المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الطرف الثالث في أقسام العلة - الإبهاج في شرح المنهاج - ط العلمية - جـ ٣

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الرابع في القياس

- ‌تعريف القياس

- ‌الباب الأول في بيان أن القياس حجة

- ‌أقوال العلماء في حجتيه والدليل على ذلك

- ‌التنصيص على العلة هل هو أمر بالقياس أو لا

- ‌ القياس أما قطعي أو ظني

- ‌ ما يجري فيه القياس

- ‌الباب الثاني في‌‌ أركان القياس

- ‌ أركان القياس

- ‌مدخل

- ‌في العلة وتعريفها

- ‌الطرف الأول: الطرق الدالة على العليلة

- ‌ الطرف الثاني فيما يبطل العلية

- ‌ الطرف الثالث في أقسام العلة

- ‌في الأصل والفرع

- ‌شروط الأصل

- ‌ شروط الفرع

- ‌قياس التلازم

- ‌الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه بابان

- ‌في المقبولة

- ‌الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم

- ‌ الاستصحاب

- ‌ الاستقراء

- ‌ الأخذ بأقل ما قيل

- ‌ المناسب

- ‌فقد الدليل بعد التفحص البليغ

- ‌في الدلائل المردودة

- ‌الاستحسان

- ‌ قول الصحابي

- ‌الكتاب السادس في التعادل والتراجيح

- ‌في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌تعريف الترجيح

- ‌ لا ترجيح في القطعيات

- ‌تعارض الدليلين

- ‌تعارض النصين

- ‌ الترجيح بكثرة الأدلة

- ‌في ترجيح الأخبار

- ‌طرق ترجيح الأخبار

- ‌بحال الراوي

- ‌ بوقت الرواية

- ‌ بكيفية الرواية

- ‌ بوقت ورود الخبر

- ‌ باللفظ

- ‌ بالحكم

- ‌ بعمل أكثر السلف

- ‌في تراجيح الأقيسة

- ‌بحسب العلة

- ‌ بحسب دليل العلية

- ‌ بحسب دليل الحكم

- ‌ بحسب كيفية الحكم

- ‌بموافقة الأصول في العلة

- ‌الكتاب السابع‌‌ في الاجتهادوالافتاء

- ‌ في الاجتهاد

- ‌تعريفه

- ‌في المجتهدين

- ‌يجوز الاجتهاد للرسول صلى الله علية وسلم

- ‌اجتهاد غير الرسول صلى الله علية وسلم

- ‌شروط المجتهد

- ‌في حكم الحتهاد

- ‌القول بالتصويب والتخطئة

- ‌في الإفتاء

- ‌يجوز الإفتاء للمجتهد

- ‌يجوز الستفتاء للعامة

- ‌ما يجوز فيه التقليد وما لايجوز

الفصل: ‌ الطرف الثالث في أقسام العلة

قال رحمه الله‌

‌ الطرف الثالث في أقسام العلة

الحكم إما محله أو جزؤه عنه عقلي حقيقي أو إضافي أو سلبي أو شرعي أو لغوي متعدية أو قاصرة وعلى التقديرات إما بسيطة أو مركبة

هذا الطرف معقود لبيان ما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك وذكر قبل الخوض فيه تقسيمات للعلة

اعلم أن كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفي ذلك المحل أو ما يكون جزءا من ماهيته إما العام أو الخاص أو ما يكون خارجا عنه والخارج إما أن يكون أمرا عقليا أو شرعيا أو لغويا أو عرفيا ولم يذكره المصنف والعقلي إما أن يكون حقيقيا وهو الذي يعقل باعتبار نفسه أو إضافيا وهو الذي يعقل باعتبار غيره والحقيقي والإضافي ثبوتيان فيقابلهما السلب فحصل في العقلي ثلاثة أقسام مع الأربعة المذكورة فالأقسام سبعة

التعليل بالمحل مثل الذهب ربوي لكونه ذهبا

الثاني بجزء المحل الخاص وهو مع الأول لا يكون في العلة القاصرة لاستحالة وجود خصوصية المحل أو جزئه الخاص في غيره أو بجزئه العام كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة فعقد المعاوضة من حيث أنها جنسه جزء له لا يختص به

الثالث بأمر خارج عقلي حقيقي كتعليل الربوي بالطعم

الرابع بأمر خارج عقلي إضافي كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة

الخامس بأمر خارج على سلبي كتعليل بطلان بيع الآبق والضال بعدم القدرة على التسليم وقد يجتمع التعليل بهذه الأقسام الثلاثة مثل القتل العمد بغير حق فإن القتل حقيقي والعمد إضافي وقولنا بغير حق سلبي

السادس بأمر شرعي كتعليل حرمة بيع الكلب بنجاسته

السابع بأمر لغوي كقولنا في النبيذ أنه يسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب هذه الأقسام التي في كلام المصنف

ص: 138

والثامن ما أشرنا إليه وأهمله التعليل بأمر عرفي كقولنا هذا عيب عرفا فيثبت به الرد ثم العلة تنقسم باعتبار آخر إلى متعدية وهي التي توجد في غير المحل المنصوص أو قاصرة وهي التي تختص بذلك المحل وعلى التقديرات كلها إما أن تكون بسيطة وهي التي لا جزء لها كالإسكار والطعم أو مركبة وهي التي لها جزء كالقتل العمد العدوان

