله عنه صححه واحتجة به علي صحة القياس

أنظر:"تخريج أحاديث المنهاج للعراقي ورقة 43- ب وابن الملقن ورقة 43 – وقد روي البخاري عن أبي بردة رضي الله عنه قال: يعث رسول الله صلي الله عليه وسلم – أبا موسي ومعاذ بن جبل إلي اليمن وبعث كل واحد منهما علي مخلاف ثم قال: "يسرا ولا تعسرا ويسرا ولا تنفرا" الحديث التاج "4/441"

2 سورة المائدة 3

ص: 12

لكم دينكم الأصول أما التفاريع فالآية مخصوصة بالنسبة إليها لعدم شمول النص الصريح لجميع الجزئيات هذا تقرير ما في الكتاب ولك أن تجيب عن هذا الاعتراض بما هو أحسن من هذا الجواب فتقول المراد من قوله أكملت لكم دينكم بيان جميع ما يحتاج إليه في الدين والآية عامة على هذا التقدير ثم للبيان قد يكون بلا واسطة كما في التخصيص وقد يكون بواسطة كما إذا بين المدارك للأحكام فلم قلتم أنه لا يحصل ذلك إلا إذا كان البيان بلا واسطة وحينئذ لا ينافي إكمال الدين العمل بالقياس بل يكون من إكمال شرعه ولا يحتاج على هذا التقرير إلى تخصيص الآية بل تكون باقية على عمومها

قال الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة أقول برأي أبي الكلالة ما عدا الوالد والولد والرأي هو القياس إجماعا وأمر عمر أبا موسى في عهده بالقياس وقال في الجد أقضي برأيي وقال له عثمان إن اتبعت رأيك في الإجماع فسديد وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد وقاس ابن عباس الجد على ابن الابن في الحجب ولم ينكر عليهم وإلا لاشتهر قيل ذموا أيضا قلنا حيث فقد شرطه توفيقا

الوجه الثالث مما يدل على أن القياس حجة وهو معتمد الجمهور الإجماع وتقريره أن العمل بالقياس مجتمع عليه بين الصحابة لصدوره من طوائف منهم من غير إنكار وكلما كان كذلك كان إجماعا لما تقدم في كتاب الإجماع وأما صدوره عن طوائف منهم فلما روى أن أفضل الصحابة الصديق رضي الله عنه قال حين سئل عن الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والرأي هو القياس لأنه يقال أقلت هذا برأيك أم بالنص فدلت مقابلته للنص على أنه للاستدلال وادعى المنصف في ذلك الإجماع وكذا ادعى صفي الدين الهندي في النهاية واستدل عليه بأن أصحابنا رووا عن السلف كلاما كثيرا أنهم عملوا بالرأي وقالوا الرأي هو القياس وساعدناهم على ذلك فدل على أن الرأي هو القياس وفاقا فإن قلت هل ذلك باعتبار أصل وضعه أو باعتبار النقلي قلت ألا ظهر أنه بطريق النقل مع أن ذلك مما لا حاجة لنا إليه مع ثبوت ما ذكرناه وأمر عمر رضي

ص: 13

الله عنه أبا موسى في عهده بالقياس حيث قال أعرف الأشباه والنظائر ثم قايس بين الأمور وقد تقدم هذا وقال عمر أيضا في الحد أقضي برأيي وقال عثمان لعمر إن اتبعت رأيك فسديد وإن تتبع رأي من قبلك يعني أبا بكر فنعم الرأي وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن وقال ابن عباس الجد على ابن الابن في حجب الأخوة وقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت أن يجعلوا ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا فثبت صدور القياس بما قلنا وبعيره من الآثار الكثيرة التي ينكرها إلا معاند وقد تواتر القدر المشترك منها قال القاضي في كتاب التقريب والإرشاد وقد صار تمسكهم بالرأي وتسويغهم التعلق بطريق الاجتهاد مدرك اختلافهم على الجملة ضرورة وإن كانت صورة الاختلاف نقلت آحادا واعترض الخصم على هذا الدليل بأنه معارض بمثله فإنه نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم ذموه أيضا وأنكروه كما روي عن أبي بكر رضوان الله عليه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقوله تضلني وأي أرض تقلني معناه تحملني وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين وعن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظهره إلى غير ذلك من آثار كثيرة والجواب أن معارضة هذا الذم لما ذكرناه أيضا عنهم من العمل به إن ثبتت فالجمع بين الدليلين أولى فيحمل هذا على ما إذا كان القياس غير مستجمع لشرائط وذلك على القياس المستجمع لشرائطه توفيقا بين الدليلين وهذا ما ذكره في الكتاب وهو جواب إجمالي وقد قيل إن المعارضة غير ثابتة وأجيب بوجه تفصيلي أما نقل عن أبي بكر فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ونحن نسلم أنه لا مجال للرأي في ذلك لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية وأما قول عمر رضي الله عنه فإنما قصد به ذم من ترك الموجود من الأحاديث وعدل إلى الرأي مع أن العمل به مشروطا بعدم النصوص ولذلك سماهم بأصحاب الرأي وإلا فمن قال بالكتاب والسنة والرأي ويقال له صاحب الرأي لأنه لم يتمحض قوله بالرأي وأما قول علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس إلى آخره فيجب

