الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل على الأكثر فلم يمكن التمسك فيه بالبراءة الأصلية ويوضح ذلك أن بعض العلماء اشترط في الجمعة خمسين فلو أن الشافعي أخذ بالأكثر لاشتراط الخمسين فإن قلت فهل يقضون فيما إذا أحدث مجتهد أداه اجتهاده إلى إيجاب قدر أقل من الثلث بأن ذلك يصير مذهبا للشافعي رحمه الله لأنه أقل ما قيل حينئذ قلت هذا غير متصور لأن الاجتهاد مع قيام الإجماع خطأ ولو صدر من واحد لسفهنا كلامه وقضينا عليه بما نقضي على خارق الإجماع فإذا قلت هب أنه لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع لكن لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول قلت إنما لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في الأمور الحقيقة لا في الشرعية التكليفية فإن تجويز ذلك يستلزم تكليف ما لا يطاق فإن قلت لا يلزم من عدم وجدانه عدم وجوده قلت هذا ساقط إن قلنا كل مجتهد مصيب وإلا فيصير حكم الله في حقه إذ ذاك ذلك الذي غلب على ظنه فيخرج عن العهدة وألا يلزم التكليف بما لا يطاق
قوله قيل يجب الأكثر تقرير هذا الاعتراض أنه ينبغي أن يجب الأكثر ليستيقن المكلف الخاص حينئذ وجوابه أن ذلك إنما يجب حيث تيقنا شغل الذمة لا حيث الشك والزائد على الأقل لم يتيقن فيه ذلك لعدم ثبوت الدليل عليه واعلم أن هذا الاعتراض يناسب من يقول بقاعدة الاحتياط والاحتياط أن يجعل المعدوم كالموجود والموهوم كالمحقق وما يبرئ على بعض التقديرات يلزم به وما لا يبرئ على كل التقديرات لا يلزم به ونأخذ بأقل القولين وأكثرهما ولعلنا نتعرض لهذه القاعدة في الأشباه والنظائر كملها الله تعالى وقد عضدت القول بها مرة بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وهو استئناس حسن ذكرته لأبي أيده الله فأعجبه
قال الخامس
المناسب
المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار المقاتلين بأسارى المسلمين اعتبر وإلا فلا وأما مالك فقد اعتبرها مطلقا لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبارها ولأن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمعرفة المصالح
"ش" تقدم في كتاب القياس أن المناسب إما يعلم أن الشارع اعتبره أو الفاه
أو يجهل حاله وانفصل القول البليغ في القسمين الأولين والنظر هنا في الثالث وقد يعبر عنه بالمصالح المرسلة وبالاستصحاب وفيه مذاهب
أحدها المنع منه مطلقا وهو الذي عليه الأكثرون والثاني أنه معتبر مطلقا وهو المنقول عن مالك بن أنس رحمه الله والثالث ما اختاره المصنف أنه إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإن فات أحد هذه القيود الثلاثة لم تعتبر والضرورية ما تكون في الضروريات الخمس أعني الدين والعقل والنفس والمال والنسب والقطعية التي تجزم بحصول المصلحة فيها والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين ومثل ذلك بما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى المسلمين وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن التترس لعدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه فيجوز والحالة هذه رمية وهذا التفصيل مأخوذ من الغزالي رحمه الله ونحن نشبع القول فيه ثم نلتفت إلى الكلام مع مالك رضي الله عنه فنقول ما ذكرناه من المثال لا عهد به في الشريعة قال الغزالي فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد فنقول هذا الأسير مقتول بكل حال لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فحفظ المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا على قطع نعلم أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل أدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم أنه لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة فيعدل عنها وليس في معناها إذا لم يقطع بظفرهم بنا فإنها ليست قطعية بل ظنية كذا قال الغزالي وهو إشارة إلى اعتبار القطع بحصول المصلحة وفي اشتراط القطع به وعدم الاكتفاء بالظن الغالب نظر
وقد حكى الأصحاب في مسألة الترس وجهين من غير تصريح منهم
باشتراط القطع وعللوا وجه المنع بأن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه وقد يقال إن المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها والخلاف إنما هو في حالة الخوف وقد صرح الغزالي بذلك في المستصفي وقال إنه إنما يجور ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بحملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور ولعل مصلحة الذين في بقاء من طرح أعظم منها في بقاء من بقي ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يعين بالقرعة ولا أصل لها في الشرع وكذلك جماعة في مخصمة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه ينقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحة وقد شهد الشرع بالإضرار لشخص في قصد صلاحه كالقصد والحجامة وغيرهما وكذلك قطع المضطر فلقة من فخذه إلى أن يجد الطعام هو كقطع اليد لكن بما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك ويكون الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد فيمنع منه وليس كذلك ما إن كان الخوف منه دون الخوف من ترك الأكل فإنه يجوز على الأصح بشرط أن لا يجد شيئا غيره فإن قلت فهل يجوزون أن يقطع لنفسه من معصوم غيره أو أن يقطع الغير للمضطر من نفسه قلت لا نجوزه لأنه ليس رعاية مصلحة أحدهما بالقطع له أولى من رعاية الآخر بترك القطع فإن قلت فالضرب بالتهتمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون به قلت قد قال به مالك رحمه الله ولكنا لا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لما علمت من معارضة هذه المصلحة لمصلحة أخرى وهي مصلحة المضروب فربما يكون بريئا من الذهب فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ وإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح أبواب إلى تعذيب البرآء فإن قلت فالزنديق إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله1" فماذا ترون