قال "قيل لا يعلل بالمحل لأن القابل لا يفعل قلنا لا نسلم ومع هذا فالعلة المعرف"

شرع في مسائل الفصل وهي ست

الأولى اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم أو جزئه الخاص والمختار عند المصنف والأكثرين جوازه وقول الآمدي المختار التفصيل وهو امتناع ذلك المحل دون الجزء ليس مذهبا ثالثا لأن مراده الجزء العام بدليل قوله بعد ذلك وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عمومه للأصل والفرع

قال صفي الدين الهندي الحق أن الخلاف في المسألة مبني على جواز التعليل بالقاصرة فإن جوز ذلك جوز هذا سواء عرفت عليته بنص أو غيره إذ لا يبتعد أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه برا أو تعرف مناسبة محل الحكم له لاشتماله على حكمة داعية إلي إثبات ذلك الحكم فيه وهذا صحيح وهو مقتضى كلام الإمام وغيره

واجتمع من منع التعليل بالمحل بأن المحل قابل للحكم فلو كان علة له لكان فاعلا له أيضا لتأثير العلة في المعلول والمؤثر لا بد أن يفعل فيه ويمتنع كون الشيء قابلا وفاعلا معا لشيء واحد لأن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب فبينهما تناف

وأجاب بأنا لا نسلم أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا ألا ترى أن الجسم المتحرك قابل للحركة وفاعل لها ولو سلم امتناع كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا ولكن ذلك إذا كان الفاعل بمعنى المؤثر أما إذا كان معنى المعرف فلا يمتنع قطعا وإلى هذا أشار بقوله ومع هذا فالعلة المعرف

ص: 139

قال قيل لا يعلل بالحكم الغير المضبوطة كالمصالح والمفاسد لأنه لا يعلم وجود القدر الحاصل في الأصل والفرع قلنا لو لم يجز لما جاز بالوصف المشتمل عليها فإذا حصل ظن أن الحكم لمصلحة وجدت في الفرع يحصل ظن الحكم فيه

المسألة الثانية جوز قيام التعليل بالحكمة واختاره المصنف تبعا للإمام ومنع منه آخرون وفصل قوم فقالوا إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها وإلا فلا

واختاره الآمدي وصفي الدين الهندي وأطبق الكل على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها ما حاد عن ذلك قياس كالقتل والزنا والسرقة وغير ذلك

واحتج المفصل بما أشار إليه في الكتاب من أن الحكم التي لا تنضبط كالمصالح والمفاسد لا يعلم لعدم انضباطها أن القدر الحاصل منهما في الأصل حاصل في الفرع أم لا فلا يمكن التعليل بها لأن القياس فرع ثبوت ما في الأصل من المعنى في الفرع

وأجاب بأنه لو لم يجز التعليل بالحكم التي لا تنضبط لم يجز بالوصف المشتمل عليها أيضا واللازم باطل بالاتفاق فبطل الملزوم

وبيان الملازمة أن الوصف بذاته ليس بعلة للحكم بل بواسطة اشتماله على الحكمة فعلية الوصف بمعنى أنه علامة على الحكمة التي هي علة غائبة باعثة للفاعل والوصف هو المعرف فإذا لم تكن تلك الحكمة علة للحكم لم يكن الوصف بواسطته علة له وإذا بطل الملزوم فيجوز التعليل بالحكم التي لا تنضبط لأننا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكم المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة تولد لا محالة من ذينك الظن ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل بالظن واجب

وإذا أقام الدليل على جواز التعليل بالحكم التي لا تنضبط فليكن جائزا فيما تنضبط بطريق أولى وهذا هو السر في إعراض المصنف عن الكلام مع مانع

ص: 140

التعليل بالحكم مطلقا والذي نختاره نحن في هذه المسألة التفصيل وقولهم إذا ظننا استناد الحكم المخصوصة إلى الحكمة ثم حصول تلك الحكمة في صورة ظننا حصول الحكم فيها قلنا هذا لا يتأتى إلا إذا كانت الحكمة مضبوطة يمكن معرفة مقاديرها فإنها إذا لم تنضبط لا يمكن معرفة مقاديرها فيتعذر حصول الظن بالمقدمتين

وقولهم لو لم يجز بالحكمة لم يجز بالوصف المشتمل عليها

قلنا العلة في الحقيقة هي الحكمة والحاجة فإنها غائبة الباعثة للفاعل كما ذكرتم ولكنها لما كانت في الغالب لا تنضبط ولا تتقدر في ذاتها جعل الوصف علة بمعنى أنه يعرف العلة بصالحية الوصف للضبط وتعريف العلة التي هي الحكمة هي العلة في جعله علة وهذا قررناه مرة من قبل وإذا وضح هذا فالحكمة لا تصلح لأن يعامل بها ما لا ينضبط إلا بواسطة الوصف لأن الشارع أقامه حينئذ ضابطا لها ولا مبالاة بوجدانها والحالة هذه دون الوصف فأنا تعلم بالاستقراء من محاسن الشريعة رد الناس فيما يضطرب ويختلف باختلاف الصورة والأشخاص والأزمان والأحوال إلى المظان الواضحة التي يكشف غيهبها ردا لما تدع العامة تخبط عشواء ونفيا للجرح والضراء ألا ترى إلى حصر القصر والفطر في مظنته الغالبة وهي السفر وإن كانت الحكمة المشقة التي قد توجد في حق الحاضر وتنعدم في حق المسافر