ص: 14

حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس ويكون المقصود منه أنه ليس كلما أتت به السنن على ما تقتضيه القياس

قال الرابع إن ظن تعليل الحكم في الأصل بعلة توجد في الفرع يوجب ظن الحكم في الفرع والنقيضان لا يمكن العمل بهما ولا الترك لهما والعمل بالرجوع ممنوع فيبقى الراجح

هذا وجه عقلي وتقريره أن المجتهد إذا ظن أن الحكم في الأصل معلل بعلة موجودة في الفرع حصل له ظن الثبوت الحكم في الفرع والظن بوجود الشيء يستلزم الوهم بعدمه لعدم انفكاك كل من الظن أو الوهم عن الآخر والعمل بهم أو الترك لهم يستلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما والعمل بالوهم المرجوح خلاف المعقول والمشروع فتعين العمل بالراجح لأنا استقرينا أمور الشرع كلها جزئية وكلية فوجدنا الراجح يجب العمل به لقوله صلى الله عليه وسلم:"نحن نحكم بالظاهر" وما أشبه ذلك وهذا معنى قولنا يتعين العمل بالراجح وليس المراد منه أن كونه راجحا صفة يقتضي الثواب على فعله والعقاب على تركه حتى يقال عليه الأحكام عندنا إنما هي من جهة الشرع دون العقل وإنما المراد بتعينه أن الشرع تقرر منه ذلك فالعقل أدرك كونه راجحا والشرع حكم بالعمل بالراجح وللعقل أهلية الإدراك بلا نزاع بين العقلاء وقد قيل إن في هذا الدليل نظرا لجواز ارتفاعها بارتفاع محل الحكم وذلك بأن لا يكون في الواقعة حكم شرعي البتة ويكون الأمر فيها محالا على البراءة الأصلية بناء على أنه لا يجب أن يكون في كل حادثة حكم شرعي

قال "احتجوا بوجوه الأولى قوله تعالى لا تقدموا وإن تقولوا ولا نقف ولا رطب إن الظن قلنا الحكم مقطوع والظن في طريقه"

ذكر من شبه الخصوم ستة أولها ما تعلقوا به من الكتاب وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ1} والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله إذ هو قول بغير الكتاب والسنة وأيضا

1 وفتتح سورة الحجرات

ص: 15

فالقياس إنما يفيد الظن والظن منهي عنه لقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ1} وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ2} أي ولا تتبع ما لا تعلم فهي نهي عما ليس بعلم ومن جملته الظن وأيضا قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ3} يقتضي الاستغناء عن القياس وأيضا قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً4} وأجاب في الكتاب بأن الحكم مقطوع به لا مظنون والظن وقع في طريقه كما تقرر في أول الكتاب فإن قلت هذا يشعر بأنه سلم أن الظن مذموما لكنه وقع في طريق الحكم لا فيه وعلى هذا يكون الطريق مذموما ويكون الحكم كذلك لأنه مستفاد من الطريق المذموم قلت حاصل جوابه أنه منع كون الحكم مظنونا حتى لا يستدل الخصم عليه بما استدل ولا يلزم من هذا المنع تسليم أن الظن مذموم ولا إشعار له به ولو سلمنا أنه يشعر بذلك فقال الشيرازي شارح هذا الكتاب لا نسلم أن المستفاد عن المذموم مذموم ألا ترى إلى جواز كذب المقدمتين مع صدق النتيجة مثل قولك كل إنسان حجر وكل حجر حيوان ينتج كل إنسان حيوان وهو صحيح من كذب مقدمتيه ولقائل أن يقول كل انسان حيوان في هذا المثال صورة نتيجة لا نتيجة في نفسه وصدقه لنفسه لا لكون نتيجة فلا نسلم أن هاتين المقدمتين ينتجان هذا القول الصادق واعلم أن هذا الذي أجاب به المضيف ليس شاملا للآية الأولى ولا للآية الرابعة والجواب عن الآية الأولى أنا لا نسلم أن العمل بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله لأنه ثبت بالكتاب والسنة كما تقدم وعن الرابعة بأنه عام مخصوص لعدم اشتمال الكتاب على جميع الجزئيات وقد أجيب عما استدل به الخصم على المنع من الظن بوجهين آخرين لم يذكرهما في الكتاب أحدهما أنه حجة عليه فإن القول ببطلان القياس ليس معلوما عندك بل مظنون ضرورة أنه لا قاطع على فساده والذاتي أنه يجب تخصيصه بالأصول دون الفروع لوجوب العمل بشهادة الشهود وحكم القاضي وفتوى المفتي واجتهاد المجتهد في الماء