1 أخرجه البخاري – كتاب الإيمان – من حديث ابن عمر كما أخرجه مسلم – كتاب الإيمان عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر بن عبد الله
"قلت" المسألة في محل الاجتهاد والذي نراه قبول توبته جريا على تعميم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن غاية ظننا فيه أنه أسر الكفار ولسنا على قطع بذلك وقد صادم هذا الظهور بلفظه بكلمة الشهادة العاصمة عن القتل فلا يرجع إليه وهذا الذي رأيناه هو الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في المختصر وقطع به العراقيون وصححه المتأخرون وخالف فيه بعض الأصحاب واستعجل هذه المصلحة في تخصيص عموم الحديث وزعم الروياني أن العمل على ذلك وفي المسألة أوجه أخر ناظرة إلى ما يقوي الظن
فقال القفال الشاشي لا تقبل توبة المشاهير في الخبث كدعاة الباطنية وتقبل من عوامهم وقال الأستاذ أبو إسحاق إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا وظهرت إمارات الصدق قبلت وهو حسن وقال أبو إسحاق المروزي لا يقبل إسلام من تكررت ردته فإن قلت رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرجهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فما تقولون
قلت إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا سبيل إلى قتله إذ في تجليد الحبس عليه كفاية شره فليست هذه المصلحة ضرورية فإن قلت فلو كان زمان فترة لم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبديل الولايات على قرب فليس في حبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته
قلت هذا رجم وحكم بالوهم فربما لا يفلت وتتبدل الولاية والتنقل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه فإن قلت إذا توقعنا من الساعي في الأرض بالفساد بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره
قلت قال الغزالي لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إليه قال بل هو أولى من التترس فإن هذا ظهرت جرائمه الموجبة للعقوبة فكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبعه وسجيته ونحن نقول فيما ذكره الغزالي نظر بل الفرق بين هذا ومسألة التترس دعت الضرورة إلى المبادرة بحيث أنا لو لم نبادر
في الوقت الحاضر لاستأصلونا وأما هذا فجاز أن يهلكه الله تعالى قبل أن يصدر منه ما يتوقع في المستقبل ولا يتصور قطع في ذلك فإن قلت كيف يجوز هذا في مسألة الترس وها هنا على ما ذكر الغزالي وقد قدمتم في كتاب القياس أن المصلحة إذا علم إلغاؤها بمخالفة النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملك المجامع في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً1} وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ2} فإن زعمتم أن نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فليخص العتق بصورة يحصل بها الانزجار على الجناية
قلت جعل الغزالي المسألة في محل الاجتهاد قال ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمسألة السفينة فإنه يلزم منه قتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها ترجيحا بالكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد مخصوص كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم حكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا إلى أكل أحدهم
وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن الكلي الذي لا يحصره حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد ولهذا لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولا يحل له إذا اشتبهت بعشرة أو عشرين ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم أو ذراريهم قتلناهم وأن التحريم عاما لكن تخصيصه بغير هذه الصورة بل أبلغ من هذه الصورة أنه لو لم تكن المصلحة ضرورية
وإنما كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم لجاز رميهم على أحد قولي الشافعي رحمه الله لئلا يتخذ ذلك ذريعة للجهاد فإذا خصص العموم بما ذكرناه كذلك ها هنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك دم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر حفظ الكلي على الجزئي وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطدام
1 سورة النساء آية 93
2 سورة الإسراء آية 33
الكفار أهم في مقصود الشرع من دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من جهة الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل فإن قلت فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلت لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود
أما إذا خلت الأيدي ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر أو اشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض ضرران دفع أشدهما وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة بحفظ نظام الأمور وبقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة بأن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة التترس لكن هذا تصرف في الأموال والأموال بذلة محور ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها
وإنما الخطر سفك دم المعصوم من غير ذنب فإن قلت أجرة الجلاد في الحدود والقاطع في السرقة إذا قلنا حدا لوجهين وهو أنها تجب من بيت المال لا على المجلود والسارق المقطوع ولم يكن في بيت المال ما يمكن صرفه إليه فهل للإمام أخذها من الأغنياء
قلت يأخذ من الأغنياء إذا لم تكن مندوحة عن ذلك وهنا مندوحة فليستقرض على بيت المال إلى أن يجد سعة فإن لم يجد من يفرضه فعل ذلك على أن القاضي الروياني جوز أن تستأجر بأجرة مؤجلة أو من يستخير من يقوم به على ما يراه قال الرافعي والاستئجار قريب والتخيير بعيد وبتقدير أن يجوز ذلك فيجوز أن يأخذ الأجرة من يراه من الأغنياء ويستأجر به فإن قلت فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين وأحدهما سابق وأستبهم الأمر ووقع اليأس على البيان هل ينفسخ النكاح بالمصلحة أم تبقى المرأة محبوسة طول العمر عن
الأزواج ومحرومة في الصورة الثانية عن زوجها المالك في علم الله وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها ما شاء الله وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو يكفي بتربصها أربع سنين فكل ذلك مصلحة ودفع ضررها ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا
قلت المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال في القديم تنكح زوجته المفقودة بعد أربع سنين ولكن الجديد هو الصحيح فإنه يبعد الحكم بموته من غير بينه إذ لا ندارس الأخبار أسباب سواء الموت لا سيما في حق الحامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من إعسار وجب وعنة وإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضر لا يؤثر فكذا في الغيبة لإيقاع سبب الفسخ رفع الضرار عنها ورعاية جانبها لأنه معارض برعاية جانبه وفي تسليم زوجته إلى غيره بفتنة ولعله محبوس أو غير ذلك إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن
وأما مسألة الأولين فإن علم سبق أحدهما ولم يعلم عينه فباطلان على المذهب المنصوص وأن سبق معين ثم خفي فالمذهب الوقف حتى يتبين وقيل فيه قولان فلو قبل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد لم يكن حكما بمجرد مصلحة بل معتضدا بأصل معين وأما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي
وقد أوجب الله تعالى التربص بالإقراء إلا على اللائي يئسن وليس هذه منهن وما من لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض فهذا عذر نادر لا يسلطنا على تخصيص النص قال الغزالي وكان لا يبعد عندي لو اكتفى بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما وجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب العبد قلت وقد قال في القديم فيما إذا انقطع دمها لا لعلة تعرف أنها تترابص بسبعة أشهر وفي قول أربع سنين وفي قول مخرج ستة أشهر ثم تنتقل إلى الأشهر فإن قلت فقد ملتم في أكثر هذه المسألة إلى القول بالمصالح فلم لم
تلحقوا هذا الأصل بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وتجعلوه أصلا خامسا قلت من ظن أنه أصل خامس خطأ لانا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع وهي معروفة بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بهذه الأدلة فليس هذا خارجا عن هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس له أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت بلا دليل واحد بل بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات فسمى لذلك مصلحة مرسلة
قال الغزالي وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها بل نقطع بكونها حجة وحيث جاء خلاف فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يرجح الأقوى
ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الكفر والشرب لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه في مثل محذور الإكراه فإذن منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ولا رجح الجزئي على الكلي في قطع اليد المتآكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس فيه خلاف فإن قلت لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة قلت قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا استئصال الإسلام واستعلاء الكفر فإن قلت فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود قلت اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن قلت لا نسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن ذلك لا يعرف إلا بنص أو قياس قلت عرف ذلك لا بنص واحد بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها الشك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود إليه الكفار بالقتل
وهذا كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بحقارة المال في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدماء وكما قلنا في مسألة السفينة أنه لو كان فيها مال
لوجب الفاه لأن المفسدة في فواته أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس فإن قلت لو علمنا أنهم لا يقتلون الترس بعد استئصال الإسلام فما ترون
قلت الذي لاح من كلام الغزالي أولا وآخرا أن الجواز إنما هو حالة العلم باستئصال الأسارى أيضا ولكن كلام الأصحاب في حكاية الخلاف مطلق والذي يظهر لي إطلاق الجواز فإن حفظ الجمع العظيم الخارج عن حد الحصر مع خطة الدين وإعلاء كلمة الإسلام أهم في مقاصد الشرع من حفظ عشرة أنفس مثلا يصيرون مستأسرين تحت ذل الكفر فإن قلت فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة والإكراه والمخصمة