قال قيل العدم لا يعلل به لأن الإعدام لا تتميز وأيضا ليس على المجتهد سبرها قلنا لا نسلم فإن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم وإنما سقطت عن المجتهد لعلة تناهيها

المسألة الثالثة ذهب قوم إلى أنه يجوز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا لأنه قد يحصل دور أن الحكم مع بعض العدميات والدوران يفيد الظن ولأن العدة المعرف وهو غير مناف للعدم فإن العدم قد يعرف وجود الحكم الثبوتي فإن عدم امتثال العبد لأمر سيده يعرفنا سخطه عليه والحكم العدمي فإن عدم العلة يعرف عدم المعلول وكذا عدم اللازم وكذا عدم اللازم وعدم الشرط فيصح

ص: 141

قيام العلية بالعدم كما بالموجود واختاره الإمام وأتباعه ومنهم المصنف ومنع منه قوم إذا كان الحكم ثبوتا واختاره الآمدي وابن الحاجب واحتج هؤلاء بوجهين أشار إليهما في الكتاب

أحدهما أن العلة لا بد أن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو المعرف أو الداهي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعيين هذا حاصلا لذاك ولا تعيين ذلك لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض

والثاني أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يصلح للعلية وهذا يدل على أن الوصف العدمي لا يصلح للعلية

وأجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن الإعدام لا تتميز لأن كلامنا في الإعدام المضافة وبعضها يتميز عن بعض بدليل أن عدم اللازم متميز عن بعض الملزوم

لأن الأول يستلزم الثاني من دون عكس وكذا عدم أخذ الضدين عن المحل يصح حلول الآخر فيه نعم العدم المطلق لا يتميز وليس فيه كلامنا

وعن الثاني بأنه إنما أسقط عن المجتهد سبرها لتعذره لأن العدميات لما كانت غير متناهية تعذر سبرها

وقد يجاب بأنا لا نسلم أنه لا يجب عليه سبر ما تتخيل المناسبة فيه أو الدوران أو ما يقرب من العلية

قال "قيل إنما يجوز التعليل بالحكم المقارن وهو أحد التقادير الثلاثة فيكون مرجوحا قلنا ويجوز بالمتأخر لأنه معرف"

المسألة الرابعة ذهب الأكثرون إلى أنه يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي وهو اختيار الإمام وأتباعه ومنهم المصنف لأن الحكم قد يدور مع الآخر وجودا وعدما لأن العلة هي المعرف فلا بدع في جعل حكمه معرفا لآخر

ص: 142

كأن يقول الشارع مهما رأيتموني أثبت الحكم الفلاني في الصورة الفلانية فاعملوا إني أثبت الحكم الفلاني فيها أيضا وذهب الأقلون إلى امتناع ذلك واحتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر فلا بد وأن يكون مقارنا له لأنه إن لم يقارنه فإما أن يكون متقدما عليه فيلزم وجود العلة مع تخلف المعلول عنها وهو غير جائز ولو سلم جوازه فلا ريب في أنه مخالف للأصل فلا يجوز إثبات العلة بهذه الصفة إلا عند قيام الدليل عليه أو يكون متأخرا عنه والمتأخر لا يكون علة للمتقدم فثبت أنه لا بد في كونه علة من المقارنة وعلى هذا فلا يكون الحكم علة إلا على تقدير واحد من ثلاثة وهو احتمال المقارنة والاحتمالان أغلب واحد والتعليل به لا يصح على تقديرهما فكان عدم التعليل به راجحا على التعليل به لأنه ثابت على احتمالين من ثلاثة والعبرة بالراجح دون المرجوح

وأجاب بأنا لا نسلم أن يمتنع كونه علة على تقدير تأخره فإن العلة هي المعرف ويجوز أن يكون المتأخر معرفا للمتقدم كالعام للصانع وحينئذ يندفع ما ذكرتم ويكون التعليل به ثابتا على احتمالين من ثلاثة فيكون راجحا وقد ذهب الآمدي في المسألة إلى تفصيل مبني على ما لا نوافقه عليه فلذلك لم نورده

قال "قالت الحنفية لا يعلل بالقاصرة لعدم الفائدة قلنا معرفة كونه على وجه المصلحة فائدة ولنا أن التعدية توقفت على العلة فلو توقفت هي عليها لزم الدور"

المسألة الخامسة أطبق الناس كافة على صحة العلة القاصرة وهي المقصورة على محل النص المنحصرة فيه التي لا تعداه إذا كانت منصوصة أو مجمعا عليها كما نقله جماعة ومنهم القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد فيما إذا كانت منصوصة وجعلوا محل الخلاف في المستنبطة والذي ذهب إليه الأكثرون منهم الشافعي والأصحاب ومالك وأحمد والقاضيان أبو بكر وعبد الجبار وأبو الحسين وعليه المتأخرون كالإمام وأتباعه ومنهم المصنف أنها صحيحة معول عليها

وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد البصري والكرخي إلى امتناعها وحكاه الشيخ محي الدين النووي في شرح المذهب وجها لأصحابنا وكذلك

ص: 143

الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وأغرب القاضي عبد الوهاب في المخلص فحكى مذهبا ثالثا أنها لا تصح على الإطلاق فيه سواء كانت منصوصه أم مستنبطة وقال هو قول أكثر فقهاء العراق وهذا يصادم ما نقلناه من وقوع الاتفاق في المنصوصة ولم أر هذا القول في شيء مما وقف عليه من كتب الأصول سوى هذا

واحتجت الحنفية على امتناع التعليل بها بما أشار إليه المصنف من أنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هنا لأن الحكم في الأصل معلوم بالنص ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غيره لأن ذلك إنما يمكن إذا وجد ذلك الوصف في غير الأصل والفرض خلافه لأنها قاصرة

وأجاب بأن لها فائدة وهي معرفة أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل وعن قبول الحكم المحض والتعبد الصرف أبعد وقد ذكر لها فوائد أخرى منه أنه إذا ثبت كون القاصرة علة للحكم في محل فلو وجد فيه وصف آخر مناسب متعد يمتنع تعدية الحكم به لمعارضة القاصرة ما لم يدل دليل على استقلاله بالعلية بخلاف ما لو لم يثبت كون القاصرة علة له فإنه حينئذ كان تعدى الحكم بالوصف المناسب المتعدي من غير افتقار إلى دلالة دليل على استقلاله وحاصله أنها تفيد منع حمل الفرع على الأصل كما أن تعديها يفيد وجوب الحمل ومنها أنا بإطلاعنا على علة الحكم نزداد علما بما كنا غافلين عنه والعلم بالشيء أعظم فائدة كما أن الجهل أخس خسران وأقبحه ومنها أن العلة إذا طابقت النص زادته قوة ويتعاضدان وكذلك سبيل كل دليلين اجتمعا في مسألة واحدة ففائدتها فائدة اجتماع دليلين ذكره القاضي في التقريب والإرشاد باختصار إمام الحرمين ومنها ما نبه عليه والدي أيده الله تعالى من أن المكلف يقصد الفصل لأجلها خير زاد أجره كما قررناه في الكلام على العلة فجدد العهدية

وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من فوائدها أنه إذا حدث هناك فرع

ص: 144

فيعلق على العلة ويلحق المنصوص عليه وهذا فيه نظر إذا المسألة مفروضة في القاصرة ومتى حدث فرع يشاركها في المعنى خرت عن أن تكون قاصرة

وقد ذكر إمام الحرمين ذلك فقال قال من يصحح القاصرة فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا ضربت نقودا وضعفه بأن المذهب أن الوبا لا يجري في الفلوس وإن استعملت نقودا فإن التعدية الشرعية مختصة بالمطبوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم إن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم والنص متناول لها فالطلبة بالفائدة قائمة وأن لم يتناولها النص فالعلة إذن متعدية لا قاصرة

قوله ولنا أي دليلنا على صحة القاصرة أن صحة تعدية العلة إلى الفرع فرع صحتها في نفسها فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وإذا لم تتوقف صحتها في نفسها على صحة التعدية صحت وإن لم تتعد وهو المطلوب

واعترض الآمدي على هذا الدليل بوجهين

أحدهما أنه أن أريد بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع وهو مسلم ولكن لا نسلم أن التعدية بهذا الاعتبار شرط في صحة العلة وإن أريد بهذه التعدية وجودها في الفرع لا غير فهو غير مفض إلى الدور فإن صحة العلة وإن كان مشروطا بوجودها في غير حمل النص فوجودها فيه غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور سلمنا لزوم الدور لكن دور معية أو غيره

والثاني ممنوع والأول مسلم وهو صحيح كما في المتلازمين والمتضايفين

فإن قلت ليس دور معية بدليل أن صحة تعديتها إلى الفرع فرع صحتها في نفسها لأنه يصح دخول ما يقتضي التراخي عليه إذ يصح أن يقال صحت العلة في نفسها ثم عدمت أو عدمت بعد أن صحت أو فعديت ولو كانا معا لما صح بهذا القول إذ لا يجوز إدخال كلمة تقتضي التأخير ما بين المتضافين

ص: 145

والمتلازمين فلا يجوز أن يقال حصلت الأبوة ثم النبوة أو حصل العلو ثم السفل وبالعكس

قلت دخول "ثم" ههنا إنما هو لحصول الترتيب في التعدية التي هي فعل المعدي ولا نسلم جواز دخول ما يقتضي التأخير في التعدية التي أريد بها وجود الوصف في صورة فلا يقال صحت العلة في كذا فعديت أو ثم عدينا بمعنى وجدت وإنما يصح بمعنى الإثبات

فائدتان أحدهما

قال إمام الحرمين إن كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا يرى للقاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما سبق وإنما يفيد إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن حمله على الكثير مثلا دون التعليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه من التخصيص بعلة أخرى لا تترقى مرتبتها إلى المستنبطة القاصرة ثم في ذلك سر وهو أن الظاهر إن كان متعرضا للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر فإنها ثابتة في مقتضى النص منه متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه عاصم له عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا ولا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة

ثم قال فإن قيل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا الورق بالورق1" الحديث نص أم ظاهر فإن زعمتم أنه نص بطل التعليل بالنقدية وإن كان ظاهرا فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الإجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل2 فنقول أما الخط الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فليمتحن بحقيقة الأصول فإن لم يصح فليطرح هذا كلام إمام الحرمين

1 رواه مسلم بلفظ "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعو كيف شئتم إذا كان يدا بيد"

2 في الأصل المطبوع:"التعليل" تحريف

ص: 146

ولقائل أن يقول القاصرة مفيدة مطلقا سواء كانت مستنبطة من ظاهر أم نص لما عرفت ولكن هذا الذي ذكره في منعها من التخصيص في الظاهر فائدة أخرى جلية ولا تنحصر الفائدة فيها

وأما قوله إن الأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فصار كالنص

فنقول إذا انتهى القليل إلى حد لا يورث فلا نسلم حصول الإجماع بل أبو حنيفة يخالف فيه كمخالفته في بيع ثمرة بتمرتين فيجوز عنده بيع ذرة بذرة من الذهب والفضة كذا حكاه والدي في تكعلة شرح المهذب عن شرح الهداية للسقناقي من كتب أصحابه فيمكن استعمال العلة وهي جنس الأثمان في ذلك ومنع تخصيص العموم فيه وتحصل الفائدة التي حاولها إمام الحرمين وإلا فآخر كلامه يشير إلى الامتناع من الحكم بصحة العلة المذكورة فإنه قال فإن قيل هذا تصريح بإبطال التعليل النقدية

قلنا الصحيح عندنا أن مسائل الربا بأشهية والشبه على وجوه منها التعليق بالمقصود والمقصود من الأشياء الأربعة الطعم ومن النقدين النقدية هي مقتصرة وليست هي علة إذ لا شبه فيها ولا إحالة ولكن لما انتظم منها اتباع المقصود عد من مسالك الأشياء الأربعة انتهى

فقد امتنع من الحكم بصحة العلة المذكورة لعدم الجريان على القانون الذي مهده وهو مع ذلك لا يراد التعليل بالوزن كقول أبي حنيفة لبطلان التعليل من أوجه تخصه

الثانية رجع الجمهور التعدية على القاصرة امتنع قوم من الترجيع ورجح الأستاذ أبو إسحاق القاصرة بشادة النص بحكمها ويتضح بذلك مذهب الشافعي فيما إذا أفسد صوم رمضان بجماع وترجيح كون العلة الجماع وهي قاصرة على الإفساد وفي تعليل النقدين بالنقدية على الوزن وفي نفقة الوالد على الولد وبالعكس وعلق الأصول على الفروع وبالعكس بالبعضية على القرابة وأما على المذهب الأولين فللشافعي في هذه المسائل أدلة تخصها كالشمس وضوحا

ص: 147

قال "قيل لو علل بالمركب فإذا انتفى جزء تنتفي العلية ثم إذا انتفى جزء آخر يلزم التخلف أو تحصيل الحاصل قلنا العلة عدمية فلا يلزم ذلك"

مثل المسألة السادسة التعليل بالوصف المركب جائز عند المعظم وبه قال المتأخرون ومنهم الإمام وأتباعه ومنهم صاحب الكتاب لأن ما يدل على علية الوصف من الدوران والسبر والتقسيم والمناسبة مع الاقتران لا تختص بمفرد بل دلالته عليه وعلى المركب على حد سواء فعمل به في المركب كما عمل به في المفرد

وقال قوم لا يجوز به معللين بأن جوازه يؤدي إما إلى تخلف المعلول عن العلة العقلية أو تحصيل الحاصل وهما محالان فكذا ملزومهما والدليل على أنه مؤد إلى ذلك أن الوصف المركب إذا كان علة كالقتل العمد العدوان في إيجاب القصاص مثلا كان عدم كل جزء من أجزائه علة مستقلة لعدم عليته لانعدام كل واحد من أجزائه ضرورة إذ عليته من جملة صفات ماهية المنعدمة بانعدام كل واحد من أجزائه وانعدام الوصف يستلزم انعدام الصفة

فإذا انتفى جزء من أجزاء المركب يترتب عليه عدم عليته فيلزم تحصيل الحاصل أو لا يلزم تخلف المعلول عن العلة

وأجاب بأن العلية صفة عدمية لأنا من النسب والإضافات تعتبرها العقول ولا وجود لها في الخارج

ويلزم من كونها عدمية أن يكون انتفاؤها وجوديا فإن العدم والوجود نقيضان ولا بد وأن يكون أحد النقيضين وجوديا وإذا كان انتقاؤها وجوديا فلا يجوز أن يكون عدم كل جزء علة له لأن الأمور العدمية لا تكون علة للأمر الوجودي هكذا أقرره العبري وغيره من شارحي الكتاب وهو أولا ضعيف لأنه ليس بأولى من قول المعترض العلية أمر وجودي لأن نقيضها وهو عدم العلية عدمي واحد من النقيضين واقع لا محالة