1 سورة الأعراف "33"

2 سورة الإسراء "36"

3 سورة الأنعام "59"

4 سورة النجم "28"

ص: 16

والتراب والقبلة وقت الصلاة وهلال رمضان وقيم المتلفات وغلبة السلامة في ركوب البحر وخبر الواحد أو العموم وقول القدر في أرش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الحالف في مجلس الحكم كل ذلك مظنون ويرفع به النص في الأصل

قال الثاني وقوله صلى الله عليه وسلم:"تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" الثالث ذم بعض الصحابة له من غير نكير قلنا معارضان بمثليهما فيجب التوفيق الرابع نقل الإمامية إنكاره عن العترة قلنا معارض بنقل الزيدية الخامس أنه يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وقد قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} قلنا الآية في الآراء والحروب لقوله عليه السلام:"اختلاف أمتي رحمة"

الشبهة الثانية للخصوم ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم:"تعمل هذه الأمة برهة أي قطعة من الزمان بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله ثم تعمل برهة بالرأي فإذا قالوا بالرأي فقد ضلوا وأضلوا" الثالثة الإجماع فإنه قد نقل عن بعض الصحابة ذم الرأي من غير نكير فكان إجماعا والجواب عن هذين الدليلين بأنهما معارضان بمثليهما سنة وإجماعا كما سلف فيجب الجمع بين الدليلين بأن يحمل الذم على القياس الفاسد دون الصحيح كما سبق هذا ما في الكتاب والحديث المشار إليه لا تقوم به الحجة ولا يصلح معارضا لأن رواية جبارة بن المفلس وهو ضعيف حماد بن يحيى الأبح وقد قال فيه البخاري يهم في الشيء بعض الشيء قال ابن عدي وسمعت ابن حماد يقول قال السعد بن الأبح روي عن الزهري حديثا معضلا يعني هذا الحديث ورواه حماد عن الزهري كما ذكر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا فإن قلت سلمنا ضعف الحديث ومعارضته لما تقدم ومعارضة الإجماع أيضا وأنه يجب التوفيق بينهما ولكن لا نسلم أن التوفيق متعين بما ذكرت من الطرق بل جاز أن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر منكرا وحينئذ يكون كل واحد منهم قائلا بالقياس ومنكرا باعتبار حالتين فلا تناقض وتكون الروايتان صحيحتين مع أنه لا

ص: 17

يحصل الإجماع على صحته ولا على بطلانه فلا يصح لك ولا لنا الاستدلال بالإجماع قلت ما ذكرناه من التوفيق أولى لأنه يقتضي بقاء ما كان على ما كان من استمرار كل ذي قول على قوله وتوفيقكم يقتضي التعبير وأيضا فلو وقع ما ذكرتموه لاشتهر لغرابته أو كان في لفظ أحد منهم إشعار بالرجوع الرابعة نقل الإمامية من الشيعة إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على وجوب العمل به مع أن إجماع العترة غير حجة كما سبق الخامس أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وكل ما كان كذلك فهو منهي عنه أما الصغرى فلأن القياس مبني على الظن وهو مختلف باختلاف القياسيين وأما بيان الكبرى فلقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا1} نهى عن النزاع فاستلزم ذلك النهي عما يفضي إليه والجواب أن الآية إنما وردت في مصالح الحروب لقرينة قوله فتفشلوا وتذهب ريحكم أو أنها محمولة على النزاع فيما يتعين فيه الحق كمسائل الأصول وأما التنازع فيما عدا ذلك فجائز لما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة" 2 فيحمل الحديث على ما عدا ذلك واعلم أن الحديث المشار إليه غير معروف ولم أقف له على سند ولا رأيت أحدا من الحفاظ ذكره إلى البيهقي في رسالته إلى الشيخ العميد عميد الملك بسبب الأشعري وقد ساقها الحافظ ابن عساكر في التبيين إلا أن البيهقي لم يذكر له إسنادا بل قال روى النبي صلى الله عليه وسلم كذا ولو لم يكن له أصل لما ذكره البيهقي ثم قال البيهقي سمعت الإمام ناصر العمري يقول سمعت القفال المروزي يقول معناه اختلاف هممهم فبهمة واحد في الفقه وآخر في الكلام كاختلاف همم أصحاب الحروف في حرفهم بما فيه مصالح العباد قلت وهذا