قلت إن الإجماع قام وهو لا يصادم على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلم أكل مسلم في المخصمة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة بمجردها أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع أو بظن قريب منه لم يقم دليل على خلافه فقد علمت بما أوردناه وغالبه من كلام الغزالي أنه يجوز أتباع المصالح بالشروط التي سردناها وبأن لك أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع فلنلتفت إلى الكلام مع إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه حيث اعتبر جنس المصالح مطلقا وقد نقل ناقلون هذا عن الشافعي رحمه الله ولم يصح عنه والذي نقله عنه إمام الحرمين أنه لا يستجيز التنائي والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة
واختار إمام الحرمين ذلك أو نحوا منه وإذا حقق التفصيل الذي ذكرناه عن الغزالي لم يكن بعيدا من هذا إذا عرفت هذا فنقول قال إمام الحرمين الذي ننكره من مذهب مالك ترك رعاية ذلك وجريانه على استرساله في الاستصواب من غير اقتصاد ونحن نعرض على مالك واقعة وقعت نادرة لا يعهد مثلها ونقول له لو رأى ذو نظر فيها جذع أنف أو اصطلاح شفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا لأنك تجوز لأصحاب الإيالات القتل
في التهم العظيمة حتى نقل عنك الثقات أنك قلت أقتل ثلث الأمة في استيفاء ثلثيها ثم إنا نقول ثانيا أيجوز التعلق بكل رأي فإن أبى ذلك لم نجد مرجعا يفر عنه إلا ما ارتضاه الشافعي من اعتبار المصالح المشبه بما علم اعتباره وإن لم يذكر ضابطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط كما ذكر القاضي أبو بكر حيث قال المعاني إذا حضرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع فإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط ويتسع الأمر ويرجع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء ويصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء حاش الله ثم لا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذه ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون والزم إمام الحرمين مالكا رضي الله عنه إن قال بالتمسك بكل رأي من غير فرق ومداناة بأن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه الآيات إذا أرجع المفتتن في واقعة فاعلموه أنها ليست بمنصوصة ولا أصل يصاهيها بأن يسوغ له والحالة هذه أن يعمل بالصواب عنده والأليق بطرق الاستصلاح قال وهذا مركب صعب مساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء واحتكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم وجوه الرأي تختلف بالبقاع والأصقاع والأوقات وعقول العقلاء تتباين فيلزم اختلاف الأحكام باختلاف كل ذلك
وهذا لا يلزم فيما له أصل وتقريب قال ولو شاع هذا لا اتخذ العقلاء أيام كسرى أنوشروان في العدل والإيالات معتبرهم وهذا يخرجنا الاستقلال به
وهذه الجملة التي أوردناها مجموعة من كلام إمام الحرمين في البرهان وهذا الإلزام الذي ذكره أخيرا لا يلزم مالكا لأنه يشترط في اتباع المصلحة أن لا يناقض أمرا مفهوما من الشريعة والعامي من أين يعلم هذا والمانع من مناقضة ما يراه من الرأي لقواعد الشريعة وقد احتج مالك بوجيهن أشار إليهما في الكتاب
أحدهما أن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام واعتبار جنس
المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها من جملة أفرادها والعمل بالظن واجب
والثاني أن المتتبع لأحوال الصحابة رضي الله عنهم يقطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح في الواقع ولا يبحثون عن وجود أمر آخر وراءها فكان ذلك منهم إجماعا على وجوب اعتبار المصالح كيف كانت ولم يتعرض المصنف للجواب عن هاتين الشبهتين ونحن نقول في الجواب عن الأولى ليس اعتبار المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها الشارع في كونها مصالح بأولى من إلغائها لمشاركتها للمصالح التي ألقاها الشارع في ذلك فيلزم اعتبارها وإلقاؤها وعن الثانية لا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمجرد معرفة المصالح وسند المنع أنه لو كان كذلك لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح فدل على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع نوعه أو جنسه القريب فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقا بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها إذ غاية العقل أن يحكم بأن جلب المصلحة مطلوب لكن لا ينتقل بإدراك الطريق الخاص لكيفيته فلا بد من الإطلاع على ذلك الطريق بدليل شرعي مرشد إلى المقصد فقبله لا يمكن اعتبار المصالح فإن قيل فبأي طريق أبلغ الصحابة رضي الله عنهم حد الشرب إلى ثمانين فإن كان مقدرا فقد زادوا بالمصلحة وإن كان تعذيرا غير مقدر فلم افتقر إلى التشبيه بحد القذف وكيف بلغ الحد
قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب مقدار ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا والتقديرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه يثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد صدور الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تقرير فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذا ومن هذا افترا ومظنة الشيء تقام مقام الشيء كما يقام النوم مقام الحدث والوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل والله أعلم