وثانيا مخالف لما في المحصول فإنه جعله جوابا لشبهة أخرى لهم غير هذه

ص: 148

ولكن صاحب الحاصل ترك ذكر تلك الشبهة ونقل جوابها إلى هذه الشبهة التي أوردها صاحب الكتاب فتبعه المصنف على ذلك

وقد أجيب عن هذه الشبهة بأمور منها أن عدم الجزء ليس علة لعدم العلية بل كل جزء فوجوده شرط لها وعدمه يكون عدما لشرطها ومنها أنه يقتضي أن لا يوجد ماهية مركبة لما ذكر من التقرير بعينه فإن عدم كل واحد من أجزائه علة لعدم تلك الماهية المركبة فإذا انعدم جزء انعدمت تلك الماهية وإذا انعدم جزء آخر لزم إما انعدامها وهو تحصيل الحاصل ونقص العلة العقلية وكلاهما محال

"فرع" قال الإمام نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعضهم إنه قال لا يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة قلت والذي نقله الشيخ شرح اللمع عن بعض الفقهاء أنه لا يجوز أن تزيد على خمسة وغلط قائله ورأيته في عدة نسخ من الشرح وكان الخمسة تصحفت بسبعة في نسخة الإمام

قال "وهنا مسائل الأولى يستدل بوجود العلة على الحكم لا بعليتها لأنها نسبة يتوقف عليه"

ش الاستدلال قد يكون بذات العلة على الحكم كما يقال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيجب به القصاص وهو طريق صحيح بخلاف الاستدلال بعلية العلة للحكم على الحكم فإنه فاسد

ومثاله أن يقال عليه القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص وقد وجد في المثقل فيجب

واحتج علية للمصنف تبعا للإمام بأمر العلية أمر نسبي بين العلة والحكم فيتوقف ثبوتها على ثبوت المنتسبين اللذين هما العلة والحكم فتتوقف على ثبوت الحكم فيكون إثبات الحكم دورا واعترض عليه صاحب التحصيل بأن صدق قول القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف لا على وجود القصاص وهو

ص: 149

اعتراض منقدح لأن النسبة لا تتوقف على وجود المنتسبين في الخارج بل في الذهن

وحينئذ لا يلزم الدور قال ولو سلمناه لكن لما فسرت العلة بالمعروف انقطع الدور وهو أيضا متجه ومراده انقطع الدور الممتنع وإلا فلزوم الدور على تفسير العلة بالمعروف أيضا واضح

وللاعتراف بصحة هذين الاعتراضين فر صفي الدين الهندي من تعليل فساد هذه الطريق بهذا الوجه إلى وجه تكلفة وهو أن علية العلة للحكم تتوقف على اقتضاء العلة للحكم وكونه مرتبا عليها لولا المانع بحيث يجب أن يكون فلو استفيد اقتضاؤها بها وترتبه عليها من العلية لزم الدور

فإن قلت كيف علية العلة على اقتضاء العلة للحكم وكونه بحيث يجب أن يترتب عليها لولا المانع ولا معنى للعلية إلا هذا والشيء لا يتوقف على نفسه

قلت هو مغاير له لأن اقتضاء الشيء للحكم وكونه مرتبا عليها لولا المعارض أعم من أن يكون بطريق العلة أو غيرها نعم إذا أضيف الاقتضاء إلى العلة تخصص لكن ذلك لا تقتضي أن يكون عينه فإن هذا التخصيص خارج عن ماهية الاقتضاء وداخل في ماهية العلية فهما متغايران

سلمنا أنه عينه لكن تقول إن كون الحكم مترتبا على العلة وكونها مقتضية له إما أن يكون عين فعلية فيلزم الاستدلال بالشيء على نفسه أو غيرها فيلزم الدور على ما سبق فثبت المقصود على التقديرين وهو امتناع الاستدلال بالعلية على ثبوت الحكم وترتبه على العلة

قال "الثانية التعليل بالمانع لا يتوقف على المقتضى لأنه إذا أثر معه فدونه أولى قلنا لا يستند العدم المستمر قلنا الحادث يعرف الإلى كالعالم للصانع"

تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع واختلفوا في أنه هل يشترط في صحة هذا التعليل بيان وجود المقتضى

فذهب جمع إلى اشتراطه وهو اختيار الآمدي وأباه الآخرون وعليه الإمام

ص: 150

وشيعته كالمصنف واختاره الحاجب ولا يخفى عليك أن هذا الخلاف إنما يتأتى إذا جوزنا تخصيص العلة فأما إذا لم يجوز ذلك فلا يتصور هذا الخلاف لأن التعليل بالمانع حينئذ لا يتصور فضلا من أن يختلف في أنه مشروط ببيان وجود المقتضى

كذا قال صفي الدين الهندي وهو متلقى من قول الإمام إن هذه المسألة من تفاريع تخصيص العلة فإما إن أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضى والمانع

ولقائل أن يقول هذا غير لازم فإن العلة من تخصيص العلة جاز أن يقول شرط تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي وجود المقتضى في تلك الصورة ويكون مراده أن هذا الشرط ممتنع ويمتنع بامتناعه تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي

واحتج المصنف بأن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشيء لا يتقوى بضده بل يضعف به فإذا كان المانع مؤثرا حال ضعفه وهو وجود المقتضى فلأن يكون ذلك حال قوته وهو عدم المقتضى أولى