1 سورة الأنفال ىية "46"

2 قال السيوطي كط أخرجه نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند واورده الىحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله خرج في بعض الكتب الحفاظ التي لم تصل غلينا "الجامع الصغير 1/13 وأري أن الحديث محمول علي الإختلاف في الفروع وهذا شيء فيه وإنما يدل علي اتساع الشريعة الإسلامية وشمولها لكل ما يجد من حوادث ونوازل والله أعلم

ص: 18

تأويل حسن وهو أحسن مما نقله إمام الحرمين في النهاية عن الحليمي من أن معناه اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب وكلا التأويلين على أنه ليس المراد اختلافهم في الحلال والحرام قال والدي أيده الله القرآن دال على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ1} وقال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ2} وكذا السنة قال عليه السلام:"إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم3" والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة والاختلاف على ثلاثة أقسام

أحدها في الأصول وهو المشار إليه في القرآن ولا شك أنه بدعة وضلالة

والثاني في الآراء والحروب هو حرام أيضا لما فيه من تضييع المصالح

والثالث في الفروع كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما قال والدي أيده الله والذي يظهر لنا ويكاد أن يقطع به أن الاتفاق فيه خير من الاختلاف لكن هل نقلوا الاختلاف ضلال كالقسمين المذكورين ولا كلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن منع التقليد يقتضي أنه مثلهما وأما نحن فإنه يجوز التقليد للجاهل والأخذ بالرخصة من أقوال العلماء بعض الأوقات عند مسيس الحاجة من غير تتبع الرخص ومن هذا الوجه يصح أن يقال الاختلاف رحمة إذ الرخص رحمة

قال السادس الشارع فصل بين الأزمنة والأمكنة في الشرف والصلوات في القصر وجمع بين الماء والتراب في التطهير وأوجب التعفف على الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وقطع السارق القليل دون غاصب الكثير وجلد في الزنا وشرط فيه شهادة أربعة دون الكفر وذلك ينافي القياس قلنا القياس حيث عرف المعنى

1 سورة هود "118- 119"

2 سورة ابقرة "253"

3 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل والنسائي وابن ماجة "صحيح الجامع الصغير للالباني "3/156"

ص: 19

الوجه السادس وعليه اعتمد النظام أن مدار شرعنا على الجمع بين المختلفات الإسراء وليلة الجمعة ويومها وشهر رمضان والأشهر الحرم ويومي العيدين ويوم عرفة وكذلك بين الأمكنة كمكة والمدينة والمسجد الأقصى مع الاستواء في الحقيقة وفرق بين الصلوات في القصر فرخص في قصر الرباعيات دون الثنائية والثلاثية وجمع بين الماء والتراب في استباحة الصلاة بهما مع أن الماء ينظف والتراب بضده وجعل الحرة الشوهاء تحصن ويحرم النظر إليها دون الجارية الحسناء وعبارة المصنف أوجب التعفف على الحرة الشوهاء فيحتمل أن يريد ما ذكرناه وأن يريد أنه أوجب عليها الستر دون الأمة الحسناء التي يميل الطبع إليها وقطع السارق القليل ما لم ينقص عن ربع دينار دون غاصب الكثير مع أن غاصب الكثير أبلغ في الفحش لأنه يأخذ المال جهرا على تغلب والسارق يأخذه سرا على تخوف وأعظم في الأذى لكثرته وجلد في القذف بالزنا بخلاف القذف بالكفر مع كونه أبلغ وشرط فيه شهادة أربعة وأكتفي في الشهادة على القتيل والكفر باثنين وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصح القياس لأن مبناه على أن الصورتين لما اشتركا في الحكمة وجب اشتراكهما في الحكم وهو باطل والجواب أن القياس إنما يجوز حيث عرف أن الحكم في الأصل معلل بعلة معلومة موجودة في الفرع وامتناع القياس في صور معدودة لا يقتضي امتناعه من أصله وأعلم أن ما ذكره النظام من أن الشريعة مبنية على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات كذب وافتراء وإنما حمله على ذلك زندقته وقصده الطعن في الشريعة المطهرة وقد كان زندقيا يبطن الكفر ويظهر الاعتزال صنف كتابا في ترجيح التثليث على التوحيد لعنه الله وقد نبهنا على ذلك في أول كتاب الإجماع وما ذكره من الصور وكذلك ما يناسبها لها معان والفرق بين المتماثلات فإنه فرق بين الأزمنة في الشرف كليلة القدر وليلة يعلمها الشارع لا إطلاع لنا عليها وحكم خفية لا ندركها على أن الصور المذكورة قد ذكرت معانيها

ص: 20