واحتج المشترطون بأن المعلول الذي هو عدم الحكم إما أن يكون هو العدم المستمر وذلك باطل لأن المانع حادث والعدم المستمر أزلي ويمتنع استناد الأزلي الحادث وإن كان هو العدم المتجدد فهو المطلوب لأن العدم المتجدد إنما يتصور بعد قيام المقتضى

وأجاب بأنا لا نسلم امتناع تعليل المتقدم بالمتأخر بمعنى المعرف وحينئذ المعلل هو العدم المستمر وهو جائز بهذا المعنى كما أن العالم معرف للصانع

وأجيب أيضا بأنا نقول المعلل هو العدم المتجدد قلنا ممنوع لأنا لا نعني العدم المتجدد إلا أنه حصل لنا العلم بعدم الحكم من قبل الشرع ومعلوم أن هذا لا يقتضي تحقق المقتضى

ولقائل أن يقول ما حكم ما فيه بالعدم بناء على البراءة الأصلية لا يكون معرفا من قبل الشرع لأن الشرع لم يرد فيه بشيء وقولهم إن العلة المعرف والمتأخر يعرف المتقدم قلنا لا يصح أن تكون العلة بمعنى المعرف في هذا المقام

ص: 151

لأنكم اعترفتم من قبل بأن الوصف ليس معرفا للحكم في الأصل بل هو معرف بالحكم في الأصل معرف للحكم في الفرع فالوصف معرف إما بالنص إن ورد فيه نص كما قلتم أو بالبراءة الأصلية وعلى التقديرين لا يكون الوصف معرفا له

والكلام لم يقع إلا فيه فامتنع استناد العدم في الأصل إلى هذا العدم المتحدد سواء جعلناه معرفا أو مؤثرا وإذا عرفت ضعف ما أجاب به فنقول وما استدل به أيضا ضعيف لأن للخصم أن يقول لا يلزم من جواز تعليل عدم الحكم بالمانع حال وجود المقتضى الذي هو شرط التعليل به جواز تعليله به حال عدم المقتضى الذي هو مناف لتعليله به

وأما قولكم إنه قوي حال عدمه ضعيف حال وجوده فلسنا نسلم ذلك وسند هذا المنع أن وجود المقتضى لما كان شرط تأثيره في عدم الحكم استحال أن يقال إنه يضعف إذ ذاك وكيف يضعف الشيء حال وجود شرط تأثيره

ولئن سلمناه فلا يلزم منه أيضا عدم الجواز لأن المأخذ في هذا ليس هو القوة والضعف حتى يلزم ما ذكرتم بل غيرها من أدلة نقيمها ومن جملتها الدليل الذي أشرتم إليه وبينا ضعف ما أجبتم به عنه

قال "الثالثة لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل بل يكفي انتهاض الدليل عليه"

ش شذ بعض الأصوليين فقال وجود الوصف الذي جعل علة في الأصل لا بد وأن يكون متفقا عليه وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض وكان اشتراط الاتفاق تعيثا بل الحق أنه قد يكون ضروريا ومعلوما بالبرهان اليقيني ومظنونا

واستدل الشيخ أبو إسحاق على بطلان هذا المذهب بأن قائله إن أراد بالاتفاق الذي اشترط إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس لأن نفاة القياس من جملة الأمة وأكثرهم يقولون إن الأصول غير معللة وإن أراد إجماع القياسيين فهم بعض الأمة وليس قولهم بدليل

ص: 152

قال "الرابعة الشيء يدفع الحكم كالعدة أو يرفعه كالطلاق أو يدفع ويرفع كالرضاع"

ش الوصف المجعول علة على ثلاثة أقسام

الأول أن يكون دافعا للحكم فقط ومثل له المصنف بالعدة فإنها دافعة لحل النكاح إذا وجدت في ابتداء النكاح وليست رافعة له إذا وجدت في أثنائه فإن الموطؤة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية

وكذا الإحرام يمنع ابتداء النكاح ولا يقطعه وهذا يلتفت على أن يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وكذلك الأصح صحة رجعة المحرم لتنزيلها منزلة الدوام وتوقيت النكاح مانع في ابتدائه ولا يمنع في دوامه

فإذا قال أنت طالق غدا أو بعد شهر صح وعقد الذمة لا يجوز مع تهمة الخيانة ولو اتهمهم بعد العقد لم ينبذ إليهم عهدهم بخلاف الهدنة فإنه ينبذ العقد فيها بالتهمة ولو نكح حرة لا تفسخ نكاح الأمة خلافا للمزني ولو رأى المتيمم الماء في أثناء صلاته أتمها إن كانت مما يسقط فرضها بالتيمم وهو مانع في ابتداء الصلاة ولو ملك عبدا له عليه دين ففي سقوط الدين وجهان أصحهما لا وإن كان لا يثبت له على عبده ابتداء لأن الدوام من القوة ما ليس للابتداء وهذه قاعدة في الفقه عظيمة كثرت مسائلها ومن أراد الإحاطة بفروعها فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله

الثاني أن يكون رافعا للحكم فقط كالطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع ولكن لا يدفعه إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد ولك أن تقول الرفع أشد من الدفع فإذا صلح الوصف لأن يكون دافعا بطريق أولى والطلاق كما رفع حل الاستمتاع دفعه ولكن ليس هذا الدفع والرفع مؤبدا بل قد يزولان بنكاح جديد والمصنف أراد بكونه لا يدفعه أنه لا يمنع من طريانه فإنه في القسم الأول منع من الابتداء دون الدوام وفي هذا المنع من الدوام دون الابتداء

ويتعرج هذا إلى أنه قد يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام عكس هذه

ص: 153

القاعدة الأولى وهو في مسائل معدودة غير عديدة استقضيناها في كتابنا الأشباه والنظائر كمله الله تعالى

منها في الملك مضمنى لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه صح وعتق عليه فالقرابة منافية لدوام الملك دون ابتدائه

ومنها لو قتل عتيق زوجته وله منها ولد ثم ماتت قبل الاستيفاء وبعد البينونة فهل نقول وجب لولدها هذا القصاص ثم سقط أو لم يجب أصلا ظاهر قول الأصحاب ورث القصاص ولده أنه وجب ثم سقط فقد قارن المسقط وهو البنوة سبب الملك ولم يمنع ابتداء دخول الملك ومنع الدوران وحكى إمام الحرمين عن شيخه أن القصاص لا يجب وقس على هذا لو زوج عبده بأمته هل نقول المهر ثم سقط أو لم يجب

ومنها المفلس يصح أن يستدين مؤجلا على المذهب ولو حجر عليه بالفلس حل ما عليه من الدين على قول

ومنها أن الجنون فإنه يحل به الديون على وجه ولو أن ولي المجنون استدان له مؤجلا حيث لا تجوز له الاستقراض له لجاز ذلك

ومنها لو تكفل ببدن حي فمات انقطعت الكفالة على وجه ومنها إذا أذن لجاريته ثم استولدها ففي بطلان الإذن اختلف بين الأصحاب قال الرافعي واتفقوا على أنه يجوز ابتداء أن يأذن للمستولدة

الثالث أن يكون دافعا ورافعا كالرضاع فإنه يمتنع من ابتداء النكاح ومن دوامه إذا طرأ وكذا اللعان إذا طراء قطع ومنع الابتداء وحرم على التأييد والحق بهذا أم زوجتك فإن نكاحك بنتها إذا وجد مانع من أن يبتدئ عليها عقدا ولو كنت قد عقدت على أمها ولم تدخل بها لجاز لك نكاح بنتها وانقطع به نكاح الأم وأقسام هذا الأنواع كثيرة أعني كون الشيء يمنع من الدوام والابتداء

قال الخامسة العلة قد يعلل بها ضدان ولكن بشرطين متضادين

ش هذه المسألة مبنية على جواز تعدد الحكم لعلة واحدة فلنذكر المبني عليه

ص: 154

ثم نعود إلى المبنى عليه ثم نعود إلى المبنى فنقول ذهبت الجماهير إلى أن العلة الواحدة الشرعية يجوز أن يترتب عليها حكمان شرعيان مختلفا

وخالف شرذمة قليلون وحجة الجمهور أن العلة إن فسرت بالمعرف فجوازه ظاهر إذ لا يمتنع لا عقلا ولا شرعا نصب إمارة واحدة على حكمين مختلفين

قال الآمدي وذلك مما لا نعرف فيه خلافا كما لو قال الشارع جعلت طلوع الهلال أمارة على وجوب الصوم والصلاة وإن فسرت بالباعث فلا يمتنع أيضا أن يكون الوصف الواحد باعثا على حكمين مختلفين أي مناسبا لهما بأمر مشترك بينهما كمناسبة الربا وللشرب للتحريم ووجوب الحد والقتل للقصاص والكفارة وحرمان الميراث وإن فسرت بالموجب وكانت العلة مركبة لم يمتنع ذلك أيضا لجواز أن يكون الموجب المركب مصدرا لأثرين مختلفين كما في العلل الفعلية المركبة وإن كانت بسيطة فكذلك إذ لا يتمنع أن تكون العلة البسيطة موجبة لأثرين مختلفين لأن القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد مقطوع ببطلانه على أن القول يكون العلة الشرعية موجبة باطل

وأيضا دليل الجواز الوقوع وقد وقع كما عرفت واعتل المانع بما لا يعصم ولا يرتضى ذكره

إذا عرفت ذلك فإن قلنا بمذهب الجماهير فقد يعلل بالعلة متماثلان كالقتل الصادر من زيد ومن عمرو فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما ولا يتأتى ذلك في الذات الواحد لاستحالة اجتماع المثلين

وقد يعلل بها مختلفان غير متضادين كالحيض لحرمة الوطء ومس المصحف

وقد يعلل بها ملولان متضادان وعلى ذكر هذا القسم اقتصر في الكتاب وذلك لا يكون إلا بشرطين متضادين كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحيز وعلة للحركة بشرط الانتقال عنه وإنما قلنا يشترط فيهما شرطان لأنه لا يمكن اقتضاؤهما لها بلا شرط أصلا أو لبعضهما بشرط دون الآخر وإلا يلزم اجتماع الضدين وهو محال وإنما قلنا يشترط التضاد في الشرطين لأنه لو أمكن

ص: 155